أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ذلك في المصادر اللغوية (١) .

وينحل الإِشكال اذا قلنا : ان الداعي قد إستعمل الغفلة في المعنى الثاني ، وهو الإِهمال ، والإِعراض ، والمعنى بناء على هذا التفسير الثاني :

أي رب ، ولا تعاجلني بالعقوبة على ما أهلمته ، وأعرضت عنه من الواجبات ، وترك المحرمات .

١١ ـ وكن اللهم بعزتك لي في الأحوال كلها رؤفاً ، وعليَّ في جميع الأمور عطوفاً . إلۤـهي ، وربي من لي غيرك أسأله كشف ضرّي ، والنظر في أمري ؟ إلۤهي ، ومولاي أجريت علي حكماً إتبعت فيه هوى نفسي ، ولم احترس فيه من تزيين عدوي . فغرني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء ، فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض اوامرك فلك الحمد ( فلك الحجة ) علي في جميع ذلك ، ولا حجة لي فيما جرى علي فيه قضاؤك والزمني حكمك ، وبلاؤك .

يشتمل هذا الفصل من الدعاء على مقاطع أربعة :

فالمقطع الأول : والذي يبدأ بقوله : « وكن اللهم بعزتك لي »

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( غفل ) .

٢٢١
 &

الخ . وينتهي بقوله « إلۤهي ، وربي من لي غيرك » .

نرى الإِمام « عليه السلام » يوجه الداعي فيه الى تغيير لهجة الطلب والالتماس ، من حيث قصرها على المغفرة ، والتجاوز عن الذنوب ، بل يوجهه الى تصعيد حملته الدُعائية لطلب الرأفة منه تعالى في كل شيء .

إن الإِحساس بالرحمة ، والعطف الكامل من الله لعبده ، وشعوره بإن الله هو مصدر كل ذلك هو الذي حدا بالداعي أن يقفز بالطلب الى هذا الحد ، فيتجاوز من طلب المغفرة الى طلب الرأفة ، والعطف عليه في كل شيء بما تشتمل عليه كلمة « كل » من التعميم .

وأما المقطع الثاني : والذي يبدأ بقوله : « إلۤهي وربي من لي غيرك » وينتهي بقوله : « الۤهي ومولاي أجريت علي حكماً » .

فيظهر الدعاء فيه عجز الداعي الكامل عن كشف الضر عنه ، وعدم وجود من يلجأ اليه للقيام بهذه المهمة غير ربه ، فهو الذي بيده مفاتيح الخير وانه على كل شيء قدير .

وأما المقطع الثالث : والذي يبدأ بقوله : « إلۤهي ومولاي أجريت علي حكماً » لينتهي بقوله : « فلك الحجة علي » .

فيتلخص في اعتراف الداعي بإلقاء كافة المسؤوليات في المخالفة على نفسه ، واعتبار التقصير ناشئاً من قبله .

وفي المقطع الرابع : والذي يبدأ بقوله : « فلك الحجة علي في جميع ذلك » نرى الداعي يسلم أمره الى الله بعد إجراء هذه

٢٢٢
 &

السلسلة من الإِعترافات واخيراً التصريح بأنه : هو الخاسر ، وان الحجة لله عليه لا له على ربه فهو المغلوب ، والخاسر ، وبالأخير ، فإنه المفتقر الى رحمة ربه ومع المقاطع المذكورة .

« وكن اللهم بعزتك لي في كل الأحوال رؤفاً ، وعلي في جميع الأمور عطوفاً »

الرؤف ، من الرأفة ، ويقول أهل اللغة أن الرأفة أشد من الرحمة .

والعطوف : من العطف ، وهو الرجوع ، ويراد به هنا : اشفق ، ورق له ووصله ، وبره كل ذلك مصداق للعطف (١) .

إن الداعي بدأ يلتمس من ربه بعد أن أحس من دفء رحمة ربه ما جرأه على التطاول في الطلب انه يريد من ربه أن لا يقف عند نقطة معينة من حنوه ، وعطفه ، بل يذهب به الى أقصى حد ليكون محاطاً بكامل لطفه ، وفي جميع الآنات التي تمر عليه مع إحساسه بانه المذنب المقصر ، والمتجاوز على الحدود . ولكن الملجأ هو الله لأنه القائل : ( عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني اليه ) . ما أرق هذا العتاب الهاديء يصدر من مصدر القوة ، والإِقتدار يناغي به ضعيفاً لا يملك لنفسه ضراً ، ولا نفعاً يريد منه أن يتوجه اليه فهو الرؤوف العطوف .

يقال : ان قارون لما تمادى في غيّه ، وبغيه دعا عليه موسى « عليه السلام » فأوحى الله الى موسى : أني أمرت الأرض ان

٢٢٣
 &

تطيعك ، وسلطتها عليه ، فمرها بما شئت تطعك . فجاء موسى الى قارون وكان قارون من أقارب موسى « عليه السلام » فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال : يا موسى إرحمني . فقال موسى : يا أرض خذيهم . فاضطربت دارهم ، وخسف به ، وبأصحابه حتى تغيبت أقدامهم ، وساخت دارهم على قدر ذلك . فقال قارون : يا موسى إرحمني فقال : يا أرض خذيهم ، فإضطربت دارهم ، وخسف به ، وبأصحابه الى ركبهم ، وساخت داره على قدر ذلك ، وجعل قارون يقول : يا موسى ارحمني ، وجعل موسى يقول : يا أرض خذيهم ، فإضطربت داره ، وخسف به ، وبأصحابه الى سرتهم ، وساخت داره على قدر ذلك . فقال قارون : يا موسى إرحمني . فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فخسف به ، وبداره ، وبأصحابه فلما خسف به أوحى الله الى موسى : يا موسى ما أشد قلبك ، وعزتي وجلالي . . . لو بي إستغاث لأغثته فقال موسى : رب غضباً لك فعلت » (١) .

قارون وبشهادة القرآن الكريم انه بغى على الأمة وأنه الظالم العضوض ومع كل ذلك يقسم الله بعزته ، وجلاله انه لو توجه اليه في تلك اللحظات الحرجة ، وإستغاث به لوجده عنده ، وأغاثه ، وعفا عنه .

أي لطف هذا ، وأي رحمة هذه ، وأي حلمٍ يتصوره الإِنسان أن يكون مثل قارون ، وما هو عليه من الجنايات لو لجأ الى الله لوجده عنده ؟

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان ، والدر المنثور في تفسيرهما للآية (٨١) القصص .

٢٢٤
 &

سبحانك يا رب . . .

« إلۤهي وربي من لي غيرك أسأله كشف ضري والنظر في أمري » .

والضر : بفتح الضاد ، وضمها ضد النفع ، وسوء الحال ، والشدة :

ويقول النحويون : أن ( مَن ) للإِستفهام ، وهي في هذه الفقرة أيضاً جاءت للأستفهام ولكن من باب « وكم سائل عن أمره وهو عالم » . والداعي يعلم أنه ليس له غير الله يكشف ضره ، وينظر في أمره إلا أنه يلجأ الى الله يستفهم منه ، وهو يريد بهذا الإِستفهام الصوري ان يقول : ربي ليس لي غيرك من أسأله ، والجأ اليه .

« إلۤهي ومولاي أجريت علي حكماً اتبعت فيه هوى نفسي » .

وفي هذه الفقرة يبين الداعي أن مخالفته للأحكام الشرعية التي كلف بها من قبل الله سبحانه إنما كانت تبعاً لأهوائه النفسية ، وميوله الشهوانية تاركاً جانب العقل ، والذي يوضح له ان مخالفة أوامر الله ، ونواهيه العقاب الأخروي والبعد عن ساحته المقدسة . ولربما كان مع ذلك العقاب في الدنيا كما مر من نقلنا لبعض الصور التي عرض مشاهدها القرآن الكريم من الجمع بين العقابين الدنيوي والأخروي .

« ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرني بما أهوى » .

إحترس : أي تحفظ . من حرسه أي حفظه ، والمعنى إنني لم

٢٢٥
 &

اتحفظ في المخالفات مما زينه لي عدوي ، وهو الشيطان حيث حببب لي الفواحش ، وإرتكاب المحرمات ، فهو قد حسن ذلك في نظري فأقدمت عليه منقاداً لشهواتي النفسية فكانت الشهوات هي : النافذة التي أطل منها العدو علي « فغرني بما أهوى » . فكنت مخدوعاً من قبله . ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) (١) .

« وأسعده على ذلك القضاء » .

أسعد على الشيء وأسعده عليه أعانه والنائحة الثكلى أعانتها على البكاء (٢) .

وتأتي هذه الفقرة مكملة لما سبق من الفقرات الماضية من إعتذار الداعي بانه مخالفاته إنما كانت تبعاً لتسلط الهوى عليه ، وعدم إحتراسه ، وتحفظه من عدوه الذي كان سبباً في تزيين هذه المخالفات في نظره ، وزاد على ذلك ، وأعان عليه القضاء الذي لا طاقة له على رده . والى هنا ينتهي الشرح الاجمالي لهذه الفقرة ، قبل أن ننتقل الى الفقرة التالية . نجد السؤال الآتي يفرض نفسه علينا . والسؤال هو :

إن الذي يظهر في قوله « عليه السلام » ( وأسعده على ذلك القضاء ) ان القضاء كان له الدخل في الإِشتراك مع بقية العوامل التي كانت السبب في صدور هذه الذنوب . فما هو هذا القضاء ، وكيف يكون الداعي واقعاً تحت تأثيره بحيث لم يتمكن من مخالفته كما يقال : « أصبت بكذا » لأن ذلك كان بقدرٍ ، وقضاء علي ؟

__________________

(١) سورة البقرة : آية (١٦٨) .

(٢) لسان العرب : مادة ( سعر ) .

٢٢٦
 &

وقد جرت بمثل ذلك محاورة بين الإِمام أمير المؤمنين « عليه السلام » وبين سائل تصدى للسؤال منه .

يقول السائل : يا أمير المؤمنين ـ أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء ، وقدر ؟

الإِمام : نعم يا شيخ . ما علوتم قلعة ، ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله ، وقدر .

الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ، والله ما أرى لي من الأجر شيئاً » (١) .

أما جواب الإِمام الى السائل فنرجئه الى ما سيأتي بعد بياننا لمعنى القضاء والقدر ، ليتضح لنا أن هذا السؤال قد طرح من قبل ، وإن الإِنسان إذا كان عرضة للقضاء والقدر ، فكيف يثاب ؟ وعلى أي شيء يعاقب . وهذه هي شبهة المجبرة الذين يقولون : أن العباد مجبورون على أفعالهم ، وليس لإِرادتهم في تلك الأعمال أي تأثير .

إذاً فلا بد من البحث عن معنى القضاء والقدر .

القضاء :

قلما يستعمل لفظ القضاء ، وبمفرده ، وعلى السن الناس ، بل نرى دائماً إذا جيء بلفظ القضاء أردف معه بلفظ القدر فيقال : القضاء والقدر . حتى أن الكثير يتخيل أن هاتين الكلمتين وضعتا

__________________

(١) أصول الكافي : باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين / من كتاب التوحيد حديث (١) .

٢٢٧
 &

لمعنى واحد ، والعطف بينهما إنما جيء به للتوضيح ، والا فالقضاء هو القدر كما أن القدر ليس الا القضاء . ولكنه تخيل خاطيء للفرق بين هذين المصطلحين .

فالقضاء في اللغة : هو : الحكم ، وقال الأزهري :

القضاء في اللغة على وجوه : مرجعها الى إنقطاع الشيء ، وتمامه وكلما أحكم عمله ، أو أتم ، أو ختم ، أو أدى اداءً ، أو أوجب ، أو علم ، أو انفذ ، أو أمضى فقد قضي (١) .

أما في القرآن الكريم فقد جاءت آيات عديدة تقول :

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) (٢) .

ويقول المفسرون ان كلمة ( قضى ) في هذه الآية يراد بها الأمر اي : وأمر ربك .

وفي قوله تعالى : ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) .

جاءت هذه الكلمة ( فقضاهن ) بمعنى الخلق أي : فخلقهن سبع سموات . الخ .

أما في قوله تعالى : ( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ) (٣) .

فإنها جاءت بمعنى الحكم أي : فاحكم بما تحكم به .

__________________

(١) لسان العرب : مادة ( قضى ) . الاسراء

(٢) سورة الإِسراء : آية (٢٣) .

(٣) سورة طٰه : آية (٧٢) .

٢٢٨
 &

وفي قوله تعالى : ( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (١) .

فقد استعملت ( قضىٰ ) بمعنى الفراغ . أي فرغ من ذلك .

وفي قوله تعالى : ( إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢) .

وأريد بقوله ( قضى ) الارادة أي إذا اراد أمراً .

وقال تعالى : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ ) (٣) .

ومعناها : إذ عهدنا الى موسى (٤) .

وبعد استعراضنا لهذه الآيات الكريمة لم نجد بينها ، وبين المعنى اللغوي فارقاً ، فإن هذه المادة في كل هذه الآيات المذكورة أريد منها :

النهاية ، والحسم ، والإِنجاز . وهذا يلتقي تماماً مع المعنى اللغوي الذي فسر الكلمة : بإنقطاع الشيء ، وتمامه .

القدر :

وأما القدر : فإن كثيراً من اللغويين يقولون أنه : القضاء ، والحكم .

أما ابن منظور فقد قال : قدر . القدير ، والقادر من صفات الله

__________________

(١) سورة يوسف : آية (٤١) .

(٢) سورة آل عمران : آية (٤٧) .

(٣) سورة القصص : آية (٤٤) .

(٤) ذكر هذه المعنى القرطبي في تفسيره / ١٠ / ٢٣٧ .

٢٢٩
 &

عز وجل يكونان من القدرة ، ويكونا من التقدير (١) .

ويرى كثير من المفسرين ان ليلة القدر في الآية الكريمة :

( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٢) .

هي ليلة تدبير الأمور ، وتقسيم الأرزاق في تلك السنة .

وهكذا الحال في قوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٣) .

وكذلك قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) (٤) .

ومن مجموع هذه الآيات ، وكلمات اللغويين بالإِمكان أن نخلص الى النتيجة التالية ، حيث نقول :

ان القدر كما يستعمل في القدرة على الشيء ، وإحكامه كذلك يستعمل في تقدير الشيء ، وتدبيره ، ووضعه بموضعه .

ولكن الذي يلوح لنا أن كلمة القدر عندما تأتي مع القضاء في الإِستعمال الخارجي يراد منها المعنى الثاني ، والذي هو التدبير والتقدير ، ووضع الشيء موضعه كما سيتضح لنا ذلك من ثنايا البحث .

بين القضاء والقدر :

وبين القضاء ، والقدر تقدم ، وتأخر في المرحلة . فالقضاء متأخر

__________________

(١) لسان العرب : مادة ( قدر ) .

(٢) سورة القدر : آية (١) .

(٣) سورة القمر : آية (٤٩) .

(٤) سورة فصلت : آية (١٠) .

٢٣٠
 &

عن القدر . اذ القضاء لا يكون الا بعد حصول القدر ، والذي هو التدبير ، والترتيب . ويظهر ذلك جلياً من الآيات ، والاحاديث الآتية :

يقول تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (١) .

وفي محاورة جرت بين يونس بن عبد الرحمن ، وبين الإِمام الرضا « عليه السلام » جاء في آخرها قول الامام ليونس :

فتعلم ما القدر ؟

فقال يونس : قلت : لا .

قال « عليه السلام » هي الهندسة ، ووضع الحدود من البقاء ، والفناء .

قال يونس : ثم قال « عليه السلام » :

والقضاء : هو الابرام ، « وإقامة العين » (٢) .

وفي خبر آخر يسأل الراوي الإِمام قائلاً :

قلت : ما معنى القدر ؟ قال « عليه السلام » : تقدير الشيء من طوله ، وعرضه .

قلت : ما معنى قضى ؟ قال « عليه السلام » : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له (٣) .

__________________

(١) سورة القمر : آية (٤٩) .

(٢) أصول الكافي : باب السعادة والشقاء من كتاب التوحيد / حديث (٤١) .

(٣) اصول الكافي : باب المشيئة والارادة / حديث (١) .

٢٣١
 &

من هذا يتضح لنا أن مرحلة القدر هي : مرحلة التدبير ، والترتيب . إذ كل شيء في هذا الوجود مرتب ، ومقدر ، وله نظامه الخاص ، نظام هندسي دقيق يقدر الشيء فيه بعرضه ، وطوله .

كل شيء بما تشتمل عليه كلمة « شيء » من صغير ، وكبير ، ومرئي ، وغير مرئي ناطقٍ ، وصامت متحركٍ ، وساكن كل ذلك بنص الآية الكريمة : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) .

قدر يحدد حقيقته ، وصفته ، ومقداره ، وزمانه ، ومكانه ، وتفاعله وتأثيره ، وتأثره من غير فرقٍ بن الذرات الصغيرة ، والاجرام الكبيرة . فالقضية لا تتبع الحجم ، بل تتبع النظام التركيبي ، والنظام التسبيبي المنتج لما يترتب على الأسباب من مسببات .

فالقدر : هو هذه الأوليات التي قدر الله لها أن تسير على ذلك النظام الخاص ـ وعلى سبيل المثال ـ فعملية الزرع نراها تأخذ مجراها الطبيعي لو حقق لتلك العملية أن تستكمل الشروط الخاصة من سقي الأرض ، وبذر البذر ، وكون الأرض صالحة للزراعة ، وتكون النتائج المترتبة على ذلك هي :

خروج الزرع في الوقت المحدد له . أما لو قدر ، ولم يحصل أحد هذه المقدمات والشروط المذكورة ، فإن النتاج لا يحصل ، أو يحصل ، ولكنه ليس بالشكل الذي يكون عليه لو قدر للشروط ان تحصل كاملة .

وهكذا بقية الأمور التي قدر لها أن توجد في هذا الكون ، وفي كل أنٍ من آنات الزمن للحيوان ، والنبات ، وغيرهما مما في هذا الوجود .

كل ذلك بالإِمكان أن نطلق عليه ـ تبعاً لما تفيده الآية الكريمة ،

٢٣٢
 &

والاخبار الشريفة ـ كلمة : قدر .

وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة القضاء ، فكل ما ينتج من عالم الأوليات والأسباب فهو « القضاء » فاذا قيل : القضاء حتم ، فهو من باب أن المسبب لا بد من حصوله عند حصول السبب ، مع عدم المانع من التأثير ، وفي مثالنا السابق فإن الأرض الخالية من الشوائب اذا القي فيها البذر ، وسقيت كان خروج الزرع فيها حتماً لأن حكمة الله إقتضت هذه النتيجة بعد اجراء تلك المقدمات .

إذاً : القضاء ليس هو إجبار الله لخلقه ، أو لكل شيء على حصول النتائج ، بل هو الحتمية على ما قدر للشيء من تقدير فهو ترتيب حتمي لما يحصل من وجوه الأوليات ، وتفاعلها .

وحينئذٍ فبيد العبد أن يدفع القضاء ، ويقف في طريقه لأن الأوليات بيده وهي مقدورة له من حيث الوجود ، والعدم .

يقول الإِمام الرضا « عليه السلام » لسائله « ما من فعلة يفعلها العباد من خير ، وشر إلا ولله فيها القضاء . قلت : فما معنى القضاء ؟

قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب ، والعقاب في الدنيا ، والآخرة » (١) .

إن الله بعد أن بين للناس خيرهم ، وشرهم قضى ، بان من سلك طريق الخير نال الثواب . أما من يسلك طريق الشر كان جزاؤه العقاب . وحينئذٍ ، فالأمر بيد الإِنسان نفسه ما دامت الأوليات تحت

__________________

(١) البحار . مجلد / ٣ / ص (٥ ، ٣٣) الطبعة الحديثة .

٢٣٣
 &

إختياره فبإمكانه أن يبذر ما ينتج العقاب ، أو يزرع ما يحصد منه الثواب .

يقول الأصبغ بن نباته : « إن أمير المؤمنين « عليه السلام » عدل من عند حائط مائلٍ الى حائظ آخر . فقيل له : يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله . قال : أفر من قضاء الله الى قدر الله عز وجل » (١) .

ان هذه المحاورة تجسد لنا عملية القضاء ، والقدر كاملة .

ذلك لأن الإِمام « عليه السلام » كغيره من البشر يعلم أن من جلس عند حائط مائلٍ للإِنهدام ، فإنه لو وقع عليه لكان ذلك بإختياره فهو إذاً : مخير بين أن يبقى في مكانه ليكون عرضة للإِنهدام عليه أو ينتقل الى حائط آخر ، فيسلم من كل ذلك ، ولهذا نرى الإِمام « عليه السلام » يقول : أفر من قضاء الله الى قدر الله .

وقد مر بنا أن ذكرنا طرفاً من المحاورة بين السائل وبين الإِمام « عليه السلام » عند عودتهم من الشام حيث قال السائل : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا الى الشام بقضاء ، وقدر قال « عليه السلام » :

نعم : يا شيخ ، ما علوتم تلعة ، ولا هبطتم وادياً الا بقضاء وقدر من الله فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين .

ان هذا الجواب من السائل معناه القول : بفكرة المجبرة حيث يقولون بنفي الثواب ، والعقاب عن الإِنسان لأن كل أعماله بقضاء من الله ، وقدر فهو مجبور عليها ، ولذا كان جواب الإِمام له ناظراً الى

__________________

(١) البحار ، مجلد / ٣ / ص (٥ ، ٣٣) الطبعة الحديثة .

٢٣٤
 &

نفي هذه الشبهة ، وإثبات أن الإِنسان مختار ، وحر في تصرفاته ، وإذا صدر منه الذنب ، أو ما يضر بنفسه فإنما ذلك بسوء تصرفه وان كانت تلك النتائج حتمية الوقوع لحصول الأوليات بسببه . لذا أجاب الإِمام ذلك الشيخ قائلاً : « مه يا شيخ فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي إنصرافكم ، وانتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ، ولا اليه مضطرين .

لعلك ظننت أنه قضاء حتم ، وقدر لازم لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب ، والعقاب ، ولسقط الوعيد ، والوعيد (١) .

ومن خلال هذا الجواب حيث يقول ( عليه السلام ) : « ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا اليه مضطرين » . تتضح لنا نقطة حساسة بها تنحل مشكلة الإِجبار على الفعل ، وتلك هي ما يتوسط بين مرحلتي التقدير ، القضاء من وجود إرادة الإِنسان ، واختياره فإن ذهاب هؤلاء ، ومن ضمنهم السائل المذكور حيث كان بإختيارهم وإرادتهم كان الأجر ، والثواب محفوظين لهم ، ولم يكونوا مكرهين على سفرهم ذلك ، ولا مضطرين اليه فلم يكن في البين إجبار على سفرهم ليسقط الوعد ، والوعيد ، وليبطل ثوابهم .

ان هذه الحرية ، والإِختيار التي من الله بها على العباد هي التي عبر عنها الإِمام الصادق ( عليه السلام ) : بالأمر بين الأمرين .

حيث جاء ذلك في حديث قال فيه :

__________________

(١) تحف العقول : ص (٤٦٨) .

٢٣٥
 &

« ولا جبر ، ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين » (١) .

فأفعالنا من جهة كون أسبابها الطبيعية بأيدينا فهي إذاً تحت قدرتنا ، وإختيارنا وهو تعالى لم يجبرنا عليها ليقال : بإنه عز وجل ظلمنا في عقابه لنا عليها ـ وفي نفس الوقت ـ لم يترك المجال كلية لنا بحيث يكون هو أجنبياً عنها ليكون مسلوب القدرة إزاءها ، بل هي أفعالنا ، ولله الكلمة الفصل فيها ـ وعلى سبيل التوضيح ـ نقول : أنا لو وجدنا السبب بأنفسنا ، وكنا عالمين بأنه يحصل المسبب بعد حدوثه فهنا لو لم يتدخل الله ليمنع تأثير ذلك السبب وتوقيفه فإنه بعدم تدخله لم يكن قد ظلمنا ، وصحيح انه تعالى كان بامكانه أن يقف في طريق تأثير السبب ، إلَّا أنه حيث لم يتدخل لم يكن ذلك ـ كما قلنا ـ ظلم منه في حقنا لاننا نحن الذين أوجدنا السبب ، وعلمنا بأن المسبب محقق الحدوث بعد حصول سببه فالعقاب نستحقه بدون حيف .

يقول الإِمام الرضا « عليه السلام » : « ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ، ولله فيه قلت : فما معنى القضاء ؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقون من أفعالهم من الثواب ، والعقاب في الدنيا ، والآخرة » (٢) .

فالقضاء كما أوضحه الإِمام في كلامه هذا هو الحكم المترتب على أفعالهم فإن اختاروا الخير كان القضاء هو الحكم لهم بالثواب ، وان كان ما إختاروه شراً كان القضاء هو الحكم عليهم بالعقاب .

__________________

(١) اصول الكافي : باب الجبر ، والقدر ، والأمر بين الأمرين : حديث (١٣) .

(٢) البحار : مجلد / ٣ / ص (٥) .

٢٣٦
 &

الأمور التي تدفع القضاء :

عرفت أن القضاء بعد حصول الأسباب لا بد من تحققه تحقيقاً لحصول المسبب بعد وجود السبب ، ولكن هل يرد القضاء شيء وهل في البين ما يبطل تأثير ذلك السبب بعد حصوله لو استثنينا ارادة الله ، ومشيئته فإن الله إذا اراد شيئاً فلا يقف في طريق ارادته شيء ، فان الكلام في غير مشيئة الله ، وارادته من العوامل الخارجية ؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال نقول :

نعم : ترد القضاء ، ولو كان مبرماً العوامل الآتية :

١ ـ الصدقة :

وقد جاء في فضلها « انها تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار » (١) .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أن الله لا إلۤه إلا هو ليدفع بالصدقة الداء ، والدبيلة والحرق ، والغرق ، والهدم ، والجنون ، وعد سبعين باباً من الشر » (٢) .

وهكذا تتوالى الأخبار الكريمة ، وقد ذخرت بها كتب الأحاديث من جميع المذاهب ، وهي تعظم الصدقة ، وتنوه بأنها تدفع البلاء والقضاء ، وكلما يحل بالإِنسان من سوء .

٢ ـ الدعاء :

ومثل الصدقات يأتي الدعاء في صلاحيته لرد البلاء ، والقضاء .

__________________

(١) جامع السعادات : ٢ / ١٤٥ .

(٢) جامع السعادات : ٢ / ١٤٥ .

٢٣٧
 &

فعن بسطام الزيات عن الإِمام الصادق « عليه السلام » قوله :

« أن الدعاء يرد القضاء ، وقد نزل من السماء ، وقد ابرم إبراماً » (١) .

وفي حديث آخر عن الإِمام الرضا ( عليه السلام ) قال : قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ان الدعاء ، والبلاء ليترافعان ( او يتواقفان ) الى يوم القيامة . ان الدعاء ليرد البلاء وقد أبرم إبراماً » (٢) .

الترافق ، والتوافق واحد والمعنى : أن الدعاء يبقى سائراً مع البلاء ، وموقفاً لتأثيره الى يوم القيامة ، وعندها فلا فائدة في القضاء حينئذٍ .

وهناك عوامل أخرى تكون موجبة لرد القضاء ، ودفع البلاء كإطعام الضيف ، وقضاء حوائج الناس ، واغاثة الملهوف ، وصلة الرحم ، وغير ذلك . ولا مجال لنا للتوسع في بيانها تحرزاً من الإِطالة والخروج عن الصدد .

عود على بدء :

ولنعد بعد مسيرتنا هذه مع القضاء ، والقدر الى الفقرة التي وصلنا اليها من الدعاء من قول الإِمام ( عليه السلام ) : « وأسعده على ذلك القضاء » .

فقد إتضح لنا أن إعانة القضاء على صدور الذنوب من الداعي لم

__________________

(١) أصول الكافي : باب الدعاء يرد البلاء ، والقضاء / حديث (٣) .

(٢) المصدر السابق ، والموضع نفسه حديث (٤) .

٢٣٨
 &

يكن ظلماً من الله لذلك الداعي بل لأن الداعي بعد أن هداه الله النجدين نجد الخير ، ونجد الشر كما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) .

وعلم أن إقتراف هذه الذنوب نتيجته الحتمية للوقوع في هذا العقاب لأن القضاء إبرام ذلك التقدير ، ومع ذلك فقد أقدم ، وأذنب . ولهذا كان القضاء قد فرض العقاب من دون تأخير ، وإذاً فلا يلومن إلا نفسه ، لأن من أنذر فقد أعذر ، والإِنذار صدر من الأنبياء والمرسلين حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع :

« يا أيها الناس ، والله ما من شيء يقربكم من الجنة ، ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ، ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه » .

« فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك وخالفت بعض أوامرك » .

البعض من الشيء ، أو بعض كل شيء هو الجزء منه ، أو الطائفة منه ويجوز كونه أعظم من بقيته كالثمانية من العشرة .

أما الحد : فهو الحاجز بين الشيئين ، ومنتهى الشيء .

وحدود الله : طاعته ، وأحكامه الشرعية لمنعها من التخطي الى ما وراءها ومنه قوله تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ

__________________

(١) سورة البلد : آية (١٠) .

٢٣٩
 &

حُدُودَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

أما في المصطلح الشرعي ، فقد يراد من الحدود الشرعية : الحدود المقررة عند المخالفات كقطع يد السارق ، وكحد الزنى ، وحد اللواط ، وحد القذف .

وقد يراد من الحدود الشرعية الأحكام الشرعية من الأوامر ، والنواهي . كما قد يراد من الحدود الشرعية : كل حكمٍ شرعي من الأحكام الخمسة ، والتي هي الأوامر ، والنواهي ، والمستحبات ، والمكروهات ، والمباحات . ويسمى الجميع حداً لأن الأحكام الشرعية كالحدود ، والحواجز المضروبة للمكلفين أخذ عليهم أن لا يتعدوها ، ويتجاوزوها .

ولقد أبقى الدعاء الباب مفتوحاً للداعي في التعبير عن مقدار المخالفات التي صدرت منه ، ويريد طلب العفو عنها بلفظ ( البعض ) الذي يطلق ـ كما عرفت ـ من كلام اللغويين : على الجزء ، وعلى الطائفة وعلى الأغلب .

ونبقى نحن ، وهذا التكرار لهذه المخالفة لبعض الأوامر بعد بيان مخالفة بعض الحدود حيث كان بإمكان الدعاء أن يكتفي بالفقرة الأولى لاحتواء مضمونها على ما تحتوي عليه الفقرة الثانية فالحدود تدخل فيها الأوامر .

وربما يعتذر عن ذلك : بأن التكرار إنما هو لعظم المخالفة لتلك الأوامر كترك الصلاة ـ مثلاً ـ والتي جاء فيها :

__________________

(١) اقرب الموارد : مادة ( بعض ، وحد ) والآية (٢٢٩) من سورة البقرة .

٢٤٠