عز الدين بحر العلوم
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
روحي ، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض ، ولا لقمت لقمة الا ظننت اني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال : يا بني آدم ان كنتم لا تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى » (١) .
وفي خبر آخر يقول « صلى الله عليه وآله وسلم » أكلكم يحب أن يدخل الجنة ؟ قالوا : نعم ، قال : قصروا من الأمل ، واجعلوا آجالكم بين أبصاركم » .
وبمثل هذا ونحوه مما يحث على الحذر ، والإِستعداد ، واغتنام الفرصة للتزود بالأعمال الصالحة جاءت الأخبار الكثيرة مؤكدة أن الإِنسان لا بد له من التوجه الى الله ، والانشداد الى تعاليمه المقدسة .
ولا بد لنا من إيضاح نقطة دقيقة ، ونحن نتعرض لمثل هذا النوع من الأخبار ، فالملاحظ على كثير من الآيات ، والاخبار التي يظهر منها ان يكرس الفرد حياته للعبادة ، والتفرغ لها كما جاء في الآية الكريمة : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) .
هو تغليب الجانب العبادي في هذه الدنيا بحيث يفهم منها أن الفرد لا بد له من ترك الدنيا وما تتطلبه الحياة الإِجتماعية من ادارة ، وعمل لتأمين الوسائل المعيشية ـ وعلى سبيل المثال ـ فلنقف بين يدي الحديث السابق من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « يا بني آدم ان كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى » .
__________________
(١) جامع السعادات : ٣ / ٣٦ .
(٢) نفس المصدر ، والموضع .
فكيف نعد أنفسنا من الموتى ؟ والإِسلام يريد منا العمل لنقوم ببناء حياة إجتماعية فضلى لنثبت أننا أمة تفوق الأمم الأخرى ، والتي لا تسير على خط الإِسلام ، ونظمه ، وتشريعاته النافعة .
على أن هناك قسماً آخر من الأخبار نراه يبرمج الفرد في الإِنشغال بالدعاء ، والاعمال المستحبة طوال اليوم ، وفي كل ساعة من ساعات الليل . ومن المعلوم أن الإِسلام لا يريد من افراد الأمة الرهبنة ، والانخراط في سلك المترهبنين لتكون حصيلة عمر الإِنسان هو إهمال الحياة الإِجتماعية ، وعدم بنائها على النحو الذي تريده الشريعة نفسها ذلك لأن الإِسلام حياة عمل وحياة مزدهرة بالنظم والقوانين التي تنظم حياة الفرد على الصعيدين العبادي ، والعملي فكيف نوفق بين هاتين الجهتين ؟
العبادة : والتي هي غاية الوجود للإِنسان كما صرحت به الآية الكريمة في قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) .
والعمل : وهو الذي يبني المجتمع الحديث الذي يزخر بكل ما يرفه للفرد حياته ، وسعادته كما تخطط الشريعة المقدسة عبر الأحاديث الكريمة ويأتي الحل لهذه المشكلة من خلال الأحاديث التي وردت عن المشرع والتي وفقت بين هاتين الجهتين : الوظائف العبادية ، والعملية . يقول صلى الله عليه وآله وسلم : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً » (٢) .
وهكذا في حديث آخر جاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم
__________________
(١) سورة الذاريات : آية (٥٦) .
(٢) أسرار العارفين : ٦٢ .
« اللهم اني أعوذ بك من دنيا تمنع الآخرة ، واعوذ بك من حياة تمنع خير الممات ، وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل » (١) .
ومثل ذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه » (٢) .
ان هذه الموازنة بني أعمال الدنيا ، والآخرة هي التي يريدها المشرع الإِسلامي ، فيعطي الجانب الدنيوي حقه ليعمل كأنه يعيش الى آخر الزمن فلا يتقاعس عن متطلبات الحياة الاجتماعية ـ وفي الوقت نفسه ـ عليه ان لا يغفل عن آخرته ليجمع بين الجانبين . أما الإِنهماك في الأعمال الدنيوية ، أو الرهبنة ، والاتجاه الى الحياة الأخروية فهذا ما لا يريده الإِسلام للأمة في كل أدوارها ، وأجيالها المتعاقبة ، فالدنيا التي تمنع الآخرة يتعوذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها في الحديث الثاني ، لأن هذا الإِنهمال معناه : أن يخسر الآخرة ، ويخسر من وراء ذلك معنى العبادة والتي هي الغاية من خلق الإِنسان ، واتيانه لهذه الحياة .
وإذاً فالطريق الوسط هو ان يعيش الإِنسان دنياً لا تمنعه من آخرته ، ولا آخرة تستوجب إهمال دنياه ، بل يجمع بين الأثنين .
عمل : شعاره العبادة .
وعبادة : لا تنفك عن العمل .
والجمع بين هذين إنما يتحقق بالتوجه « الى الله بكل حركة في
__________________
(١ ـ ٢) جامع السعادات : ٣ / ٣٦ .
الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة ، التوجه بها الى الله خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ، ومن كل معنىً غير التعبد لله » .
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ، ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد ، والرضى بقدر الله . كلها عبادة ، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن ، والانس لها وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
« وخدعتني الدنيا بغرورها » .
خدعه : ختله ، واراد به المكر من حيث لا يعلمه (١) .
والغرور : الأباطيل ، وقيل : تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب (٢) .
والتعبير بالخداع : ينطوي على معنىً يريد الداعي بيانه من خلال هذه الفقرة الدعائية .
انه يريد أن يقول : ان هذا الإِنهماك في طلب الدنيا ، والاقدام على هذه المخالفات لم يكن عن علمٍ منه ، وتقصير بل هو مخدوع خدعته الدنيا والخداع ـ كما مر في اللغة ـ هو الختل من حيث لا
__________________
(١ ـ ٢) لاحظ لسان العرب : مادة ( خدع ، وغرر ) .
يعلم .
أما الغرور : فيكمن فما تشتمل عليه هذه الحياة من لذائذ وقتية ، وشهوات عارمة غير مشروعة تجر الإِنسان الى مهاوي الرذيلة وتبعده عن الواقع ، وما يرفع النفس ، ويصونها عن كل قبيح .
( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ؟ (١)
متاع خادع كالسراب الذي ( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) (٢) .
ومن الغريب ان يكون وصف الدنيا بإنها « متاع الغرور » قد صدر من الخالق لهذا الكون . العالم بكل جزئية ، وكلية .
وقد جاء هذا الوصف في ذيل الآية الكريمة من قوله تعالى :
( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ) (٣) .
وعن الشيخ البهائي أن هذه الخصال الخمس المذكورة في الآية من اللعب ، واللهو ، والزينة ، والتفاخر ، والتكاثر مرتبة بحسب سني الإِنسان ، ومراحل حياته فمثلاً نراه يتولع أولاً : باللعب وهو طفل ، أو مراهق ، ثم اذا بلغ ، وإشتد عظمه تعلق باللهو والملاهي ، ثم اذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة
__________________
(١) سورة آل عمران : آية (١٨٥) .
(٢) سورة النور : آية (٣٩) .
(٣) سورة الحديد : آية (٢٠) .
والمراكب البهية ، والمنازل العالية ، ثم اذا اكتمل أخذ بالمناظرة بالاحساب ، والأنساب ، ثم اذا شاب يسعى في تكثير المال ، والولد » (١) .
ولكن كل ذلك يذهب هباء ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ثم تكون نتيجته أنه كالحطام .
وإذاً فقد تلاشت الآمال ، وكانت اللذات المزيفة كالأحلام لم يبق منها إلا بعض ذكريات تحتفظ بها الذاكرة ، وصور مرت على الذهن كالشريط الذي يمر على الإِنسان تسير به حافلة الزمن .
ويصحو الإِنسان من غفوته الحالمة ليجد نفسه ، وقد غرته الدنيا فذهبت ملاذها الوقتية ، وبقي ما خلفته من تبعات وأوزار . يقول الإِمام أمير المؤمنين « عليه السلام » في مقام تحذيره عما تخلفه الدنيا من ويلات ، ومصائب :
( اذكروا انقطاع اللذات وبقاء التبعات )
ومرة اخرى : نعود الى الفقرة الدعائية « وخدعتني الدنيا بغرورها » .
لنقول : أنها تشير الى حالة نفسية يمر بها الإِنسان في حياته وهي : التغلب المستمر في روحيته ، فالحياة دائمة الإِغراء والإِنسان دائم النسيان ، والتناسي ، وصحيح ان كل ما في الدنيا للإِنسان ، ولكن ليس كل انسان يحسن إستغلال ما في هذه الحياة لذلك فهو دائماً عرضة للغرور ، والإِنحراف عن الطريق الصحيح للعيش في
__________________
(١) عن الميزان في تفسير القرآن في تفسيره لهذه الآية الكريمة .
هذه الدنيا .
وهنا يوقظ الدعاء في نفس الداعي حسه ، وينبهه الى نقطة حساسة تلك هي التأثير المستمر في حياة الإِنسان الذي يجب أن يكون يقظاً له لئلا ينجرف الى الجانب السيء .
« ونفسي بخيانتها » .
أما الخيانة : فهي نقض العهد (١) .
وأما النفس : فقد ذكروا لها معاني عديدة ذكر كثير منها في القرآن الكريم ، والاخبار . منها : اللوامة ، والأَمارة ، والمطمئنة ، والراضية والمرضية .
وفي مورد آخر قسمها الإِمام أمير المؤمنين « عليه السلام » لراوي الدعاء كميل بن زياد فعدها أربعة : النامية ، أي النباتية ، والحسية وهي الحيوانية ، والعاطفة ، أي القدسية ، والكلمة الإِلۤهية . ولكلٍ من هذه الأربعة خمس قوىً ، وخاصان .
وقد أسهب شيخنا الطريحي في هذا الموضوع في كتابه « مجمع البحرين » مادة : نفس . كما وقد تعرض لذلك كثير من الباحثين ، والمفسرين ولكن وخوفاً من الإِطالة فقد أرجأنا البحث عن النفس ، وما يمت الى حقيقتها بصلة لئلا نخرج عن الصدد . ولأن النفس ـ والتي يرد بها هذا الكيان الشخصي لكل فرد حيث يكون بها قوام هذه الحياة ـ أصبحت لها صورة منطبعة في الذهن يتخيلها الإِنسان ، وان كان البحث في حقيقتها مثار جدل ، ونقاش بين العلماء ، ولهذا
__________________
(١) أقرب الموارد : مادة ( خوت ) .
لا نرى داعياً للتوغل في تعريفها ، ولذلك نعود لنلتمس ما يقصده الدعاء من توجيه الداعي الى الإِعتراف بخيانة النفس .
والملاحظ : أن الدعاء في الفقرة السابقة القى اللوم على الدنيا لأنها خدعته بغرورها ، وفي هذه الفقرة القى التبعة على نفسه فهي التي خانته ، وأوردته هذه الموارد ، ولكن الخيانة لمن ؟ ومع من كان نقض العهد ؟ بعد ان عرفنا أن الخيانة هي نقض العهد في اللغة ، وكذا في المصطلح العلمي الخاص .
وهذا ما لم يذكر في نصوص الدعاء إلا أننا من التناسق الدعائي ومن خصوصية المورد بكامله نعلم أن الخيانة إنما كانت لعهد النفس مع الله عندما نالت شرف الإِسلام ، وأسلمت بالرسالة المحمدية . ذلك أن الفرد عندما يسلم ، أو يصل الى سن التكليف ، فيختار الاسلام ديناً له يجعل المظهر لذلك إعلان الشهادتين بقوله :
« أشهد أن لا إلۤه الا الله وأشهد أن محمداً رسول الله » .
وبإظهار هذه الشهادة تترتب المظاهر الخارجية ، والتي يتمتع بها وبتعبير أوضح نقول : ان إسلام الفرد ينبني على مظهر خارجي وهو إظهار الشهادتين أمام الناس ، وفي المجتمع ، وما يترتب على ذلك من إطاعة القوانين ، وعدم الخروج عليها .
وعلى مبدأ داخلي ذاتي يكون بين الإِنسان وربه تعهد بأن يؤمن به حقاً ، ويعترف به ، وبصفاته ، وان يمتنع عن كل ما نهي عنه مما لا يطلع عليه الا الله .
وهذا الجانب الداخلي
يعطيه الله اكثر اهمية لأنه يجعل من الفرد إنساناً كاملاً بنفسه ، وبدون رقيب خارجي يوقظه الى مثل هذا
الإِلتزام . كما وان التعاليم الإِسلامية في اكثرها مبنية على القبول الداخلي ، والنقد الذاتي ، فان داخل الإِنسان ، ونفسه هي التي تشع الى الخارج على شكل تصرفاته مع الآخرين .
كل مسلم من كونه محقون المال ، والدم ، والعرض ، فهو بعد ذلك كفردٍ من أفراد المجتمع الاسلامي له مالهم ، وعليه ما عليهم لأنه يشهد الشهادتين ، ومن قال هذه الشهادة حقن ماله ، ودمه ، وعرضه كما يقوله الحديث .
وأما ما وراء ذلك من التزام بمبادىء الإِسلام وقوانينه وما يتبع ذلك من اعتقاد بضروريات الدين وأصوله ، وفروعه ، وما يترتب على ذلك من ثواب ، وعقاب ، فإن هذا أمر يعود الى عقيدة هذا الفرد ، ومدى التزامه ، وايمانه بالإِسلام ، ونظمه ، ومقرراته فإذا تبع إظهار الشهادتين إعتقاد كامل كان ذلك الفرد مثال المسلم المؤمن . أما في صورة عدم الاعتقاد ، فإن هذا الفرد لا يتعدى كونه فرداً محكوماً بالإِسلام بحسب المظاهر الخارجية . وعوداً لما نحن بصدد إثباته من العهد ، فإن من أقر بالله وبرسوله ، وآمن إيماناً كاملاً بذلك فهو يعترف إذاً : بأن هذه الشريعة المقدسة هي الدستور الإِلۤهي الذي على المكلف ان يلتزم به ، ويطبقه بكل ما يحتوي عليه على الصعيدين : العبادي ، والمعاملي .
وهذا هو العهد بينه ، وبين الله على الإِقرار بوحدانيته ، وان محمداً مبلغ لرسالته وهو ـ في الوقت نفسه ـ متمسك بكل التعاليم والاحكام التي جاءت بها تلك الرسالة .
وإذاً فأي مخالفة من
قبل الإِنسان المكلف معناها نقض للعهد ،
والإِتفاق على تطبيق محتويات القانون الإِلۤهي ، وعليه ان يتحمل تبعات هذا النقض ، وهذه المخالفات .
والداعي : لا يخرج في جميع حالاته عن كونه بشراً . لذلك نراه دائماً ، وفي مثل هذه الموارد يريد التهرب من المسؤولية حيث يفرض من نفسه كياناً آخر هو الذي يقوم بهذه المخالفات ، ولذلك يلقي اللوم عليها ، ولهذا جاءت هذه الفقرة معطوفة على قوله : « وخدعتني الدنيا بغرورها » . فكما كانت الدنيا خادعة ، وهو مخدوع فكذلك نفسه خائنة فهو مظلوم ، أو متظلم .
« ومطالي » .
والمطل : هو التسويف بالوعدة مرة بعد اخرى (١) .
وهنا عطفه الداعي على ما سبق من إعتذاره لله تعالى بخيانة نفسه حيث القى اللوم على نفسه بخيانتها ، وعدم قيامها بما فرضه الله تعالى ، او التسويف بالإِتيان بذلك مرة بعد أخرى الى أن فات الأوان ، وذهبت الفرصة فيكون المعنى :
« وخدعتني نفسي بخيانتها ، وتسويفها » .
١٠ ـ يا سيّدي فأسألك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي ، وفعالي ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري ، ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي من سوء فعلي ، وإساءتي ، ودوام تفريطي
__________________
(١) اقرب الموارد : مادة ( مطل ) .
وجهالتي ، وكثرة شهواتي ، وغفلتي .
ويتناول الدعاء في هذا الفصل بفقراته العديدة معالجة مشكلة التستر على الاعمال التي يصدرها الإِنسان في خلواته حيث يظهر بمظهر الصلاح ويبطن المنكرات ليجلب بذلك ود الناس ، وعطفهم .
هذا النوع من البشر الذين يعيشون في خلواتهم يفجرون ، ويخالفون ولكنهم يلتزمون بما تمليه عليهم المظاهر الإِجتماعية .
ولربما يقول البعض : اننا لماذا نلاحق الإِنسان حتى في مخدعه ومأمنه ما دام محافظاً على الوضع العام ، وما يمليه عليه الاجتماع من آداب سلوكية والمهم هو حفظ النظام العام ؟ .
ويجاب عن ذلك : أن
الإِمام « عليه السلام » لا يكتفي من الإِنسان بهذا المقدار من الالتزام ، والتقيد ليحافظ على المظهر فقط بل يوجه الداعي عبر الدعاء الى تهذيب نفسه ، وتوجيهه الى الله لتسمو نفسه ، وليكون مثال المؤمن المتطامن الذي يسلم الناس من يده ، ولسانه ، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يكون الدعاء عند الفرد النفسية الصالحة ذات الوجه الواحد في الخفاء والعلن ، لذلك فان الفرد الصالح هو من يكف نفسه عن القيام بما ينافي على كلا الصعيدين الداخلي ، والخارجي أمام الناس ، أو بعيداً عن أعينهم ، فإن الجريمة لا تختلف من حيث كونها جريمة في الشارع العام ، او في البيت ، وبين جدرانه . إلا انها في الخارج يضاف الى كونها جريمة أنها تأخذ طابعاً آخر ، وهو مساعدتها على التفسخ ، والتحلل الذي يصيب المجتمع من كافة أطرافه من جراء إنتشار الجرائم بين
أفراده .
ان هؤلاء الذين يحافظون على مظاهرهم الخارجية لجلب عواطف الناس واظهار أنفسهم بالمظهر الذي يتناسب مع الوضع الديني ، وهم يخفون الجريمة في خلواتهم إنما يراءون بأعمالهم ، وهم بذلك قد اشتروا رضا المخلوق بسخط الخالق ، وهذا ما لا تقره الشريعة المقدسة ولا أي رسالة أخرى نزلت من السماء . ولهذا نرى الدعاء في هذا الفصل يوجه الداعي الى التخلي عن هذه المخاتلات ، والخدع ليعتذر الى الله عز وجل فيما صدر منه في الخفاء ، ويعاهده متضرعاً على أن يكون مثال الفرد المسلم المؤمن الذي لا تختلف حاله في كل الأوقات ، والاماكن يراقب الله في كل لحظة من لحظات حياته لأن الله معه في كل زمان ، ومكان ، ولا تخفى عليه خافية .
ومع هذا الفصل في فقراته الدعائية .
« يا سيدي : فأسألك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي » .
وعاد الداعي أدراجه الى الوراء ليرى ماذا فعل فيما مضى من عمره خدعته الدنيا بغرورها .
وغرته نفسه بخيانتها .
وهم اعلم بما صدر منه
، فرأى ذنوبه قد تراكمت ، وقد حجبت دعاءه من الوصول الى الله ليتجاوز عنه ، وهذا ما يخشاه الإِنسان في هذه الحياة ، انه يخشى أن تكون أعماله القبيحة كالدرن
الذي ينشر غلافاً على الشيء فيكون طبقة عازلة ، وهكذا الذنوب تراكمت فحجبت نفسه عن المثول بين يدي خالقها لتنهل من نميره العذب وليلفها وشاح لطفه الكريم ، ولهذا كانت الرقة بادية على هذا النداء المتضمن لخضوع الداعي لمولاه ، وهو يطلب العفو ويريد التجاوز ، وان لا يكون ما صدر منه من قبيح الأعمال حاجباً ومانعاً عن وصول صوته اليه فان فعلت ، وأعرضت بوجهك الكريم عني فأنا أهل لذلك ، ولكنك يا سيدي إن تجاوزت ، وتفضلت بحلمك ، وكرمك فأنت أهل لذلك . فلا تعاملني على قبيح ما عندي ، بل عاملني بجميل ما عندك يا رب .
« ولا تفضحني بخفي ما إطلعت عليه من سري » .
ان هول الجريمة قد انسى الداعي رحمة الله ، وستره المرخى على العباد ، فهرع الى ربه يدعوه أن لا يفضحه ويكشف أمام أعين الناس ما أخفاه هو عنهم ، فالمجتمع لا يرحم إذا عرف من هذا الفرد تستره على الجريمة . ولذلك نرى الداعي يسأل ربه أن يكفيه شر الناس ، وأذاهم عندما تنظر اليه العيون شزراً وتهمس الشفاه تتحدث عنه .
« ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي »
المعروف بين الكل حتى أصبح واضحاً هو أن العقاب ، والجزاء إنما هو في الحياة الآخرة بعد الحساب يوم القيامة ، وهكذا الثواب ، وعندها ترى نتائج الحساب ، فإما الى الجنة ، أو الى النار تبعاً لما عمله ، وما قدمه في دنياه ، إن خيراً فخير ، وان شراً فشر .
وهذه حقيقة أصبحت من
الوضوح بمكان إلا عند من ينكر
البعث ، والحساب واليوم الآخر ، والجزاء مثوبة ، وعقوبة فلهؤلاء طريقتهم الخاصة النابعة من الحادهم ، أو شركهم بالله ، ولسنا مع هؤلاء المنكرين .
وإذاً فمن الملفت ان يوجه الدعاء الداعي في التوجه الى الله ، والطلب منه ان لا يعجل له عقوبته على ما إقترفه في هذه الدنيا ، وفي خلواته وهل عقاب الله يكون في دار الدنيا . . بعد أن قدمنا ان الجزاء مثوبة وعقوبة إنما هو بعد الموت ، وفي تلك الدار لا في حال الحياة ؟
وللإِجابة على ذلك نقول :
ليس كل العقاب منحصراً بما بعد الموت ، بل بالإِمكان تقسيم العقاب على ثلاثة أقسام :
١ ـ ما يحصل بعد الموت وبعد الحساب ، وهو العالم الأخروي .
٢ ـ ما يحصل في حال الحياة ، وبعد الموت .
٣ ـ ما يكون في حال الحياة فقط .
أما القسم الأول : فإنه يكون مرتباً على الشرك بالله ، أو ترك ما يفرضه من الواجبات ، والمحرمات ، وما هو من هذا القبيل فإن كل ذلك ينال جزاءه العبد بعد الحساب في يوم القيامة ، وبذلك يدخل النار لمدة معينة ، او يخلد فيها تبعاً لحجم الذنب الذي صدر منه شركاً ، أو تركاً لأوامر ، أو عصياناً لنواهي كان المفروض ان يتجنبها .
وأما القسم الثاني : فهو ما يكون عقوبة على الظلم الذي يصدر من العبد ، والتجاوز منه على حقوق الآخرين فهذا ينال جزاءه الظالم في الدارين الدنيا والآخرة . وقد حكى القرآن ، وعرض صوراً لذلك فقال تعالى : ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ ) (١) .
وقد تضمنت الآية الكريمة الحكاية عن حال قارون ، وتطاوله واصراره على الفساد في الأرض ، وغروره بكل ما حوله ، وشيوع ظلمه وأذاه الى الناس ، وكان يخرج من بيته متزيناً بالذهب ، والاحجار الكريمة . وقد نقلت المصادر التفسيرية بإنه خرج مرة في أربع آلاف دابة عليها أربعة آلاف فارس عليهم ، وعلى دوابهم الأرجوان (٢) .
وقيل : خرج في جوار بيض الى سرج من ذهب على قطف أرجوان على بغال بيض عليهن ثياب حمر ، وحلي ، وذهب (٣) .
كل هذه المشاهد تمر ، وقارون يبغي عليهم كما تصرح الآية في قوله تعالى : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ) (٤) .
فهل يتركه الله يعبث في الأرض فساداً ، ثم ليموت حتف أنفه ليطوي سجلاً حافلاً بالفساد ، والبغي ، والظلم ، والجور ، والتلاعب بأموال الناس ، ونفوسهم ، وأعراضهم ، وبعد ، وفي يوم
__________________
(١) سورة القصص : آية (٨١) .
(٢) الارجوان : صبغ احمر ، او ثياب حمر : أقرب الموارد / مادة ( رجو ) .
(٣) راجع مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
(٤) سورة القصص : آية (٧٦) .
القيامة ينال جزاءه ، وحينئذٍ تكون حياته مشجعة لغيره ممن ينهج على نهجه ويسير على خطاه ؟
وطبيعي أن يكون الجواب بالنفي ، بل لا بد من إنزال العقوبة به في الدنيا ليكون عبرة لغيره لتستقيم تلك الأمور .
وكان جزاؤه ، وحسماً لمادة الفساد أن خسف الله به ، وبداره الأرض فضم الثري بين جنبيه رمز الظلم ، والخيانة ، فكان هذا حظه في الدنيا ، وله من عقاب الآخرة ما لا يعلمه الا الله سبحانه .
وفي سورة أخرى من سور القرآن الكريم تطالعنا الآيات بصورة اخرى لمثل هذا النوع من العقاب المتوخى منه حسم مادة الفساد قال تعالى : ( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .
لقد أذاقهم الله العذاب في الدنيا لأن هؤلاء البغاة الكفرة ظلموا الناس ، وتجاوزوا ، واستعلوا عليهم ، وخالفوا أوامر الله ، ونواهيه بل ، وأشركوا به فعجل لهم العذاب في الدنيا نتيجة جرائمهم البشعة فمن أخذته الصيحة في الآية الكريمة فهم : ثمود ، وقوم شعيب . والمراد بالصيحة هي ( العذاب ) اما من خسف به الأرض فهو : قارون ، ومن كان جزاؤه الغرق فهو : فرعون ، وقومه ، وقوم نوح (٢) .
__________________
(١) سورة العنكبوت : آية (٤٠) .
(٢) راجع مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية الكريمة .
هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة ، فحسابهم عسير ، وعسير جداً . إذ هم على موعد مع الله ، وأمام الميزان ، وعند الحساب .
( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (١) .
وحاشا لله ان يظلم احداً لأن الظلم قبيح ، وهو منزه عن القبيح بل ذلك بما قدمت أيديكم ، وان الله ليس بظلامٍ للعبيد . وأما الأخبار : فقد تضمنت أيضاً لعرض مثل هذه الصور العقابية فقد جاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : « خمس ان أدركتموهن فتعوذوا بالله منهن » .
١ ـ لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون ، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا .
٢ ـ ولم ينقصوا المكيال ، والميزان إلا أخذوا بالسنين ، وشدة المؤنة وجور السلطان .
٣ ـ ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا .
٤ ـ ولم ينقضوا عهد الله ، وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم وأخذ بعض ما في أيديهم .
٥ ـ ولم يحكموا بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم » (٢) .
__________________
(١) سورة البقرة : آية (٢٨١) .
(٢) اسرار العارفين / ٦٧ .
وفي مقام المقارنة بين هذه المعاصي الخمس وبين ما جعل لكل واحدٍ منها من العقوبة قيل : أنه رتب « على كل احد من المعاصي المذكورة عقوبة مناسبة .
فإن الأول : لما كان فيه تضييع آلة النسل ناسبه الطاعون الموجب لإِنقطاعه ـ بناءً على أن الفاحشة هي الزنا ـ .
والثاني : لما كان القصد فيه زيادة المعيشة ناسبه القحط وشدة المؤنة ، وجور السلطان بأخذ المال ، وغيره .
والثالث : لما كان فيه منع ما أعطاه الله بتوسط الماء ناسبه منع نزول المطر من السماء .
والرابع : لما كان فيه ترك العدل ، والحاكم العادل ناسبه تسلط العدو ، وأخذ الأموال .
والخامس : لما كان فيه رفض الشريعة ، وترك القوانين العدلية ناسبه وقوع الظلم ، وغلبة بعضهم على بعض » (١) .
هذه نماذج ، وصور من العقاب في الدنيا جزاءً على صدور الذنوب والفحشاء ، والمنكر تأديباً ، وعبرة للغير في هذه الحياة .
القسم الثالث : من أقسام العقاب ، وهو ما يكون العذاب متوجهاً على العبد في الدنيا دون الآخرة ، وهذا يبتني على أن الله اذا أحب عبداً ، وله ذنب ابتلاه بأنواع العذاب ليكون ذلك تكفيراً له عما صدر منه من ذنب فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل قال : ( ما من عبدٍ أريد أدخله الجنة إلا
__________________
(١) أسرار العارفين / ٦٧ .
إبتليته في جسده ، فإن ذلك كفارة لذنوبه ، وإلا شددت عليه عند موته حتى يأتيني ولا ذنب له ، ثم أدخله الجنة ) (١) .
وفي خبر آخر عن الإِمام أبي عبد الله الصادق « عليه السلام » قال : « إذا اراد الله عز وجل بعبدٍ خيراً عجل عقوبته في الدنيا ، وإذا اراد بعبدٍ سوءً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة » (٢) .
والروايات التي أشارت الى هذا المعنى كثيرة ، وكلها تصرح بأن الله إذا تعلقت إرادته ان لا يعذب عبداً لأمور هو أعرف بها ومن أجلها إستحق عطف الله ، وجه عليه ، وإبتلاه بما يرفع عنه عقاب الآخرة ، وبلائها .
ومن هذا العرض يتضح لنا أن الداعي حيث يطلب من سيده أن لا يعاجله بالعقوبة « لا تعاجلني على ما فعلته في خلواتي » .
إنما يقصد العقوبة من القسم الثاني ، لا العقوبة من القسم الثالث لأن عقوبة القسم الثاني لا ترفع شيئاً من عذاب الآخرة ، ولا تخفف منه شيئاً ، ولذلك يطلب الداعي عدم التعجيل بها عليه . أما العقوبة من القسم الثالث ، فإن على الداعي أن يطلبها من الله لأن العقوبات الدنيوية مؤقتة بينما عذاب الآخرة شديد ، ولا طاقة على تحمله .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ
__________________
(١ ـ ٢) أصول الكافي / حديث (١٠ ـ ٥) من باب تعجيل عقوبة المذنب .
جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (١) .
فليست عملية التهذيب تنتهي بمرة واحدة يحرق فيها المذنب في نار جهنم ، وتنتهي المشكلة ، ويعود كل شيء الى مكانه ، بل هي عملية متكررة حسب عظم الذنب تنضج الجلود فتبدل غيرها ليذوقوا العذاب ، وليعلموا :
( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) (٢) .
« من سوء فعلي ، وإسائتي ، ودوام تفريطي ، وجهالتي ، وكثرة شهواتي ، وغفلتي » .
وبدأ الداعي يعدد تلك الأمور التي كان قد فعلها ، والتي طلب من الله أن لا يعجل العقوبة عليه في الدنيا من أجلها وهي أفعاله السيئة القبيحة ، وتفريطه المستمر بواجباته ، وجهله بكثير مما يلزمه ، وكثرة شهواته المسعورة غير المشروعة .
أما غفلته : فالمراد بها غفلته عن كثير مما يلزم القيام به . وقد يرد الإِشكال على التعبير بالغفلة : فإن الغافل كيف يعاقب مع انه غافل ؟ وعليه فلماذا يطلب الداعي التجاوز عما صدر منه في حال الغفلة ، وهو غير مؤآخذٍ عليه ؟
والجواب عن هذا الإِشكال : ان الغفلة في اللغة جاءت إسماً لغيبة الشيء عن بال الإِنسان ، وعدم تذكره ـ وفي الوقت نفسه ـ قيل : المراد بها ما لو ترك الإِنسان الشيء إهمالاً ، وإعراضاً كما جاء
__________________
(١) سورة النساء : آية (٥٦) .
(٢) سورة البقرة : آية (١٦٥) .