أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

احداهما : تتعلق بالعبد .

والاخرى : تتعلق بالله عز وجل .

اما ما يخص العبد ، فإنه يقوم بما هو عليه من التقرب الى ربه بذكره ، والإِنشغال بمناجاته ، وتصفية قلبه ، واستحضار صفاته ، والقسم بها عليه ، والتخلق بالاخلاق الحسنة ، والإِتيان بكل أوامره والانتهاء عن نواهيه . يرجو بذكرك ان يمن الله عليه بالفيض القربى من ساحته المقدسة .

ولكن ذلك ليس بكافٍ ، بل لا بد من حصول الجهة الثانية وهي ما يتعلق بالمولى من الاستجابة من قبله ، وتحقيق ما يأمله الداعي من هذا العطف . وهذا لا يكون إلا من ناحيته عز وجل ، وتفضله على عبده بشرف القبول ، والتقرب اليه .

وإذاً فالفقرات الدعائية تكشف عن هاتين الجهتين .

فالعبد بدوره يقوم بما يؤهله الى التقرب من الله تعالى ، ولكنه : ـ في الوقت نفسه ـ يلتمس من الله ، وهو الجواد الذي لا يبخل بالعطاء : ان لا يخيب آمال هذا العبد المتضرع اليه بان يقبل منه هذا القليل فيستجيب له بالدنو منه .

ومن كان بكنف الله ، وجواره ، فهو آمن .

ومن حل في رحابه ، فهو مطمئن .

« وان توزعني شكرك »

الايزاع : هو الإِلهام . وإستوزعت الله شكره ، فأوزعني أي :

١٤١
 &

إستلهمته فالهمني (١) .

وكما سبق من التضرع يلاحق الداعي ربه ، فيستلهم منه الشكر بعد فرض تفضل الله عليه في شمول عطفه بجعله في عداد المقربين اليه . فهو عاجز عن اداء الشكر بإعتباره بشراً ، ومهما أوتي من العقل والفطنة ، والبيان فلسانه أقصر عن شكر ربه ، وحمده على نعمةٍ من نعمه فكيف بنعمة التقرب منه ، وقبوله ؟

فهو اذاً يلتمس من الخالق ان يضيف الى نعمه ، وأياديه عليه نعمة الشكر شكراً يليق به ، وحمداً كما هو أهله .

« وأن تلهمني ذكرك »

وعلى غرار ما سبق من توجه العبد الى الله في أن يلهمه الشكر اللائق به بقوله : ( وأن توزعني شكرك ) يعود الداعي في هذه الفقرة ليلتمس من ربه أن يلهمه ذكره . وقد سبق أن بينا أن المراد من ذكر الله هو الإِتصال به عن طريق استحضار صفاته ، وأسمائه في قلب الداعي ، وعلى لسانه . ولكن الداعي لا يجد في نفسه القدرة على مثل ذلك لأن ما يفعله العبد إنما هو بوحي من قواه المحدودة في التصوير شكراً وذكراً ، لذلك نرى الإِمام عليه السلام يوجه الداعي في هذه الفقرة ، وما سبقها من الفقرات الدعائية الى اللجوء لله نفسه ليكون هو مصدر الإِشعاع في إلهامه كيفية شكره ، وذكره بما يتناسب ، وعظمته الإِلۤهية .

وقد تكرر مثل هذا الالتماس في كثير من الأدعية ، والمناجاة التي

__________________

(١) مختار الصحاح للرازي : مادة ( وزع ) .

١٤٢
 &

كانت تتردد على لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام .

ولنستمع الى الإِمام زين العابدين علي بن الحسين « عليه السلام » يتضرع الى ربه قائلاً :

« اللهم الهمنا طاعتك ، وجنبنا معصيتك ، ويسر لنا بلوغ ما نتمنى من ابتغاء مرضاتك » .

إن الإِمام في طلبه هذا لا يرى في نفسه ـ وهو زين العابدين ، وسيد الساجدين ـ القدرة على اداء الطاعة على النحو الذي يتناسب ويليق بمكانته سبحانه ، وتعالى .

لذلك يلجأ ضارعاً الى ربه يلتمس منه أن يلهمه كيفية طاعته اللائقة به وان يضفي عليه نعمة جديدة ، ويداً أخرى من أياديه ، وهي أن يجنبه معاصيه ، ويمهد له الطريق لبلوغ أمانيه من ابتغاء رضوانه فهو عاجز عن القيام بمثل هذا الدور من العبادة ، والإِنقياد .

٣ ـ « اللهم إني أسألك سؤال خاضعٍ ، متذللٍ خاشعٍ أن تسامحني ، وترحمني ، وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً ، وفي جميع الأحوال متواضعاً . اللهم ، وأسألك سؤال من اشتدت فاقته ، وأنزل بك عند الشدائد حاجته ، وعظم فيما عندك رغبته » .

يشتمل هذا المقطع من الدعاء على بيان حقيقتين :

١ ـ توجيه الداعي بما ينبغي أن يكون عليه نفسياً عند التوجه الى الله في دعائه وكيفية مناجاته لربه .

١٤٣
 &

٢ ـ الالتماس منه تعالى بجعله راضياً بما قسمه له في هذه الحياة من رزق مادي ، وغيره مما يشتمل على كل ما قسمه الله لعبده في دنياه من صحة ، أو سقم ، أو ابتلاء ، فإن في ذلك كمال الراحة له حيث لا يلتفت الى ما يتمتع به الآخرون بأمور يفقدها هو فلا تفسد عليه حياته ليعيش في دوامة من التطلع الى ما يكمل له النقص ، ويسد الفراغ .

« اللهم وأسألك سؤال خاضع متذللٍ خاشع »

صفات تنم عن حالة الداعي عند مناجاته لربه ، وكلها تنم عن تطامنه وخضوعه ، وعدم الإِستعلاء في الحديث . والمعنى :

إلۤهي ، وأسألك سؤال عبدٍ ذليل هانت عليه نفسه عند المثول بين يديك ، وخشع صوته عند مناجاته لك ، وغض بصره ، وهو يتحدث إليك فقد جاء أن الخضوع في البدن ، والخشوع في الصوت ، والبصر (١) .

« أن تسامحني وترحمني »

والمسامحة : هي التساهل (٢) وبذلك يلتمس الداعي من ربه أن يتساهل معه عند الحساب ، وأن لا يطبق عليه ما تستوجبه أعماله فيأخذه بالشدة . والإِنسان مجموعة من لحمٍ ، ودمٍ ، وعظم وعصب لا يقوى على شيء تؤذيه البقة ، وتدميه الوخزة فكيف يحتمل عذاب الآخرة ؟

__________________

(١ ـ ٢) القاموس المحيط ، وأقرب الموارد : مادة ( خشع ، وخضع ، وسامح ) .

١٤٤
 &

« وتجعلني بقسمك راضياً »

والمعاش أمر يتطلع اليه كل فرد في هذا الوجود له ، ولمن يعول به فهو يعمل ، ويجهد نفسه لا يكف دائباً في سبيل الحصول على ما يسد به جوفه . وما دام يتطلع فهو دائماً في نهم مستمر يطلب المزيد ، ولا يرضى بالقليل . ومن كانت هذه حالته ، فهو مسلوب الراحة يحشد طاقاته لتأمين كافة احتياجاته الحياتية . يضاف الى ذلك عامل التعاون في الرزق فان مشيئة الله في خلقه لم تقتض ان يتساوى الكل من حيث المعاش ، بل لا بد من التفاوت ، والتفضيل .

( وَاللَّـهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) (١) .

وهذه حقيقة ثابتة لها أسبابها الخاصة . ولسنا في صدد بيان وبحث الأسباب الموجبة لهذا التفضيل ، ومناقشة ما يرد على ذلك من الشبهات ، فإن القرآن الكريم قد تصدى لبيان بعض الدواعي لذلك في الآية الكريمة : ( لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) بعد قوله : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) (٢) .

فلهذا التسخير حكمته ، وآثاره في صلاح ، وضبط أفراد المجتمع لا مجال لنا للخوض فيه . فليس في منع الله عبث ، بل هو نظام كوني دقيق يسير وفقاً لمصالح يعود نفعها الى البشر في جميع الأدوار ، والمراحل التي يمر بها الإِنسان من حين ولادته الى أن يودع هذه الدنيا ،

__________________

(١) سورة النحل : آية (٧١) .

(٢) سورة الزخرف : آية (٣٢) .

١٤٥
 &

وهكذا مروراً بكل المراحل الزمنية الى أن يختار الله لهذا العالم نهايته . وهذا كله ، وان قبل النقاش ، والجدل ولكن المهم الذي لا يقبل النقاش ، وأي جدل هو وجود التفضيل في الرزق . فليس بالإِمكان العثور على أمة يتساوى أفرادها من حيث المعاش ، والرزق : رؤساء ، ومرؤسين . عمال ، وأصحاب عمل وهكذا بقية أصناف البشر .

واذا كان التفاوت من الحقائق الثابتة ، فالفرد بطبيعته في هذه الحياة يبقى يتطلع الى ما فضل به الغير ليحصل على مثل ذلك أو يزيد . وهذا معناه سلب استقراره ، وعدم تطامنه الى حالة من الإِستراحة النفسية . لذلك نرى الدعاء يوجه الداعي الى التضرع الى خالقه وهو مصدر الرزق في ان يلهمه الرضا بما قسمه له من رزق في المال ، أو في البدن من صحة ، وعافية ، وهدوء واستقرار . فكل ذلك رزق من الله لعباده .

« قانعاً »

ومع الرضا القناعة وهي كما يقول الفراء : « القانع الذي يسألك فما أعطيته قبله » (١) .

وقيل : القانع الذي يقنع بالقليل ، ولا يسخط ، ولا يكلح (٢) .

والقناعة : هي تجسيد الصلة بين العبد وربه ، حيث يثق بما قسمه الله له ، وليجد من نفسه أنه أعلى من الإِنهماك في البهرجة

__________________

(١) مختار الصحاح : مادة ( قنع ) .

(٢) مجمع البحرين : مادة ( قنع ) .

١٤٦
 &

والثراء الذي يبعده عن المثل القيمة .

إن القناعة هي التي يحدد القرآن الكريم مفهومها بقوله تعالى :

( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (١) .

أي لا تتطلع الى ما في أيدي الناس من نعمٍ ربما كانت وبالاً عليهم ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) (٢) .

ومن يدري أن ذلك الذي حصلوا عليه كان في صلاحهم ؟ فالتطلع ، وانهاك النفس بالعمل على تحصيل مثل ما عند الغير ، أو التحرق على فقدانه لما منحه الله لآخرين معناه سلب الراحة ، وعدم الإِستقرار ، والعيش في دوامة من العمل المتواصل للوصول الى إكمال النقص .

على أن هذا الإِكمال المنشود لا يحصل لأن التفاوت بين الأفراد فيما يمنحه الله لهم لا يحقق لمثل هذا الفرد مطامحه من الوصول الى ما عند الغير . فغير القانع مهما سعى ، فإنه يجد من هو امكن منه ، وحينئذٍ يبقى يبذل من الجهد ما لا يحقق له الوصول ، وعلى فرض حصوله على ما ينشده من الأمور المادية فكيف الحال فيما لا يرجع الى المادة مما يتطلع اليه في هذه الحياة من الولد ، والعلم ، والشفاء من الأمراض وغير هذا وذاك ، من أمور المركزية المرموقة ، والوصول الى الرتب العالية ؟

__________________

(١) سورة طٰه : آية (١٣١) .

(٢) سورة آل عمران : آية (١٧٨) .

١٤٧
 &

كل هذا يجعل منه دوامة من التفكير المتواصل ، ومرتعاً خصباً للآلام النفسية لأن التبرم ، والتشكي ، والشعور بالنقص لا يزيد الإِنسان الا عقداً ، وتعقيداً لذلك يعلمنا الإِمام عليه السلام في هذه الفقرة من الدعاء أن نتحلى بالصبر ، والقبول ، وحتى لا يعكس هذا الشعور بالنقص ، وعدم الرضا بما هو مقسوم تأثيره السيء على تصرفاتنا وتعاملنا مع الناس ، والمجتمع .

إن القانع الذي يسير على الخط الذي رسمه الله ليعمل جاهداً ولكن بدون ملاحقة الآخرين ليجد في هذا النوع من التطامن اللذة النفسية ولهذا يوصف القانع بأنه : غني ، وإن جاع ، وعري .

فالقضية ليست قضية ما يسد البطن ، وما يكسو البدن فقط ، بل مع كل هذا راحة البال ، وهدوء النفس وتحليها بالقيم .

ومن كان هذا حاله فهو : غني بغض النظر عن حاجته الى المأكل ، والمشرب ، والملبس ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ مستريح وان فقد المال ـ ( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) (١) .

وهذا إخبار من الله ، وضمان منه لعبده بأن ما قسمه الله من الرزق أبقى وأنمى ، وفيه البركة .

على أنه ليس المقصود من الرزق في الآية الكريمة هو المال فقط ، بل كل ما لدى الإِنسان من نعم كل ذلك رزق من الله . فالولد الصالح رزق ، والزوجة الصالحة رزق ، والمظهر الجميل رزق ، والمنزلة الاجتماعية رزق ، والعقل ، والصحة ، وحسن العاقبة كل ذلك رزق

__________________

(١) سورة طه : آية (١٣١) .

١٤٨
 &

من الله لعبده .

فالمال ليس هو الهدف الوحيد في هذه الحياة إنما هو مع البنين يشكل كوكبة مشرقة يصفها الله بانها « زينةِ الحياة الدنيا » ولكن هذه الشعلة المضيئة ليست هي الهدف الذي من أجله جاء الإِنسان الى هذا الوجود إنما الهدف هو رضا الله سبحانه ، وان يكون الفرد إنساناً كاملاً يؤدي رسالته الإِنسانية في هذه الحياة .

فلماذا الهلع والجشع ، والركض وراء المال ، والقرآن الكريم يقول : ( وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (١) .

ولماذا تكون رحمته مفضلة على ما يجمعه الإِنسان من المال في دنياه .

والجواب : أن المال يجمعه البر والفاجر ، والرفيع ، والوضيع . ولكن رحمة الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولم يخص بها من لم يرض ولم يقنع بما قسمه الله له .

( وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (٢) .

« وفي جميع الأحوال متواضعاً »

والتواضع : هو التذلل ، والتخاشع ، وضد التكبر .

إن الإِنسان في حياته اليومية ، وإحتكاكه المستمر بالناس على

__________________

(١) سورة الزخرف : آية (٣٢) .

(٢) سورة البقرة : آية (١٠٥) .

١٤٩
 &

مختلف طباعهم ، ومشاربهم لا بد وأن يتأثر بهم ، إيجاباً أو سلباً أو يؤثر فيهم كذلك .

ومن الطبيعي أن يكون هذا التعامل الدائم على طول الخط الحياتي موجباً لتغير الإِنسان من حالة الى أخرى ، وبالاخير يكون ذلك مؤثراً على طباعه ، وسلوكه مع الناس .

ولهذا نرى الدعاء في هذه الفقرة يرجعه مرة أخرى الى وضعه الطبيعي ، ويذكره بأن يبقى متواضعاً إذا وصل الى المنزلة الرفيعة في الوسط الاجتماعي ، أو حصل على ثروة مالية ، وما الى ذلك من المنح التي يحصل عليها الإِنسان في حياته ، وأن لا ينسى الأحوال الأخرى التي يمر بها الآخرون ، أو الأحوال التي مرت عليه قبل هذا الحال .

وبذلك يبصره وينبهه بشكل غير مباشر أن على الإِنسان أن يكون محافظاً في السير على الخط المستقيم ، والسلوك المناسب ، وأن لا يأخذه الغرور بهذه الأحوال التي تمر عليه ، فلا ينسى التواضع مهما وصلت اليه حالته من العظمة ، والجاه .

على ان التواضع حسن في نفسه ، وله آثاره الايجابية في تزكية النفس ، وتحبيبها الى الآخرين وهو ـ في الوقت نفسه ـ تارة : يكون لله عز وجل .

وأخرى : يكون للناس .

وفي الحالة الأولى يكون سبباً للقرب منه تعالى ففي الحديث عن الإِمام أبي عبد الله الصادق « عليه السلام » أن الله أوحى لنبيه داود « عليه السلام » « يا داود كما أن أقرب الناس من الله المتواضعين

١٥٠
 &

كذلك أبعد الناس المتكبرين » (١) .

وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « وان التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرحمكم الله » (٢) .

أما في الحالة الثانية : وهي التواضع للناس ، فإنه يكون سبباً للمحبة وجلب الناس ، وكسب عواطفهم . والإِنسان مدني بالطبع لا ينفك عن الإِجتماع ، ومعاشرة الآخرين لذلك يكون التواضع من العوامل التي تقرب الفرد الى الآخرين ، وتحببه الى نفوسهم . ومن جراء ذلك تكون كلمته مقبولة عندهم ، ويكون لرأيه التأثير فيهم . وبهذا يتمكن المتواضع أن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويؤدي رسالته التي يتوخى من ورائها ارشاد الآخرين ، وحملهم على الطريقة المثلى . إن السيطرة على القلوب لا تحصل الا من طريق التواضع لأن المتواضع تتطامن له النفوس ، ولهذا نرى الآية الكريمة تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلة : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

ويبقى علينا أن نتسائل عن حد التواضع ، والمقدار الذي ينبغي لكل شخص ان يتحلى به ؟ ونجد الإِجابة في الحديث الوارد عن الإِمام الرضا عليه السلام عندما سأله السائل بقوله :

« ما حد التواضع الذي اذا فعله العبد كان متواضعاً » ؟

فأجابه « عليه السلام » بقوله : « التواضع درجات : منها أن

__________________

(١ ـ ٢) باب التواضع من كتاب الايمان من أصول الكافي : حديث (١١ و ١) .

(٣) الشعراء : آية (٢١٥) .

١٥١
 &

يعرف المرء قدر نفسه ، فينزلها منزلتها بقلب سليم . لا يحب أن يأتي الى أحد الا مثل ما يؤتى اليه . إن رأى سيئة درها بالحسنة ، كاظم الغيظ ، عافٍ عن الناس . والله يحب المحسنين » (١) .

صفة قيّمة تزرع الحب في القلوب وتعظم من يتحلى بها لذلك نرى الدعاء في هذه الفقرة التي نبحثها من قول الإِمام « عليه السلام » « وفي جميع الأحوال متواضعاً » يوجه الداعي الى التضرع الى الله في تكريمه بهذه الصفة ، ويجعله في جميع الأحوال متحلياً بها ليرضي ربه وينفذ ـ في نفس الوقت ـ الى قلوب المخلوقين عزيزاً عليهم مهاباً في أعينهم .

« اللهم وأسألك سؤال من إشتدت فاقته »

هذه الفقرة من الدعاء ترتبط بالفقرتين الآيتين إرتباطاً وثيقاً كما انها منشدة الى ما سبق من الجمل التي مرت من بيان صفة الداعي ، وحالته النفسية عند سؤاله من ربه أن يسامحه ويرحمه ويجعله بقسمه راضياً .

واذا عرفنا أن الفاقة هي الفقر ، والحاجة ، اتضح لنا المراد من هذه الجملة التي نبحث عنها من السؤال كسؤال من إشتدت فاقته فان الداعي يبين لربه بأن حالته ، وهو يسأله كحال من بلغ من وصلت به الحال الى درجة الشدة .

« وانزل بك عند الشدائد حاجته »

__________________

(١) أصول الكافي : باب التواضع / حديث / ١٤ .

١٥٢
 &

والشدة : من مكاره الدهر جمعها شدائد (١) .

وبهذه الفقرة من الدعاء يناجي الداعي ربه ليعلن بأنه توجه اليه بحاجته عند نزول مكاره الدهر به « وانزل بك » إنما هو لقصر الأمر به تعالى لا بغيره ، وبذلك يسجل الداعي على نفسه عدم الاتجاه الى غير الله لأنه هو الملجأ الذي يلجأ اليه المحتاجون .

« يا من كل هارب اليه يلتجيء ، وكل طالب إياه يرتجي يا خير مرجو ، ويا اكرم مدعو » (٢) .

« وعظم فيما عندك رغبته »

وبعد أن بين الداعي قصر حاجته في سؤالها على مولاه عطف على ذلك هذه الفقرة والمعنى : أسألك سؤال من اشتدت فاقته وعظم فيما عندك من حل المشاكل ، وقضاء الحوائج رغبته .

٤ ـ اللـهم عظم سلطانك ، وعلا مكانك ، وخفي مكرك ، وظهر امرك ، وغلب قهرك ، وجرت قدرتك ، ولا يمكن الفرار من حكومتك .

بهذا المقطع يكون الداعي قد انتهى من التماساته ، وطلباته لغفران ذنوبه ، وجعله بقسمه راضياً قانعاً ، وبدأ ينحو نحواً آخر من المناجاة يعظم فيها الداعي ربه ، ويبين صفاته المختصة به والتي توحي

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( شرد ) .

(٢) من دعاء الامام زين العابدين علي بن الحسين « عليه السلام » في مناجات الراجين . لاحظ الصحيفة السجادية / مناجاة الراجين .

١٥٣
 &

بعظمته ، وقدرته إعترافاً منه بالعبودية لرب عظم سلطانه ، وعلا مكانه ، وخفي مكره الى بقية ما جاء على لسان الداعي في هذا المقطع من الدعاء .

« اللهم عظم سلطانك »

ومن أعظم سلطاناً منه جلت عظمته ؟ فهو خالق كل شيء ، وله كل شيء ، وبيده كل شيء .

( قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

مالك الملك يؤتي الملك لمن يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، ويعز ، ويذل من يشاء ، وبيده الخير ، وبعد كل هذا هو قادر على كل شيء . فمن أعظم من ربٍ هذه صفاته ، وهذه قدرته ؟

وقد تضمنت الآية الكريمة قدرة الله على الصعيدين البشري ، والكوني بما في الكون من موجودات ، فالأول يتمثل بالفقرات : « مالك الملك » وما عطف عليها والثاني بقوله : « إنك على كل شيء قدير » .

ويحق للداعي ان يتجه الى ربٍ : عظم سلطانه .

« وعلا مكانك »

وليس من العلو الحقيقي المقصود به الفوقية لأن ذلك محال لأنه

__________________

(١) سورة آل عمران : آية (٢٦) .

١٥٤
 &

يكون محصوراً في جهة خاصة ، بل العلو هنا المعنوي ، وهو الذي تشير اليه الآية الكريمة في قوله تعالى :

( وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ) (١) .

فالعلو بلسان الدعاء هو : الإِحاطة الذي صرحت به الآية الكريمة فله ما في السموات ، وما في الأرض ، وهو بكل شيء محيط ، ومهيمن عليه ، ولذلك علا مكانه فلا شيء أعلى منه ، وهو في الوقت الذي هذا علوه ، وعظم مكانته نراه قريباً من عباده حتى قيل : انه أقرب الى الإِنسان من حبل الوريد .

تلك احاطته ، وعلوه .

وهذا حنوه ، وقربه .

« وخفي مكرك »

المكر : في اللغة الخديعة ، وقال الليث هو : احتيال في خفية وقيل : المكر صرف الإِنسان عن مقصده بحيلة ، وهو نوعان : محمود يقصد فيه الخير ، ومذموم يقصد فيه الشر (٢) .

ولكن كيف يتصور الإِحتيال ، والخداع بالنسبة الى الله تعالى مع ان القرآن الكريم ـ وكما في هذه الفقرة من الدعاء ـ جاء المكر منسوباً اليه عز وجل قال تعالى :

__________________

(١) سورة النساء : آية (١٢٦) .

(٢) لسان العرب : مادة ( مكر ) .

١٥٥
 &

( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١) .

ولهذا نرى أهل اللغة ، والمفسرين ينزهون ذاته المقدسة عن هذه الصفة غير اللائقة به .

فعن الليث : « قال أهل العلم بالتأويل : المكر من الله تعالى جزاء . سمي بإسم مكر المجازي كما قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها فالثانية ليست بسيئة في الحقيقة ، ولكنها سميت سيئة لأزدواج الكلام (٢) .

أما الراغب الإِصفهاني فقد قال : « مكر الله إمهاله العبد ، وتمكينه من اعراض الدنيا ، ولذلك قال أمير المؤمنين ( رض ) : من وسع عليه دنياه ، ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله (٣) .

أما ابن الأثير فقد قال : « مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه » (٤) .

وبذلك يظهر المعنى من هذه الفقرة من خفاء مكر الله سبحانه حيث يعترف العبد بمنة الله عليه إذ لم يقابله بالمجازاة على ما فعله في هذه الدنيا سراً منه عليه مع أنه مستحق للمجازاة ، وايقاع البلاء عليه .

__________________

(١) سورة آل عمران : آية (٥٤) .

(٢) لسان العرب : مادة ( مكر ) .

(٣) المفردات في غريب القرآن : مادة ( مكر ) .

(٤) النهاية في غريب الحديث : مادة ( مكر ) .

١٥٦
 &

« وظهر أمرك »

يذكر أهل اللغة كلمة ظهر ( بالفتح ) معنيين :

أحدهما : أنها بمعنى تبين ، فالظهور به والشيء الخفي .

وثانيها : أنها بمعنى القوة والغلبة ، يقال : ظهرت عليه أي قويت عليه ، ويقال : ظهرت على الرجل غلبته (١) .

وفي شرح هذه الفقرة من الدعاء ( وظهر أمرك ) ربما يقال : أن المراد بها المعنى الأول ، وهو : التبين . فالداعي بعد أن خاطب ربه بأنه مع كل نعمك عليَّ يا رب ، فقد خفي مكرك وهو مجازاتك لي على جرائمي ، وذنوبي قال بعد ذلك « وظهر أمرك » .

ومعناه : أن هذا الستر الذي أرخيته علي لا عن عجز منك عن المجازاة ، بل ذلك بعد أن ظهر أمرك ، وهو أنك إذا أردت شيئاً فلا يتخلف المراد عن ارادتك ، فكان ذلك ستراً من قادر ظاهر أمره لكل أحد لا من عاجز غير قادر ، وربما يقال : أن المراد بهذه الفقرة المعنى اللغوي الثاني ، وهو الغلبة ، ومنه قوله تعالى :

( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) (٢) .

أي غالبين . والمعنى أن أمرك وحكمك غالب ، ونافذ لاراد لحكمك ولا ناقض لأمرك ، ولا سيما الحكم ، والأمر التكوينيان (٣) .

__________________

(١) لسان العرب : مادة ( ظهر ) .

(٢) سورة الصف : آية (١٤) .

(٣) أسرار العارفين (٥٤) .

١٥٧
 &

وبين هذين القولين : نرى الأنسب بسياق الدعاء ، وتدرج الفقرات الدعائية هو المعنى الأول . ذلك لان المعنى الثاني ـ كما عرفت ـ يعطي أن أمرك قد غلب بينما تأتي الفقرة الثانية الآتية والدعاء فيها « وغلب قهرك » ويكون المعنى في الفقرتين متقارباً باعتبار الغلبة فيهما . ولكن على المعنى الأول يكون المعنى متغايراً ، وحينئذٍ تتكفل كل فقرة معنى جديداً ، وعلى ما هو معروف من القاعدة الأصولية القائلة : بانه مهما امكن التأسيس لا يجوز العدول عنه الى التأكيد .

على أن التقابل بين خفاء المكر ، وتبين الأمر يؤيد ما نذهب اليه من وجود مسحة من الروعة في الإِنتقال من خفاء الى بيان .

وعلى العكس : لو كان الظهور بمعنى الغلبة ، فإن تلك النبرة تنعدم عندما نقابل الخفاء بالغلبة .

« وغلب قهرك »

والقهر : هو الغلبة ، والأخذ من فوق . قال الأزهري : والله القاهر القهار قهر خلقه بسطانه ، وقدرته ، وصرفهم على ما أراد طوعاً ، وكرهاً (١) . ومن هذا يظهر معنى هذه الفقرة من الدعاء حيث دلت على أن قهره للأشياء ، وتغلبه عليها ثبت له جلت عظمته .

« وجرت قدرتك »

ويبين لنا الإِمام « عليه السلام » في هذه الفقرة من الدعاء ان قدرته تعالى ليست هي صفة محضة له ، بل قد أعملها في الممكنات

__________________

(١) لسان العرب : مادة ( ظهر ) .

١٥٨
 &

لأنه أحيا ، وأمات ، ورزق ، وشافى ، واتقن كل شيء خلقه . فهذه الأرض بما تشتمل عليه من اجزاء صغيرة ، وكبيرة ، وعناصر تسير بدقة مضبوطة بطبقاتها المتعددة ، ومياهها ، وسهولها ، وجبالها ، وهكذا السماوات بما فيها من اجرام ، وكواكب كلها تخضع لنظم خاصة بها بحيث لا يتخلف شيء من ذلك عما رسم له ، ولو شاء أن يحصل أي خلل في هذه المساواة لحصلت كوارث لا يعلم تأثيرها إلَّا الله . كل ذلك على إعمال قدرته لا مجرد ثبوت هذه الصفة له .

« ولا يمكن الفرار من حكومتك »

وبعد بيان هذه الصفات ، واثبات هذه العظمة ، والقدرة المطلقة يعقب الداعي كل ذلك بهذه النتيجة التي لا مفر منها ، وهي استسلامه لمولاه لأنه لا يمكن الفرار من حكومة ربٍ هذه صفاته .

والى اين يفر العبد ؟ والأرض والسماء وما فيهن ، وما بينهن كل ذلك مملكته ، وتحت قبضته .

( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) (١) :

ان البروج المشيدة انما تحمي الإِنسان من إنسان مثله ، ومن بعض التقلبات الجوية كالحر ، والبرد ، وما شاكل . أما الموت فلا يقف في طريق برج ، أو جبل ، ولا يمنعه أي حاجز .

« كل نفس ذائقة الموت » .

وهذه حقيقة يدركها الداعي ، ولذلك يعترف بها فلا مفر من

__________________

(١) سورة النساء : آية (٧٨) .

١٥٩
 &

حكومته وقد نقل عن الإِمام الحسين « عليه السلام » أنه جاءه رجل عاصٍ لربه فقال له : أنا رجل عاصٍ ، ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة .

فقال « عليه السلام » : إفعل خمسة اشياء ، واذنب ما شئت .

فأول ذلك : لا تأكل من رزق الله ، وأذنب ما شئت .

والثاني : اخرج من ولاية الله ، واذنب ما شئت .

والثالث : اطلب موضعاً لا يراك الله ، واذنب ما شئت .

والرابع : اذا جاءك ملك الموت لقبض روحك ، فإدفعه عن نفسك وأذنب ما شئت .

والخامس : اذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل ، واذنب ما شئت » (١) .

ولا يهمنا كثيراً أن نحقق عن سند هذه المحاورة وهل انها صحيحة وصدرت من الإِمام الحسين « عليه السلام » أم لا ؟ بل يهمنا أنها محاورة دقيقة ، وان كان مصدرها غير الإِمام . فهي تحمل بين طياتها ما نتوخاه من توضيح هذه الفقرة الدعائية من قوله : ( ولا يمكن الفرار من حكومتك ) .

ان هذه المحاورة تجسد لنا ضعف الإِنسان أمام خالقه ، ومحكوميته ، وخضوعه له فهو لا يستغني عن رزقه ، وهو عاجز عن الخروج من ولايته ، وهو في كل آنٍ من الآنات يراه الله ويطلع عليه ،

__________________

(١) لاحظ شرح دعاء كميل للسبزواري : ص (٩٩ ـ ١٠٠) .

١٦٠