أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الشَرْح

١٠١
 &

أضواء على دعاء كميل ـ عزّ الدين بحر العلوم

١٠٢
 &

بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيمِ

١ ـ اللهم اني أسئلك برحمتك التي وسعت كل شيء ، وبقوتك التي قهرت بها كل شيء ، وخضع لها كل شيء ، وذل لها كل شيء ، وبجبروتك التي غلبت بها كلَ شيء ، وبعزتك التي لا يقوم لها شيء ، وبعظمتك التي ملأت كل شيء ، وبسلطانك الذي علا كل شيء ، وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء ، وبأسمائك التي ملأت اركان كل شيء ، وبعلمك الذي احاط بكل شيء ، وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء يا نور ، يا قدوس ، يا أول الأولين ، وَيا آخر الآخرين .

أدب الدعاء يقضي أن يبدأ الداعي عندما يتوجه الى ربه ليطلب منه المغفرة ، والعفو عما صدر منه من الذنوب أن يقسم عليه بصفاته الكريمة ، وأسمائه المقدسة جلباً للعطف ومدعاة للحنو عليه .

١٠٣
 &

وفي هذا الفصل يبدأ الداعي بالقسم على ربه ليكون ذلك مفتاحاً لتوجيه الطلب اليه ، وتمهيداً لفتح باب المناجاة معه .

« اللهم »

يتفق علماء العربية في أن الأصل في هذه الكلمة هو ( يا الله ) ولكنهم اختلفوا في كيفية تركيبها الخارجي ، وأنه كيف صارت ( اللهم ) بدلاً من ( يا الله ) .

يقول البعض منهم : أن العرب تركت الهمزة من لفظ الجلالة فاتصلت الميم بالهاء ، وصار حرف النداء ، والمنادى كالحرف الواحد ، واكتفي به من ذكر ( يا ) فاسقطت فكانت الكلمة ( اللهم ) .

ويقول هؤلاء : بأن العرب ربما أدخلوا على هذه الكلمة حرف النداء ( يا ) فقالوا : ( يا اللهم اغفر لنا ) .

أما البعض الآخر : فيقول : بإن هذه الكلمة أصلها ( يا الله ) فهي منادى ولكن لكثرة دورانها على الالسن حذف حرف النداء ( يا ) ، وعوض عنه ( بميم ) مشددة وضعت في آخر الكلمة فكانت بحسب التركيب الخارجي « اللهم » (١) .

وعلى كلا النقلين الملاحظ أن الأصل في كلمة ( اللهم ) يا الله .

أما كيف تحول حرف النداء ، والمنادى الى هذه الكلمة فهذا

__________________

(١) لسان العرب : مادة ( إلۤه ) والزاهر : ١ / ١٤٦ .

١٠٤
 &

ما لا يغير المقصود من أدب الدعاء من الإِفتتاح بالمناجاة مع الله سبحانه بعبارة ( يا الله ) .

وهكذا يحسن بالداعي أن يبدأ ، فيفتتح دعاءه بإسم الله ، ويستعين به من المبدأ الى الأخير .

« اني أسئلك »

والسؤال طلب ، ولكن الطلب اذا كان من العالي الى الداني فهو أمر ، وإذا كان من المساوي فهو التماس ، أما إذا كان من الداني الى العالي فهو سؤال .

والسائل هو المستعطي كما أن الفقير يطلق عليه السائل .

ولأجل هذا يتجه الداعي ، وهو الفقير الى ربه ليسأله من رحمته ولم يقل : ربي اريد ، او اطلب ، بل هو سائل بما تشتمل عليه هذه الكلمة من خشوع ، وخضوع .

« برحمتك التي وسعت كل شيء »

والباء للقسم ، والداعي يسأل ربه مقسماً عليه برحمته ، والتي هي في اللغة : رقة القلب ، وإنعطاف يقتضي الفضل ، والإِحسان والمغفرة .

هذا الإِنعطاف الذي يشمل كل شيء في هذا الوجود بما في الكون من موجودات ، وكائنات فهي مغمورة بلطفه ، ومشمولة

١٠٥
 &

لعنايته ولم لا يقسم الداعي على الله برحمته الواسعة ؟ ، وقد أخبر هو جل إسمه عن هذا العطف بقوله :

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) .

( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (٢) .

ففي كل لحظة من لحظات الحياة تفيض الرحمة على ابن آدم تتابعه من حين إنعقاد نطفته الى ما بعد ولادته ، وحتى بعد موته وكذلك يوم القيامة ، وعند الحساب فعن الإِمام الصادق عليه السلام اذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته ، حتى يطمع إبليس في رحمته » (٣) .

وبماذا يقابل العبد ربه ، وهو يمنحه هذه الهبات ، والعطايا وكلها عطف ولطف ؟ ولماذا يستكثر العبد على نفسه ذنوبه مهما كانت اذا عاد الى رحاب الله تائباً يناجي ربه ؟ ويقسم عليه برحمته وهو الذي لوح له ببارق الأمل بقوله :

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ) (٤) .

والسرف : هو التجاوز والقنوط هو اليأس .

وبهذا الوعد يتجلى لطف الخالق في أروع صورة فلماذا اليأس

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٥٦) .

(٢) سورة الأنعام : آية (١٤٧) .

(٣) سفينة البحار : مادة ( رحم ) .

(٤) سورة الزمر : آية (٥٣) .

١٠٦
 &

حتى ولو أسرف العبد في المخالفة ما دام قد أخبر سبحانه بانه ( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (١) .

وكتب : بمعنى سجل ، والزم نفسه بالرحمة لعباده .

ولمن : فهل خص برحمته فئة معينة ؟

أم لماذا : فهل أجبره أحد على ذلك ؟

الآية الكريمة هي تجيب على هذه الإِستفهامات بعد ان كانت مطلقة ، وغير مقيدة بشيء ، بل رحمته تعم الجميع من دون سبب أو تأثير خارجي لأن عطفه نابع من فيض ذاته المقدسة ، وبإقتضاء من حنوه ، ولطفه على مخلوقاته .

( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

حتى ولو قابله العبد بالإِسائة ، والتقصير .

فخيره الينا نازل .

وشرنا اليه صاعد .

اذا كنت تجزي الذنب مني بمثله

فما الفرق ما بيني وبينك يا رب ؟

« وبقوتك »

والباء : للقسم أيضاً . والقوة ضد الضعف ، وبه قوة أي به طاقة وقوة الله ليست كقوة العبد ، والتي هي من سنخ القوى العشرة والتي منحها الله لعباده من السامعة ، والباصرة ، والشامة ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية (١١) .

١٠٧
 &

واللامسة ، والعاقلة ، وغيرها سواءً كانت هذه القوى مدركة للجزئيات أو الكليات . بل هي قدرته غير المتناهية ، والذاتية له حيث لا يقف في قبالها شيء لأنه على كل شيء قدير .

« التي قهرت بها كل شيء »

وهكذا يتدرج الداعي ليقسم على ربه بقوته فهو القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء ، ولا يقف في طريق ارادته أحد من الخلق ( فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

وتبدو روعة الإِنتقال في الدعاء من التوسل اليه برحمته الواسعة الى التضرع بالقسم عليه بقوته القاهرة .

رحمته التي تمثل الدعة في الانعطاف ، والفضل في الإِحسان واللطف في المغفرة .

وقوته التي تتجسم فيها كل آيات القدرة على ما في هذا الوجود ليعلم أن هذه الرحمة ، وهذا العطف ليس من قصور في ذاته المقدسة لكونه لا يقدر على شيء ، بل هي رحمة تنبعث من قدرة قادر قاهر . فهو في الوقت الذي يملك القدرة المطلقة في عالم الأسباب ، وله الغلبة في كل شيء نراه رحيماً يطمع حتى إبليس في رحمته .

فإذا غفر فعن قدرة .

وإذا عف فعن رفعة .

__________________

(١) سورة غافر : آية (٦٨) .

١٠٨
 &

« وخضع لها كل شيء »

الخضوع : هو الانقياد ، والتطامن ، والتواضع (١) .

والضمير في قوله ( لها ) يعود الى القدرة . والمعنى : يا رب أقسم عليك بقدرتك التي قهرت بها كل شيء في هذا الوجود فكان من نتيجة ذلك ان خضع لقدرتك كل ما في هذا الوجود .

وقد يقال : أن توصيف القدرة بقوله : ( قهرت بها ) والقهر هو الغلبة يغني عن عطف ( وخضع لها ) لأن تلك الأشياء كلها خاضعة لقدرته لأنها مغلوبة لها .

والجواب عن ذلك : أن العطف بالاخبار بالخضوع يحمل بين طياته معنىً دقيقاً ذلك هو : أن الله ، وان كانت قدرته غالبة على كل شيء فإن التغلب على الشيء ليس معناه تطامن ذلك المغلوب ، والإِنقياد للغالب نفسياً ، بل أقصى ما يدل عليه أنه تحت سيطرته ، وسطوته . ولكن الأخبار بخضوع الأشياء لقدرته معناه أن كل شيء في هذا الوجود قد تطامن ، وانقاد ، وتواضع لقدرته .

« وذل لها كل شيء »

ذل : جاءت في اللغة لمعنيين :

١ ـ انها مأخوذة من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة أي ( إنقاد ) ويكون معنى الجملة على هذا التقدير : وبقدرتك التي انقاد لها كل شيء .

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( خضع ) .

١٠٩
 &

٢ ـ انها مأخوذة من الذل بالضم ، وهو ضد العز ، ومعناه : ان الشيء هان ، ويكون المعنى : واسئلك بقدرتك التي هان لها كل شيء .

أما أن أياً من هذين المعنيين أنسب بسياق الدعاء .

فالجواب : ان يكون المعنى الثاني وهو : الذل بالضم ، وذلك لأن أخذ الذل على هذا المعنى يجعل المعنى من جملة « وخضع لها كل شيء » .

ويختلف عن المعنى في جملة « وذل لها كل شيء » لأن الخضوع ـ كما قلنا ـ هو الإِنقياد ، والذل بالضم ضد العز ، واحدهما مغاير للآخر . فتكون كل جملة قد أفادت معنى غير الذي جاءت به الجملة الأخرى ، المعطوف والمعطوف عليه .

أما لو أخذ الذل بالكسر ، فإن المراد من الجملتين يكون واحداً وهو الإِنقياد فلا يكون بين الجملتين من حيث أدائهما للمعنى فرق عدا التوضيح . ومن الواضح عند دوران الأمر بين حمل الكلام على تأسيس معنى ، او حمله على التوضيح لما سبق يقولون أن حمله على التأسيس اولى من حمله على التوضيح ، طبقاً لما يقرره علماء الأصول في بحوثهم الأصولية .

« وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء »

الجبروت : من صيغ المبالغة بمعنى العظمة ، والكبر ، والقدرة ، والسلطة . وهي صفة توحي بالقهر ، والغلبة ، والإِستعلاء .

١١٠
 &

ولأجل ذلك كان الاتصاف بهذه الصفة من مختصات الله تعالى .

فإن وصف بها سبحانه كانت مدحاً وإن وصف بها إنسان كانت ذماً إذ لا إستعلاء إلا له ، ولا كبر إلا له ، ولا غالب إلا هو صفات لا يشاركه فيها أحد ولهذا يقسم الداعي بها عليه لمكان الإِختصاص .

« وبعزتك »

العزة : بالكسر ضد الذلة ، وهي مصدر بمعنى الغلبة ، والقهر ومثل ذلك : ما جاء في قوله تعالى : ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي : غلبني في الإِحتجاج (١) .

« التي لا يقوم لها شيء »

وفي اللغة : قام على الأمر : دام ، وثبت . فلا يقوم : أي لا يثبت ، والمعنى : أقسم عليك بغلبتك ، وقهرك المتمثلان بعزتك التي لا يثبت أمامها شيء ، بل كل شيء متضائل أمام عزته ، وسطوته .

« وبعظمتك »

العظمة : محركة الكبر ، والنخوة ، والزهو .

والعظمة لله هي الإِستقلال ، والإِستغناء عن الغير .

أما عظمة العبد فهي : تكبره ، وتجبره ، ولذلك فإذا وصف العبد بالعظمة ، فهو ذم له لأن العظمة لله وحده لا شريك له (٢) .

__________________

(١ ـ ٢) لسان العرب : مادة ( عزز ، وعظم ) .

١١١
 &

وقد جاء في الحديث القدسي : ( والعظمة ردائي ) .

واذا كانت العظمة رداء الله ، وجلاله فكيف يشاركه فيها غيره ؟

ولذلك كان وصف العبد بها ذماً كما يقوله اللغويون لأنه إستعلاء ، وتطاول على ما ليس له ، وهو مخلوق ضعيف .

( وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) .

« التي ملأت كل شيء »

والضمير في قوله : ( ملأت ) يعود الى العظمة . وملأت الإِناء أي وضعت فيه بقدر ما يأخذه فهو مملوء ، ومنه القول : « نظرت اليه فملأت منه عيني » (٢) .

والمعنى الذي يقصده الدعاء بهذه الجملة هو أن يقسم على الله بعظمته التي إذا قيست الى كل شيء كان ذلك الشيء مملوءاً ومأخوذاً بتلك الهيبة الإِلۤهية ، والجلالة القدسية ، كما يملأ الماء الإِناء حيث يصل الى حافته .

« وبسلطانك »

السلطان : من السلطنة ، وهي القدرة ، والملك . فالسلطان هو القادر ، والمالك ، والمتسلط على غيره .

__________________

(١) سورة الحج : آية (٧٣) .

(٢) أقرب الموارد مادة ملاء .

١١٢
 &

« الذي علا كل شيء »

وتسلطه جلت عظمته على ما في الوجود هو قدرته عليه ، وكون الأشياء مسخرة لإِرادته ( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ) (١) .

ولم يقتصر الأمر على الأرض فقط حيث كانت كلها تحت قبضته يدبرها كيف يشاء ، بل ( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٢) .

فعلوه اللامتناهي على كل شيء ينشأ من هذه السلطة الجبارة .

« وبوجهك »

الوجه : أول ما يبدو للناظر من البدن ، وفيه العينان ، والأنف والفم ، وكذلك مستقبل كل شيء وجهه .

ولأهل اللغة والمفسرين آراء كثيرة في تفسير وجه الله وقد تضمن القرآن الكريم آيات عديدة أضيف فيها الوجه اليه تعالى ، ولكن الذي يأتي في مقدمة تلك المعاني هو تفسيره بانه : ذاته المقدسة ، ونفسه الشريفة (٣) .

« الباقي بعد فناء كل شيء »

والفناء خلاف البقاء والجملة صفة لذاته المقدسة وهي مستوحاة من قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٤) .

__________________

(١) سورة الزمر : آية (٦٧) .

(٢) سورة الزمر : آية (٦٧) .

(٣) لاحظ لسان العرب : مادة ( وجه ) .

(٤) سورة القصص : آية (٨٨) .

١١٣
 &

والمعنى : أقسم عليك بذاتك التي تبقى ، ويفنى كل شيء . والآية الكريمة تؤيد أن يكون المراد من وجه الله هو ذاته ونفسه حيث يهلك كل شيء إلا هو ، وقد عبر فيها عن نفسه بوجهه . ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (١) .

« وبأسمائك »

الأسماء : جمع اسم ، والإِسم مأخوذ من السمة وهي العلامة وأسماؤه سبحانه هي : صفاته ، وصفاته عين ذاته ، وليست زائدة على عين الذات وهي :

عليم ، وقدير ، وغني ، وحي ، ومحي ، ومميت ، وكبير ، وقاهر الى غيرها مما تضمنته الكتب لبيان اسمائه ، وهي كلها ثابتة له إذ عدم ثبوتها ، ونفيها عنه معناه : إثبات النقص إليه ، ولا سبيل الى ذلك لإِستلزام النقص محدوديته ، ولا يحد سبحانه بحد .

أما عدد أسمائه تعالى فكثيرة ، ولكن الأسماء الحسنى ، والتي نوه عنها القرآن الكريم في اكثر من آية فهي : مائة وسبعة وعشرين أسماً (٢) .

« التي ملأت أركان كل شيء »

وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في ما تقدم من قوله « وبعظمتك التي ملأت كل شيء » والمعنى في الموردين واحد .

ويأتي القسم من الداعي على الله بأسمائه في هذه الفقرة طبقاً لما

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٥٥) .

(٢) لاحظ بتفصيل لهذا البحث تفسير الميزان : للسيد الطباطبائي ٨ / ٣٦٦ .

١١٤
 &

أمر الله به عباده في آيات كريمة منها :

( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (١) .

( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) .

( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) (٣) .

( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤) .

وهكذا تتوالى الآيات الكريمة تحث العبد على الدعاء ، والذي هو إنشداد المخلوق الى ربه ، وتوجهه الى مصدر العطاء .

إن الإِنسان ليقف أمام هذا الحشد من الآيات الكريمة ، والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير ، فلماذا كل هذا الأمر بالتوجيه بالدعاء أليس هو لطف منه نحو عبيده المذنبين ؟

أليس هو فيض من رحمته نحو هؤلاء المقصرين ؟

وهل يخشى الداعي عدم الإِجابة بعد تعهده بها في قوله :

« إدعوني أستجب لكم » .

فمن أقوى من الله ضماناً ، وبوركت صفقة كان الضامن فيها هو الله .

إن اليأس من رحمة الله هي الضلال بعينه فقد قال تعالى :

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٨٠) .

(٢) سورة الأعراف : آية (٢٩) .

(٣) سورة الأعراف : آية (٥٦) .

(٤) سورة المؤمن : آية (٦٠) .

١١٥
 &

( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (١) .

ولكنه ابن آدم يدب اليأس اليه ، وقد قال تعالى عنه :

( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ) (٢) .

ولكنه سبحانه وتعالى يطمئن عباده قائلاً :

( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٣) .

« وبعلمك »

العلم : بالكسر إدراك الشيء بحقيقته ، وقيل : هو اليقين وقيل : أنه بمعنى المعرفة .

وقيل : ان بين المعرفة ، والعلم فرقاً فان العلم يقال : لإِدراك الكلي ، أو المركب . والمعرفة تقال لإِدراك الجزئي ، أو البسيط .

ومن هنا يقال : عرفت الله ، دون علمت الله .

وقيل : العلم في الإِنسان ، والمعرفة في البهائم .

وقيل : العلم هو : الإِعتقاد الجازم المطابق للواقع .

وفي الحقيقة : أن العلم بالشيء معنىً أصبح ينتقل اليه بحيث لا يحتاج الى تعريف لوضوحه .

__________________

(١) سورة الحجر : آية (٥٦) .

(٢) سورة الروم : آية (٣٦) .

(٣) سورة الزمر : آية (٥٣) .

١١٦
 &

« الذي أحاط بكل شيء » .

أحاط بالأمر : أحدق به من جوانبه ، وجاء في القرآن قوله : ( وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) (١) .

أي أن قدرته شاملة ، ومشتملة عليهم ، ولا يعجزه أحد . أما أنه عالم بكل شيء ، وعلمه محيط بذلك ، فلأنه علة الأشياء كلياتها وجزئياتها ، ومن الواضح أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول فينتج من ذلك أنه تعالى عالم بجميع الأشياء اذ لا مؤثر في الوجود غيره .

وقد أخبر الكتاب الكريم عن هذه الحقيقة في اكثر من آية فقال تعالى : ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) (٢) .

وقال : ( إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

وقال : ( وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٤) .

ومن هذا المنطلق يأتي القسم على الله بعلمه الذي أحاط ، وأحدق بكل شيء في هذا الكون ، وما تكتنفه من اكوان اخرى .

وقد يتساءل عن السبب في هذا التكرار بالقسم عليه بعلمه مع

__________________

(١) سورة البروج : آية (٢٠) .

(٢) سورة التغابن : آية (٤) .

(٣) سورة التوبة : آية (١١٥) .

(٤) سورة الحجرات : آية (١٦) .

١١٧
 &

أن علمه من جملة ما اشتملت عليه الفقرة المتقدمة بقوله « وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء » ومن جملة اسمائه العليم ، العالم . وإذاً فقد أقسم الداعي على الله بعلمه فما هو وجه التصريح بهذه الصفة مع تقدمها اجمالاً ، وفي اسمائه جلّت عظمته ؟

ويجاب عن ذلك : بعدم المنافاة بين البيانين إجمالاً في الأول ، وتفصيلاً في الثاني لخصوصية في التنصيص على صفة العلم المحيط بكل شيء ، وربما كانت الخصوصية هي : بيان حال الداعي عند تدرجه في التضرع اليه سبحانه ، وبالقسم عليه بصفاته وانه صادق في هذا الالتجاء حيث أقسم عليه مجدداً بعلمه الذي أحاط بكل شيء ، ومن جملة ما أحاط به علمه هو حالته التي هو عليها من التوبة ، والندم ، وأنه صادق في توسله الذي يخرج عن قلب فإن الله : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (١) .

« وبنور وجهك »

النور : بالضم الضوء ، وهو خلاف الظلمة ، وقيل : النور كيفية تدركها الباصرة ، جمع انوار ، ونيران .

والنور قسمان : حسي ، ومعنوي .

أما الحسي : فهو ما كان قائماً بغيره كنور الشمس ، ونور الكهرباء وغيرهما .

واما المعنوي : فهو ما كان قائماً بذاته .

__________________

(١) سورة غافر : آية (١٩) .

١١٨
 &

ونور الله ليس من القسم الأول ، بل هو نفحاته القدسية التي يستنير بها كل شيء ، ويهتدي من في السموات والأرض ، بعد ان كانت عدماً فخلقها ، ومنحها الوجود .

وقد اقتبست هذه الفقرة من الآية الكريمة :

في قوله تعالى : ( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

النور الذي فيه قوامها ، ومنه نظامها فهو الذي يهبها جوهر وجودها ويودعها ناموسها .

ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة الى اشعاعات منطلقة لا قوام لها الا النور ولا مادة لها الا النور فذرة المادة مؤلفة من كهارب واليكترونات تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور .

فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون كان يدركها كلما شف ، وقرب ، ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف نافض كفيه من الناس عائذ بوجه ربه يقول :

« اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، وفاض بها في رحلة الاسراء ، والمعراج فلما سألته عائشة هل رأيت ربك ؟ قال : نور إني أراه » (٢) .

__________________

(١) سورة النور : آية (٣٥) .

(٢) في ظلال القرآن في تفسيره لآية (٣٥) من سورة النور .

١١٩
 &

« يا نور »

وبهذا ينهي الإِمام عليه السلام هذا العرض المتوالي من القسم عليه بصفاته الكريمة ، ويبدأ بمرحلة جديدة من إظهار الحالة النفسية للداعي ، وهي مرحلة النداء ، والإِستغاثة ، والتوسل بأحلى صفاته وهي : النور ، القدوس ، أول الأولين ، وآخر الآخرين .

النور : الذي هو مصدر الحياة لكل ما هو مسبوق بالعدم .

« يا قدوس »

وهو بالضم ، وقد يفتح : الطاهر المنزه عن العيوب ، والنقائص وعن كل شريك ، فالشريك نقص لشريكه ، ولذلك فهو تعالى منزه عن هذا النقص ايضاً .

« يا أول الأولين ويا آخر الآخرين »

وهي نداءات تتوالى يضرع بها الإِمام « صلوات الله عليه » الى ربه ويصفه بأنه الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد الأشياء ، فلا شيء قبله ، ولا شيء بعده .

وليست الأولية والآخرية بالنسبة اليه تعالى زمانيتين لأن حده بالزمان يستلزم محدوديته ، وإستلزام محدوديته معناه :

إحاطة الزمان به . وهذا يعني احتياجه تعالى الى المحدد . وكل ذلك نقص فيه وهو المنزه عن كل نقص .

سئل الإِمام الصادق عليه السلام عن الأول ، والآخر فقال :

« الأول لا عن أول قبله ، ولا عن بدء سبقه ، والآخر لا عن

١٢٠