الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
ISBN: 964-8837-02-3
الصفحات: ١٥٥

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة يأكلون الفيىء (١) ، فاجعلهاأُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة أذا همّ أحدهم بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات ، فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة إذا همّ أحدهم بسيّئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كتبت سيّئة واحدة فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة يؤتون العلم الأوّل والآخر ، ويقتلون مع المسيح الدّجال فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ فاجعلني من أُمّة أحمد ، فأُعطي عند ذلك خصلتين.

فقال : «يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ» (٢).

قال : قد رضيت يا ربّ (٣).

والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّاً وللّه الحمد.

* * *

__________________

١ ـ الفيىء : الخراج والغنيمة ، المصباح المنير : ص ٤٨٦.

٢ ـ الأعراف : ١٤٤.

٣ ـ حلية الأولياء : ج ٥ ، ص ٣٨٥ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٤١

بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لا تَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ

عَظُمَ ، وَلاَ يَفُوتُهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَطُفَ

«بقدرته» متعلّق بقوله : «منّ علينا» والقدرة فيها ، قوّة جسمانيّة منبثّة (١) في الأعضاء محرّكة لها نحو الأفعال الإختياريّة.

«والعجز» ما يقابل القدرة بهذا المعنى وهو عدمها عمّا من شأنه أن يقدر ، كما في حقّ الواحد منّا ، إذ لا يقال للجدار مثلاً إنّه عاجز وقدرته تعال تعود إلى إعتبار كون ذاته مصدر الإثارة (٢) ، هذا قول الجمهور.

«والشيىء» بحسب مفهومه اللغوي يقع على كلّ ما يصحّ أن يُعلم ويخبر عنه كائناً ما كان ، على أنّه في الأصل مصدر شاء ، أُطلق على المفعول ، وأكتفى في ذلك بإعتبار تعلّق المشيئة به من حيث العلم أو الإخبار به فقط ، فيتناول الواجب والممكن والممتنع ، وقد يخصّ بالممكن موجوداً كان أو معدوماً كما هنا لقضيّة إختصاص تعلّق القدرة ، به إذ المراد بها التمكّن من الإيجاد والإعدام الخاصّين به.

وذهب القاضي في جمع من الأشاعرة : إلى أنّ الشيىء يختصّ بالموجود ، وأنّ المعدوم لا شيء ولا ذات ولا ماهيّة ، وهو أيضاً مذهب الحكماء على ما نقل عنهم.

قالوا : «الشيىء» اسم لما هو حيقيقة الشيئيّة ، ولا يقع على المعدوم والمحال ، ولا علم بالمحال أصلاً إذ لا شيئيّة له ، ولا هو ممّا يتمثّل في ذهن أو يتصوّر في وهم ، وإنّما المعلوم المتصوّر المتمثّل في الذهن عنوان المفهوم من لفظه ، وهو ممكن ما من الممكنات ليس في إزائه حقيقة من الحقائق ، و

__________________

١ ـ منبثة : أي منتشرة.

٢ ـ الإثارة : القدرة.

٤٢

شيء من الأشياء أبداً ، وإلى الأوّل ذهب المعتزلة وجماعة من الأشاعرة.

قال الزمخشري والنيسابوري : الشيىء : أعمّ العام ، كما أنّ الله أخص الخاصّ يجري على الجوهر والعرض ، والقديم والحادث ، بل على المعدوم والمحال (١).

وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ، ما لا تتعلّق القدرة به كالمستحيل والواجب وجوده لذاته (٢).

وقال القطب العلّامة (٣) : كلّ من قال : بأنّ الوجود ، عين الماهيّة مثل الأشعري وأتباعه ، قال : بأنّ المعدوم ليس بشيىء لإنتفاء الماهيّة عند العدم ، ومن قال : بأنّ الوجود غيرها ، فهم قد اختلفوا في ذلك ، والنزاع انّما هو في المعدوم الممكن ، لا في المعدوم الممتنع فانّه ليس بشيىء عند الفريقين (٤) ، إنتهى.

وهذا لا يرد على ما صرّح به الزمخشري والنيسابوري لأنّ كلامهما بحسب مفهومه لغة ، وما ذكره من النزاع إنّما هو في الشيئيّة بمعنى التحقّق منفكّاً عن صفة الوجود ، لا في إطلاق لفظ الشيىء على مفهومه فإنّه بحث

__________________

١ ـ الكشاف : ج ١ ، ص ٨٧ ـ٨٨.

٢ ـ تفسير النيسابوري : ج ١ ، ص ٦٢.

٣ ـ هو قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي الشافعي الملقب بالعلّامة تلميذ الخواجه نصير الدين الطوسي. قيل : كان وحيد عصره في المعقول وكان في غاية الذكاء ، وله تلاميذ كثيرة وتصانيف شهيرة منها : شروحه على القسم الثالث من المفتاح ، وعلى المختصر الحاجي ، وعلى كليات ابن سيناء ، توفي بتبريز ٧١٠ هجرّية. الكنى والالقاب : ج ٣ ، ص ٥٩.

٤ ـ لا يوجد لدينا كتابه.

٤٣

لغوي مرجعه إلى النقل والسّماع لا يصلح محلاً لإختلاف العقلاء الناظرين في المباحث العلميّة ، ولهذا قال صاحب الكشف : النزاع في هذا لا ينبغي أن يقع بين المحقّقين لأنّه أمر لفظي ، والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة (١) ، إنتهى.

تبصرة

قال العلماء : معنى كون قدرته تعالى لا تعجز عن شيء ، وكونه على كلّ شيء قديراً : إنّ قدرته لا تعجز عمّا يمكن تعلّق القدرة به وأنّه على كلّ شيء يصحّ تعلّقها به قدير من كلّ ماهيّة إمكانيّة ، أو شيئيّة تصوّريّة.

وأمّا الممتنعات فلا ماهيّة لها ولا شيئيّة حتّى يصحّ كونها مقدورة له تعالى وليس في نفي مقدوريّتها نقص على عموم القدرة ، بل القدرة عامّة والفيض شامل والممتنع لا ذات له ، وإنّما يخترع العقل في وهمه مفهوماً يجعله عنواناً لأمر باطل الذّات ، كشريك الباري ، واللا شيء ، واجتماع النقيضين ، أو يركّب بين معان ممكنة آحادها تركيباً ممتنعاً ، فإنّ كلّاً من المتناقضين كالحركة والسكون أمر ممكن خارجاً وعقلاً ، وكذا معنى التركيب والإجتماع ، أمر ممكن عيناً وذهناً.

وأمّا اجتماع المتنافيين ، فلا ذات له في الخارج ولا في العقل ، لكنّ العقل يتصوّر مفهوم إجتماع النقيضين على وجه التلفيق ويجعله عنواناً ، ليحكم على أفرادهما المقدرة بامتناع الوجود. ومن هنا أُطلق على المستحيل أنّه شيء وإلّا فهو لا ماهيّة له ولا معنى ، فلا تعلّق للقدرة به.

وأمّا الحديث المشهور الذي رواه ثقة الإسلام في الكافي : عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن إسحاق الخفّاف ، أو عن أبيه ، عن محمّد بن إسحاق ،

__________________

١ ـ لم نعثر عليه.

٤٤

قال : إنّ عبد الله الدّيصاني سأل هشام بن الحكم ، فقال له : ألك ربّ؟ فقال : بلى ، قال : أقادر هو؟ قال ، نعم قادر قاهر ، قال : أيقدر أن يدخل الدّنيا كلّها في بيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام : النظرة ، فقال له : أنظرتك حولاً ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال : يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على الله وعليك ، فقال أبو عبد الله عليه السلام عمّا ذا سألك؟ فقال : قال لي : كيت وكيت ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : يا هشام كم حواسّك ، قال : خمس ، قال أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟ قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراريّاً وجبالاً وأنهاراً ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : إنّ الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها ، قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكب هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يا ابن رسول الله (١). والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

ومثله ما رواه رئيس المحدّثين في كتاب التوحيد بسنده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : جاء رجل إلى الرضا عليه السلام فقال : هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال : نعم وفي أصغر من البيضة قد جعلها الله في عينك وهي أقلّ من البيضة لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ولو شاء لأعماك عنها (٢).

__________________

١ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٧٩ ، ح ٤.

٢ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١١.

٤٥

فقال بعضهم : إنّ السؤال في ذلك وهو إدخال الكبير مع كبره في الصغير مع صغره ، وإن كان من قبيل المتنافيين ، فكان حقيقة الجواب عنه أن يقال : إنّ هذا أمر محال ، والمحال غير مقدور عليه ، إذ لا ذات له ولا شيئيّة ، إلاّ أنّه عليه السلام عدل عنه إلى ما ذكره لقصور الأفهام العامّية عن إدراك ذلك الوجه ، فالذي أفاده عليه السلام وجه إقناعيّ مبناه على المقدّمة المشهورة لدى الجمهور : انّ الرّؤية بدخول المرئيّات في العضو البصري فاكتفى في الجواب بهذا القدر لقبول الخصم له وتسليمه إيّاه.

قال : والذي يدلّ على صحّة ما حملنا عليه غرض هذا الحديث ما رواه في كتاب التوحيد عن أبي عبد الله : قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟

فقال : إنّ الله تعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون (١).

وهذا الحديث صريح في أنّ الذي سأله ذلك الرجل ، ممتنع بالذات محال ، والمحال لا شيئيّة له ، فليس بمقدور والله على كلّ شيء قدير ، ولو لم يكن معنى الروايتين الأولتين ما أوّلناهما به ، لكان بين الأخبار تناقض ، وجلّت أحاديثهم عليهم السلام عن أن يناقض بعضها بعضاً ، لعصمة الجميع عن الخطأ.

ومثل الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ما رواه في كتاب التوحيد أيضاً بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام إنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغّر الأرض ولا يكبّر البيضة؟

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ٩.

٤٦

فقال له : ويلك إنّ الله لا يوصف بالعجز ، ومَن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظّم البيضة (١).

فدلّت هذه الرواية : على أنّ إدخال العظيم أو تعظيم الصغير بنحو التكاثف والتخلخل وما يجري مجراهما وأنّ تلطيف الأرض إلى حدّ تدخل في البيضة ، أو تعظيم البيضة إلى حدّ تدخل فيها الأرض غاية القدرة.

وقال بعض المعاصرين : إنّ هذه الأحاديث كلّها متّفقة ، ولا تنافي ولا تناقض فيها ، وأنّ الجواب في كلّ منها بحسب ما يقتضيه المقام وحال السائل ، وكلامهم عليه السلام أصله واحد وقد أمروا أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم.

وبيان ذلك : إنّ الحديثين الأوّلين يدلّان على ما دلّ عليه الحديثان الآخران على وجه لطيف ومعنى شريف. وتوضيحه : إنّ الظاهر من حال الديصاني في الحديث الأوّل : إنّه كان مناظراً مجادلاً كما يظهر من سياق كلامه مع مثل هشام بن الحكم ، وجواب الإمام عليه السلام له على هذا النحو يدلّ على أنّه كان يعلم أنّ ما سأل عنه محال ، والقدرة لا تتعلّق بالمحال ، لنقصه عن الإستعداد لتعلّق القدرة به ، فعدوله عليه السلام إلى ما يدلّ على كمال القدرة مع وجوده ، وعدم لزوم المحال فيه ، مع كونه نظيراً لما أراده السّائل فيه ، تمام الفصاحة والبلاغة ، والإلزام لمن عرف عليه السلام من حاله أنّه يفهم ذلك ، وحال هشام في فهمه كحال الديصاني ، وإلاّ فمثل هشام مع العلم بحاله لا يخفى عليه أنّ السائل أراد غير ما أجابه عليه السلام به ولم يراجعه في ذلك لأجل دفع ما يورده السائل من أنّه أراد غير ما تضمّنه الجواب.

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١٠.

٤٧

وحاصل الكلام : إنّه عليه السلام نبّهه أنّ الله سبحانه قادر على أن يدخل الدنيا في البيضة مثل دخول ما تراه بناظرك في الناظر وهو بهذا القدر وذلك بحيث لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ، كما أنّ ما يراه الناظر يدخل تحت قدرته بحيث لا يكبر الناظر ولا يصغر ما ينظره.

وعلى هذا النحو ما في الحديث الآخر من قول الرضا عليه السلام «نعم وفي أصغر من البيضة قد جعلها الله في عينك وهي أصغر من البيضة» (١).

ففيه تنبيه للسائل على كمال قدرته تعالى ممّا هو ممكن ، وغير محال ، وأنّ ما سأل عنه لا ينبغي أن يسأل عنه لما ذكر من كونه محالاً ، فظهر كون الأحاديث كلّها متّفقة لا تنافي فيها ، وإلّا فكيف يتصوّر أن يخفى على الإمام عليه السلام ما أراده السائل حتّى يجيبه بغير ما دلّ عليه سؤاله؟ ومع ذلك لا يفرّق هشام والسائل بين السؤال والجواب ، وينقل مثل هذا أجلاّء العلماء من غير تعرّض لدفع ما ذكر؟ وما ذلك إلّا لفهمهم وجه ذلك ، والله أعلم.

قوله عليه السلام : «وإن عظم» (إن) هذه هي التي يسميّها أكثر المتأخرين وصليّة ومتّصلة ، وذلك حيث وقع الشرط بها مدلولاً على جوابه بما قبله من الكلام ، وكان ضدّ الشرط أولى بجزائه من الشرط كقولك : أكرمه وإن شتمني ، فالشتم بعيد من الإكرام ، وضدّه وهو المدح أولى بالإكرام ، ومثله قوله : «وإن عظم» فإنّ كون الشيىء عظيماً بعيد في الظاهر عن القدرة عليه ، وضدّه وهو كونه لطيفاً أولى بالقدرة عليه ، ومثل إن في ذلك (لو) المستعملة في معناها نحو : «اطلبوا العلم ولو بالصين» (٢).

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١١.

٢ ـ روضة الواعظين : ص ١١ ، في فضل العلم.

٤٨

و «الواو» قيل : للعطف على محذوف ، وهو ضدّ الشرط المذكور ، أي لا تعجز عن شيء إن لم يعظم وإن عظم.

وقيل : للحال ، والعامل فيها ، ما تقدّم من الكلام والمعنى : لا تعجز عن شيء والحال أنّه عظيم.

وقيل : ـ الجملة ـ إعتراضية ، والواو للإعتراض وهي قد تأتي بعد تمام الكلام.

وفيه إنّه لا يفيد إدخال الواو حينئذٍ كون الجزاء أولى من الشرط ، فإنّ واو الإعتراض هي الإستئنافية كما جزم به بعضهم.

«وعظم الشيىء» ـ بالضمّ ـ خلاف صغر ، عظماً ـ كعنب ـ وعظامة فهو عظيم.

قوله عليه السلام : «ولا يفوتها شيء وإن لطف» فاته الشيىء فوتاً وفواتاً : ذهب عنه ، ولطف ـ كعظم ـ ، لطفاً ـ بالضمّ ـ ، ولطافة : صغر حجمه ودقّ فهو لطيف ، أي لا يذهب عن قدرته شيء لصغره ودقّته كما لا يعجزها شيء لعظمه وكبره ، بل هو على كلّ شيء قدير عظيماً كان أو لطيفاً ، لعموم قدرته جلّ شأنه وعزّ سلطانه.

إكمال

قال بعضهم : الأولى في إثبات عموم قدرته تعالى ونحوه من المطالب التي لا يتوقّف إرسال الرسول عليها بالأدلّة السمعيّة فيستدلّ على شمول القدرة بقوله تعالى : «وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١).

واعترض المحقّق الدواني بأنّ كون شمول القدرة ممّا لا يتوقف عليه إرسال الرسول ، مسلّم إذا لو فرض قدرته على الإرسال فقط لكفى في

__________________

١ ـ الحشر : ٦.

٤٩

صدور الإرسال عنه ، لكن إثبات إرسال الرسول ممّا يتوقّف على شمول القدرة ، إذ طريق إثباته : إنّ المعجزة فعل الله تعالى خارق للعادة وقد صدر عنه حال دعوى النبوّة ، وإذا خالف الفاعل المختار عادته حين إستدعاء النبيّ تصديقه بأمر يخالف عادته دلّ ذلك على تصديقه قطعاً ، وهذا يتوقّف على كونه فعلاً له ، وكونه فعلاً له مثبت بشمول القدرة إذ لا دليل لنا على أنّ خصوص المعجزة فعل الله تعالى ومقدوره وإن زعمه المعتزلة ، واحتمال وجوده لا يجدي نفعاً فلا يتمّ هذا القول.

وأورد أنّه لا يكفي في ثبوت المعجزة كون الأمر الخارق للعادة فعل الله تعالى بل يتوقّف على العلم بأنّ الله تعالى لا يصدّق الكاذب ، وهم لا يقولون بالحسن والقبح العقليّين ، فيتوقّف على إخبار الرسول بذلك فيدور أيضاً.

ومن الأدلّة العقليّة على عموم القدرة إنّ علّة المقدوريّة عامّة في جميع الممكنات فالقدرة عامّة في جميعها ، أمّا أنّ علّة المقدوريّة عامّة في جميعها فلأنّ علّتها الإمكان ، وهو وصف مشترك في جيمع الممكنات ، فيكون جميعها مقدوراً له تعالى.

قال جدّنا العلّامة نظام الدين أحمد قدس سره : لو تم هذا الدليل لدلّ على أنّ قدرة العباد أيضاً عامّة ، فإنّ الإمكان علّة للمقدوريّة على الممكن للعبد أيضاً ، وإذا كانت علّة المقدوريّة عامّة في جميع الممكنات كانت قدرته أيضاً عامّة ولا قائل به أصلاً.

والمشهور في الإستدلال على ذلك : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدوريّة هو الإمكان ، فإنّ الوجوب والإمتناع يحيلان المقدوريّة ونسبه الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت

٥٠

قدرته على بعضها ثبتت على كلّها. لكن هذا إنّما يتمّ إذا لم تكن الممكنات حال العدم ممتازة بعضها عن بعض ولا يكون لها مادّة كما هو مذهب الأشاعرة ، بل المحقّقين من المتكلّمين. أمّا على القول بأنّ لهاإمتيازاً حال العدم بأن يكون لها ثبوت دون الوجود فتكون ممتازة بعضها عن بعض حال العدم كما هو مذهب المعتزلة القائلين بالوجود الذهني ، وأنّ الموجودات الذهنّية لها ثبوت دون الوجود ، فيجوز أن يكون خصوصيّة بعض الممكنات في حال العدم مانعة عن تعلّق قدرته تعالى به ، فلا تكون نسبة الذات إلى الجميع على السواء ، وكذا على القول بأنّ لها مادّة كما هو مذهب الحكماء إذ يجوز أن تكون تلك المادّة معدّة لبعض الممكنات دون بعض ، فما أعدته المادة كان مقدوراً له تعالى دون غيره ، فلا تتساوى نسبة الذات إليها أيضاً على هذا القول.

أمّا إذا لم تكن الممكنات حالة العدم ممتازة بعضها عن بعض ولم تكن لها مادّة كانت نسبة الذات إلى جميعها على السواء فيثبت عموم القدرة عليها.

قال جدّنا العلّامة المذكور قدس سره : ويرد عليه أنّه على تقدير عدم ثبوت الممكنات حال العدم ، وعدم المادّة أيضاً ، يجوز أن يقال : لمّا كانت تلك الممكنات معلومة للواجب تعالى في الأزل ، كانت ممتازة بعضها عن بعض بحسب علمه ، فيمكن أن يقال : لم لا يكون خصوصيّة بعضها في علمه تعالى مانعة عن تعلّق قدرته به ، فلا تكون نسبة الذات إلى جميعها على السواء لابدّ لنفي ذلك من دليل. إنتهى (١) فتأمّل.

والحقّ : إنّ المعوّل في ذلك على الدليل السمعي وإجماع الأنبياء عليهم السلام

__________________

١ ـ إنتهى كلام نظام الدين أحمد.

٥١

الذين علموا ذلك بالوحي والعلم الشهودي ، كما قال تعالى مخاطباً لخاتم أنبيائه عليه وعليهم السّلام : «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١).

ولزوم الدور ، إنّما يرد على كون معرفة صدق النبي بالمعجزة موقوفاً على العلم بعموم القدرة ، لكن العلم الضروري العادي يحصل بمجّرد ظهور المعجزة على صدقه كما جزم به جدّنا الأعظم غياث الحكماء في رسالته : «دليل الهدى» ، ووافقه عليه بعض المحقّقين ، فيحصل العلم بالقدرة والعلم وعمومهما من أخبارهم عليهم السلام فاعرف ذلك وابن عليه أمثال هذه المطالب فإنّه السبيل الذي لا يضل بسلوكه الطالب ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

* * *

__________________

١ ـ البقرة : ١٠٦.

٥٢

فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَميعِ مَنْ ذَرَأَ ،

وَجَعَلَنَا شُهَدَآءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ ،

وَكَثَّرَنٰا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ.

«ختم الكتاب» من باب ـ ضرب ـ ، وختم عليه ختماً : وضع عليه الخاتم وهو الطابع (١).

و «الباء» للسببيّة. قال ابن مالك في شرح التسهيل : وهي الداخلة على صالح الإستغناء به عن فاعل معدّاها مجازاً نحو : «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ» (٢) فلو قصد اسناد الإخراج إلى الهاء لحسن ، ولكنّه مجاز ، قال : ومنه : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكّين ، فإنّه يقال : كتب القلم وقطّعت السكّين. والنحويّون يعبّرون عن هذه الباء بالإستعانة ، وآثرت على ذلك التعبير بالسببيّة ، من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى ، فإنّ إستعمال السببيّة فيها يجوز وإستعمال الإستعانة لا يجوز (٣).

و «ذرأ الله الخلق» ذرأ بالهمز من باب ـ نفع ـ : خلقهم.

قال ابن الأثير : وكأنّ الذرء مختصّ بخلق الذريّة (٤) إنتهى.

«والذريّة» ـ مثلّثة ـ نسل الثقلين. والمعنى إنّه تعالى جعلنا آخر جميع من خلق ، من الأنبياء واُممهم كما قال تعالى : «وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ» (٥) فختمهم بنا ، فلا أُمّة بعدنا يرسل إليها رسول كما أنّ

__________________

١ ـ الطابع : بفتح الباء وكسرها : ما يطبع به ، المصباح المنير : ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

٢ ـ البقرة : ٢٢.

٣ ـ لا يوجد هذا الكتاب لدينا.

٤ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٢ ، ص ١٥٦.

٥ ـ فاطر : ٢٤.

٥٣

نبيّنا صلى الله عليه واله ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلا أحد ينبىء بعده ، ولا يقدح فيه نزول عيسى عليه السلام بعده ، لأنّه ممّن نبّىء قبله وحين ينزل إنّما ينزل عاملاً على شريعة محمّد صلى الله عليه واله مصلّياً إلى قبلته كأنّه بعض أُمّته.

قوله عليه السلام : «وجعلنا شهداء على من جحد» الشهداء : جمع شهيد ، فعيل بمعنى فاعل من شهد على الشيىء : اطّلع عليه وعاينه ، فهو شهيد وشاهد.

وجحده حقّه يجحده جحداً وجحوداً ، من باب ـ منع ـ : أنكره ، ولا يكون إلاّ على علم من الجاحد به ، وفي هذه الفقرة إشارة إلى قوله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (١).

و «الوسط» في الأصل اسم لما تستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة ، ثم استعير للخصال المحمودة البشريّة ، لكن لا لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوسط محوّطة كما قيل ، فإنّ تلك العلّامة بمعزلٍ من الإعتبار في هذا المقام ، إذ لا ملابسة بينها وبين أهليّة الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور ، بل كون تلك الخصال ، أوساطاً للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط ، كالعفّة التي طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التي طرفاها : التهوّر والجبن ، وكالحكمة التي طرفاها : الجربزة والبلادة ، ثمّ اطلق على المتّصف بها مبالغة كأنّه نفسها ، وسوّى فيه بين المفرد والجمع والمذكّر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كساير الأسماء التي يوصف بها ، أي جعلناكم متّصفين بالخصال الحميدة ، خياراً ، عدولاً ، مزكّين بالعلم والعمل لتكونوا شهداء على

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٥٤

الناس بأنّ الله تعالى قد أوضح السبل فأرسل الرسل فبلّغوا ونصحوا إذ كنتم واقفين على الحقايق المودعة في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوال الأُمم أجمعين حاوياً لشرايط الشهادة عليهم.

روي أنّ الأُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم السلام فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبيّنة عليه على أنّهم قد بلّغوا ، وهو أعلم للحجّة على الجاحدين وزيادة لخزيهم ، فيؤتى باُمّة محمّد صلى الله عليه واله فيشهدون. فيقول الأُمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى عند ذلك بمحمّد صلى الله عليه واله ويُسئل عن أُمّته فيزكّيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى : «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (١) ومن الحكمة في ذلك ، تمييز أُمّة محمّد صلى الله عليه واله في الفضل عن ساير الأُمم حيث يبادرون إلى تصديق الله وتصديق الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك تقبل شهادتهم على الأُمم ولا تقبل شهادة الأُمم عليهم (٢).

وإنّما لم يقل : ويكون الرسول لكم شيهداً ، مع أنّ شهادته لهم لا عليهم؟ لما في الشهيد من معنى الرقيب ، مثل : «وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (٣) مع رعاية المطابقة للأوّل وتقديم الظرف ، للدلالة على اختصاص شهادته عليه السلام بهم.

وقيل : إنّ هذه الشهادة في الدنيا وذلك أنّ الشاهد في عرف الشرع :

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ أنوار التنزيل : ج ١ ، ص ٨٧ ، مع اختلاف يسير في بعض العبارة وتفسير النيسابوري في هامش ، تفسير الطبري ج ٢ ، ص ١٢.

٣ ـ البروج : ٩.

٥٥

من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة فكلّ من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه ، فإنّ الشهادة : خبر قاطع ، وشهادة الأُمّة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأنّ عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل «جَعَلْنٰكُمْ» بلفظ الماضي فلا أقلّ من حصولها في الحال ، ثمّ رتّب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا.

فإن قيل : لعلّ التحمّل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة.

قلنا : المراد في الآية الأداء لأنّ العدالة إنّما تعتبر في الأداء لا في التحمّل ، ومن هنا يعلم أنّ إجماعهم حجّة لا بمعنى أنّ كلّ واحد منهم محقّ في نفسه بل هيئتهم الإجتماعيّة تقتضي كونهم محقّين ، وهذا من خواصّ هذه الأُمّة.

ثمّ لا يبعد أن يحصل لهم مع ذلك الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم مجرى التحمّل لأنّهم إذا بيّنوا الحقّ عرفوا عنده من القابل ومن الرادّ ثمّ يشهدون بذلك يوم القيامة كما أنّ الشاهد على العقود يعرف ما الذي تمّ ، ثمّ يشهد بذلك عند الحاكم أو يكون المعنى : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصحّ إلّا بشهادة العدول الأخيار.

قال النيسابوري : قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنّ وصف الأُمّة بالعدالة يقتضي إتّصاف كلّ واحد منهم بها ، وليس كذلك ، فلابدّ من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمّة المعصومين ، سلّمناه لكن الخطاب في جعلناكم للموجودين عند نزول الآية ، لأنّ خطاب من لا يوجد محال ، فالآية تدلّ على أنّ إجماع أولئك حقّ لكنّا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا يثبت صحّة الإجماع وقتئذٍ.

واُوجيب : بأنّ حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ،

٥٦

فلِمَ لا يجوز أن لا يكون الشخص مقبول القول عند الإنفراد ، ويكون مقبول القول عند الإجتماع! والخطاب لجميع الأُمّة من حين نزول الآية إلى قيام السّاعة كما في سائر التكاليف مثل : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» (١) «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ» (٢) فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعيّة ، لكنّا لو اعتبرنا أوّل الأُمّة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذ لم يبق بعد إنقضائها من تكون الآية حجّة عليه فعلمنا ، إنّ المراد بها أهل كلّ عصر.

ثم إنّ الله تعالى منّ على هذه الأُمّة أن جعلهم خياراً وعدولاً عند الإجتماع ، فلو أمكن إجتماعهم على الخطأ لم يكن بينهم وبين سائر الأُمم فرق في ذلك فلا منّة ، (٣) إنتهى.

قلت : أمّا عدم إجتماعهم على الخطأ فمسلّم ، لكن لا من حيث عصمتهم حال إجتماعهم عن الخطأ كما يزعمه المخالفون القائلون بجواز الخلوّ عن المعصوم ، بل من حيث دخول المعصوم فيهم ، لأنّ تحقّق الإجماع كاشف عن دخوله ، والمسألة مستوفاة في كتب الأصول.

هذا والحقّ : انّ المراد بالشهادة ، الشهادة في الآخرة وبالشهداء الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، لما روي عن الصادق عليه السلام : إنّه قال : ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟ كلاّ لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأُمّة

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٣.

٢ ـ البقرة : ١٧٨.

٣ ـ تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري : ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٥.

٥٧

التي وجبت لها دعوة إبراهيم «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (١) وهم الأئمّة الوسطى وهم خير أُمّة اُخرجت للنّاس (٢).

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل : بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي ، عن عليّ عليه السلام : إنّ الله تعالى إيّانا عنى بقوله : «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» (٣) فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء على خلقه وحجّته في أرضه ، ونحن الذين قال الله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٤) (٥).

وروى ثقة الإسلام في الكافي بسنده ، عن بريد بن معاوية قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام قوله : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» (٦) قال : نحن الأُمّة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه (٧).

وبسنده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نحن الشهداء على الناس بما عندهم من الحلال والحرام ، وبما ضيّعوا منه (٨).

__________________

١ ـ آل عمران : ١١٠.

٢ ـ تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٦٣ ، ح ١١٤ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٣ ـ البقرة : ١٤٣.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

٥ ـ شواهد التنزيل للحسكاني : ج ١ ، ص ٩٢ ، ح ١٢٩.

٦ ـ البقرة : ١٤٣.

٧ ـ الكافي : ج ١ ، ص ١٩١ ، ح ٤ ، وفيه : عن بريد العجلي. وبصائر الدرجات : ص ١٠٢ ، ح ٣.

٨ ـ بصائر الدرجات : ص ١٠٢ ، ح ١ ، وتفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٣٣.

٥٨

وعلى هذا فالضمير في جعلنا ، من قوله «وجعلنا شهداء على من جَحَد» للأُمّة بإعتبار بعضهم الذين هم الأئمّة عليهم السلام.

قال بعض العلماء : فإن قلت : ما حقيقة هذه الشهادة وما فائدتها مع أنّ الله تعالى عالم الغيب والشهادة؟

قلت : أمّا حقيقتها : فيعود إلى إطّلاعهم صلوات الله عليهم على أفعال الأُمّة. وبيان ذلك : إنّ للنّفوس القدسيّة الإطّلاع على الاُمور الغيبيّة والإنتقاش بها مع كونها في جلابيب من أبدانها ، فكيف به قبل ملابستها لها وبعد مفارقتها لهذا العالم والجسم المظلم ، فإنّها إذن تكون مطّلعة على أفعال جميع الأُمم ومشاهدة لها من خير وشر.

وأمّا فائدتها : فقد علمت أنّ أكثر أحكام الناس وهميّة ، والوهم منكر للإلٰه على الوجه الذي هو الإلٰه ، فبالحري أن ينكر كونه عالماً بجزئيّات أفعال عباده ودقائق خطرات أوهامهم ، والظاهر أنّ ذلك الإنكار يستتبع عدم المبالاة بفعل القبيح والإنهماك في الاُمور الباطلة التي نهى الله تعالى عنها ، فإذا ذكر لهم أنّ عليهم شهداء ورقباء وكتّاباً لما يفعلون مع صدق كلّ ذلك بأحسن تأويل ، كان ذلك ممّا يعين العقل على كسر النفس الأمّارة بالسوء ، وقهر الأوهام الكاذبة ، ويردع النفس عن متابعة الهوى ، وإذا كان معنى الشهادة يعود إلى إطلاع الشاهد على ما في ذمّة المشهود عليه وعلمه بحقيقته وفائدتها حفظ ما في ذمّة المشهود عليه ، وتخوّفه إن جحد ، أولم يوصله إلى مستحقّه أن يشهد عليه الشاهد فيفضحه وينزع منه على أقبح وجه ، وكان المعنى والفائدة قائمين في شهادة الأئمّة عليهم السلام إذ بها تحفظ أوامر الله وتكاليفه التي هي حقوقه الواجبة ، ويحصل الخوف للمقصرين فيها بذكر شهادتهم عليهم بالتقصير

٥٩

فيفتضحوا في محفل القيامة ويستوفي منهم جزاء ما كلّفوا به فقصّروا فيه بالعقاب الأليم لا جرم ظهر معنى كونهم شهداءالله على خلقه.

قوله عليه السلام : «وكثّرنا بمنّه على من قلّ» كثرت الشيىء تكثيراً وأكثرته إكثاراً : جعلته كثيراً ، أي جَعَلَنا كثيرين وافرين العدد ، دون سائر الأُمم الذين هم قليلون بالنسبة إلينا ، وعدّى كثّر بـ (على) لتضمينه معنى التفضيل ، كأنّه قال : كثّرنا بمنّه مفضّلاً لنا على من قلّ.

وتكثيرنا ، إمّا بإعتبار كون شرعه عليه السلام مؤبداً إلى يوم القيامة ، فتكون أُمّته مستمرّة لا إنقطاع لها إلى إنقضاء الدنيا ، بخلاف سائر الأُمم ، أو باعتبار شمول رسالته إلى العرب والعجم والإنس والجنّ ، أو باعتبار البركة في النسل كما قال صلى الله عليه واله : «تناكحوا تناسلوا فإنّي مكاثر بكم الأُمم يوم القيامة» (١) ، أو باعتبار بقاء معجزه الذي هو القرآن إلى آخر الدهر.

وبالجملة ، فقد عدّ العلماء من خصائصه عليه السلام ، كونه أكثر الأنبياء تابعاً.

وروي عنه صلى الله عليه واله أنّه قال : «ما من الأنبياء نبيّ إلاّ اُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الذي اُوتيت وحياً أوحاه الله إلّي فأرجو أنّي أكثرهم تابعاً يوم القيامة» (٢). وهذا الخبر يؤيّد الإعتبار الأخير. وفسّر قوله تعالى : «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ» (٣) بالكثير من أولاده وأتباعه عليه السلام.

ويحتمل : أن يراد بالكثرة : الثروة ، وبالقّلة : الفقر ، يقال : رجل مُكثر ،

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ج ١٥ ، ص ٩٦ ، ح ١٤ ، مع اختلاف يسير في العبارة ، وهكذا جاء في دعائم الإسلام : ج ٢ ، ص ١٩١ ، ح ٦٨٩.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٣٤١ ، و٤٥١ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٣ ـ الكوثر : ١.

٦٠