الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
ISBN: 964-8837-02-3
الصفحات: ١٥٥

وَالْحَمدُ لِلّٰهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ دُونَ الأُمَم الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ ، بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لا تَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ عَظُمَ ، وَلاَ يَفُوتُهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَطُفَ ، فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَميعِ مَنْ ذَرَأَ ، وَجَعَلَنَا شُهَدَآءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ ، وَكَثَّرَنٰا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ.

أَللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ ، إِمَامِ الرَّحْمَةِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ ، كَمَا نَصَبَ لِأَمْرِكَ نَفْسَهُ وَعَرَّضَ فِيكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَهُ ، وَكَاشَفَ فِي الدُّعَآءِ إِلَيْكَ حَامَّتَهُ ، وَحَارَبَ فِي رِضَاكَ أُسْرَتَهُ ، وَقَطَعَ فِي إِحْيٰاءِ دِينِكَ رَحِمَهُ ، وَأَقْصَى الأَدْنَيْنَ عَلَى جُحُودِهِمْ ، وَقَرَّبَ الأَقْصَيْن عَلَى اسْتِجَابَتِهِمْ لَكَ ، وَوالىٰ فِيكَ الأَبْعَدِينَ ، وَعَادىٰ فِيكَ الأقْرَبِينَ ، وَأَدْأَبَ نَفْسَهُ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِكَ ، وَأَتْعَبَهَا بِالدُّعٰاءِ إِلَىٰ مِلَّتِكَ ، وَشَغَلَهَا بِالنُّصْحِ لِأهْلِ دَعْوَتِكَ ، وَهَاجَرَ إِلَىٰ بِلاَدِ الْغُرْبَةِ وَمَحَلِّ النَّأيِ عَنْ مَوْطِنِ رَحْلِهِ ، وَمَوضِعِ رِجْلِهِ وَمَسْقَطِ

٢١

رَأْسِهِ وَمَأْنَسِ نَفْسِهِ ، إِرَادَةً مِنْهُ لإِعْزَازِ دِينِكَ ، واسْتِنْصَاراً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِكَ ، حَتَى اسْتَتَبَّ لَهُ مَاحَاوَلَ فِي أَعْدَآئِكَ ، وَاسْتَتَمَّ لَهُ مَا دَبَّرَ فِي أَوْلِيآئِكَ ، فَنَهَدَ إِلَيْهِمْ مُسْتَفْتِحَاً بِعَوْنِكَ ، وَمُتَقَوِّيَاً عَلَى ضَعْفِهِ بِنَصْرِكَ ، فَغَزَاهُمْ فِي عُقْرِ دِيَارِهِمْ ، وَهَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي بُحْبُوحَةِ قَرَارِهِمْ ، حَتَى ظَهَرَ أَمْرُكَ وَعَلَتْ كَلِمَتُكَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

أَللَّهُمَّ فَارْفَعْهُ بِمَا كَدَحَ فِيكَ إِلَىٰ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ جَنَّتِكَ ، حَتَّى لاَ يُسَاوَىٰ فِي مَنْزِلَةٍ وَلاَ يُكَافَأُ فِي مَرْتَبَةٍ ، وَلاَ يُوَازِيَهُ لَدَيْكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، وَعَرِّفْهُ فِي أَهْلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حُسْنِ الشَّفَاعَةِ أَجَلَّ مَا وَعَدْتَهُ ، يَا نَافِذَ الْعِدَةِ ، يَا وَافِيَ الْقَوْلِ ، يَا مُبَدِّلَ السَّيِّئاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

* * *

٢٢

وَكَانَ مِنْ دُعَائه عَلَيه السّلام بَعد هَذا

التحميدِ في الصّلاة عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه واله

الكلام في هذا المقام يستدعي مباحث :

الأوّل : إختلف العلماء في إشتقاق الصّلاة : فقيل : من صليِت العود بالنار إذا ليّنته وقوّمته لأنّ المصلّي يلين بالحنو (١) والعطف ، ويسعي في تعديل ظاهره وتقويم باطنه ، كالخشب الذي يعرض على النار.

وقيل : من الصلوين ، وهما عرقان من جانبي الذنب ، وعظمان ينحنيان عند الإنحناء فناسب أن يراد بها الحنو والإنعطاف المعنويّين (٢).

وقال الزمخشري في الكشاف : الصّلاة فعلة مِن صلّى ـ كالزكاة ـ مِن زكّى ، وكتابتها بالواو على لفظ المفخّم. وحقيقة صلّى : حرّك الصلوين؛ لأنّ المصلّي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده (٣).

وقيل : بل أصل الصّلاة في اللّغة : بمعنى الدعاء.

ويؤيّده : بأنّ الصّلاة بهذا المعنى في أشعار الجاهليّة كثيرة الإستعمال.

الثاني : قال الجمهور : الصّلاة من الله تعالى : الرّحمة ، ومن الملائكة الإستغفار ، ومن الآدميين : الدعاء.

الثالث : معنى الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه واله تعظيمه في الدنيا بإعلاء كلمته وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتضعيف مثوبته والزيادة في درجته.

قيل : وغاية الدعاء بذلك عائدة إلى المصلي ، لأنّ الله تعالى قد أعطاه من إعلاء الكلمة وعلوّ الدرجة ورفع المنزلة ما لا يؤثر فيه صلاة مصلٍ

__________________

١ ـ الحنو : الشققة.

٢ ـ تهذيب الأسماء واللغات : الجزء الأول من القسم الثاني ص ١٧٩.

٣ ـ الكشاف : ج ١ ، ص ٤٠.

٢٣

ولا دعاء داعٍ.

وقيل : بل غايته طلب زيادة كماله صلى الله عليه واله وقربه من الله تعالى ، إذ مراتب إستحقاق نعم الله عزّ وجلّ غير متناهية.

الرابع : الصّلاة عليه صلى الله عليه واله في غير الصّلاة وعند عدم ذكره مستحبّة عند جميع أهل الإسلام ، ولا يعرف من قال : بوجوبها غير الكرخي فإنّه أوجبها في العمر مَرّة كما في الشهادتين. وأما في الصّلاة فأجمع علماؤنا رضوان الله عليهم على وجوبها في التشهدين معاً.

قال الشافعي (١) : وهي مستحبّة في الأول وواجبة في الثاني (٢).

__________________

١ ـ هو أبو عبد الله محمّد بن إدريس بن العباس ، ينتهي نسبه إلى عبد مناف.

والشافعي أحد أئمّة المذاهب الأربعة ، ولد سنة ١٥٠ هجـ بغزّة ، ونشأ بمكة ، وكتب العلم بها وبالمدينة ، وكان شديد التشيع وهو القائل :

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد

فليشهد الثقلان إنّي رافضي

وله حول الولاية أشعار كثيرة ومدائح غفيرة ، منها : هذان البيتان المشهوران :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لا يصلّي عليكم لا صلاة له

ومنها :

إذا في مجلس ذكروا عليّاً

وشبله وفاطمة الزكيّة

يقال تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضيّة

هربت إلى المهيمن من اُناسٍ

يرون الرفض حبّ الفاطميّة

على آل الرسول صلاة ربي

ولعنته لتلك الجاهليّة

٢ ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ج ١ ، ص ٣٢ ، والفقه على المذاهب الاربعة : ج ١ ، ص ٢٣٦ و٢٤٤.

٢٤

وقال أبو حنيفة (١) ومالك (٢) : مستحبّة فيهما معاً (٣).

وأما عند ذكره صلى الله عليه واله فظاهر كثير من الأخبار كقوله صلى الله عليه واله : من ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ دخل النّار ، ومن ذكرت عنده فنسي الصّلاة عليّ خطىء به طريق الجنّة (٤).

وقوله : من ذكرت عنده ولم يصلِّ علّي فدخل النار فأبعده الله (٥).

إنها تجب كلّما ذكر ، وكلّما سمع ذكره ، لأنّ الوعيد امارة الوجوب ، وهو مختار ابن بابويه والمقداد من أصحابنا ، والطحاوي من العامة.

قال الزمخشري : وهو الذي يقتضيه الإحتياط (٦).

ومنهم من أوجبها في كلّ مجلس مرّة ، ومنهم من أوجبها في العمر مرّة.

وقال المحقق الأردبيلي : لا شكّ أنّ إحتياط الزمخشري أحوط ، و

__________________

١ـ هو النعمان بن ثابت بن زوطي أحد أصحاب المذاهب الأربعة ، صاحب الرأي والقياس والفتاوي المعروفة في الفقه ، ولد سنة ثمانين ، ومات سنة ماءة وخمسين هجري في بغداد. ودفن في مقبرة الخيزران ، وعاش سبعين سنة ، وتتلمّذ على يد الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام سنتان حيث قال عنها : لو لا السنتان لهلك النعمان.

٢ـ هو أبو عبد الله مالك بن أنس أحد أصحاب المذاهب الأربعة ، ولد في المدينة المنوّرة سنة ٩٥ هجرية ، وتوفي سنة ١٧٩ هجريّة ودفن بالبقيع في المدينة ، وتتلمّذ على يد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام كما جاء في مقدمة الموطأ ، والموطأ كتاب جمع فيه الأحاديث النبويّة والفقه معاً.

٣ـ الفقه على المذاهب الأربعة : ج ١ ، ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد : ج ١ ، ص ١٣٢.

٤ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٥ ، ح ١٩. وثواب الأعمال : ص ٢٠٦ ، باب ٨ ، ح ١.

٥ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٥ ، ح ١٩.

٦ـ الكشاف : ج ٣ ، ص ٥٥٨.

٢٥

يمكن إختيار الوجوب في مجلس إن صلّى آخراً ، وإن صلّى ثم ذكر يجب أيضاً كما في تعدّد الكفّارة في تعدّد الموجب إذا تخلّلت ، وإلّا فلا إنتهى (١).

والحق : إنّ هذه التفاصيل عريّة عن المستند ، فالقول بشيىء منها تحكّم به.

والأولى : الوجوب عند كلّما ذكر ، للأخبار الكثيرة الصريحة بالأمر بها كلّما ذكر ، والأصل في الأمر : الوجوب.

وأما القول بالإستحباب مطلقاً كما ذهب إليه جماعة مستدلّين بالأصل والشهرة المستندين إلى عدم تعليمه عليه السلام للمؤذنين وتركهم ذلك مع عدم وقوع نكير عليهم كما يفعلون الآن ولو كان لنُقل.

ففيه : إنّ عدم التعليم ممنوع ، وكذا عدم النكير ، كعدم النقل.

فقد روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره في الكافي في باب بدء الأذان والإقامة بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام : إذا أذنت فأفصح بالألف والهاء وصلّ على النبيّ صلى الله عليه واله كلّما ذكرته ، أو ذكره ذاكر في أذان وغيره (٢).

على أنّ عدم النقل لا يدلّ على عدمه ، وأصالة البرائة لا يصحّ التمسّك بها بعد ورود القرآن والأخبار به.

ثم الظاهر من بعض الأخبار كقول الصادق عليه السلام : إذا ذكر النبي صلى الله عليه واله فأكثروا الصّلاة عليه (٣).

حيث رتّب الأمر بالصّلاة على الذكر بالفاء التعقيبيّة هو إيقاعها على الفور ، فلو أهمل الفور أثم على القول بالوجوب ولم تسقط ، وكذا الظاهر

__________________

١ـ زبدة البيان في أحكام القرآن : ص ٨٦ ، وفيه : بتعدّد الموجب.

٢ـ الكافي : ج ٣ ، ص ٣٠٣ ، ح ٧.

٣ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢ ، ح ٦.

٢٦

أنّ الأمر بها عام لكلّ أحد وعلى كلّ حالة حتّى في الصّلاة فلو ترك الإمتثال واشتغل بالقراءة فيها هل تبطل الصّلاة على تقدير الوجوب أم لا؟

فإن قلنا : إنّ الأمر بالشيىء نهي عن ضده الخاص ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد بطلت ، وإن قلنا بعدمه فلا وهو الراجح.

فلو تكرّر الذّكر تكراراً بحيث يخرج بالإشتغال بالصّلاة عليه صلى الله عليه واله عن كونه مصلّياً ، لا يبعد القول بسقوط التكليف بها ، لأنّ الفعلين إذا تضيّقا وتعذّرا الجمع بينهما علمنا أنّ أحدهما ليس بواجب قطعاً ، ولمّا كان مشتغلاً بالصّلاة ووجب إتمامها والإستمرار فيها ، كان ما ينافيه غير مأمور به ليتأمل.

الخامس : إنّما كان عليه السلام يدعو بالصّلاة عليه صلوات الله عليه وعلى آله بعد التحميد لما ورد في ذلك عن جدّيه عليهما السلام ، فعن أبي عبد الله عليه السلام : إنّ رجلاً دخل المسجد فصلّى ركعتين ، ثم سأل الله عزّوجلّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : أعجل العبد ربّه.

وجاء آخر فصلّى ركعتين ، ثم أثنى على الله عزّوجلّ وصلّى على النبي صلى الله عليه واله فقال رسول الله صلى الله عليه واله : سل تعط (١).

وعنه عليه السلام : إنّ في كتاب علي عليه السلام : إنّ الثناء على الله ، والصّلاة على رسوله قبل المسألة (٢).

ولو لم يرد ذلك لكان فعله عليه السلام أيضاً حجّة وسنّة ينبغي اقتفاؤها ، ثم الصّلاة على النبي صلى الله عليه واله من أعظم شروط الإجابة.

روى ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٨٥ ، ح ٧ ، وفيه «عجّل العبد ربّه».

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٨٥ ، ح ٧.

٢٧

لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد (١).

وعنه عليه السلام : من دعا ولم يذكر النبي صلى الله عليه واله رفرف الدعاء على رأسه ، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه واله رفع الدعاء (٢).

قال العلماء : والسرّ في قبول الدعاء إذا قرن بالصّلاة ، أمران :

الأوّل : أنّ النبي وآله عليهم السلام وسائط بين الله سبحانه وبين عباده في قضاء حوائجهم ونجاح مطالبهم ، وهم أبواب معرفته عزّوجلّ ، فلابدّ من التوسّل بذكرهم في عرض الدعاء وقبوله لديه ، وذلك كما إذا أراد أحد من الرعيّة إظهار حاجته على السلطان توسّل بمن يعظّمه ولا يردّ قوله.

الثاني : إذا ضمّ العبد الصّلاة مع دعائه ، وعرض المجموع على الله تعالى فلمّا كانت الصّلاة غير محجوبة ، فالدعاء ايضاً لابدّ أن لا يكون محجوباً ، لأنّه تعالى أكرم مِن أن يقبل الصّلاة ويردّ الدعاء فيكون قد قبل الصحيح وردّ المعيب ، كيف وقد نهى تعالى عباده عن تبعيض الصفقة! ولا يمكن ردّ الجميع لكرامة الصّلاة عليه ، فلم يبق إلّا قبول الكلّ وهو المطلوب.

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة ، فابدأ بمسألة الصّلاة على النبي صلى الله عليه واله ، ثم إسأل حاجتك فإنّ الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخُرى (٣).

السادس : الأخبار في فضل الصّلاة عليه صلى الله عليه واله أكثر من أن تحصى : فمنها : ما رواه ثقة الإسلام في الكافي : عن أبي عبد الله عليه السلام إنّه قال :

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩١ ، ح ١.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩١ ، ح ٢.

٣ ـ نهج البلاغة : ص ٥٣٨ ، الحكمة : ٣٦١.

٢٨

إذا ذكر النبي صلى الله عليه واله فأكثروا الصّلاة عليه ، فإنّه من صلّى على النبي صلاة واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ، ولم يبق شيء ممّا خلقه الله إلّا صلّى على العبد لصلاة الله عليه وصلاة ملائكته ، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برأ الله منه ورسوله وأهل بيته (١).

وعنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : من صلّى علّي صلّى الله عليه وملائكته ، فمن شاء فليُقل ، ومن شاء فليكثر (٢).

وعنه عليه السلام : من صلّى على محمّد وآل محمّد عشراً صلّى الله عليه وملائكته ألفاً ، أما تسمع قول الله عزّوجلّ : «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» (٣) (٤).

وعن أحدهما عليهما السلام قال : ما في الميزان شيء أثقل من الصّلاة على محمّد وآل محمّد ، وأن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج صلى الله عليه وآله ـ الصّلاة عليه ـ فيضعها في ميزانه فترجح [به] (٥).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : إرفعوا أصواتكم بالصّلاة عليّ فإنّها تذهب بالنفاق (٦).

السابع : ما وقع في عنوان هذا الدعاء من قوله صلى الله عليه واله بالعطف على

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢ ، ح ٦.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢ ، ح ٧.

٣ ـ الأحزاب : ٤٣.

٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، ح ١٤.

٥ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٤ ، ح ١٥.

٦ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٣ ، ح ١٣.

٢٩

الضمير المجرور من دون إعادة الخافض ، مبني على مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش من البصريّين ، من عدم وجوب إعادة الخافض في ذلك خلافاً لجمهور البصريين واختاره الشلوبين ، وصحّحه ابن مالك ، وأبو حيّان وجرى عليه ابن هشام في شرح الشذور (١).

والتوضيح لثبوت ذلك في فصيح الكلام كقراءة حمزة : «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ» (٢) بخفض الأرحام (٣) عطفاً على الضمير المخفوض بالباء ، وحكاية قطرب : ما فيها غيره وفرسه بخفض الفرس عطفاً على الهاء المخفوضة بإضافة غير إليها وقول الشاعر :

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٤)

بخفض الأيّام عطفاً على الكاف المخفوضة بالباء ، وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :

وعود خافضٍ لَدى عَطْف عَلى

ضَمير خَفْض لازِماً قَدْ جُعِلا

وَليْسَ عِنْدِي لازِماً إذْ قَد أتى

في النّثْرِ والنّظمِ الصَحيح مثبتاً (٥)

أمَا ما زعمه بعضهم : من أنّ الشيعة تلتزم عدم إعادة الخافض وهو

__________________

١ ـ شذور الذهب : ص ٣٣٢.

٢ ـ النساء : ١.

٣ ـ مجمع البيان : ج ٣ ـ ٤ ، ص ١.

٤ ـ مجمع البيان : ج ٣ ـ ٤ ، ص ٢ ، أنشده سيبويه ، وصدر البيت :

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا.

٥ ـ كتاب السيوطي : ص ١٦٧ ـ ١٦٨.

٣٠

«على» في مثل هذه العبارة ، لحديث يأثرونه وهو : «من فصّل بيني وبين آلي بـ ـ على ـ فقد جفاني» فزعم محض لا عين له ولا أثر ، إذ لا تعرف الشيعة هذا الخبر ولم ترد به رواية من طرقهم ، بل ولم يذكروا ولا منقطعاً في شيء من كتبهم ، كيف والأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام مشحونة بإعادة الخافض في مثل ذلك كما ستقف عليه مكّرراً في أدعية الصحيفة الشريفة والله المستعان.

* * *

٣١

وَالْحَمدُ لِلّٰهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ

نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ دُونَ

الأُمَم الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ.

«الواو» عاطفة للجملة على قوله في الدعاء السابق : ثم له الحمد ، لأنّه عليه السلام كان يصل هذا الدعاء به من غير فصل كما هو ظاهر العنوان أو هي استثنائية.

ومعنى «المنّ» ها هنا : الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (١).

و «محمّد» علم منقول من الصفة التي معناها كثير الخصال المحمودة.

قال أهل اللغة : رجل محمّد : أي كثير الخصال المحمودة (٢).

وقال ابن فارس : سمّي نبيّنا محمّد صلى الله عليه واله محمّداً لكثرة خصاله المحمودة (٣). يعني ألهم الله تعالى أهله تسميته بذلك لما علم من خصاله الحميدة.

وقال السهيلي : في «محمّد» معنى المبالغة والتكرار ، فالمحمّد هو الذي حمد مرّة بعد مرّة ، كما أنّ المكرّم من كُرم مرّة بعد اُخرى ، وكذلك الممدوح ، واسم محمّد مطابق لمعناه.

والله تعالى سماّه به قبل أن يسمّى به ، وهو علم من أعلام نبوّته ،

__________________

١ ـ آل عمران : ١٦٤.

٢ ـ تهذيب الأسماءواللغات : الجزء الأوّل من القسم الثاني : ص ٧٠.

٣ ـ معجم مقاييس اللغة : ج ٢ ، ص ١٠٠.

٣٢

إذ كان اسمه صادقاً عليه فهو صلى الله عليه واله محمود في الدّنيا بما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، فقد تكرّر فيه معنى الحمد كما يقتضيه اللفظ إنتهى (١).

وورد في أخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام عنه صلى الله عليه واله أنّه قال : «سمّاني الله من فوق عرشه ، وشقّ لي إسماً من أسمائه فسمّاني محمّداً وهو محمود» (٢).

وأخرج البخاري في تاريخه الصغير : من طريق علي بن زيد ، قال : كان أبو طالب يقول :

وشَقّ مِنْ إسمِهِ ليُجلّهُ

فذو العَرشِ مَحمُودٌ وَهذا محمّد (٣)

قال القسطلاني في المواهب : وقد سماّه الله تعالى بهذا الإسم قبل الخلق بألفي عام ، كما ورد من حديث أنس بن مالك من طريق أبي نعيم في مناجاة موسى عليه السلام (٤).

قال ابن قتيبة : ومن أعلام نبوّته صلى الله عليه واله إنّه لم يسمّ أحد قبله بإسمه محمّد ، صيانة من الله بهذا الإسم كما فعل بيحيى إذ «لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا» (٥).

وذلك أنّه تعالى سماّه في الكتب المتقدّمة وبشّر به الأنبياء ، فلو جعل

__________________

١ ـ تاج العروس : ج ٢ ، ص ٣٣٩ ، من غير ان ينسبه إلى أحد.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٩٢ ، ج ٢٧ ، والخصال : ص ٤٢٥ ، ح ١ ، ومعاني الأخبار : ص ٥٠ ، ح ١ ، وشق : أي فصّل.

٣ ـ شرح المواهب : ج ٣ ، ص ١٥٥, نقلاً عنه.

٤ ـ شرح المواهب : ج ٣ ، ص ١٥٦.

٥ ـ مريم : ٧.

٣٣

إسمه مشتركاً فيه لوقعت الشبهة ، إلاّ أنّه لمّا قرب زمانه وبشّر أهل الكتاب بقربه سمّى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» (١) (٢).

وهو أبو القاسم محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ، خاتم النبيين ، وسيّد المرسلين ، حملت به أُمّه في أيّام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى ليلة الجمعة ، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة ، وولد صلى الله عليه واله بمكة يوم الجمعة عند طلوع الشّمس السابع عشر من شهر ربيع الأوّل عام الفيل وفاقاً لما عليه جمهور الشيعة.

وعند جمهور العامة : أنّه ولد يوم الإثنين من ربيع الأوّل ثم اختلفوا ، فقيل : لليلتين خلتا منه ، وقيل : لثمان خلون منه ، وقيل : لعشرة ، وقيل لاثنتي عشرة ليلة ، وعليه عمل أهل مكّة في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت ووافقهم على ذلك من أصحابنا ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي (٣).

وقيل : ولد يوم عاشوراء ، وقيل : في صفر ، وقيل : في ربيع الآخر ، وقيل : في رجب ، وقيل في شهر رمضان.

وروي عن ابن عباس بإسناد لا يصح ، وهو موافق للقول بأنّ أُمّه حملت به في أيّام التشريق (٤).

وأمّا على المشهور بأنّه ولد في ربيع الأوّل ، فيلزم منه الإشكال

__________________

١ ـ الأنعام : ١٢٤.

٢ ـ شرح المواهب : ج ٣ ص ١٥٨ ، نقلاً عن ابن قتيبه.

٣ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٩.

٤ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٩.

٣٤

المشهور ، وهو أنّه يلزم أن يكون مدّة حمله ثلاثة أشهر ، أوسنة وثلاثة أشهر ، وهذا مخالف لما إتّفق عليه الأصحاب ، من أنّ مدّة الحمل لا تزيد عن سنة ، ولم ينقل أحد أنّ ذلك من خصائصه.

والجواب : إنّ المراد بأيّام التشريق : الأيّام المعلومة من شهر جمادي الاُولى ، الذي وقع فيه حج المشركين في عام الفيل باعتبار النسيىء حيث كانوا يؤخّرون الحج عن ذي الحجّة فيحجّون سنتين في محرم وسنتين في صفر وهكذا إلى أن يتمّ الدور ثم يستأنفونه.

وعلى القول بأنّ مولده كان في ثاني عشر من شهر ربيع الأوّل يكون مدّة الحمل عشرة أشهر بلا زيادة ولا نقصان إذا فرض أنّ حمله كان في ثاني عشر من جمادي الاُولى والله أعلم.

ونقل عن أبي معشر البلخي : وهو من مهرة علم النجوم ، أنّه استخرج طالع النبي صلى الله عليه واله فكان عشرين درجة من الجدي حين كان زحل والمشتري في ثالث درجة من العقرب مقترنين في درجة وسط السماء ، والمرّيخ في بيته في الحمل ، والشمس أيضاً في الحمل في الشرف ، والزهرة في الحوت ، في الشرف ، وعطارد أيضاً في الحوت ، والقمر في أوّل الميزان ، والرأس الجوزاء في الشرف ، والذنب في قوس في الشرف ، في بيت الأعداء ، ذكر ذلك في روضة الأحباب (١).

ومات أبوه عبد الله بن عبد المطّلب ، وهو ابن شهرين أو سبعة أشهر ولمّا بلغ أربعاً أو ستّاً من السنين ماتت أُمّه ، وكان في حجر جدّه عبد المطّلب ثماني سنين وشهرين وعشرة أيّام ، فتوفّي عبد المطّلب ووليه

__________________

١ ـ روضة الأحباب : كتاب فارسي نقل عنه المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٢٤٩.

٣٥

عمّه أبو طالب عليه السلام وذهب به إلى الشام بعد ما تمّ له اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيّام ، ورجع من بصرى وخرج إلى الشام مرّة أخرى مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها قبل أن يتزوّجها ، ثم تزوّجها بعد ما بلغ خمساً وعشرين ، وبقيت معه ثمانية عشرة سنة.

ولمّا بلغ خمساً وثلاثين شهد بنيان الكعبة ، فلمّا بلغ أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً يوم الإثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأوّل ، فما من شجر وحجر إلّا سلّم عليه قائلاً : السلام عليك يا رسول الله ، وفرض عليه التبليغ وقراءة القرآن.

ولمّا تمّت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر اُسري به «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ» (١) وفرض عليه خمس الصلوات.

ولمّا بلغ ثلاثاً وخمسين هاجر إلى المدينة يوم الإثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأوّل ، ودخلها ضحى يوم الإثنين ، واُذن له في الجهاد في السنة الثانية لمن إبتدأه في غير الأشهر الحرم ، ثم اُبيح له إبتداؤهم فيها أيضاً وفيها ، فرض صوم شهر رمضان.

واختلفوا في الزّكاة هل فرضت قبله أو بعده؟ وفرض الحجّ في السنة الخامسة أو السادسة؟ وفي السنة الخامسة كانت بيعة الرضوان ، وفي الثامنة فتح مكّة ، وأظلت عليه حمامها (٢) يومئذ فدعا لها بالبركة ، وفي العاشرة حجّة الوداع وكانت وقفة عرفة فيها يوم الجمعة بالإجماع ، ولم يحجّ بعد الهجرة إلّا إيّاها وقبلها لم يضبط ، واعتمر أربعاً ، وكانت غزواته سبعاً وعشرين ، وسراياه ستّاً وخمسين ، وقيل : غير ذلك.

__________________

١ ـ النجم : ٨ ـ ٩.

٢ ـ ظلّت عليه : أي أقبلت إليه ودنت منه ، كناية عن قبول دعوة النبي صلى الله عليه واله.

٣٦

وتزوّج إحدى وعشرين إمرأة ، وطلّق ستّاً ، وماتت عنده خمس ، وتوفي عن عشر واحدة منهنّ لم يدخل بها ، وأولاده ستّة ذكران وهما : القاسم وإبراهيم ، وأربع بنات : وهنّ فاطمة عليها السلام ، وزينب ، ورقيّة ، واُم كلثوم ، وكلّهم من خديجة عليها السلام ، إلّا إبراهيم ، هذا هو المتّفق عليه ، واختلف فيما سوى هٰؤلاء.

ولمّا بلغ صلى الله عليه واله ثلاثاً وستّين ، وقيل : خمساً وستّين إختاره الرفيق الأعلى يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة.

وقيل : لثنتي عشرة خلت من أوّل ربيعي السنة المذكورة ، ودفن ليلة الثلاثاء أو الأربعاء في حجرته التي قبض فيها.

هذه نُبذة ممّا ذكره أرباب السير. وفي كون وفاته يوم الإثنين ثاني عشر أوّل الربيعين مع كون وقفة عرفة يوم الجمعة في السنة العاشرة إشكال يعرف بالتأمل.

قوله عليه السلام : «دون الأمم الماضية» (دون) : بمعنى التجاوز فهي ظرف مستقر وقع حالاً من ضمير المتكلّمين في علينا ، والعامل فيه «مَنّ» أي منّ علينا بمحمّد صلى الله عليه واله ، حال كوننا متجاوزين الأُمم الماضية في «المنّة به علينا».

وقد يقال : إنّها مستعارة من معناها الوضعي الذي هو أدنى مكان من شيء لقدّامه. كما في قول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه (١)

أي تريك القذى قدّامها وهي قدّامه ، فيكون ظرفاً لغواً معمولاً

__________________

١ ـ لسان العرب : ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، وتمام البيت :

إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق.

٣٧

لـ «منّ» والمعنى : منَّ علينا بمحمّد صلى الله عليه واله بين يدي الأُمم الماضية : أي في مستقبلها.

وفي القاموس : إنّها بمعنى أمام ووراء وفوق فهو «ضدٌ» (١).

وعلى هذا فلا حاجة إلى دعوى الإستعارة ، وكما يصحّ جعلها هنا بمعنى أمام يصحّ جعلها بمعنى وراء أيضاً وهو واضح.

و «الأُمم» جمع أمّة وهي الجماعة ، وأصلها : القصد ، من أمّه يأمّه أمّاً : إذا قصده ، كأنّهم قصدوا أمراً واحداً وجهة واحدة ، وتأتي لمعان : الجماعة مطلقاً ، وجماعة اُرسل إليهم رسول ، ويقال لكل جيل من الناس والحيوان : أُمّة ، ومنه : لو لا أنّ الكلاب أمّة تسبّح لأمرت بقتلها (٢).

ومنه : إنّ إبراهيم عليه السلام كان أُمّة واحدة كما في قوله تعالى : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (٣) وبمعنى حين ، ومنه : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (٤).

وقوم الرجل : خلق الله ، وأُمّة النبي نوعان :

أُمّة الإجابة : وهم الذين أجابوا دعوته ، وصدّقوا نبوّته ، وآمنوا بما جاء به ، وهٰؤلاء هم الذين جاء مدحهم بالكتاب والسنّة : كقوله تعالى : «جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٥) ، «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» (٦) وكقوله صلى الله عليه واله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي» (٧).

__________________

١ ـ القاموس المحيط : ج ٤ ، ص ٢٢٣.

٢ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٦٨.

٣ ـ النحل : ١٢٠.

٤ ـ يوسف : ٤٥.

٥ ـ البقرة : ١٤٣.

٦ ـ آل عمران : ١١٠.

٧ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ٢٣٦.

٣٨

و «إنّ أُمتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين» (١) ، وغير ذلك.

وأُمّة الدعوة : وهم الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه واله من مسلم وكافر ، ومنه قوله صلى الله عليه واله : «والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأُمّة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به ، إلّا كان من أصحاب النّار» (٢).

وقوله عليه السلام : «والقرون السالفة» القرون : جمع قرن.

قال الهروي : القرن : كلّ طبقة مقترنين في وقت ، ومنه قيل لأهل كلّ مدّة أو طبقة بعث فيها نبي قلّت السنون أو كثرت : قرن ، ومنه الحديث : «خيركم قرني» يعني أصحابي ، «ثم الذين يلونهم» يعني التابعين لهم بإحسان ، وإشتقاقه : من الإقتران ، وقيل القرن : ثمانون سنة ، وقيل : أربعون ، وقيل : مائة ، وقال ابن الأعرابي : (القرن) الوقت ، وقال غيره : قيل للزمان قرن لأنّه يقرن أُمّة بأُمّة ، وعالماً بعالم ، وهو مصدر قرنت جعل إسماً للوقت اُو لأهله (٣) ، هذا آخر كلام الهروي.

وفيه أقوال أُخر ، قال بعضهم : والذي أرى ـ أنّ القرن ـ : كلّ أُمّة هلكت فلم يبق منها أحد.

«والسالفة» المتقدّمة من سلف فلان من باب ـ قعد ـ سلوفاً : تقدّم ، ومنه سلف الرجل لآبائه المتقدمين ، ويقال : سلف سلفاً محرّكة أي مضى وانقضى ، وإنّما قيّد عليه السلام المنّة علينا به صلّى الله عليه وآله المقتضية للحمل مطلقاً ، بقوله : «دون الأمم الماضية» لإفادته تعظيم المنّة ، وإقتضائه تأكيد

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٢ ـ صحيح مسلم : ج ١ ، ص ١٣٤ ، ح ٢٤٠.

٣ ـ الغريبين للغروي : مخطوط في مكتبة جامعة طهران في ذيل باب القاف مع الراء.

٣٩

الحمد لما في ذلك من الكرامة التي خصّنا تعالى بها دونهم تفضيلاً لنا عليهم ، ومزيد عناية بنا لم يحرزوها ، إذ كانت الأنبياء والمرسلون فضلاً عن أُممهم يتمنّون أن يكونوا من أُمّته ويسألون الله أن يجعلهم منهم ، كما وردت به الأخبار المستفيضة من طرق الخاصّة والعامّة ، فمن ذلك ما رواه رئيس المحدّثين في كتاب معاني الأخبار بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام : انّه كان فيما ناجى الله تعالى به موسى أن قال له : يا موسى لا أقبل الصّلاة إلّا ممّن تواضع لعظمتي ، وألزم قلبه خوفي ، وقطع نهاره بذكري ، ولم يبت مصرّاً على الخطيئة ، وعرف حقّ أوليائي وأحبائي.

فقال : ياربّ تعني بأحبّائك وأوليائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب,

فقال : هم كذلك يا موسى إلّا إني أردت مَن مِن أجله خلقت آدم وحوّاء ، ومَن مِن أجله خلقت الجنّة والنّار.

فقال موسى : يا ربّ ومَن هو يا ربّ؟.

قال : محمّد أحمد شققت إسمه من إسمي ، لأنّي أنا المحمود.

فقال موسى : يا ربّ اِجعلني من أُمّته.

قال : يا موسى ، أنت من أُمّته إذا أنت عرفته وعرفت منزلته ومنزلة أهل بيته (١) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن النبيّ صلى الله عليه واله قال : إنّ موسى لمّا نزلت عليه التوراة وقرأها وجد فيها ذكر هذه الأُمّة فقال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة هم الآخرون السابقون فاجعلها أُمّتي. قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها ظاهراً فجعلها أُمّتي ، قال : تلك أُمّة أحمد.

__________________

١ ـ معاني الأخبار : ص ٥٤ ، ح ١.

٤٠