ذلك الشيخ الوقور

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : التراجم
الطبعة: ١
الصفحات: ٩٦

من قبل الامام الغائب عليه السلام (١).

اضطرابات وحوادث شغب

وفيما كان الصراع على مراكز النفوذ في بغداد محتدماً تدفق آلاف الحنابلة إلى الشوارع والأزقة بذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معتبرين أنفسهم المذهب الوحيد الذي يمثل شريعة الإسلام!

وعمّ الخوف العاصمة بغداد بعد اقدام المتطرّفين على تحطيم الأبواب واقتحام الدور السكنيّة والبحث عن الخمور والآلات الموسيقيّة ، فاذا وجدوا شيئاً من ذلك انهالوا على صاحب الدار بالضرب المبرّح وحطموا الآلات الموسيقيّة وبعض الأتات المنزلي ، ونصبوا سيطرات التفتيش في المعابر ومنافذ الطرق وحظروا على الرجال اصطحاب الأطفال دون

__________________

١. ريحانة الأدب ج ٥ ص ٨١ ؛ تجارب العلماء في عصور الغيبة ، ترجمة كمال السيد ج ١ ص ١٤٤ ـ ١٤٥.

٦١

سنّ البلوغ وكذلك اصطحاب النساء إلّا من يحمل وثيقة زواج!!

فاذا رفض الرجل الانفصال عن ابنه احضروا شهوداً على الفور بأنّه يريد ارتكاب أعمال غير أخلاقية مع الصبي!

وسادت الفوضى بغداد فاضطر الخليفة إلى اعلان حالة الطوارئ والحظر على التجمعات المذهبيّة ، وقد واجه الحنابلة الأوامر الحكوميّة بالرفض وراحوا يهاجمون أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباع المذهب الشافعي باعتبارهم كفّاراً خارجين عن الاسلام!

غير ان قوّات الشرطة سيطرت على الأوضاع وأعادت الهدوء إلى المدينة وصدر عن قصر الخلفة بيان شديد اللهجة اذيع من فوق منابر المساجد جاء فيه :

ـ تارة انّكم تزعمون ان صور وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين (١) وهيئتكم الرذلة وتذكرون الكف

__________________

١. اشارة إلى عقيدة التجسيم التي يؤمن بها الحنابلة.

٦٢

والاصابع والرجلين والنعلين المذهّبين والشعر القطط والصعود إلى السماء والنزول للأرض (بعض توصيفات الحنابلة لله سبحانه وتعالى) ، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً.

ثمّ طعنكم على خيار الأئمّة ونسبتكم شيعة آل محمّد صلى الله عليه وآله إلى الكفر والضلال ... واستنكاركم زيارة قبور الأئمّة وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع (اتّهام الزوّار بالخروج عن عقيدة الاسلام) وأنتم مع ذلك تختمون عل زيارة قبر رجل من العوام (أبو بكر المروزي من تلامذة أحمد بن حنبل المقرّبين) ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله صلى الله عليه وآله وتأمرون بزيارته وتدّعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء.

وفي سنة ٣٢٥ هـ ـ ٩٣٧ م سيطر القرامطة على جميع الطرق المؤدّية إلى مكّة المكرّمة.

٦٣

السفارة الرابعة

في شعبان ٣٢٦ هـ تموز ٩٣٨ م تدهورت صحّة السفير والنائب الثالث الحسين بن روح فاستدعى بعض الشخصيّات البارزة واطلعهم على انتقال مهمّة النيابة والسفارة إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري.

وقد استمرّ السفير الرابع يؤدّي مهامّه بسريّة تامّة وسط أجواء عاصفة سياسيّاً وعسكريّاً ؛ اذ شهدت تلك الفترة احتدام الصراح بين كبار القادة العسكريين وتمزّقت أوصال الدولة العباسيّة وأصبحت أقاليم مستقلّة عن المركز ، فقد استولى «البريدي» على البصرة وواسط والأهواز وبسط البويهيون سلطتهم على فارس والري واصفهان أمّا اقليم كرمان فقد استولى عليه بنو الياس ، في حين سيطر كورتكين على الشمال الإيراني ، فيما قامت دولة الحمدانيّين على اقليم الجزيرة والموصل ، وأسّس الاخشيديون دولتهم على أرض مصر والشام ؛ أمّا المغرب وشمال افريقيا فقد أصبح تحت سلطة الدولة الفاطميّة وما تزال الاندلس تحت نفوذ الدولة الامويّة ،

٦٤

في حين ما يزال السامانيّون يتحكّمون باقليم خراسان وأمّا القرامطة فقد أسّسوا دولتهم في البحرين لتمتد إلى اليمامة وأجزاء اُخرى من شبه الجزيرة العربيّة.

فيما ظلّت بغداد والكوفة تحت سلطة الخليفة والخليفة تحت رحمة القادة العسكريّين وكبار الضباط!!

وفي عام ٣٢٨ هـ ٩٤٠ م تقلت الأوساط الشيعيّة في بغداد بحزن نبأ وفاة العالم الامامي الكبير علي بن بابويه القمي وقد وصل النبأ بعد ١٧ يوماً من وفاته وهو والد الشيخ الصدوق.

في منتصف ربيع الأوّل ٣٢٩ هـ ـ منتصف كانون الأوّل ٩٤٠ م اُعلن عن وفاة الخليفة الراضي وجلوس أخيه إبراهيم الذي لُقّب بـ«المتّقي لله» وما تزال السلطة بيد الحاكم العسكري العام «بجكم» الذي اغتيل فيما بعد في رحلة صيد فاستغل كورتكين الحادث وأصبح الحاكم العسكري العام ، فاستنجد الخليفة «المتّقي» بقوّات من الشام.

وهكذا يستمرّ مسلسل الصراع على السلطة ؛ وفي هذه الفترة فجّر الحنابلة فتنة طائفيّة جديدة استهدفت هذه المرّة

٦٥

الشيعة الاماميّة بمناسبة احتفال الشيعة بيوم ١٥ شعبان الذكرى السنويّة لتحوّل القبلة من القدس الشريف إلى مكّة المكرّمة وزحفت الجموع المتطرّفة في هستيرية باتّجاه جامع «براثا» بالقرب من نهر دجلة لتدميره غير ان قوّات حكوميّة حالت دون ذلك حيث فرضت حماية مشددة على المسجد الذي يعود بناؤه إلى عام ٣٨ هـ أثر ظهور كرامة للامام أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو في طريقه إلى «صفين».

وقد تعرّض حي الصيارفة لهجوم الحنابلة أيضاً وهو من الأحياء التي تقطنه غالبيّة شيعيّة (١) وقد وضع نبأ وفاة زعيم الحنابلة في مخبئه السرّي وارتفاع الأسعار بشكل جنوني حدّاً للأجواء المتوترة في هذه المدينة التي بدت تعاني من مجاعة (٢).

لم تعد بغداد دار السلام فقد استحال العراق إلى مسرح لعمليّات عسكريّة يخوضها قادة طموحون وضبّاط مغامرون ..

__________________

١. احداث التاريخ الاسلامي ج ٢ المجلّد الأوّل ص ٥٥٧.

٢. المصدر نفسه ص ٥٥٤.

٦٦

انّ شمس الحضارة تؤذن بالمغيب ، وفي احدى الليالي وكان القمر في المحاق ذهل سكان بغداد لمشهد الشهب التي بدأت تنقض منذ حلول المساء وظلت تنهمر بلا انقطاع حتّى مطلع الفجر.

وفي التاسع من شعبان ٣٢٩ هـ ـ مايس ٩٤١ م تلقى شيعة أهل البيت عليهم السلام نبأ هاماً سيكون له أكبر الأثر على مستقبلهم ؛ ففي ذلك اليوم استدعى السفير والنائب الرابع والأخير علي بن محمّد السمري عدداً من زعماء الشيعة البارزين وأطلعهم على بيان موقع من قبل الامام المهدي عليه السلام جاء فيه :

ـ «يا علي بن محمّد السمري!

أعظم الله أجر اخوانك فيك فانّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام!

فاجمع أمرك ، ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامّة فلا ظهور إلّا بعد اذن الله تعالى ذكره!

وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب!

وامتلاء الأرض جوراً!

٦٧

وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة .. ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر.

ولا حول ولا قوّة الّا بالله العلي العظيم».

وتلقى الحاضرون النبأ بحزن وأسى واستنسخ بعضهم البيان لنشره وتوزيعه على عموم الشيعة في العالم الاسلامي.

وتمرّ ستّة أيّام وفي اليوم السادس كان السمري يستعد للرحيل وقد خيم الحزن والأسى.

السماء تمطر على هون .. همس أححدهم في اذنه :

ـ إلى من توصي بعدك!

فقال بصوت واهن :

ـ لله أمر هو بالغه.

وفي شارع «درب السلسلة» في محلّة «باب الكوفة» حيث يقع منزل ذلك الشيخ الوقور الذي ناهز السبعين عاماً ، كانت الأزقة مقفرة إلّا من المطر وظلمات الليل ، وقد تراكمت الغيوم ؛ البروق تسطع والرعود تدوّي والشيخ يستنشق أنفاسه

٦٨

الأخيرة وينظر من خلال نافذة صغيرة إلى السماء إلى نقطة مضيئة في قلب الظلمات كانت تكبر وتكبر ثمّ تغمره بالسلام.

وضربت صاعقة تمثال الفارس ليهوي من فوق قبة قصر الذهب بعد أن تربع عليها زهاء قرنين من الزمن (١).

ويخيل للمرء ان فارساً يبدو في الأربعين كان يشق طريقه تحت المطر .. يغادر بغداد التي كانت في مهبّ عاصفة مطريّة.

المطر ينهمر بغزارة ، البروق تسطع بين الغيوم والرعود تدوّي .. وقد غاب الفارس ورواء النهر كما تغيب الشمس وراء السحب لتشرق كلماته الخالدة :

__________________

١. يعود تاريخه إلى تأسيس مدينة بغداد ١٤٥ هـ ـ ٧٦٢ م وقصر الذهب هو قصر الخليفة المنصور الذي يتوسّط بالضبط المدينة المدوّرة ، واالفارس بيده رمح حيث يشير إلى جميع الاتّجاهات تارة إلى الشرق أو الشمال والغرب والجنوب! وقد نسج أهالي بغداد حول ذلك اسطورة فأينما يشير الرمح فان تلك المنطقة أو الجهة تشهد قلاقل واضطرابات أو معارك على الحدود.

وقد سقط التمثال أثر عاصفة مطريّة وتعرضه لصاعقة في عام ٣٢٩ هـ ـ ٩٤١ م.

٦٩

ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم.

ويسطع اسم الكليني في سماء تراث أهل البيت الكرام عليهم السلام كرائد في تدوين أوّل وأكبر موسوعة في الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وآله الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمد لله ربّ العالمين

كمال السيّد

٧٠

الملحق الأوّل

اطلقت في الآونة الأخيرة ومع بالغ الأسف مقولة مفادها ان الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول عن كعب الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة!

وقد صدمت هذه التصريحات المحافل والمرجعيات العلميّة ؛ لذلك انبرى أحد كبار العلماء للرد على هذا الكلام وقد جاء في جانب من الردّ :

ـ والحقيقة الناصعة التي لا تقبل الشكّ لدى أهل العلم والصلاح ان التراث الشيعي الأصيل المتمثّل في الموروث من مدرسة أهل البيت عليهم السلام والمذهب الامامي ، لهو انقى موروث ديني في التاريخ الاسلامي وأبعده عن التحريف أو التأثر بأهواء ومطامح الحكّام الجائرين أو اندساس المنحرفين ...

٧١

لأنّه التراث الذي نشأ وترعرع بعيداً عن دوائر الحكومات ... ونقله إلى الأجيال أتقى الناس وأورعهم ويمتاز هذا التراث بأنّه موروث مباشرة عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله من خلال السلسلة الذهبيّة المباركة وهم الأئمّة الاثنا عشر من أهل البيت عليهم السلام.

ولهذا فهو يمثّل الاسلام الأصيل والامتداد الصحيح لخط الرسالة الاسلاميّة.

وحول كعب الأحبار الذي كان يهوديّاً وأسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فانّ الموروث الشيعي برئ منه وكان الأئمّة عليهم السلام يرونه كذاباً منحرفاً ، وقد روى الشيخ الكليني رحمه الله في الكافي رواية صحيحة السند عن زرارة عن الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام بشأنه جاء فيها :

ـ «كنت جالساً إلى جنب أبي جعفر عليه السلام وهو محتب مستقبل الكعبة ، فقال عليه السلام : «أما ان النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر عليه السلام : إن كعب الأحبار يقول : ان الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة!

٧٢

فقال أبو جعفر عليه السلام : فما تقول فيما قال كعب؟!

فقال (عاصم) : صدق القول ما قال كعب!

فقال أبو جعفر عليه السلام : كذبت وكذب كعب معك.

وغضب عليه السلام.

قال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً بقول : كذبت ، غيره ...» (١).

هذه هي منزلة كعب لدى الأئمّة الأطهار عليهم السلام.

وقد هاجمه حبر الاُمّة عبد الله بن عبّاس وانتقده بشدّة على بعض رواياته الموجودة في كتب الحديث لدى المذاهب الاسلاميّة الاُخرى.

وكان صاحب المقولة قد تذرّع بنص للشهيد محمّد باقر الصدر ورد في مقدمة رسالته العلميّة «الفتاوى الواضحة» حيث جاء تحت عنوان «كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد» ما يلي :

__________________

١. الكافي ج ٤ ص ٢٤ ؛ اقتباس من جواب الاستفتاء الصادر عن مكتب السيّد محمود الهاشمي في ذي القعدة ١٤٣٤.

٧٣

ـ «ودخول شيء كثير من الدس والافتراء في مجاميع الروايات الأمر الذي يتطلّب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق» (١).

وقد فنّد السيّد محمود الهاشمي الذي كان في طليعة تلامذة الشهيد الراحل هذا الخلط بين مقولة الموروث الروائي الشيعي المدسوس والمنقول عن كعب الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة» ذلك ان كلام الشهيد الصدر يأتي في سياق بحث نشوء التعارض في الأدلّة الشرعيّة ، فأشار رضوان الله تعالى عليه إلى عمليّة الدس بينها (الأحاديث) والتزوير التي قام بها بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت عليهم السلام على ما ينقله لنا التاريخ وكتب التراجم والسير وقد وقع كثير من ذلك في عصر الأئمّة أنفسهم على ما يظهر من جملة من الأحاديث التي وردت لتنبّه أصحابهم إلى وجود حركة الدسّ والتزوير فيما يروون عنهم من الأحاديث ...

وعملية التنبيه الأكيدة من الائمّة عليهم السلام على وجود حركة

__________________

١. الفتاوى الواضحة ص ١٠٠.

٧٤

الدسّ والتي أعقبها التحفّظ الشديد من قبل أصحاب الأئمّة عليهم السلام والسلف المتقدّم من علماء الطائفة في مقام نقل الحديث وروايته وتطهير الروايات عمّا دسّ فيها وإن كان لها الفضل الكبير البالغ في تحصين كتي الحديث عن أكثر ذلك الدسّ والتزوير ؛ إلّا أنّ هذا لا يعني حصول الجزم واليقين بعدم تواجد شيء ممّا زوّر على الأئمّة عليهم السلام في مجموع ما بأيدينا من أحاديثهم ، سيّما إذا لاحظنا أنّ العمليّة كانت تمارس في كثير من الأحيان عن طريق دسّ الحديث الموضوع في كتب الموثوقين من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كما تشير إليه رواية يونس بن عبد الرحمن ، فربما كان بعض ما نجده في كتب الأحاديث اليوم من الروايات المتعارضة المختلفة هو من بقايا ذلك التشويه والدسّ الذي وقع في تلك العصور.

هذه هي أهم العوامل التي يمكن أن تذكر لتبرير حالات التعارض التي قد يواجهها الفقيه فيما بين الأحاديث الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام» (١).

__________________

١. بحوث في علم الاُصول ج ٧ ص ٣٩.

٧٥

وبذلك نرى ؛

أوّلاً : هذا الكلام لا علاقة له أصلاً بتلك التهمة الفارغة الكاذبة من أنّ الموروث الشيعي مأخوذ عن كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ودخل المدينة في عصر الخليفة الثاني وصار حبراً للاُمّة ينقل عنه أمثال أبي هريرة ومعاوية وعطاء بن يسار وغيرهم من الصحابة والتابعين.

وإنّما المراد منه أنّ الأحاديث الصادرة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام خصوصاً في الحقبة المتأخّرة من حياتهم ـ أي زمان الأئمّة المتأخّرين ـ بعد أن تكاثر الرواة لأحاديثهم خصوصاً عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وبلوغهم أربعة آلاف على ما في كتب التراجم والسير نشأ فيها الاختلاف والتعارض.

وحصول هذا التعارض والاختلاف كان بأسباب عديدة ، منها : وجود بعض الرواة ممّن كانوا من أصحاب الأئمّة عليهم السلام أوّلاً ثمّ انحرفوا عنهم ، كالخطابيّة والجاروديّة والغلاة والواقفيّة ونحوهم ، فنقلت عنهم روايات من قبل من لا يعرف انحرافهم وقد يكون فيها شيء من الغلوّ بحقّ الأئمّة أو الوقف على

٧٦

بعضهم أو أحكام فقهيّة معارضة مع الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ومنهج أهل البيت عليهم السلام ؛ ولهذا نبّه الأئمّة عليهم السلام أنفسهم على ذلك وأعطوا بعض الموازين لما يؤخذ من الروايات ممّا لا يعلم صدوره عن المعصومين عليهم السلام ، كأن لا يكون معارضاً مع الكتاب الكريم أو مع السنّة الشريفة ، كما نبّهوا على لزوم تهذيب الأحاديث المرويّة عن روايات هؤلاء الذين انحرفوا عنهم وبالنسبة لبعضهم كبني فضّال.

قال الإمام العسكري عليه السلام : «خذوا ما رووا واتركوا ما رأوا» ؛ لأنّ رواياتهم عنهم كانت قبل انحراف عقيدتهم ، وصار هذا التنبيه الأكيد من قبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام في عصر الغيبة الصغرى والكبرى تجاه هؤلاء الرواة والروايات عن المعصومين عليهم السلام بشكل عام وتمحيصها وتهذيبها وتوثيق من يصحّ حديثه ومن لا يصحّ الحديث عنه ممّا حصّن الموروث الشيعي كما ذكره السيّد الشهيد الصدر وطهّر المجاميع الحديثيّة عند الشيعة عن ذلك الدسّ والتزوير.

إلّا أنّ احتمال بقاء شيء من ذلك من الموروث الروائي في

٧٧

اطار المذهب وروايات أهل البيت عليهم السلام أدّى إلى أن يضع الأئمّة عليهم السلام أنفسهم في موارد الاختلاف والتعارض ضوابط وموازين لتشخيص الصحيح من غيره ، وهذا كلّه لا علاقة له باليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة ولا بكعب الأحبار ومرويّاته الكاذبة عن النبي صلى الله عليه وآله أو غيره بعنوان انّه حبر من أحبار الاُمّة والذي هو قدح في أصل المذهب والتراث الشيعي وتأسيسه كما لا يخفى على اللبيب العارف.

وثانياً : انّ وجود رواة ضعفاء غير ثقاة أو كذّابين ضمن أسانيد الروايات المنقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقضي بلزوم تمحيص الأسانيد وتوثيقها عند الأخذ بها ، وهذا ليس أمراً مختلفاً فيه لدى طلبة العلوم الدينيّة فضلاً عن فقهائنا ومراجعنا العظام ، وليس فيه قراءة جديدة للتراث ولا تصحيح للعقيدة بل تلك هي الطريقة المتّبعة والمعمول بها في الفقه والاُصول وكافّة العلوم الإسلامية منذ زمن الشيخ الطوسي وإلى يومنا هذا ، فيطرحون الرواية التي في سندها ضعف.

وهذه كتب الحديث والفقه والتفسير وسائر فروع المعرفة

٧٨

الإسلاميّة التي صنّفها علماؤنا وفقهاؤنا إلى اليوم مشحونة بالبحوث الرجاليّة والسنديّة الدقيقة في كلّ مسألة أو فكرة يراد الاستناد فيها إلى رواية موجودة في المجاميع الحديثيّة لدى الشيعة ، وهذه من امتيازات المذهب الشيعي ، حيث إنّ باب الاجتهاد فيه لم يغلق ومستمر بتمام مراحله حتّى اليوم ، وفقهاؤنا متّفقون على أنّ وجود رواية في مجموعة حديثيّة كالكافي والفقيه والتهذيبين لا يجعلها صحيحة سنداً ولا مضمونه مسلّم عندهم ، وهذا واضح لدى عوام الشيعة فضلاً عن علمائهم ، فإذا كان المقصود إثبات هذا المعنى فتسميه ذلك بالقراءة الجديدة للتراث الشيعي وإلقاء التساؤلات على المراجع بتعابير استخفافيّة تهكّمية من قبيل (من يدّعون أنّهم مراجع ومن درس عندهم تسعون وسبعون وستون سنة) ، وطرح التشكيك في معتقدات الشيعة والمطالبة بالبحث العلمي فيها وأنّه (قل هاتوا برهانكم) ثمّ دعوى أنّ الكثير من الموروث الشيعي متلقى عن كعب الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة كلّ هذا الكلام الفارغ ليس إلّا هراءً

٧٩

وجهلاً وتهريجاً وخدمة لأعداء المذهب الشيعي ـ كما استغلّ ذلك فعلاً من قبل أجهزة اعلامهم سريعاً ـ فلو كان المقصود لزوم تمحيص أسانيد الأحاديث فمن المخالف في ذلك من الفضلاء فضلاً عن الفقهاء ، وأين أفتى المراجع العظام بما يكون مصدره كعب الأحبار اليهودي أو فلان المجوسي أو النصراني؟

ومتى تمسّك فقهاؤنا بحديث لا تمحيص لسنده؟ وهذه كتبهم الاستدلاليّة مليئة بالبحث عن سند كلّ ما يذكرونه من رواية مهما كان مصدرها؟!

ولماذا كلّ هذا التهريج والصخب المزري والذي يعطي الذريعة بيد الأعداء ضدّ المذهب الحق ، وأيّ ابداع وجديد في مثل هذه الجهات.

وثالثاً : انّ مجرّد ذكر رواية راوٍ ضعيف في المجاميع الحديثيّة لا يدلّ على كون الموروث الشيعي مستنداً إلى ذلك الراوي الكذّاب أو الضعيف أو غير الموثق ؛ إذ قد يكون ذكر ححديثه في تلك المجموعة الحديثيّة لأنّ صاحبها قد وجد عليه شاهداً من القرآن أو السنّة الشريفة ؛ فإنّ أصحاب المجاميع

٨٠