ذلك الشيخ الوقور

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : التراجم
الطبعة: ١
الصفحات: ٩٦

منصبه بعد أيّام (١) وتعيين علي بن عيسى الجراح في منصبه (٢).

وفي سنة ٣٠٣ هـ ـ ٩١٥ م قتل الحافظ والمحدّث أحمد بن علي النسائي على أيدي متعصبين أمويين في دمشق ؛ وكان النسائي قد ألّف كتابه «خصائص أمير المؤمنين علي عليه السلام» بعد أن لاحظ الصورة المشوهة للامام عليه السلام لدى الرأي العام ؛ فطالبه بعض المتعصّبين بتأليف كتاب حول فضائل معاوية! فأجابهم بشجاعة انّه لم يجد له فضيلة إلّا حديث رسول الله وقوله : لا أشبع الله بطنه!

فانهالوا عليه بالضرب المبرح والركل وترحيله من دمشق فغادرها محمولاً وكانت صحّته تتدهور بسرعة حتّى انه ما إن وصل مكّة حتّى توفّي إلى رحمة الله (٣).

وشهد هذا العام نشوب حرائق في بغداد ، وقيام بعض سكّانها بقتل أسرى الأعراب الذين يهاجمون قوافل الحج.

__________________

١. مروج الذهب ج ٤ ص ٢١٣.

٢. أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ المجلّد الأوّل ص ٣٩١.

٣. المصدر السابق ج ٧ ص ٥٧ ـ ٥٧٢.

٤١

وفي عام ٣٠٤ قام الخليفة المقتدر بتغيير وزاري جديد حيث أقيل الجرّاح وزج في السجن وأُعيد ابن الفرات إلى رئاسة الوزراة.

وشهد هذا العام ٩١٧ م وصول وفد روماني رفيع المستوى لتوقيع معاهدة سلام وتهدئة ، حيث نظم احتفال كبير جداً كلّف الدولة مبالغ كبيرة ، كما تمّ الاتّفاق على اطلاق الأسرى المسلمين مقابل فدية مالية كبيرة (١).

وفي هذا العام انتهت السفارة الثانية وبدء السفارة الثالثة وكان الشيخ محمّد بن عثمان الخلّاني قد بدأ منذ أعوام بتوجيه الوكلاء إلى الحسين بن روح من أجل التمهيد لقبول سفارته ؛ ومع ذلك فقد وصل بغداد الشيخ علي بن بابويه للتأكّد بنفسه من صحّة سفارة ابن روح.

وافتتح مستشفى «بيمارستان» في بغداد حيث اسندت رئاسته إلى العالم الكبير محمّد بن زكريا الرازي.

__________________

١. أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ م الاولى ص ٤٢٠.

٤٢

وفي جمادي الاُولى ـ تشرين الأوّل ٩١٨ م أقال المقتدر علي بن الفرات من رئاسة الوزراة وصادر أمواله وزجه في السجن ليعيّن بدله حامد بن العباس فيما تقوم «شغب» والدة الخليفة التي تتدخل في شؤون الدولة بتعيين خادمتها «ثمل» للنظر في قضايا الاستئناف واصدار الأحكام إلى القضاء! كما تقوم بتعيين الخادم «ثمال» قائداً للاسطول في البحر المتوسط! (١)

الحنابلة يثيرون الاضطرابات ويهاجمون أتباع المذاهب الاُخرى وعصابات اللصوص تستغل حالة انعدام الأمن وتقوم بعمليّات سلب ونهب واسعة في وضع النهار.

تورّط رئيس الوزراء ووالدة الخليفة في أكبر عمليّة احتكار للغلال تفضي إلى ارتفاع الأسعار على نحو جنوني يثير غضباً شعبيّاً عارماً حيث هوجمت السجون والمعتقلات واطلق من فيها واحرقت بعض الجسور وهوجم موكب الخليفة بالحجارة

__________________

١. أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ المجلّد الأوّل ص ٤٢٥ ، موسوعة التاريخ الإسلامي ج ٧ ص ٥٨٠.

٤٣

والأخير يأمر بفتح مخازن الغلال العائدة لوالدته ورئيس الوزراء وعرض ما فيها في الأسواق فتهبط الأسعار (١).

القرامطة يقتحمون مدينة البصرة ويقومون بجرائم قتل وسلب ونهب.

وفي عام ٣٠٩ وصل وفد بلغاري يحمل طلباً ملكياً بارسال بعثة للتعريف بالدين الاسلامي (٢).

__________________

١. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٤٤٣.

٢. أوفدت بغداد بعثة برئاسة أحمد بن فضلان ضمت قادة ومترجمين للتعريف بالدين الاسلامي خاصّة في الجنوب حيث اعتنق بعض البلغار الاسلام.

غادرت البعثة مدينة بغداد في ١١ صفر ٣٠٩ هـ ٢١ حزايران ٩٢١ م ومرّت بـ همدان والري (طهران) ونيسابور ومرو وبخارى وعبرت نهر جيحون إلى خوارزم ثمّ وصلت بلاد البلغار في حوض نهر الفولكا بتاريخ ١٨ محرم ٣١٠ هـ ١٨ مايس ٩٢٢.

ولم يعرف مسار البعثة في عودتها لضياع القسم الأخير من رسالة ابن فضلان التي تضمّنت توصيفات للمملكة البلغاريّة وتقاليدها.

٤٤

البدء بمحاكمة الحلّاج الذي اعتقل عام ٣٠١ في إيران واعيد مخفوراً إلى بغداد وبعد عدّة جلسات صدر الحكم باعدامه صلباً واحراق جثمانه بتهمة الزندقة والالحاد.

وبعد عدّة شهور هام اُلوف الحنابلة دار المفسّر والمؤرّخ الشهير محمّد بن جرير الطبري (١) بالحجارة حتّى تكوّن تل

__________________

وترسم هذه الرسالة جانباً من الظروف السياسيّة في العالم آنذاك والعلاقات الدوليّة مع بلدان الجوار في أواسط آسيا وحوض الفولكا.

أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ المجلّد الأوّل ص ٤٣٩.

١. ولد في مدينة آمل في شمال إيران سنة ٢٢٤ هـ ونشأ فيها وسافر في شبابه إلى الري للدراسة ومنها إلى بغداد حيث وصلها في عام ٢٤١ وصادف وصوله وفاة أحمد بن حنبل ، سافر إلى البصرة والكوفة وإلى مصر وعاد إلى بغداد ؛ درس الفقه على مذهبي الشافعي والمالكي ، أسّس مذهباً خاصّاً به يعد قريباً من المذهب الشافعي تبعه فيه كثير من العلماء وما لبث أن أهمل. من مؤلّفاته اضافة إلى تاريخه الشهير «الرسل والملوك» تفسيره «جامع البيان عن تأويل القرآن» وكتاب «اختلاف الفقهاء» و «المسترشد في علوم الدين» وكتاب في القراءات وله كتاب «الولاية» أو الرد على «الخوارج

٤٥

كبير أمام الدار.

ومن المحتمل جداً أن يأتي الهجوم بتحريض من البربهاري زعيم الحنابلة المتشدّد ، وقد جاء الهجوم على خلفيّة صدور كتابه «اختلاف الفقهاء» ولم يذكر شيئاً عن أحمد بن حنبل ما يعني أن الأخير لا يعتبر فقيهاً! وعند ما سئل عن ذلك أجاب بصراحة : إنّما كان أحمد بن حنبل محدّثاً ولم يكن فقيهاً مجتهداً!

واجتمع به عدد من الحنابلة وسألوه عن أحمد بن حنبل وعن روايته لحديث مفاده انّ الله يبعث النبي صلى الله عليه وآله مقاماً محموداً

__________________

الحرقوصية»نسبة إلى الصحابي ـ حرقوص بن زهير الذي اشتهر بعد معركة النهروان بـ«ذو الثديّة» زعيم الخوارج في النهروان وكان النبي صلى الله عليه وآله قد بشّر الامام علي عليه السلام بأنّه سيقاتل على التأويل ، الناكثين والقاسطين والمارقين وتحقّقت نبوءة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث وقعت حروب «الجمل» و «صفين» و «النهروان» وحرقوص هذا هو جد أحمد بن حنبل!

انظر موسوعة التاريخ الاسلامي ج ٧ ص ٥٨١ ـ ٥٨٢ ؛ أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ م ١ ص ٤٤٢.

٤٦

وهو أن يجلسه على يمينه فوق العرش؟!

فقال الطبري : ان هذا مستحيل!

سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس.

وأمّا ابن حنبل ؛ فإنّي ما رأيته روي عنه ولا له أصحاب يعوّل عليهم فرشقوه بمحابرهم ونهضوا ؛ وما لبث أن تجمع الآلاف من أتباع المذهب الحنبلي وراحوا يرمون الدار بالحجارة.

ما أخطر قائد الشرطة أن يقود عشرة آلاف من قوّاته لحماية الرجل الذي بلغ السادسة والثمانين حيث رابطت يوماً كاملاً ونقلت الحجارة عن داره!

وصدرت فتوى بتكفير الطبري والحكم بالحاده!

وسرعان ما توفي في شوّال كانون الأوّل ٩٢٢ م حيث دفن في داره خوفاً من أعمال انتقاميّة قد يقوم بها متطرّفون!

٤٧

الشلمغاني صعود وسقوط

وبسب الظروف الصعبة التي كانت تلفّ بغداد وتفاقم عنف وخطر تيار الحنابلة اضطر السفير الثالث الحسين بن روح إلى التقليل من ارتباطه بشيعة أهل البيت ، وتعميق دور شخصيّة علميّة بدأت بالصعود هو محمّد بن علي الشلمغاني ، فكان الوسيط بين السفير وأبناء الطائفة حتّى أصبح المرجع العام لهم ، ولم يعد السفير يلتقي أحداً أو يقابل وفداً.

وفي هذه الفترة ألّف كتابه «التكليف» الذي قرأه السفير بدقّة قبل أن يوقع على صحّته والترخيص باستنساخه.

وعندما ألّف كتابه الآخر «التأديب» قام السفير بارساله إلى علماء قم للنظر فيه ، وجاء الجواب بصحّته باستثناء مورد يختصّ بزكاة الفطرة الأمر الذي دفع بالسفير إلى اعادة النظر في كتاب «التكليف» ؛ فوجد بعض الاشكالات في موضوع الشهادة واسناد رواية مزورة إلى الامام موسى الكاظم عليه السلام.

ولأسباب ما تزال غامضة بدأ الشلمغاني يستغل موقعه الفريد خاصّة بعد اعتقال السفير في مطلع عام ٣١١ هـ صيف

٤٨

عام ٩٢٣ م حيث أودع في سجن خاص داخل قصر الخلافة!

وهكذا أصبح الشلمغاني زعيم الشيعة والشخصيّة الأولى لديهم ، وكانت معظم زياراته لأسرة آل بسطام التي تتمتّع بنفوذ كبير!

وفي هذه الفترة بدأ يصرّح على نطاق سرّي للغاية بأفكاره الخطيرة خاصّة في مضمار حلول الأرواح المقدّسة في بدنه!! وفي عام ٣١٣ هـ ـ ٩٢٦ م حصل تغيير وزاري جديد (١).

وقد توفّي أبوبكر الرازي الذي كفّ بصره ورفض اجراء عمليّة جراحيّة قائلاً : لقد أبصرت من الدنيا حتّى مللت!

ومن المفارقات انّه توفي فقيراً! بعد كلّ ما قدمه من خدمات للانسانيّة ، بينما كان المسؤولون الحكوميّون ـ وبعضهم لا يتمتّع بأيّة مؤهّلات ـ يعيشون حياة مخمليّة كما هو الحال في رئيس الوزراء السابق المعتقل «ابن الخاقاني» الذي حوكم على خلفية فشله الاداري والاقتصادي والامني!

__________________

١. اجرى المقتدر ثلاثين عمليّة تغيير وزاري خلال عشرين سنة من حكمه!!

٤٩

وفي هذه الفترة عم الخوف سكّان بغداد بعد وصول أنباء سقوط الأنبار بأيدي القرامطة التكفيريّين واستعدادهم لمهاجمة بغداد وبدأ الكثيرون يفكّرون بالفرار إلى مدينة همدان.

وفي غمرة الرعب الذي عمّ بغداد ألقي القبض على جاسوس يعمل لحساب القرامطة وقد أشرف رئيس الوزراء على استجوابه وقد اعترف الرجل فوراً بأنّه يؤمن بمشروعيّة القرامطة وأنهم على الحق وان الخليفة ومن معه كفاراً وغاصبين للسلطة! كما هاجم الشيعة الاثني عشريّة وانتقدهم على إيمانهم بامام غائب! قائلاً :

ـ ولابدّ من حجّة الله في أرضه ، وإمامنا المهدي محمّد بن أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم في بلاد المغرب .. اننا لسنا كالرافضة والاثني عشريّة الذين يقولون بجهلهم انّ لهم إماماً ينتظرونه!

ويبدو أنّ موجات من الشكّ كانت تعصف في الأوساط الشيعيّة العامّة في تلك الفترة أشار إليها تلميذ الشيخ الكليني

٥٠

«محمّد بن إبراهيم النعماني» مؤلّف كتاب «الغيبة» إذ يقول في المقدّمة :

«... فهدانا الله عزّ وجلّ بمحمّد صلى الله عليه وآله من الضلالة والعمى وأنقذنا به من الجهالة والردى وأغنانا به وبما جاء به الكتاب المبين وما أكمله لنا من الدين ودلّنا عليه من ولاية الأئمّة الطاهرين الهادين ، من الآراء والاجتهاد ووفّقنا به وبهم إلى سبيل الرشاد».

«أمّا بعد ؛ فإنّا رأينا طوائف من (الأوساط) المنسوبة إلى التشيّع المنتمية إلى نبيّها محمّد وآله صلى الله عليه وآله ممّن يقول بالامامة ... قد تفرّقت كلمتها وتشعّبت مذاهبها واستهانت بفرائض الله عزّ وجلّ وحنت إلى محارم الله تعالى ؛ فطار بعضها علوّاً وانخفض بعضها تقصيراً (١) وشكّوا جميعاً إلّا القليل في إمام زمانهم ووليّ أمرهم وحجّة ربّهم ... للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله صلى الله عليه وآله ذكرها وتقدّم من أمير المؤمنين عليه السلام خبرها».

__________________

١. تثير هذه العبارة التأمّل في طبيعة الاتّجاهات الفكريّة السائدة في تلك الفترة.

٥١

ثمّ يورد حديثاً عن الامام الصادق عليه السلام يقول فيه :

«من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول» ويعزو السبب في هذا التشرذم إلى اهمال أحاديث أهل البيت عليهم السلام ثمّ يورد حديثاً آخر للامام الصادق يتضمّن المعيار في معرفة مدى قرب العالم الديني من أهل البيت :

«أعرضوا منازل شيعتنا عندنا على قدر روايتهم عنّا وفهمهم منّا».

وحدّد النعماني أسباب الانحراف في نقاط منها غياب الاصالة في التفكير فيهتز ايمان الشخص لدى أوّل شبهه تعترضه اضافة إلى سبب آخر أقوى يكمن في الهدف الدنيوي لدى البعض واستخدام الدين وسيلة من أجل تحقيق موقع اجتماعي أو من أجل تكوين الثروة اضافة إلى ضعاف الايمان الذين ينهارون في المحن وأيّام القهر والاضطهاد.

وفي هذه المقدّمة يورد رواية عن الامام علي عليه السلام ان يوم الخلاص لن يشرق «حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض وحتّى

٥٢

يسمّي بعضكم بعضاً كذّابين وحتّى لا يبقى منكم على هذا الأمر (الايمان بوجود الامام المهدي الغائب) إلّا كالكحل على العين والملح في الطعام».

وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام انّه قال :

«والله لتمحصنّ والله لتطيرنّ يميناً وشمالاً حتّى لا يبقى منكم إلّا كلّ امرئ أخذ الله ميثاقه وكتب الايمان في قلبه وأيّده بروح منه» (١).

هذا هو منهج الشيخ الكليني ؛ التمسّك بالقرآن الكريم وبروايات أهل البيت عليهم السلام التزاماً بالحديث النبوي الشريف : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا».

ولهذا فانّ السمات البارزة في كتابه «الكافي» والمهمّة «الاكثار من الاستدلال بالشواهد القرآنيّة لا سيّما في كتاب الاُصول ، حيث تضمّنت أحاديثه مئات الآيات القرآنية بهدف

__________________

١. الغيبة للنعماني ص ٢٠ ـ ٢٦.

٥٣

بيان التوافق بين الأحاديث والقرآن أو العترة والكتاب» (١).

وفي تلك الفترة ٣١٦ هـ ـ ٩٢٧ م ساد الذعر مدينة بغداد بسبب أنباء مروّعة حول هزائم الجيوش الحكوميّة أمام القرامطة في أنحاء عديدة من العراق واستغلال عصابات أو ما يعرف آنذاك بـ«العيارين»أجواء الرعب ليقوموا بأعمال سلب ونهب ما أضطر قائد الشرطة إلى فرض حالة منع التجوّل ليلاً.

وفي مدينة الكوفة ظهرت حركة جديدة تعلن تأييدها للقرامطة خاصّة بعد الاعلان عن ولائهم للمهدي زعيم الدولة الفاطميّة.

المقتدر يجري عمليّة تغيير وزاري جديدة!! وقوّات من الجيش والشرطة تقوم بعمليّة انقلابيّة تطيح بالمقتدر وتوقيع الأخير على وثيقة التنازل عن السلطة لصالح أخيه غير الشقيق الذي مُنح لقب «القاهر» ؛ غير أن فرقة في سلاح المشاة تحرّكت ضد الانقلاب بعد يومين فقط واعتقلت قادة العمليّة

__________________

١. دفاع عن الكافي ج ١ ص ٣٤.

٥٤

الانقلابيّة واُعيد المقتدر إلى سدّة الحكم فيقوم الأخير باعتقال أخيه وفرض الاقامة عليه في قصر والدته «شغب».

صدور «الكافي»

وفي هذه الفترة صدر كتاب «الكافي» أولى وأضخم الموسوعات الحديثيّة لدى الاماميّة حيث فرغ الشيخ الكليني من تبويبه فصدر في وقت وصل فيه الاحتقان الطائفي مستوى خطيراً حيث بلغ الحانابلة مرحلة الطغيان وراحوا يحاولون فرض آرائهم وأفكارهم على المجتمع بالقوّة!

فقد أثار الحنابلة فتنة طائفيّة على خلفيّة تفسير الآية الكريمة : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (١).

فقد نادى كلّ من اتباع أبي بكر المروزي (٢) والشيخ

__________________

١. الإسراء (٧٧) الآية : ٧٩.

٢. من أصدقاء أحمد بن حنبل ، توفّي سنة ٢٧٥ هـ ـ ٨٨٨ م.

٥٥

البربهاري (١) ووفقاً لروايات أحمد بن حنبل : ان الله سبحانه يجلس النبي صلى الله عليه وآله يوم القيامة على يمينه فوق العرش!

وهاجمت جموع من غوغاء الحنابلة مؤسّسات علميّة تابعة للمعتزلة والشيعة الاماميّة وما زاد الاُمور سوءً تورّط بعض الجنود الحنابلة واستخدام السلاح! حيث حصلت اشتباكات دامية أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا والمقتدر يقوم بتغيير وزاري جديد (٢)!

وكانت المؤامرات ما تزال تعصف ببغداد حيث زحف المنشقّون من الموصل واحتلوا العاصمة ولقي المقتدر مصرعه واعتقلت والدته «شغب» التي تعرّضت لتعذيب وحشي لم يتوقّف إلى أن استجابت لمطالب في الكشف عن جميع ممتلكاتها.

__________________

١. زعيم الحنابلة وأكثرهم تعصّباً وتطرّفاً يُعد المسؤول الأوّل في اثارة الفتن الطائفيّة.

٢. أجرى ٣٠ عمليّة تغيير وزاري خلال ٢٠ سنة وهذه طاهره تحتاج إلى دراسة معمّقة.

٥٦

حاول القاهر الحصول على قاعدة شعبيّة فأصدر أمراً بتحطيم الآلات الموسيقيّة في القصر ومنع تعاطي الخمر ، وكان يفكر بالاستفادة من الأسرى القرامطة في ضرب خصومه الأمر الذي أثار مخاوف بعض كبار الضباط في المؤسّسة العسكريّة.

وبالرغم من تحذيرات رئيس وزرائه من وجود عمليّة انقلابيّة ستنفذ في فجر السادس من جمادي الاُولى ٣٢٢ هـ ـ نيسان ٩٣٤ م غير ان الخليفة كان في حالة سكر شديد ؛ فلم يصحو إلّا على صيحات الجنود الذين اقتحموا القصر وحاول الفرار إلى سطح القصر الّا انّه كان صيداً سهلاً إذ سرعان ما قبض عليه وانهالوا عليه بالضرب ليكشف عن مكان اعتقال أحمد بن المقتدر ، فاطلق وأجلس على العرش ولقّب بـ«الراضي بالله».

وفي هذه الفترة بدأت ارهاصات ظهور الحكم البويهي في إيران الذي حظي باعتراف بغداد.

وكان الشيخ الكليني مستمراً في مزاولة عمله في التدريس حيث كان في طلليعة تلامذته الفقيه الشافعي محمّد بن إبراهيم

٥٧

بن يوسف الكاتب حصل ، الذي على اجازة من استاذه في الرواية وهي أعلى شهادة في علم الحديث.

وقد اجرى الراضي تغييرات واسعة في أجهزة الحكم وفي هذا العام قرّر الشلمغاني الظهور في بغداد من جديد متحديّاً الحسين بن روح الذي عمّم في أوساط الشيعة اللعن الذي صدر بحقّه من قبل الامام المهدي الغائب!

وقد دفع الجدل برئيس الوزراء «ابن مقله» إلى أن يعقد في قصره اجتماعاً ضم العديد من الشخصيات الاماميّة حيث حضر الشلمغاني الذي استغل غياب السفير الحسين بن روح فاطلق تصريحه المثير : اجمعوا بيني وبينه حتّى آخذ بيده ويأخذ بيدي! فان لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه ، فجميع ما قاله فيّ حقّ!!

وتمادى الشلمغاني في انحرافه وادّعى حلول اللاهوت في جسمه!

ثمّ كشف عن حقيقته في حديث له مع محمّد بن أحمد الكاتب الاسكافي عند ما اتّهم السفير الثالث بأنّه لا يختلف

٥٨

عند كثيراً في التهافت على زعامة الشيعة قائلاً :

ـ ما دخلت مع أبي القاسم «الحسين بن روح» في هذا الأمر إلّا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه! لقد كنّا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف (١).

وقد حوكم الشلمغاني بسبب أفكاره في امكانيّة حلول الله في كلّ انسان على قدره ؛ وادّعائه الالوهيّة وقد ثبتت عليه التهمة الأخيرة بالرغم من انكاره وحكم عليه بالاعدام كما احرقت جثّته (٢).

وفي هذه الفترة العصيبة روى الشيخ الكليني خبر الرسالة الجوابيّة التي تلقّاها إسحاق بن يعقوب (أحد أساتذة الشيخ الكليني) من الامام المهدي عليه السلام من خلال سفيره الثاني محمّد بن عثمان العمري (في أواخر سفارته) وقد تضمّنت ما يلي :

ـ البراءة ممّن ينكرون وجود الامام الغائب حتّى لو كانوا ينتسبون إلى أهل البيت عليهم السلام.

__________________

١. الغيبة للشيخ الطوسي ص ٣٩١ الحديث ٣٦١.

٢. أحداث التاريخ الاسلامي ج ٢ المجلّد الأوّل ص ٥١٧.

٥٩

ـ تكذيب للوقّاتين حول يوم الخلاص.

ـ «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى روّاة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم».

ـ «وأمّا الخمس فقد اًبيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حلّ إلى وقت ظهور أمرنا».

ـ «وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب».

ـ «واني لأمان لأهل الأرض كما انّ النجوم أمان لأهل السماء» (١).

ولم ترد هذه الرواية في كتاب «الكافي» لأنّه كان قد صدر قبل ذلك بسنوات.

ولهذا من المحتمل جداً وجود علاقة على نحو ما بين الشيخ الكليني والامام المهدي عليه السلام وان «الكافي» تمّ تصويبه

__________________

١. بحار الأنوار ج ٥٣ ص ١٨١ وج ٥٣ ص ١٨٠ باب التواقيع الصادرة عن الامام الغائب.

٦٠