نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

قالوا لحنت وهذا الحرف منتصب

وذاك خفض وهذا ليس يرتفع (١)

وضرّبوا بين عبد الله واجتهدوا

وبين زيد فطال الضرب والوجع

وقال صاحب الزهر : أنشد أبو حاتم ولم يسمّ قائله (٢) : [الطويل]

ألا في سبيل الله ما ذا تضمّنت

بطون الثرى واستودع البلد القفر

هذا ما حضر بفضل الله من الاستشهاد على أنّ «ما ذا» تستعمل بمعنى الخبر والتكثير ، وو الله الذي لا إله غيره ما طالعت عليه كتابا ، ولا فتحت فيه بابا ، وإنما هو ثمالة (٣) من حوض التذكار ، وصبابة ممّا علق به شرك الأفكار ، وأثر ممّا سدك (٤) به السمع ، أيام خلوّ الذّرع ، وعقدت عليه الحبى ، في عصر الصّبا ، ورحم الله من تصفّح ، وتلمّح فتسمّح ، وصحّح ما وقع إليه من الاعتلال ، وأصلح ما وضع لديه من الاختلال ، فخير الناس ، من أخذ بالبر والإيناس ، فبصر من جهله ، وادّكر عن وهله ، وإنما المؤمنون إخوة ، وتحابهم في الله رفعة وحظوة ، ولهم في السلف الكريم ، ومحافظتهم على الودّ القديم ، أسوة كريمة وقدوة.

قال ابن الطراح : انظر إلى تحصيل هذا الإمام الرئيس ، والأسمى النفيس ، واستحضاره كلام الأدباء ، وسير النقّاد والبلغاء (٥) ، ومساجلته مع فرسان المعاني ، ووصفه تلك المغاني (٦) ، وقد كان حامل لواء الأدب ، وفائق أبناء جنسه في مراقب (٧) الطلب ، وهذه الكلمة ـ أعني «ما ذا» ـ جرت بسببها مناظرة بين الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع النحوي المشهور وبين مالك بن المرحّل بسبتة ، حتى ألّف مالك كتاب «الرمي بالحصا ، والضرب بالعصا» وفيه هنات لا ينبغي لعاقل أن يذكرها ، ولا لذي طي في البيان أن ينشرها ، وفي ذلك قال الأستاذ أبو الحسين رحمه الله تعالى : [المديد]

كان ما ذا ليتها عدم

جنّبوها قربها ندم

ليتني يا مال لم أرها

إنها كالنار تضطرم

وقوله «يا مال» ترخيم مالك.

__________________

(١) لحنت : أي أخطأت في تصريف الكلام.

(٢) انظر زهرة الآداب ص ٧٩٦.

(٣) الثمالة ـ بضم المثلثة ـ البقية ، وكذا الصبابة.

(٤) في ج : «سلك به السمع». وفي نسخة عنده «سبك السمع» وسدك به : أولع به.

(٥) في ب : «وسير النقاد والبلغاء».

(٦) المغاني : المنازل ، جمع مغنى.

(٧) في ب ، ه : «في مرقب الطلب».

٨١

وحكى الأستاذ ابن غازي أنهم اختلفوا : هل يقال : كان ما ذا أم لا؟ وقال : إنّ الأستاذ ابن أبي الربيع تطفّل على مالك بن المرحّل في الشعر ، كما أنّ ابن المرحّل تطفّل عليه في النحو ، قال : ومن نظم مالك بن المرحل في هذه القضية : [مجزوء الرمل]

عاب قوم كان ما ذا

ليت شعري كان ما ذا

إن يكن ذلك جهلا

منهم فكّان ما ذا

ومن نظم ابن حبيش المذكور قوله : [الوافر]

إذا ما شئت أن تحيا هنيّا

رفيع القدر ذا نفس كريمه

فلا تشفع إلى رجل كبير

ولا تشهد ولا تحضر وليمه

وله أيضا : [البسيط]

لأعملنّ إلى لقياكم قدمي

ولو تجشّمت بين الطين والماء

لأن يبلّ ثيابي الغيث أهون بي

من أن تحرّق نار الشوق أحشائي

وأبو زكريا المعترض على ابن حبيش هو الفقيه النحوي الأديب أبو زكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني (١) ، وله سنة ٦٤١ ، وبرع في العربية ، وكان يلقّب في المشرق «جبل النحو» وكان عند نفسه مجتهدا ، وكان لا يجيز نكاح الكتابيات ، خلافا للإمام مالك ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، ويتمسّك بقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم ، الآية : ٢١] وكان يرى أنّ الطلاق لا يكون إلّا مرتين : مرة للاستبراء ، ومرة للانفصال ، ولا يقول بالثلاث ، وهو خلاف الإجماع ، وكان يقول في نهيه عليه الصلاة والسلام عن أكل ذي ناب من السباع : أي مأكول كل ذي ناب ، وتبقى هي على الإباحة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) [سورة المائدة ، الآية : ٣] وكان يقول في قوله تعالى (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [سورة طه ، الآية : ٦٣] إن الهاء (٢) اسم إنّ ، وذان لساحران جملة خبر لإنّ ، ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية ، والمعنى عنده وأسرّوا النجوى قالوا إنها أي نجوانا هذان لساحران ، أي قولنا هذان لساحران ، تثبيطا للناس عن اتّباعهما ، وخطّ المصحف يرده ، لكن في المصحف أشياء كتبت على غير المصطلح ، مثل (مال هذا) و (لا أوضعوا) و (لا أذبحه). قال ابن الطراح : ورأيت هذا المعنى لغيره ، وأظنّه ابن النحاس ، وتوفي اليفرني المذكور سنة ٧٠٠ ، ومن شعره : [البسيط]

__________________

(١) انظر ترجمته في بغية الوعاة ص ٤١٢.

(٢) في ب : «الهاء» بدون «إن».

٨٢

ما ذا على الغصن الميّاس لو عطفا

على صبابة صبّ حالف الدّنفا

يا رحمة لفؤادي من معذّبه

كم ذا يحمّله أن يحمل الكلفا

ويا رعى الله دهرا ظلّ يجمعنا

في ظلّ عيش صفا من طيبه وضفا (١)

مودّة بيننا في الحبّ كاملة

ونحن لا نعرف الإعراض والصّلفا (٢)

رجع إلى كلام الأندلسيين.

قال صالح بن شريف الرّندي رحمه الله تعالى في سكين الكتابة : [الخفيف]

أنا صمصامة الكتابة ، مالي

من شبيه في المرهفات الرّقاق (٣)

فكأني في الحسن يوم وصال

وكأني في القطع يوم فراق

وقال في المقصّ : [الوافر]

ومصطحبين ما اتّهما بعشق

وإن وصفا بضمّ واعتناق

لعمر أبيك ما اجتمعا لشيء

سوى معنى القطيعة والفراق

ولبعض الأندلسيين : [الكامل]

هلّا اقتدى ذو خلّة بفعالنا

فيكون واصل خلّه كوصالنا

مهما يجيء أحد ليقطع بيننا

نقطعه ثم نعد لأحسن حالنا

وجرح بعض الكتّاب يده بالمقص ، فأنشده أحد جلسائه ، وغالب ظني أنه أندلسي : [الوافر]

عداوة «لا» لكفّك من قديم

فلا تعجب لمقراض لئيم

لئن أدماك فهو للا شبيه

وقد يعدو اللئيم على الكريم

ولمّا ألّف ابن عصفور كتابه «المقرب» في النحو انتقده جماعة من أهل قطره الأندلسيين وغيرهم ، منهم ابن الصائغ وابن هشام والجزيري ، وله عليه «المنهج المعرب ، في الردّ على المقرب» وفيه تخليط كثير وتعسّف : [الطويل]

__________________

(١) ضفا ـ بالضاد المعجمة ـ أي طال وفي ب : «ويا رعى الله دارا ظل يجمعنا».

(٢) الصّلف : التكبر وادعاء ما فوق القدرة.

(٣) الصمصامة والصمصام : السيف القاطع الذي لا يرتد.

٨٣

وفي تعب من يحسد الشمس نورها

ويأمل أن يأتي لها بضريب (١)

ومنهم ابن الحاج وأبو الحسن حازم القرطاجني الخزرجي ، وسمّاه «شدّ الزيار (٢) ، على جحفلة الحمار» وابن مؤمن القابسي ، وبهاء الدين بن النحاس.

ومن شعر حازم الأندلسي المذكور قوله : [الكامل]

لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها

أبكت أسّى أم قطعت أسلاكها

وعارضه التجاني بقوله : [الكامل]

يا ساحر الألحاظ يا فتّاكها

فتيا جواز الصّدّ من أفتاكها

ومن حكاياتهم في المجون وما يجري مجراه أنّ الوزير أبا بكر بن الملح (٣) كان له ابن شاب (٤) ، فاسترسل مع الأدب إلى أن خرج من القول إلى الفعل ، وأتى بأشياء لا تليق بمثله ، فكتب إليه أبوه : [مخلع البسيط]

يا سخنة العين يا بنيّا

ليتك ما كنت لي بنيّا

أبكيت عيني ، أطلت حزني

أمتّ صيتي وكان حيّا

حططت قدري وكان أعلى

في كلّ حال من الثّريّا

أما كفاك الزّنى ارتكابا

وشرب مشمولة الحميّا

حتى ضربت الدفوف جهرا

وقلت للشرّ : جىء إليّا

فاليوم أبكيك ملء عيني

لو كان يغني البكاء شيّا

فأجابه ابنه بقوله : [مخلع البسيط]

يا لائم الصبّ في التصابي

ما عنك يغني البكاء شيّا (٥)

أوجفت خيل العتاب نحوي

وقبل وثّبتها إليّا (٦)

وقلت عمر الهنا قصير

فاربح من العيش ما تهيّا

قد كنت أرجو المتاب ممّا

فتنت جهلا به وغيّا

لو لا ثلاث شيوخ سوء

أنت وإبليس والحميّا

__________________

(١) الضريب : المثل ، الشبيه.

(٢) في ه : «شذو الزيار» وليس بشيء.

(٣) في ج : «أبا بكر بن المليح».

(٤) في ه : «ابن متأدب».

(٥) التصابي : الميل إلى الجهل والصبا والفتوة.

(٦) أوجف الخيل : جعلها تسرع.

٨٤

وقال أبو جعفر بن صفوان المالقي رحمه الله تعالى : [الرجز]

سألته الإتيان نحوي مقبلا

فقال سل نحوي كي تحصّلا

قرأت باب الجمع من شوقي له

وهو بالاشتغال عنّي قد سلا

للاستغاثة ابتدأت تاليا

وهو لأفعال التعدّي قد تلا

وكلّما طلبت منه في الهوى

عطفا غدا يطلب منّي بدلا

وإن أرم محض إضافة له

أعمل في قطعي عنه الحيلا

في ألف الوصل ظللت باحثا

وهو بباب الفصل قد تكفّلا

فلست موصولا وليس عائدا

وليس حالي عن أسى منتقلا

فيا منى نفسي ومن لفهمه

دانت فهوم الأذكياء النّبلا (١)

وجدي موقوف عليك لا أرى

عنك مدى الدهر له تنقّلا (٢)

فما الذي يمنع من تسكينه

والوقف بالتسكين حكم أعملا

والحبّ مرفوع إليك مفرد

فلم ترى لضمتي مستثقلا

فالضّمّ للرفع غدا علامة

في مفرد مثلي فأوضح مشكلا

لا زلت للهيام عنّي رافعا

للوصل ناصبا ، لقولي معملا

للشوق مسكنا ، لهجري صارفا

بالقرب من حال البعاد مبدلا

تجزم أمرا في الأماني ماضيا

وتبتدي بما تشا مستقبلا

وقال محمد بن إدريس القضاعي الأصطبوني : [الطويل]

علاه رياض أو رقت بمحامد

تنوّر بالجدوى وتثمر بالأمل

تسحّ عليها من نداه غمامة

تروّي ثرى المعروف بالعلّ والنّهل (٣)

وهل هو إلّا الشمس نفسا ورفعة

فيقرب بالجدوى ويبعد بالأمل

تعمّ أياديه البريّة كلّها

فدان وقاص جود كفّيه قد شمل

وقال محمد التطيلي الهذلي ، من أعيان غرناطة (٤) : [الكامل]

__________________

(١) دانت : اقتربت.

(٢) في ج : «عنك مدى الدهر له منتقلا» فتكرر القافية ، وهو عيب في القافية.

(٣) تسح : تصب الماء صبا متتابعا. والعلّ : الشرب ثانية. والنهل : أول الشرب.

(٤) انظر ترجمة التطيلي في المغرب ج ٢ ص ٤٥٠.

٨٥

جارت عليّ لواحظ الآرام

لمّا رمت أجفانها بسهام

حكمت عليّ بحكمها فتبسّمت

فغدا الضنى منها لدى أحكام

يا قاتلي عمدا بسيف لحاظه

اغمد ظباه قبل وقع حمام (١)

كم رمت وصلك والصدود يصدّني

ويفلّ عزمي أمره ومرامي

إني عدمت النفس يوم فراقكم

والبين أسلمها إلى الإعدام

كيف المقام وأصل جسمي ناحل

إنّ النفوس مقيمة الأجسام

صعب العلاج فليس يمكن برؤها

حتى يعود الشهر مثل العام

قد كنت أفرح بالسلوّ فها أنا

قد زمّ قلبي في الهوى بزمام

مالت به نحو الفتون بدائع

من شادن يحكيه بدر تمام (٢)

فقوام أنفسنا بلذّة وصله

وجميع أعيننا عليه سوام

قد أبرزت خدّاه روض محاسن

عظمت على الأفكار والأوهام

تندى بماء شبيبة وتنعّم

فيروق منها الزهر في الأكمام (٣)

فكأنما وجناتها في لونها

ورد الرياض ربا بصوب غمام (٤)

وكأنما درع الدّجى من شعره

قد حاكه منها يد الإظلام

وكأنما ريق حواه ثغره

مسك أذيف بعنبر ومدام (٥)

وكأنما سيف نضت ألحاظه

سيف الأمير ممهّد الإسلام

ذاك الأمير محمد بن محمد

ناهيك من ملك أغرّ همام

ملك علا فوق السّماك علاؤه

وسما فأدرك غاية الإعظام

لو كان يعتقل السّها لأتاه في

شكل الفتاة ملثّما بلثام (٦)

أو كان يرضى بالمجرّة أجردا

لجرت إلى الإسراج والإلجام (٧)

__________________

(١) في ه : «أغمد ظباها» والظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.

(٢) الشادن : ولد الغزال.

(٣) في أ: «فتروق روق الزهر في الأكمام» وقد أثبتنا ما في ب ، ه.

(٤) ربا : نما وزاد.

(٥) في ب : «أديف بعنبر». وأذيف : خلط.

(٦) في ه : «لأتاه في شكل القناة ملثما بلثام».

(٧) الأجرد : هنا الجواد القصير الشعر.

٨٦

فالسعد يفعل للأماني قولها

والنصر يخدمه مع الأيام

واليوم يعشقه ويحسد ليله

فيه كعشق سيوفه للهام

نامت عيون الشّرك خوف سنانه

لولاه ما اكتحلت بطيف منام

بهر الأنام بسيفه وببأسه

فسبى وأنعم أيّما إنعام

فالمعتفي يجني جزيل هباته

والمعتدي يصلى الردى بحسام

مهما استعنت به فضيغم معرك

وإذا استجرت به فطود شمام (١)

أجرى مياه العدل بعد جفوفها

وأزال نار الظلم بعد ضرام

كم من كتيبة جحفل قد هدّها

في معرك بمهنّد صمصام

المقتفي الجرد المذاكي عدّة

للكرّ في الأعداء والإقدام

من كلّ مبيضّ كأنّ أديمه

لون الصباح أتى عقيب ظلام

ومنها :

يا خير من ركب الجياد وقادها

تحت اللواء ، وعمدة الأقوام

لا زلتم والسعد يخدم أمركم

في غبطة موصولة بدوام

حتى يصير الأمن في أرجائنا

عبدا يقوم لنا على الأقدام

والله ينصركم ويعلي مجدكم

ما سجّ إثر الصحو ماء غمام (٢)

وكان يحيى السّر قسطي أديبا ، فرجع إلى الجزارين ، فأمر الحاجب ابن هود أبا الفضل بن حسداي أن يوبّخه على ذلك ، فكتب إليه (٣) : [الوافر]

تركت الشعر من عدم الإصابه

وملت إلى التجارة والقصابه

فأجابه يحيى : [الوافر]

تعيب عليّ مألوف القصابه

ومن لم يدر قدر الشيء عابه

ولو أحكمت منها بعض فنّ

لما استبدلت منها بالحجابه

ولو تدري بها كلفي ووجدي

علمت علام أحتمل الصّبابه

__________________

(١) الضيغم : الأسد. والطود : الجبل العظيم المرتفع.

(٢) السجّ : أي الماء الرقيق بعد الصحو.

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ٤٤٤. والذخيرة ج ٣ ص ٢٨٦.

٨٧

وإنك لو طلعت عليّ يوما

وحولي من بني كلب عصابه (١)

لهالك ما رأيت وقلت هذا

هزبر صيّر الأوضام غابه (٢)

وكم شهدت لنا كلب وهرّ

بأنّ المجد قد حزنا لبابه

فتكنا في بني العنزيّ فتكا

أقرّ الذّعر فيهم والمهابه

ولم نقلع عن الثوريّ حتى

مزجنا بالدم القاني لعابه

ومن يغترّ منهم بامتناع

فإنّ إلى صوارمنا إيابه (٣)

ويبرز واحد منّا لألف

فيغلبهم وذاك من الغرابه

ومنها :

أبا الفضل الوزير أجب ندائي

وفضلك ضامن عنك الإجابه

وإصغاء إلى شكوى شكور

أطلت على صناعته عتابه

وحقّك ما تركت الشعر حتى

رأيت البخل قد أوصى صحابه (٤)

وحتى زرت مشتاقا خليلي

فأبدى لي التحيّل والكآبه (٥)

وظنّ زيارتي لطلاب شيء

فنافرني وغلّظ لي حجابه

وقال الأديب أبو الحسن بن الحداد : [مجزوء الكامل]

قالت وأبدت صفحة

كالشمس من تحت القناع

بعت الدفاتر وهي آ

خر ما يباع من المتاع

فأجبتها ويدي على

كبدي وهمّت بانصداع

لا تعجبي ممّا رأي

ت فنحن في زمن الضّياع

وقال الأديب أبو زكريا بن مطروح من أهل مدينة باغة ، وقد عزل وال فنزل المطر على إثره ، وهو من أحسن شعر قاله ، وكان الوالي غير مرضي : [السريع]

وربّ وال سرّنا عزله

فبعضنا هنّأه البعض

__________________

(١) بني كلب : أراد هنا الكلاب.

(٢) الهزبر : الأسد. والأوضام : جمع وضم وهو الخشبة التي يقطع عليها اللحم. والغابة : مسكن السباع.

(٣) صوارمنا : سيوفنا القاطعة.

(٤) في ه : «وقد أوحى شحابه» وفي المغرب «أذكى شهابه».

(٥) في ه : «التخيل والكآبة».

٨٨

وقد واصلتنا السّحب من بعده

ولذّ في أجفاننا الغمض

لو لم يكن من نجس شخصه

ما طهّرت من بعده الأرض

وقال القاضي أبو البركات بن الحاج البلفيقي (١) ، رحمه الله تعالى : [الكامل]

وعشيّة حكمت على من تاب من

أهل الخلاعة أن يعود لما مضى

جمعت لنا شمل السرور بفتية

جمعوا اللذّات شملا مرتضى

ما عاقني عن أن أسير بسيرهم

إلّا الرياء مع الخطابة والقضا

وقال أبو الحجّاج يوسف الفهري من أهل دانية : [الطويل]

أبى الله إلّا أن أفارق منزلا

يطالعني وجه المنى فيه سافرا

كأنّ على الأيام أن لا أحلّه

رويدا فما أغشاه إلّا مسافرا

وقال بعضهم في الرثاء : [الخفيف]

عبرات تفيض حزنا وثكلا

وشجون تعمّ بعضا وكلّا

ليس إلّا صبابة أضرمتها

حسرة تبعث الأسى ليس إلّا (٢)

ولأبي جعفر البغيل أحد شعراء المريّة وكتاّبها : [الطويل]

عزاء على هذا المصاب الذي دهى

وشتّت شمل الأنس من بعد ما انتهى

بفرع علاء في منابت سؤدد

تسامى رقيّا في المعالي إلى السّها(٣)

أصبت به من بعد ما تمّ مجده

وقد شمخت منه الشماريح وازدهى

فأيّة شمس فيه للمجد كوّرت

وأيّ بناء للمكارم قد وهى

فصبرا عليه لا رزئت بمثله

فمثلك من يعزى إلى الحلم والنّهى (٤)

وقال الكاتب الماهر أبو جعفر أحمد بن أيوب اللمائي المالقي (٥) : [الكامل]

__________________

(١) في أ: «البلغيقي».

(٢) الصّبابة : البقية.

(٣) في ه : «لفرع علاء». والسها : كوكب خفي الضوء صغير.

(٤) لا رزئت : لا أصبت بالرزء والمصيبة.

ويعزى : ينسب.

(٥) انظر الإحاطة ج ١ ص ١١٠. وفي أ«اللماي».

٨٩

طلعت طلائع للربيع فأطلعت

في الروض وردا قبل حين أوانه

حيّا أمير المؤمنين مبشّرا

ومؤمّلا للنيل من إحسانه

ضنّت سحائبه عليه بمائه

فأتاه يستسقيه ماء بنانه

دامت لنا أيامه موصولة

بالعزّ والتمكين في سلطانه

وقال أبو جعفر أحمد بن طلحة من جزيرة شقر (١) : [السريع]

يا هل ترى أظرف من يومنا

قلّد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مطربة كلّ قضيب وريق

والشمس لا تشرب خمر الندى

في الروض إلّا بكؤوس الشقيق (٢)

وقال أبو جعفر الغسّاني من أهل وادي آش ، واستوطن غرناطة ، ثم مات بالمرية ، فكتب على حمالة قراب لموطّإ الإمام مالك ، بعد ما استنجد قرائح أدباء عصره ، واستصرخ اختراعاتهم لنصره ، فكلّهم قصّر عن غرضه ، وأداء مفترضه ، فقال هو : [المجتث]

يا طالبا لكمال

حفظي أتمّ كمالك (٣)

فما تقلّدت مثلي

إذ لم تقلّد كمالك

وقال أبو بكر يحيى بن بقيّ : [الكامل]

خذها على وجه الربيع المخصب

لم يقض حقّ الروض من لم يشرب

هممي سماء علا وهمّي مارد

فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب

وهو رحمه الله تعالى صاحب الأبيات المشهورة : [الكامل]

زحزحته عن أضلع تشتاقه

كيلا ينام على فراش خافق

وانتقد عليه بعض اللطفاء فقال : إنه كان جافي الطبع حيث قال «زحزحته» ولو قال* باعدت عنه أضلعا تشتاقه* لكان أحسن.

وقال السلطان المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستدعي (٤) : [مخلع البسيط]

انهض أبا طالب إلينا

واسقط سقوط الندى علينا

__________________

(١) انظر الإحاطة ج ١ ص ١١٢.

(٢) أراد شقائق النعمان.

(٣) في أ: «ياطالبا لكمالك».

(٤) انظر القلائد ص ٤٦.

٩٠

فنحن عقد بغير وسطى

ما لم تكن حاضرا لدينا

وتذكّرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظنّ والله تعالى أعلم : [مجزوء الرمل]

نحن في مجلس أنس

ما به غير محبّك

فتصدّق بحضور

واجمع الوقت بقربك

وخف الآن عتابي

مثل خوفي عند عتبك

رجع ـ وقال أبو عبد الله بن خلصة الضرير (١) : [الطويل]

ولو جاد بالدنيا وثنّى بمثلها

لظنّ من استصغارها أنه ضنّا (٢)

ولا عيب في إنعامه غير أنه

إذا منّ لم يتبع مواهبه منّا

وله أيضا (٣) [الكامل]

يا مالكا حسدت عليه زمانه

أمم خلت من قبله وقرون

ما لي أرى الآمال بيضا وضّحا

ووجوه آمالي حوالك جون (٤)

أنا آمن فرق وراج آيس

ورو صد ومسرّح مسجون (٥)

لا تعدني أنواء سيبك لا عدا

ك النصر والتأييد والتمكين

وقال ابن اللّبّانة : [الطويل]

كرمت فلا بحر حكاك ولا حيا

وفتّ فلا عجم شأتك ولا عرب (٦)

وأوليتني منك الجميل فواله

عسى السحّ من نعماك يتبعه السكب

وقال أبو علي بن اليماني (٧) : [الخفيف]

أبنات الهديل أسعدن أوعد

ن قليل العزاء بالإسعاد

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٥١.

(٢) ضن : نجل.

(٣) انظر الذخيرة ص ١١١.

(٤) جون : أراد هنا : سودا.

(٥) فرق ـ خائف. وصد : عطشان.

(٦) حكاك : شابهك. والحيا : المطر. وفت : سبقت. وشأتك : سبقتك.

(٧) أبو علي بن اليمان هو إدريس بن اليمان. والبيتان ليسا له كما زعم المقري ، وإنما هما من دالية المعري في الرثاء.

٩١

بيد أني لا أرتضي ما فعلت

نّ فأطوقكنّ في الأجياد (١)

وقال أبو جعفر أحمد بن الدودي من كلمة (٢) : [الكامل]

فغدت غوادي الحيّ عنك عجائبا

وأسلن ألحاظ الرّباب ربابا (٣)

وقال ابن أبي الخصال في مليحة لها أربع جوار قبيحات : [المنسرح]

وليلة طولها على سنة

بات بها الجفن نادبا وسنه

بأربع بينهنّ واحدة

كسيئات وبينها حسنه

وقال غالب بن تمام الملقب بالحجّام : [الوافر]

صغار الناس أكثرهم قبيحا

وليس لهم بصالحة نهوض

ألم تر في سباع الطير نسرا

يسالمنا ، ويؤذينا البعوض

وقال ابن عائشة (٤) : [مخلع البسيط]

وروضة قد علت سماء

تطلع أزهارها نجوما

هفا نسيم الصّبا عليها

فخلتها أرسلت رجوما

كأنما الجوّ غار لمّا

بدت فأغرى بها النسيما

وله يصف فرسا ، وهو من بدائعه : [الكامل]

قصرت له تسع وطالت أربع

وزكت ثلاث منها للمتأمّل

وكأنما سال الظلام بمتنه

وبدا الصباح بوجهه المتهلّل

وكأنّ راكبه على ظهر الصّبا

من سرعة أو فوق ظهر الشمال

وقال : [المنسرح]

تربة مسك ، وجوّ عنبرة

وغيم ندّ ، وطشّ ما ورد (٥)

كأنما جائل الحباب به

يلعب في جانبيه بالنرد

__________________

(١) في ب : «فأطواقكن في الأجياد».

(٢) في ب : «أحمد بن الدودين».

(٣) في ب : «فغدت غواني الحي عنك غوانيا».

(٤) انظر الذخيرة ج ٣ ص ٢٧٩.

(٥) الطشّ : الطشاش : أي داء كالزكام إذا استنثر صاحبه طش كما يطشّ المطر.

٩٢

وتروى هذه الأبيات لغيره.

وقال : [الطويل]

هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا

بأقمار أطواق مطالعها بان

لئن غادروني باللوى إنّ مهجتي

مسايرة أظعانهم حيثما كانوا

وقال أبو محمد بن سفيان ، وهو من أبدع التخلص : [الطويل]

فقلت وجفني قد تداعت شؤونه

وحرّ ضلوعي مقعد ومقيم

لئن دهمت دهم الخطوب وآلمت

فإنّ أبا عيسى أغرّ كريم (١)

وقال ابن الزقاق (٢) : [الكامل]

بأبي وغير أبي أغنّ مهفهف

مهضوم ما تحت الوشاح خميصه (٣)

لبس الفؤاد ومزّقته جفونه

فأتى كيوسف حين قدّ قميصه

وقال : [الطويل]

سلام على أيامكم ما بكى الحيا

وسقيا لذاك العهد ما ابتسم الزّهر

كأن لم نبت في ظلّ أمن تضمّنا

عن الليلة الظّلماء أردية خضر

ولم نغتبق تلك الأحاديث قهوة

وكم مجلس طيب الحديث به خمر (٤)

ألا في ضمان الله في كلّ ساعة

يجدّد لي فيها بشوقي له ذكر

يذكّرنيه البرق جذلان باسما

ويذكرني إسفار غرّته الفجر

وما رقّ زهر الروض إلّا تمثّلت

لناظر عيني منه آدابه الزّهر

وقال يحيى السّرقسطي : [الخفيف]

هاتها عسجديّة كوثريّه

بنت كرم رحيقة عطريّه

كلّما شفّها النحول تقوّت

فاعجبوا من ضعيفة وقويّه

ربّ خمّارة سريت إليها

والدّجا في ثيابه الزّنجيّه

ومنها :

__________________

(١) كذا في أ، ب ، ج ونسخة عند ه. وفي أصل ه : «أعز كريم» والأحسن أثبتناه.

(٢) انظر ديوان ابن الزقاق ص ١٩٦ ، ١٧١.

(٣) أراد أنه رقيق الخصر ، ضامر.

(٤) نغتبق : نشرب في المساء.

٩٣

كم عقار بدّلته بعقار

وثياب صبغتها خمريّه

إنّ خير البيوع ما كان نقدا

ليس ما كان آجلا بنسيّه (١)

وله (٢) : [السريع]

نسبتم الظلم لعمالكم

ونمتم عن قبح أعمالكم

والله لو حكمتم ساعة

ما خطر العدل على بالكم

وقال الرصافي في الدولاب (٣) : [مخلع البسيط]

وفي حنين يكاد شجوا

يختلس الأنفس اختلاسا

إذا غدا للرياض جارا

قال لها المحل : لا مساسا

يبتسم الروض حين يبكي

بأدمع ما رأين باسا

من كلّ جفن يسلّ سيفا

صار له عقده رياسا

وخرج أبو بكر الصابوني لنزهة بوادي إشبيلية ، وكان يهوى فتى اسمه علي ، فقال : [مجزوء الوافر]

أبا حسن أبا حسن

بعادك قد نفى وسني (٤)

وما أنسى تذكّره

فهل أنسى فيذكرني

ويشبه هذا قول أبي الطاهر بن أبي ركب : [مجزوء الوافر]

يقول الناس في مثل

تذكّر غائبا تره

فمالي لا أرى سكني

وما أنسى تذكّره

وكتب بعض الأدباء إلى ابن حزم الأندلسي بقوله : [المتقارب]

سألت الوزير الفقيه الأجلّ

سؤال مدلّ على من سأل

فقلت أيا خير مسترشد

ويا خير من عن إمام نقل

أيحرم أن نالني قبلة

غزال ترشف فيه الغزل

وعانقني والدّجا خاضب

فبتنا ضجيعين حتى نصل

__________________

(١) بنسيه : أصلها بنسيئة ـ والنسيئة : التأخير.

(٢) انظر زاد المسافر ص ٩٩.

(٣) انظر ديوان الرصافي ص ١٠٢.

(٤) الوسن : النعاس.

٩٤

وجئتك أسأل مسترشدا

فبيّن فديت لمن قد سأل

فأجابه ابن حزم بقوله : [المتقارب]

إذا كان ما قلته صادقا

وكنت تحرّيت جهد المقل

وكان ضجيعك طاوي الحشا

أعار المهاة احمرار المقل

قريب الرضا وله غنّة

تميت الهموم وتحيي الجذل

ففي أخذ أشهب عن مالك

عن ابن شهاب عن الغير قل

بترك الخلاف على جمعهم

على أنّ ذلك حلّ وبل

ونظر الرصافي يوما إلى صبي يبكي ، ويأخذ من ريقه ويبلّ عينيه ، كي يحكي (١) أثر البكاء ، فارتجل الرصافي (٢) : [الطويل]

عذيري من جذلان يبدي كآبة

وأضلعه ممّا يحاوله صفر (٣)

أميلد ميّاس إذا قاده الصّبا

إلى ملح الإدلال أيّده السّحر (٤)

يبلّ مآقي مقلتيه بريقه

ليحكي البكا عمدا كما ابتسم الزّهر (٥)

أيوهم أنّ الدمع بلّ جفونه

وهل عصرت يوما من النرجس الخمر

وكان المذكور ـ أعني الرصافي ـ يميل في شبيبته لبعض فتيان الطلبة ، وأجمع (٦) الطلبة على أن يصنعوا نزهة بالوادي الكبير بمالقة ، فركبوا زورقا للمسير إلى الوادي ، فوافق أن اجتمع في الزورق شمل الرصافي بمحبوبه ، ثم إنّ الريح الغربية عصفت وهاج البحر ، ونزل المطر ، فنزلوا من الزورق ، وافترق شمل الرصافي من محبوبه ، فارتجل في ذلك ، ويقال : إنها من أول شعره : [مخلع البسيط]

غار بي الغرب إذ رآني

مجتمع الشّمل بالحبيب

فأرسل الماء عن فراق

وأرسل الريح عن رقيب

فلمّا سمع ذلك أستاذه استنبله ، وقال له : إنك ستكون شاعر زمانك.

__________________

(١) في ب ، ه : «كي يخفي أثر البكاء».

(٢) انظر ديوان الرصافي ص ٦٧.

(٣) صفر : أراد خالية.

(٤) أميلد : مصغر أملد ، وهو الناعم اللين من الناس والغصون.

(٥) في ه : «يبل مآقي زهرتيه بريقه».

(٦) في ه : «واجتمع الطلبة».

٩٥

وحكي أنّ أبا بكر بن مجبر (١) قال في ابن لأبي الحسن بن القطان بمحضر والده : [مجزوءالرجز]

جاء وفي يساره

قوس وفي اليمنى قدح

كأنه شمس بدت

وحولها قوس قزح

يا لائمي في حبّه

ما كلّ من لام نصح

فقال ابن عياش الكاتب : هذه أبيات لأندلسي استوطن المشرق في تركي ، فأقسم أبو بكر أنه لم يسمع شيئا من ذلك ، وإنما ارتجلها ، وقيل : إنها لأبي الفتح محمد بن عبيد الله من أهل بغداد ، وأوّلها :

جدّ بقلبي ومزح

فالله أعلم بحقيقة الأمر.

وخرج أبو بكر بن طاهر وأبو ذر الخشني والقاضي أبو حفص بن عمر (٢) ، وهو إذ ذاك وسيم ، فأثّرت الشمس في وجهه ، فقال أبو ذر : [المديد]

وسمتك الشمس يا قمر

سمة في القلب تنتثر (٣)

فقال الآخر : [المديد]

علمت قدر الذي صنعت

فأتت صفراء تعتذر

وقال أبو الحسين (٤) البلنسي الصوفي : كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فعلق فتى ، وكان خرج لنزهة فأثّرت الشمس في وجهه ، فأعجبه ذلك ، وأنشد : [البسيط]

رأيت أحمد لمّا جاء من سفر

والشمس قد أثّرت في وجهه أثرا

فانظر لما أثّرته الشمس في قمر

والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا

واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبد الملك بن سراج القرطبي ، وكانا فريدي عصرهما حفظا وتقدّما ، فتعارفا ، وتسالما (٥) ، ثم بادر أبو الوليد بالسؤال ، وقال : كيف يكون قول القائل: [الطويل]

__________________

(١) في أ: «أبا بكر بن مجير».

(٢) في ه : «أبو حفص بن عمرو».

(٣) في ب ، ه : «وسمتك الشمس يا عمر».

(٤) في ه : «أبو الحسن البلنسي».

(٥) في ب ، ه : «وتساءلا».

٩٦

ولو أنّ ما بي بالحصا فعل الحصا

وبالريح لم يسمع لهنّ هبوب (١)

ما ينبغي أن يكون مكان «فعل الحصا» فقال أبو مروان «فلق الحصا» فقال : وهمت ، إنما يكون «قلق الحصا» ليكون مطابقا لقوله «لم يسمع لهنّ هبوب» يريد أنّ ما به يحرّك في شأنه السكون ويسكن ما شأنه الحركة ، فقال أبو مروان : ما يريد الشاعر بقوله : [الطويل]

وراكعة في ظلّ غصن منوطة

بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر

وكان اجتماعهما في مسجد ، فأقيمت الصلاة إثر فراغ ابن سراج من إنشاد البيت ، فلمّا انقضت الصلاة قال له الوقشي : ألغز الشاعر باسم أحمد ، فالراكعة الحاء ، والغصن كناية عن الألف ، واللؤلؤة الميم ، ومنقار الطائر الدال ، فقال له ابن سراج : ينبغي أن تعيد الصلاة لشغل خاطرك بهذا اللغز ، فقال له الوقشي : بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فككته.

والبيت الأول لعبد الله بن الدمينة ، وبعده : [الطويل]

ولو أنني أستغفر الله كلّما

ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب

وقال الوزير أبو الحسن بن أضحى : [الطويل]

ومستشفع عندي بخير الورى عندي

وأولاهم بالشكر منّي وبالحمد

وصلت فلمّا لم أقم بجزائه

لففت له رأسي حياء من المجد

وكان سبب قوله هذين البيتين أنه كتب إليه أحد (٢) الوزراء شافعا لأحد الأعيان ، فلمّا وصل إليه برّه وأنزله وأعطاه عطاء استعظمه واستجزله ، وخلع عليه خلعا ، وأطلعه من الأحمال بدرا لم يكن مطلعا (٣) ، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصّرا ، فكتب إليه معتذرا بالبيتين ، هكذا حكاه الفتح (٤) ، وقال بعد ذلك ما صورته : ومن باهر جلاله ، وطاهر خلاله ، أنه أعفّ الناس بواطن ، وأشرفهم في التقى مواطن ، ما علمت له صبوة ، ولا حلّت له إلى مستنكر حبوة (٥) ، مع عدل لا شيء يعدله ، وتحجّب عمّا يتّقي ممّا يرسل عليه حجابه ويسدله ، وكان لصاحب البلد الذي كان يتولّى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة ، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة ، مع ما شئت من لسن ، وصوت حسن ، وعفاف ، واختلاط بالبهاء والتفاف ، قال

__________________

(١) كذا في ، أ، ب ، ج. وفي ه : «فلق».

(٢) في ب ، ه : «بعض الوزراء».

(٣) في أصل ه : «لم يكن له متطلعا».

(٤) أراد الفتح بن خاقان صاحب القلائد والمطمح انظر القلائد ص ٢١٧.

(٥) الحبوة : ما يحتبى به ويشتمل من ثوب أو نحوه. والجملتان كناية عن العفة.

٩٧

الفتح : وحملنا لإحدى (١) ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر ، أحسن من شادن مهر (٢) ، تشقّها جداول كالصّلال (٣) ؛ ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ، ومعنا جملة من أعيانها ، فأحضرنا من أنواع الطعام ، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام ، ما لا يطاق ولا يحدّ ، ويقصر عن بعضه العدّ ، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته ، فقابلته بكلام أعتقده ، وملام أحقده ، فلمّا كان من الغد لقيت منه اجتنابه ، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة ، فكتبت إليه مداعبا له ، فراجعني بهذه القطعة : [الطويل]

أتتني أبا نصر نتيجة خاطر

سريع كرجع الطّرف في الخطرات

فأعربت عن وجد كمين طويته

بأهيف طاو فاتر اللّحظات (٤)

غزال أحمّ المقلتين عرفته

بخيف منّى للحين أو عرفات (٥)

رماك فأصمى والقلوب رميّة

لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات (٦)

وظنّ بأنّ القلب منك محصّب

فلبّاك من عينيه بالجمرات

تقرّب بالنسّاك في كلّ منسك

وضحّى غداة النّحر بالمهجات

وكانت له جيّان مثوى فأصبحت

ضلوعك مثواه بكلّ فلاة

يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي

كئيبا على الأشجان والزّفرات

فلو قبلت للناس في الحبّ فدية

فديناك بالأموال والبشرات

ومن إيثار ديانته ، وعلامة حفظه للشرع وصيانته ، وقصده مقصد المتورّعين ، وجريه جري المتشرعين ، أنّ أحد أعيان بلده كان متّصلا به اتّصال الناظر بسواده ، محتلّا في عينه وفؤاده (٧) ، لا يسلمه إلى مكروه ، ولا يفرده في حادث يعروه ، وكان من الأدب في منزلة تقتضي إسعافه ، ولا تورده من تشفيعه في مورد قد عافه ، فكتب إليه ضارعا في رجل من خواصّه اختلط بمرأة طلّقها ، ثم تعلّقها ، وخاطبه في ذلك بشعر ، فلم يسعفه ، وكتب إليه مراجعا : [المتقارب]

__________________

(١) في ه : «إلى إحدى ضياعه».

(٢) في ب : «شاذ مهر».

(٣) الصلال : الأفعى.

(٤) في ه : «فأغربت عن وجد». والأهيف : من ضمر بطنه ورق خصره. وكذلك الطاوي.

(٥) أحم المقلتين : أسودهما. وفي ب : «للحسن أو عرفات».

(٦) أصمى : أصاب المقتل فقتل.

(٧) في ج : «محتفلا في عينيه وفؤاده».

٩٨

ألا أيها السيد المجتبى

ويا أيها الألمعيّ العلم (١)

أتتني أبياتك المحكمات

بما قد حوت من بديع الحكم

ولم أر من قبلها مثلها

وقد نفثت سحرها في الكلم

ولكنه الدين لا يشترى

بنثر ولا بنظام نظم

وكيف أبيح حمّى مانعا

وكيف أحلّل ما قد حرم

ألست أخاف عقاب الإله

ونارا مؤجّجة تضطرم

أأصرفها طالقا بتّة

على أنوك قد طغى واجترم (٢)

ولو أنّ ذاك الغويّ الزريّ

تثبّت في أمره ما ندم

ولكنه طاش مستعجلا

فكان أحقّ الورى بالندم

انتهى كلام الفتح الذي أردت جلبه هنا.

ولا خفاء أنّ هذه الحكاية ممّا يدخل في حكايات عدل قضاة الأندلس.

ومن نظم ابن أضحى المذكور ما كتب به إلى بعض من يعز عليه (٣) : [البسيط]

يا ساكن القلب رفقا كم تقطّعه

الله في منزل قد ظلّ مثواكا

يشيّد الناس للتحصين منزلهم

وأنت تهدمه بالعنف عيناكا

والله والله ما حبّي لفاحشة

أعاذني الله من هذا وعافاكا

وله في مثل ذلك : [البسيط]

روحي إليك فردّيه إلى جسدي

من لي على فقده بالصبر والجلد (٤)

بالله زوري كئيبا لا عزاء له

وشرّ فيه ومثواه غداة غد

لو تعلمين بما ألقاه يا أملي

بايعتني الودّ تصفيه يدا بيد

عليك مني سلام الله ما بقيت

آثار عينيك في قلبي وفي كبدي

وإذ وصلت إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس ، فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهنّ اليد الطولى في البلاغة ، كي يعلم أنّ البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم ، حتى في نسائهم وصبيانهم.

__________________

(١) في أ: «أيا أيها السيد المجتبى».

(٢) الأنوك : الأحمق.

(٣) انظر القلائد ٢١٨.

(٤) في أصل ه : «روحي لديك فرديه».

٩٩

فمن النساء المشهورات بالأندلس : أم السعد بنت عصام الحميري (١).

من أهل قرطبة ، وتعرف بسعدونة ، ولها رواية عن أبيها وجدّها وغيرهما ، كما حكاه ابن الأبار في ترجمتها من «التكملة».

وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبيّ صلى الله عليه وسلم تكملة لقول غيرها ما صورته : [السريع]

سألثم التمثال إذ لم أجد

للثم نعل المصطفى من سبيل

لعلّني أحظى بتقبيله

في جنّة الفردوس أسنى مقيل

في ظلّ طوبى ساكنا آمنا

أسقى بأكواس من السلسبيل (٢)

وأمسح القلب به علّه

يسكن ما جاش به من غليل

فطالما استشفى بأطلال من

يهواه أهل الحبّ في كلّ جيل

وأنشدني ابن جابر الوادي آشي عن شيخه المحدّث أبي محمد بن هارون القرطبي لجدّته سعدونة ، وأظنّها هذه : [مجزوء الكامل]

آخ الرجال من الأبا

عد والأقارب لا تقارب

إنّ الأقارب كالعقا

رب أو أشدّ من العقارب

هكذا نقله الخطيب ابن مرزوق ، ورأيت نسبة البيتين لابن العميد (٣) ، فالله أعلم.

ومنهن حسانة التميمية (٤) بنت أبي المخشّى الشاعر (٥).

تأدّبت وتعلّمت الشعر ، فلمّا مات أبوها كتبت إلى الحكم ، وهي إذ ذاك بكر لم تتزوّج : [لبسيط]

إني إليك أبا العاصي موجّعة

أبا المخشّى سقته الواكف الدّيم (٦)

قد كنت أرتع في نعماه عاكفة

فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم

__________________

(١) انظر ترجمتها في التكملة (٢١٢٨).

(٢) طوبى : اسم الجنة ، وقيل : شجرة فيها. انظر النهاية لابن الأثير.

(٣) هما في يتيمة الدهر للثعالبي منسوبان لابن العميد. انظر اليتيمة ج ٣ ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٤) انظر ترجمتها في الذيل والتكملة آخر قسم الغرباء.

(٥) في أ: «أبي الحسين».

(٦) في أ: «أبا الحسين».

١٠٠