نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية : [الكامل]

إنّ البشائر كلّها جمعت

للدين والدنيا وللأمم

في نعمتين جسيمتين هما

برء الإمام وبيعة الحرم (١)

قال ابن الأبار : وأخبرني بعض أصحابنا ـ يعني أبا عمرو بن عبد الغني ـ أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني ، فقلت له على البديهة : [البسيط]

فخر لشعري على الأشعار يحفظه

خليفة الله كان الله حافظه

وأشار بقوله «وبيعة الحرم» إلى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين أنّ أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة ، وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف ، وقد ذكر ابن خلدون نصّ البيعة في ترجمة المستنصر ، فليراجعها من أرادها.

وقال ابن الأبار : [الوافر]

ألا اسمع في الأمير مقال صدق

وخذه عن امرئ خدم الأميرا

متى يكتب ترد وشلا أجاجا

وإن يركب ترد عذبا نميرا (٢)

وقال مجيبا للتجاني : [الخفيف]

أيها الصاحب الصفيّ ، مباح

لك عنّي فيما نصصت الروايه

إن عناني إسعاف قصدك فيها

فلكم لم تزل بها ذا عنايه

ولها شرطها فحافظ عليه

ثم كافىء وصيّتي بالكفايه

وتحام الإخلال جهدك ، لاقي

ت من الله عصمة وحمايه

ونصّ استدعاء التجاني : [الخفيف]

إن رأى سيدي الذي حاز في العل

م مع الحلم والعلا كل غايه

وحوى المجد عن جدود كرام

كلّهم في السماح والفضل آيه

أن أرى عنه بالإجازة أروي

كلّ ما فيه لي تصحّ الروايه

من حديث وكلّ نظم ونثر

وفنون له بهنّ درايه (٣)

__________________

(١) في أ: «بر الإمام وبيعة الحرم».

(٢) الوشل : الماء القليل يسيل من صخرة أو جبل. والأجاج : المر الملح من الماء.

(٣) في ه : «من حديث ومن نظام ونثر».

٦١

فله في ذاك الثواب من اللّ

ه ومنا الثناء دون نهايه

دام في رفعة وعزّ وسعد

وأمان ومكنة وحمايه

ما تولى جيش الظلام هزيما

وعلت للصباح في الأفق رايه

ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في «أزهار الرياض ، في أخبار عياض ، وما يناسبها ممّا يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض» فلتراجع فيه.

وأمّا التجاني أبو عبد الله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمّه في كتابه «الحلى التيجانية ، والحلل التجانية» ؛ قال ابن رشيد : وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره ، وقال في موضع آخر : إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم ، رحمهما الله تعالى! انتهى.

وقال ابن مفوّز أبو الحسين : [مجزوء الرجز]

إذا عرتك عيلة

يعجز عنها ما تجد

فلتقتصد فإنه

ما عال قطّ مقتصد (١)

وقال [أيضا] : [مجزوء الخفيف]

حاز دنياه كلّها

محرزا أكبر المنن

من حوى قوت يومه

آمنا سالم البدن

وقال [مجزوء الرجز]

أعن أخاك في الذي

يأمله ويرتجيه

فالله في عون الفتى

ما كان في عون أخيه

وقال : [مجزوء الرجز]

أنفس ما أودعته

قلبك ذكرى موقظه

وخير ما أتلفته

مال أفاد موعظه

وقال أبو البركات القميحي : أنشدنا أبو العباس بن مكنون ، وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها ، مرتجلا : [الرجز]

__________________

(١) عال : افتقر.

٦٢

حارت عقول الناس في إبداعها

ألسكرها أم شكرها تتأوّد (١)

فيقول أرباب البطالة : تنثني

ويقول أرباب الحقيقة : تسجد

قال الشيخ أبو البركات القميحي : قلت لابن مكنون : ما الذي يدلّ على أنهما في وصف الثمار؟ فقال : وطّئ أنت لهما ، فقلت : [الكامل]

يا من أتى متنزّها في روضة

أزهارها من حسنها تتوقّد

أنظر إلى الأشجار في دوحاتها

والريح تنسف والطيور تغرّد

فترى الغصون تمايلت أطرافها

وترى الطيور على الغصون تعربد (٢)

قال ابن رشيد : غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون ، وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها : [الكامل]

نعم الإله بشكره تتقيّد

فالله يشكر في النوال ويحمد

مدّت إليه أكفّنا محتاجة

فأنالها من جوده ما تعهد

والبيتان في أثنائها ، غير أنّ أولهما في ديوانه هكذا : [الكامل]

تاهت عقول الناس في حركاتها

انتهى.

ورأيت في «روضة التعريف» للسان الدين بعدهما بيتا ثالثا ، وهو : [الكامل]

وإذا أردت الجمع بينهما فقل

في شكر خالقها تقوم وتقعد

 وحكي أنّ حافظ الأندلس إمام الأدباء ، ورئيس المؤلّفين ، حسنة الزمان ، نادرة الإحسان ، أبا محمد عبد الله بن إبراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب «المسهب» كان سبب اتّصاله بعبد الملك بن سعيد جدّ علي بن موسى صاحب «المغرب» أنه وفد عليه في قلعته ، فلمّا وقف ببابه (٣) وهو بزيّ بداوة ازدراه البوّابون ، فقال لهم : استأذنوا لي على القائد ، فضحكوا به ، وقالوا له : ما كان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلّا أنت؟ فمدّ يده إلى دواة في حزامه وسحاءة (٤) ، وكتب بها : بباب القائد الأعلى ـ لا زال آهلا بأهل الفضيلة ـ! رجل وفد عليه من شلب بقصيدة مطلعها : [الوافر]

__________________

(١) تتأود : تعوج وتتلوى ، وتنثني.

(٢) تعربد : المعنى مأخوذ من عربدة السكران أي إيذائه للناس. والاستعارة هنا تفيد الحركة وليس المعنى المباشر.

(٣) في ب ، ه : «وقف على بابه».

(٤) السحاءة : القشرة ، أو الجلدة. وأراد هنا الورقة التي يكتب عليها.

٦٣

عليك أحالني الذّكر الجميل

فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر ، ولا عتب على القدر ، ورغب إلى أحد غلمانه ، فأوصل الورقة ، فلمّا وقف عليها القائد قال : من شلب ، وهذا مطلع قصيدته ، ما لهذا إلّا شأن ، ولعلّه الوزير ابن عمّار ، وقد نشر إلى الدنيا ، عجّلوا بالإذن له ، فدخل (١) وبقي واقفا لم يسلّم ولا كلّم أحدا ، فاستثقله الحاضرون ، واستبردوا مقصده ، ونسبوه للجهل وسوء الأدب ، فقال له أحدهم : ما لك لا تسلّم على القائد ، وتدخل مداخل الأدباء والشعراء؟ فقال : حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال ، وأعلم أيضا من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزّه الله تعالى فأكون أتّقيه إن قدّر لي خدمته ، فقال له عبد الملك : أتأخذنا بما فعل السفهاء منّا؟ قال : لا ، والله ، بل أغفر لك ذنوب الدهر أجمع ، وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى ، ويتمكّن التأنيس ، وينحلّ قيد الهيبة ، ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده : [الوافر]

عليك أحالني الذّكر الجميل

فصحّ العزم واقتصر الرحيل (٢)

وودّعت الحبيب بغير صبر

ولم أسمع لما قال العذول

وأسلبت الظلام عليّ سترا

ونجم الأفق ناظره كليل

ولم أشك الهجير وقد دعاني

إلى أرجائك الظلّ الظليل (٣)

وهي طويلة ، فأكرمه وقرّبه ، رحم الله تعالى الجميع!.

وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة ، فقال في وصفها أبو القاسم بن مرزقان الإشبيلي وهو ممّن قتل في فتنة المعتمد (٤) : [السريع]

مدينة في شمعة صوّرت

قامت حماة فوق أسوارها

وما رأينا قبلها روضة

تتّقد النار بنوّارها

تصيّر الليل نهارا إذا

ما أقبلت ترفل في نارها (٥)

كأنها بعض الأيادي التي

تحت الدّجى تسري بأنوارها

من ملك معتمد ماجد

بلاده أوطان زوّارها

__________________

(١) في ب ، ه : «فأذنوا له ودخل وبقي واقفا».

(٢) في ب ، ه : «واقتضي الرحيل».

(٣) الهجير : شدة الحر عند منتصف النهار.

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٢٦١.

(٥) رفل رفلا ورفولا : جر ذيلة وتبختر في سيره.

٦٤

وقال أبو الأصبغ بن رشيد الإشبيلي : لمّا هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة : [المتقارب]

لقد آن للناس أن يقلعوا

ويمشوا على السّنن الأقوم (١)

متى عهد الغيث يا غافلا

كلون العقيق أو العندم (٢)

أظنّ الغمائم في جوّها

بكت رحمة للورى بالدم

وفيها أيضا : [الخفيف]

لا تكن دائم الكآبة ممّا

قد غدا في الثرى نميرا نجيعا

لطم البرق صفحة المزن حتى

سال منه على الرياض نجيعا

وله في دولاب : [البسيط]

ومنجنون إذا دارت سمعت لها

صوتا أجشّ وظلّ الماء ينهمل (٣)

كأنّ أقداسها ركب إذا سمعوا

منها حداء بكوا للبين وارتحلوا

وله فيمن اسمه مالك : [الوافر]

غزاليّ الجفون شقيق بدر

تبسّم عن عقيق فوق درّ

له نفحات مسك أيّ مسك

له نفثات سحر أيّ سحر

شكوت له الهوى والهجر منه

فقال : عليك باسمي سوف تدري

تعلّمت القساوة من سميّي

وأحرقت القلوب بنار هجري

وقال أبو بكر بن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤها يتغزّلون فيه(٤): [الكامل]

من مبلغ موسى المليح رسالة

بعثت له من كافري عشّاقه

ما كان خلق راغبا عن دينه

لو لم تكن توراته من ساقه

وقال : [السريع]

__________________

(١) السنن ـ بفتح السين والنون ـ نهج الطريق.

(٢) العقيق : حجر كريم أحمر.

(٣) المنجنون : دولاب الماء الذي تسقى به الأرضون (الناعورة ، الساقية).

وينهمل : يتساقط.

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٢٦١.

٦٥

إنّ الزويليّ فتى شاعر

قد أعجب العالم من نظمه

وأنت يا موسى قد اخترته

واختار موسى قبل من قومه

وقال : [البسيط]

على معاذ قرون لو يعاينها

فرعون ما قال أوقد لي على الطين

قالت له عرسه إذ جاء ينكحها

ما ذا دهيت به من كل عنّين (١)

هلّا استعنت بميمون ، فقال لها

إني استعنت على نفسي بميمون

وقال أبو وهب (٢) عبد الرؤوف النحوي ، وكان له حظّ في قرض الشعر ، وكان سناطا(٣):[السريع]

ليس لمن ليست له لحية

بأس إذا حصّلته ، ليسا

وصاحب اللحية مستقبح

يشبه في طلعته التيسا

إن هبّت الريح تلاهت به

وماست الريح به ميسا

وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى القلفاط : [مجزوء الرمل]

يا غزالا عنّ لي فاب

تزّ قلبي ثم ولّى

أنت منّي بفؤادي

يا منى نفسي أولى

وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جدّه : [السريع]

يا عابد الرحمن فقت الورى

بهذه العليا وهذا الكرم

ما جعل الله الندى في امرئ

إلّا وقد جنّبه كلّ ذم (٤)

واستدعى الوزير عبيد الله بن إدريس أبا بكر أحمد بن عثمان المرواني ، ونادمه ليلة ، فلمّا قرب الصباح قال له : أين ما يحدّث عنك من حسن الشّعر؟ فهذا موضعه ، فقال : الدواة والقرطاس ، فأمر له بإحضارهما ، فجعل يفكر ويكتب إلى أن أنشده هذه الأبيات : [البسيط]

بتنا ندامى صفاء يستحثّ لنا

في جامد الفضّة التبر الذي سبكا

__________________

(١) عرسه ، بكسر العين : عروسه ، زوجته. والعنين : الذي لا يستطيع أن يأتي النساء.

(٢) في ب ، ه : «أبو وهب بن عبد الرؤوف».

(٣) السناط : الذي ليس في عارضيه شعر.

(٤) الندى : الكرم والجود.

٦٦

كلّ مصيخ إلى ما قال صاحبه

ولا يبالي أصدقا قال أم إفكا (١)

موقّرون خفاف عند شربهم

ولا يخافون فيما أحدثوا دركا

لا تعد منّ إذا أبصرتهم فرحا

أما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا

وقال أبو محمد عبد الله المرواني في الخيري (٢) : [الطويل]

عجبت من الخيريّ يكتم عرفه

نهارا ويسري بالظلام فيعرب (٣)

فتجني عروس الطيب منه يد الدجى

ويبدو له وجه الصباح فيحجب

وقال إبراهيم بن إدريس العلوي : [الكامل]

للبين في تعذيب نفسي مذهب

ولنائبات الدهر عندي مطلب

أمّا ديون الحادثات فإنها

تأتي لوقت صادق لا يكذب

وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوما من مجلسه ، فنظر إلى سائل عاري الجسم ، وهو يرعد (٤) ويصيح : الجوع والبرد ، فأخذ بيده ، ونقله إلى موضع بلغته الشمس ، وقال له : صح الجوع ، فقد كفاك الله مؤونة البرد.

ومرّ المعتمد بن عباد ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التندير (٥) والتهكّم ، يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى ، فقال لابن عمار : تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه ، فضربا عليه الباب ، فقال : من هذا؟ فقال ابن عباد : إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة ، فقال : والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحته له ، فقال : فإني ابن عباد ، فقال : مصفوع ألف صفعة ، فضحك ابن عباد حتى سقط إلى الأرض ، وقال لوزيره : امض بنا قبل أن يتعدّى الصفع من القول إلى الفعل ، فهذا شيخ ركيك ، ولمّا كان من غد تلك الليلة وجّه له ألف درهم ، وقال لموصلها : قل له هذه (٦) حقّ الألف صفعة التي كانت البارحة.

وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب ، وكان له في السرقة كلّ

__________________

(١) الإفك : الكذب والافتراء.

(٢) الخيري : نوع من الورد.

(٣) العرف ، بفتح فسكون : الرائحة الطيبة. ويعرب : يفضح ويظهر.

(٤) يرعد : يرتجف.

(٥) التندير : الفكاهة والنكتة والنادرة. وفي ب : «كثير التهكم والتندير».

(٦) في ه : «هذا حق الألف صفعة».

٦٧

غريبة ، وكان مسلطا على أهل البادية ، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب ؛ لأنّ ابن عباد أمر بصلبه على ممرّ أهل البادية لينظروا إليه ، فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته ؛ وجعلن يبكين حوله ويقلن : لمن تتركنا نضيع بعدك؟ وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب ، فصاح عليه : يا سيدي ، انظر في أي حالة أنا ، ولي عندك حاجة فيها فائدة لي ولك ؛ قال : وما هي؟ قال : انظر إلى تلك البئر ، لمّا أرهقني الشّرط رميت فيها مائة دينار ، فعسى تحتال في إخراجها ، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك خلال ما تخرجها ، فعمد البدوي إلى حبل ودلّى نفسه في البئر بعد ما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها ، فلمّا حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل ، وبقي حائرا يصيح ، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها ، وفرّت به ، وكان ذلك في شدّة حرّ ، وما سبّب الله شخصا يغيثه إلّا وقد غبن عن العين وخلصن ، فتحيّل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه ، وسألوه عن حاله ، فقال : هذا الفاعل الصانع احتال عليّ حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي ، ورفعت هذه القصة (١) إلى ابن عباد ، فتعجّب منها ، وأمر بإحضار البازي الأشهب ، وقال له : كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة؟ فقال له : يا سيدي ، لو علمت قدر لذّتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها ، فلعنه وضحك منه ، ثم قال له : إن سرّحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقا يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة؟ فقال : يا مولاي ، كيف لا أقبل التوبة وهي [التي](٢) تخلصني من القتل؟ فعاهده وقدّمه على رجال أنجاد ، وصار من جملة حراس أحواز المدينة.

ويحكى أنّ منصور بني عبد المؤمن لمّا أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصّنّاع من مظانّهم ، فعرّف بشيخ مغفّل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع ، فأحضر ، فقال له المنصور : كم تقدّر أن ينفق على هذه الصومعة؟ فضحك وقال:يا سيدي ، البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدّر حتى يقوم ، فكاد المنصور يفتضح من الضحك ، وصرف وجهه عنه ، وبقيت حكايته يضحك عليها زمانا.

وكان أحمد المقريني المعروف بالكساد شاعرا وشّاحا زجّالا إشبيليّا ، وقال في موسى الذي تغزّل فيه ابن سهل : [الخفيف]

ما لموسى قد خرّ لله لمّا

فاض نور أغشاه ضوء سناه (٣)

وأنا قد صعقت من نور موسى

لا أطيق الوقوف حين أراه

__________________

(١) في ه : «ورفعت هذه القضية».

(٢) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٣) في ب : «غشاه ضوء سناه».

٦٨

وقال في رثائه : [السريع]

فرّ إلى الجنّة حوريّها

وارتفع الحسن من الأرض

وأصبح العشّاق في مأتم

بعضهم يبكي على بعض

وقال فيه : [الرمل]

هتف الناعي بشجو الأبد

إذ نعى موسى بن عبد الصمد

ما عليهم ويحهم لو دفنوا

في فؤادي قطعة من كبدي (١)

ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ما هو مثبت في ديوانه.

وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة : المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب ، فيلسوفا طبيبا ماهرا ، آية الله في المعرفة بالأندلس ، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلّمها ، ولمّا تغلّب طاغية الروم على مرسية عرف له حقّه ، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود ، وقال له يوما وقد أدنى منزلته : لو تنصّرت (٢) وحصّلت الكمال كان لك عندي كذا ، وكنت كذا ، فأجابه بما أقنعه ؛ ولمّا خرج من عنده قال لأصحابه : أنا عمري كلّه أعبد إلها واحدا ، وقد عجزت عمّا يجب له ، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني؟ انتهى.

وقال أبو عبد الله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه مورّيا بأسمائهم : [الخفيف]

قد جمعنا ببابكم سطر علم

لبلوغ المنى ونيل الإراده

ومن اسمائنا لكم حسن فال

سالم ثم غالب وسعاده

وقال أبو عبد الله بن عمر الإشبيلي الخطيب : [المتقارب]

وكلّ إلى طبعه عائد

وإن صدّه المنع عن قصده

كذا الماء من بعد إسخانه

يعود سريعا إلى برده

وقال الكاتب أبو زيد عبد الرحمن العثماني لمّا تغيّر حاله بإشبيلية : [الخفيف]

لا تسلني عن حالتي فهي هذي

مثل حالي لا كنت يا من يراني

__________________

(١) في أ: «ما عليهم وحدهم».

(٢) تنصرت : أي اعتنقت النصرانية.

٦٩

ملّني الأهل والأخلّاء لمّا

أن جفاني بعد الوصال زماني (١)

فاعتبر بي ولا يغرّك دهر

ليس منه ذو غبطة في أمان

ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني (٢) إلى بعض الأكابر يوم نيروز ، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة ، فنظر إلى مدينة أعجبته ، فقال له صاحب المجلس : صفها وخذها ، فقال : [مجزوء الرجز]

مدينة مسوّره

تحار فيها السّحره

لم تبنها إلّا يدا

عذراء أو مخدّره (٣)

بدت عروسا تجتلى

من درمك مزعفره

وما لها مفاتح

إلّا البنان العشره

ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرّض له فيها بزاد ، وقد عزم على سفر ، فأنعم عليه بذلك ، ثم أتبعه بتحف ممّا يكون في الديوان ممّا يجلبه الإفرنج إلى سبتة ، ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره ، فكتب إليه : [المتقارب]

أيا سابقا بالذي لم يجل

بفكري ولم يبد لي في خطاب

ويا غائصا في بحار الندى

ويا فاتحا للعلا كلّ باب

كذا فلتكن نعم الأكرمين

تفاجي بنيل المنى والطّلاب (٤)

ولم أر أعظم من نعمة

أتتني ولم تك لي في حساب

سأشكرها شكر عهد الرضى

وأذكرها ذكر غضّ الشباب

وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة ، ولم يضمّنها غير بيت الحطيئة : [البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فأحرجت (٥) المنصور ، وأقامته وأقعدته ، فأحضر وزيره أبا عامر بن التاكرني فكتب عنه:[الكامل]

__________________

(١) الأخلاء : جمع خلّ ، وهو الصديق.

(٢) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «الطبراني».

(٣) المخدّرة : ذات الخدر.

(٤) تفاجي : أصلها تفاجىء ، فحذف الهمزة وهو جائز.

(٥) في ب ، ه : «فأخرجت المنصور».

٧٠

شتمت مواليها عبيد نزار

شيم العبيد شتيمة الأحرار

فسلا المنصور عمّا كان فيه.

ومن شعر المذكور في المنصور : [الكامل]

انهض على اسمك إنه منصور

وارم العدوّ فإنه مقهور

ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم

فبذكر بأسك كلّهم مذعور

ولتبلغنّ مدى مرادك فيهم

ويكون يوم في العدا مشهور

وقال له المنصور يوما : والله لقد سئمت من هؤلاء الجند ، ووددت الراحة منهم ، فقال له:يصبر مولاي فلا بدّ من السآمة ، فهي على حالتين : إمّا ممّن يكون أمرك إليه ، أو يكون أمره إليك ، والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى!.

وقال بعض الهجائين في رندة (١) : [مجزوء الكامل]

قبحا لرندة مثل ما

قبحت مطالعة الذنوب

بلد عليه وحشة

ما إن يفارقه القطوب (٢)

ما حلّها أحد فين

وي بعد بين أن يؤوب (٣)

لم آتها عند الضّحى

إلّا وخيّل لي الغروب

أفق أغمّ وساحة

تملا القلوب من الكروب (٤)

وقال حبلاص الشاعر الرندي (٥) : [الكامل]

لا تفرحن بولاية سوّغتها

فالثور يعلف أشهرا كي يذبحا

وله في بعض رؤساء الملثمين من قصيدة : [الطويل]

ولو لم تكن كالبدر نورا ورفعة

لما كنت غرّا بالسحاب ملثّما

__________________

(١) هو أبو الفتح بن فاخر التونسي. انظر المغرب ج ١ ص ٣٤٤.

(٢) القطوب : التجهّم والعبوس.

(٣) البين : البعد. ويؤوب : يعود.

(٤) تملا : أصلها تملأ بالهمزة.

(٥) انظر المغرب ج ١ ص ٣٣٦.

٧١

وما ذاك إلّا للنوال علامة

كذا القطر مهما لثم الأفق انهمى (١)

فاهتزّ الملثّم وأعجبه ، وأمر له بكسوة وذهب.

ولمّا ذكر أبو بكر بن عمر الرندي (٢) في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد ، وأطنب في الثناء عليه ، وعمر المجلس بشكره ، وأخبر بذلك ، أطرق ساعة ثم قال : [الكامل]

لا تذكرن ما غاب عني من ثنا

أطنبت فيه فليس ذلك يجهل

فمتى حضرت بمجلس وجرى به

خبري فإنّ الذكر فيه يجمل

ولمّا نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة ، واقعها أبو الظافر في حال سكره ، ولم يكن فيهم من ينظم ويتولّع بالأدب غيره ، وولي ابنه يحيى ، وكان أحسد من طلعت عليه الشمس ، فمال على أرقم بالأذيّة حتى فرّ عن مملكته (٣) ، وقال مرتجلا : [الطويل]

لئن طبتم نفسا بتركي دياركم

فنفسي عنكم بالتفرّق أطيب

إذا لم يكن لي جانب في دياركم

فما العذر لي أن لا يكون تجنّب

زعمتم بأني لست فرعا لأصلكم

فهلّا علمتم أنني عنه أرغب

وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة

بأني إلى سيفي ورمحي أنسب

وإن مدّت الأيام عمري للعلا

يشرّق ذكري في الورى ويغرّب

وكتب الوزير الكاتب أبو محمد بن سفيان إلى أبي أمية بن عصام (٤) قاضي القضاة بشرق الأندلس (٥) «عين زمانه» ، فوقعت نقطة على العين ، فتوهّمها ، وظنّ أنه أبهمها واعتقدها ، وعددها وانتقدها ، فقال : [الكامل]

لا تلزمنّي ما جنته يراعة

طمست بريقتها عيون ثناء (٦)

حقدت عليّ لزامها فتحوّلت

أفعى تمجّ سمامها بسحاء

__________________

(١) القطر : المطر. انهمى : انهمر.

(٢) انظر ترجمته في القدح ص ١٦٨.

(٣) في ب ، ه : «فمال على أرقم بالأذاية ففرّ عن مملكته».

(٤) انظر القلائد ص ١٣٩.

(٥) في ب ، ه : «قاضي قضاة شرق الأندلس».

(٦) اليراعة : القلم.

٧٢

غدر الزمان وأهله عرف ولم

أسمع بغدر يراعة وإباء

وشرب المأمون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كان لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن المثنى (١) ، فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر ، فقال كلّ واحد ما عنده بحسب غرضه ، فقال ابن أرفع رأسه ارتجالا (٢) : [البسيط]

دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن

أضحى على البحر لم يشتق إلى نهر

ما في البسيطة كالمأمون ذو كرم

فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر

يا واحدا ما على علياه مختلف

مذ جاد كفّك لم نحتج إلى المطر

وقد طلعت لنا شمسا فما نظرت

عين إلى كوكب يهدي ولا قمر

وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم

فلم نعرّج على شذر ولا درر

فداخل ابن ذي النون من الارتياح ما ليس عليه مزيد ، وأمر له بإحسان جزيل عتيد.

وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي : [الطويل]

رأيت حيائي قادحا في معيشتي

ويصعب تركي للحياء ويقبح (٣)

وقد فسد الناس الذين عهدتهم

وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح

وله : [الطويل]

ولمّا غدوا بالغيد فوق جمالهم

طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا (٤)

عسى عيس من أهوى تجود بوقفة

ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا

وقال الزاهد أبو محمد عبد الله بن العسال (٥) : [الطويل]

أعندكم علم بأني متيّم

وإلّا فما بال المدامع تسجم (٦)

__________________

(١) في ب ، ه : «وابن مثنى» بدون الألف واللام.

(٢) انظر الصلة : ٨٧٤. والمغرب ج ٢ ص ١٨.

(٣) قادحا في معيشتي : معيبا فيها.

(٤) الغيد : جمع غيداء ، الفتاة المتثنية دلا.

(٥) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢١. وفي أ: «الغسال» وهو خطأ.

(٦) تسجم الدموع : تسال.

٧٣

وما بال عيني لا تغمّض ساعة

كأني في رعي الدراري منجّم (١)

وكان الوزير أبو جعفر الوقشي تيّاها معجبا بنفسه ، ومن شعره في غرضه الفاسد : [الطويل]

إذا لم أعظّم قدر نفسي وإنني

عليم بما حازته من عظم القدر

فغيري معذور إذا لم يبرّني

ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر

وله : [الطويل]

يرومون بي غير المكان الذي له

خلقت ، وبعضي منكر ذاك من بعضي

فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه

ويحتلّ من أجل التواضع في الأرض

وقال : [الطويل]

تكبّر وإن كنت الصغير تظاهرا

وباعد أخا صدق متى ما اشتهى قربا (٢)

وكن تابعا للهرّ في حفظ أمره

ألست تراه عندما يبصر الكلبا

وقال له بعض ندماء ملكه يوما صاحب جيان ، ابن همشك : يا أبا جعفر ، أنت جملة محاسن ، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكلّ فضيلة ، غير أنك قد قدحت في ذلك كلّه بكثرة عجبك ، وإذا مشيت على الأرض تشمئزّ منها ، فقال له : كيف لا أشمئزّ من شيء أشترك معك في الوطء عليه؟ فضحك جميع من حضر من جوابه. وله ، جوابا (٣) لمن اعتذر عن غيبته عنه : [الطويل]

لك الفضل في أن لا تلوح لناظري

وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر

فوجهك في لحظي كما صوّر الردى

ولفظك في سمعي حديث عن الفقر

ومن حاز ما قد حزته من ركاكة

وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر

وله أيضا : [الخفيف]

لك يومان لم تلح لعياني

ولك الفضل في زيادة شهر

ولك الفضل في زيادة عام

ولك الفضل في زيادة دهر

__________________

(١) الدراري : الكواكب العظام التي لا تعرف أسماؤها.

(٢) في ب : «ما اشتهى القربا».

(٣) في ب ، ه : «وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه».

٧٤

ولك الفضل أن تغيّب عني

ذلك الوجه ما تطاول عمري

وله ، وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء ، فنفخ فيه رجل أبخر (١) ، فجرى : [السريع]

ليث بديع الشكل لا مثل له

صيغ من الماء له سلسله

يقذف بالماء على حينه

كأنه عاف الذي قبّله

صو قال أبو الوليد هشام الوقشي : [السريع]

برّح بي أنّ علوم الورى

اثنان ما إن فيهما من مزيد

حقيقة يعجز تحصيلها

وباطل تحصيله لا يفيد

وقال : [السريع]

وفاره يركبه فاره

مرّ بنا في يده صعده (٢)

سنانها مشتمل لحظه

وقدّها منتحل قدّه

يزحف للنساك في جحفل

من حسنه وهو يرى وحده

قلت لنفسي حين مدّت لها ال

آمال والآمال ممتدّه

لا تطمعي فيه كما الشّعر لا

يطمع في تسويده خدّه (٣)

وقال : [الخفيف]

عجبا للمدام ما ذا استعارت

من سجايا معذّبي وصفاته

طيب أنفاسه وطعم ثنايا

ه وسكر العقول من لحظاته

وسنا وجهه وتوريد خدّي

ه ولطف الديباج من بشراته

والتداوي منها بها كالتداوي

برضا من هويت من سطواته (٤)

وهي من بعد ذا عليّ حرام

مثل تحريمه جنى رشفاته

ومن تآليفه «نكت الكامل للمبرد» ، وقد مرّ ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا.

__________________

(١) الرجل الأبخر : الذي نتنت رائحة فمه.

(٢) الفاره الأول : أراد به فرسا. والفاره الثاني : أراد به غلاما حسنا. والصعدة ـ بفتح فسكون ـ الرمح.

(٣) كذا في أ، ب ، وفي ج ، ه : «كما الشمس ... لا يطمع في تدنيسه حده».

(٤) في ج : «والتداوي منها بها لا التداوي» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه.

٧٥

وحضر يوما مجلس ابن ذي النون ، فقدّم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي ، فتهافت جماعة من خواصّه عليها يقصدون التندير فيه ، وجعلوا يكثرون من أكلها ، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر ، فقال له المأمون : يا قاضي ، أرى هؤلاء يأكلون أذنيك ، فقال : وأنا أيضا آكل عيونهم ، وكشف عن الطبق ، وجعل يأكل منه ، وكان هذا من الاتفاق الغريب.

وكان الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف ، وكيف لا ووالده الوزير أبو جعفر ، وصهره أبو الحسين بن جبير ، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسين (١) بن الحسن بن الحاسب شيخ هذه الطريقة ، وقد رزق أبو الحسن المذكور فيها ذوقا مع صوت بديع ، أشهى من الكأس للخليع ، قال أبو عمران بن سعيد : ما سمعته إلّا تذكّرت قول الرصافي (٢) : [الكامل]

ومطارح ممّا تجسّ بنانه

لحنا أفاض عليه ماء وقاره

يثني الحمام فلا يروح لو كره

طربا ورزق بنيه في منقاره

وكنت أرتاح إلى لقائه ، ارتياح العليل إلى شفائه ، ولم أزل أقرع بابا (٣) بابا ، وأخرق للاتصال حجابا حجابا ، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه ، وجلست بين يديه ، فحينئذ حرّضه حسبه على الإكرام ، وتلقّى بما أوسع من البشر والسلام ، وقال : ليعلم سيدي أني كنت أودّ الناس في لقائه ، وأحبّهم في إخائه ، والحمد لله الذي جعلني أنشد : [الطويل]

وليس الذي يتّبّع الوبل رائدا

كمن جاءه في داره رائد الوبل (٤)

ثم قام إلى خزانة ، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تحبس أوتاره ، وتلحن أشعاره ، واندفع يغنّي دون أن أسأله ذلك ، ولا أتجشّم تكليفه الدخول في تلك المسالك : [الطويل]

وما زلت أرجو في الزمان لقاءكم

فقد يسّر الرحمن ما كنت أرتجي

__________________

(١) في ب ، ه «ونسخة عند ج : «أبو الحسن بن الحسن بن الحاسب».

(٢) انظر ديوان الرصافي ص ١٠١.

(٣) في ب ، ه : «ولم أزل أقرع بابا فبابا» وفيها «حجابا فحجابا».

(٤) في أ: «وليس الذي يستتبع الوبل رائدا» وقد أثبتنا ما في ب ، ه ، وديوان أبي الطيب المتنبي وهذا من قصيدة له أولها :

كدعواك كل يدعي صحة العقل

ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل

انظر ديوان المتنبي بشرح العكبري ج ٣ ص ٢٩٤.

٧٦

فذكركم ما زلت أتلوه دائبا

إذا ذكروا ما بين سلمى ومنعج (١)

فلمّا فرغ من استهلاله وعمله قبّلت رأسه ، وقلت له : لا أدري علام أشكرك قبل ، هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت بإحسانه؟ فما هذا الصوت؟ قال : هذا نشيد خسروانيّ من تلحيني ، قال : وأنشدني لنفسه : [الطويل]

حننت إلى صوت النواعير سحرة

فأضحى فؤادي لا يقرّ ولا يهدا

وفاضت دموعي مثل فيض دموعها

أطارحها تلك الصبابة والوجدا

وزاد غرامي حين أكثر عاذلي

فقلت له أقصر ولا تقدح الزّندا

أهيم بهم في كلّ واد صبابة

وأزداد مع طول البعاد لهم ودّا

وأنشدني لنفسه : [الكامل]

ولقد مررت على المنازل بعدهم

أبكي وأسأل عنهم وأنوح

وأقول إن سألوا بحالي في النوى

ما حال جسم فارقته الروح

قال : وكتب إليّ : [البسيط]

يا حسرة ما قضت من لذّة وطرا

أين الزمان الذي يرجى به الخلف (٢)

أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني

إلى التصبّر أني سوف أنصرف

قال أبو عمران : وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الآمال ، هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله :

أين الزمان الذي يرجى به الخلف

انتهى.

وكان أبو الحسين علي بن الحمارة (٣) ممّن برع في الألحان وعلمها ، وهو من أهل غرناطة ، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشّعراء (٤) ، فيقطع العود بيده ، ثم يصنع منه عودا

__________________

(١) يشير إلى قول الشاعر :

أحب بلاد الله ما بين منعج

إلي وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها حل الشباب تمائمي

وأول أرض مسّ جلدي ترابها

(٢) الوطر : الحاجة.

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ١٢٠.

(٤) الشّعراء : الشجر.

٧٧

للغناء ، وينظم الشعر ويلحنه ، ويغني به ، فيطرب سامعيه ، ومن شعره قوله : [الطويل]

إذا ظنّ وكرا مقلتي طائر الكرى

رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل

وقال بعض العلماء في حقّه : إنه آخر فلاسفة الأندلس ، قال : وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره ، والشعراء تنشده في ذلك ، فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين ، وأنشدهما بعدهم : [البسيط]

يا واحد الناس قد شيّدت واحدة

فحلّ فيها محلّ الشمس في الحمل (١)

فما كدارك في الدنيا لذي أمل

ولا كدارك في الأخرى لذي عمل

وسيأتي ذكر هذين البيتين.

وكان أهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة ، قال ابن مسدي :

أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه «هذا باب ما الكلم من العربية» عشرين كراسا ، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجها ، انتهى ..

وهذا وأشباهه يكفيك في تبحّر أهل الأندلس في العلم ، وربما سئل العالم منهم عن المسألة التي يحتاج في جوابها إلى مطالعة ونظر ، فلم يحتج إلى ذلك ، ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه إلى زيادة.

ومن الحكايات في مثل ذلك أنّ الأديب البليغ الحافظ أبا بكر بن حبيش لمّا قال في تخميسه المشهور : [الطويل]

بماذا على كلّ من الحقّ أوجبت

اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصّه : استعمل المخمّس «ما ذا» في البيت تكثيرا وخبرا ، والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاما ، فجاوبه بقوله : أمّا استعمالها استفهاما كما قال فكثير ، لا يحتاج إلى شاهد ، وأمّا استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث ، واستعمل مكث ، فلم يعترض عليّ ولي ، ولا تشكّك في جلي : [الوافر]

وليس يصحّ في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

قال الله تعالى في سورة يونس (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ

__________________

(١) الحمل : برج من أبراج السماء.

٧٨

عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)) [سورة يونس ، الآية : ١٠١] ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر : [الوافر]

وما ذا بالقليب قليب بدر

من الفتيان والشّرب الكرام (١)

وما ذا بالقليب قليب بدر

من الشّيزى تكلّل بالسنام (٢)

وفي السّير في رثاء المذكورين أيضا : [مجزوء الكامل]

ما ذا ببدر فالعقن

قل من مرازبة جحاجح

وهذا الشعر لأميّة بن أبي الصّلت الثقفي ، ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديما له يعرف بابن الطويل (٣) : [مجزوء الكامل]

لله قبر ضمّنت

فيه عظام ابن الطويل

ما ذا تضمّن إذ ثوى

فيه من الرأي الأصيل

والخبر طويل ، وأجلى من هذا وأعلى ، وأحقّ بكل تقديم وأولى ، ولكن الواو لا تفيد رتبة ، ولا تتضمّن نسبة ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ذا أنزل الليلة من الفتن» وهو في الصحاح ، ووقع في الحماسة ، وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها : [الكامل]

ما ذا أجال وثيرة بن سماك

من دمع باكية عليه وباك (٤)

وفي الحماسة ، أيضا وأظنّها لأبي دهبل (٥) : [البسيط]

ما ذا رزئنا غداة الحلّ من زمع

عند التفرّق من خيم ومن كرم

ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار : [الطويل]

هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا

وما ذا يردّ الليل حين يؤوب

ووقع في شعر الخنساء ترثي أخاها صخرا : [الطويل]

__________________

(١) القليب : البئر. والشّرب : الجماعة يشاربون.

(٢) الشيزى : جفان تصنع من الخشب.

(٣) انظر ديوانه ص ٥٨.

(٤) في ه : «ما ذا أحال وتيرة بن سماك» وما أثبتناه موافق لما في أ، ب ، ج. وكذلك ورد في الحماسة. وقال التبريزي «قال أبو العلاء : يروى وثيرة ـ بالثاء ـ وهو من قولهم : فراش وثير ، ويروى وتيرة ـ بالتاء». (انظر شرح التبريزي ج ٢ ص ٣٩٣) تحقيق محيي الدين عبد الحميد.

(٥) هذا البيت لأبي دهبل ، كما ورد في الحماسة.

٧٩

ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به

إلى القبر ما ذا يحملون إلى القبر

وما ذا يواري القبر تحت ترابه

من الجود في بؤسى الحوادث والدهر (١)

ولجرير وهو في الحماسة (٢) : [الكامل]

إن الذين غدوا بلبّك غادروا

وشلا بعينك لا يزال معينا (٣)

غيّضن من عبراتهن وقلن لي

ما ذا لقيت من الهوى ولقينا

وفي الحماسة أيضا : [البسيط]

ما ذا من العبد بين البخل والجود

ووقع في الحماسة أيضا ، وهو لامرأة : [الطويل]

هوت أمّهم ما ذا بهم يوم صرّعوا

بجيشان من أسباب مجد تصرّما

أرادت ما ذا تصرّم لهم يوم صرّعوا بجيشان من أسباب مجد تصرّما.

ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي : [البسيط]

ما ذا لقيت من الدنيا وأعجبها

أنّي بما أنا باك منه محسود

وقوله أيضا : [المتقارب]

وما ذا بمصر من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكا

ومن ملح المتأخرين : كان بمرسية أبو جعفر المذكور في المطمح ، وكان يلقّب بالبقيرة ، فقال فيه بعض أهل عصره : [البسيط]

قالوا البقيرة يهجونا فقلت لهم

ما ذا دهيت به حتى من البقر

هذا وليس بثور بل هو ابنته

وأين منزلة الأنثى من الذّكر

وأنشد صاحب الزهر ، ولا أذكر قائله : [البسيط]

ما ذا لقيت من المستعربين ومن

قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا

إن قلت قافية بكرا يكون لها

معنى يخالف ما قالوا وما وضعوا

__________________

(١) في ه : «من بؤس الحوادث والدهر».

(٢) انظر ديوان جرير ص ٤٧٦.

(٣) الوشل : القليل من الدمع.

٨٠