نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

غرناطة ، ثم عاد الكافر لبلاده ، وتعاهد مع السلطان الذي في أسره بأن من دخل في حكمه وتحت أمره فهو في الأمان التام ، وأشاعوا أن ذلك بسبب فتنة وقعت بينه وبين صاحب إفرنسية ، فخرج لبلش وأطاعته ، ثم بعث لمن والاه من البلاد أنه أتى بصلح صحيح وعقد وثيق ، وأن من دخل تحت أمره أمن من حركة النصارى عليه ، وأن معه وثائق بخطوط السلاطين ، فلم يقبل الناس ذلك ، إلا القليل منهم مثل أهل البيازين ، فلهجوا بهذا الصلح ، وأقاموا على صحته الدلائل ، وتكلموا في أهل غرناطة بالكلام القبيح ، مع تمكن الفتنة والعداوة في القلوب ، فبعث له أهل البيازين أنه إذا قدم بهذه الحجج لتلك الجهات اتبعه الناس ، وقاموا بدعوته من غير التباس ، فأتى على حين غفلة ، ولم يكن يظن إتيانه بنفسه ، فأتى البيازين ودخلها ونادى في أسواقها بالصلح التام الصحيح ، فلم يقبل ذلك منه أهل غرناطة ، وقالوا : ما بعهد لوشة من قدم ، ودخل ربض البيازين بالرجال (١) سادس شوال سنة إحدى وتسعين وثمانمائة ، وعمه بالحمراء ، وانتقل للقلعة ، واشتد أمر الفتنة ، ثم إن صاحب قشتالة أمدّ صاحب البيازين بالرجال والعدة والمال والقمح والبارود وغيرها ، واشتد أمره بذلك ، وعظمت أسباب الفتنة ، وفشا في الناس القتل والنهب ، ولم يزل الأمر كذلك إلى السابع والعشرين من محرم سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ، فعزم أهل غرناطة مع سلطانهم على الدخول على البيازين عنوة ، وتكلم أهل العلم (٢) فيمن انتصر بالنصارى ووجوب مدافعته ، ومن أطاعه عصى الله ورسوله ، ودخلوا على أهل البيازين دخول فشل ، ثم إن صاحب غرناطة بعث إلى الأجناد والقواد من أهل بسطة ووادي آش والمرية والمنكب وبلش ومالقة وجميع الأقطار (٣) ، وتجمعوا بغرناطة ، وتعاهدوا ، وتحالفوا على أن يدهم واحدة على أعداء الدين ، ونصرة من قصده العدوّ من المسلمين ، وخاف صاحب البيازين فبعث لصاحب قشتالة في ذلك فخرج بمحلته (٤) قاصدا نواحي بلش ، وكان صاحب البيازين بعث وزيره إلى ناحية مالقة وإلى حصن المنشأة يذكر ويخوف ، ومعه النسخة من عقود الصلح ، فقامت مالقة وحصن المنشأة بدعوته ، ودخلوا في إيالته خوفا من صاحب قشتالة وصولته ، وطمعا في الصلح وصحته ، ثم اجتمع كبار مالقة مع أهل بلش وذكروا لهم سبب دخولهم في هذه الدعوة ، والسبب الحامل لهم على ذلك ، فلم

__________________

(١) كلمة «بالرجال» ساقطة من ب.

(٢) يريد أنهم استفتوا العلماء فأفتوهم بتحريم معاونة النصارى والكون معهم ووجوب مدافعتهم كما هو حكم الشرع.

(٣) في أصل ه «وجميع الأنظار». تحريف.

(٤) في أصل ه «بمحلمته» تحريف.

٤٠١

يرجع أهل بلش عما عاهدوا عليه أهل غرناطة وسائر الأندلس من العهود والمواثيق.

وخرج صاحب قشتالة قاصدا بلش مالقة ، ونزل عليها في ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وحاصرها ، ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك اجتمع بالناس ، فأشاروا بالمسير لإغاثة بلش (١) للعهد الذي عقدوه ، وأتى أهل وادي آش وغيرها وحشود البشرات ، وخرج صاحب غرناطة منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من السنة ، ووصل بلش ، فوجد العدو نازلا عليها برا وبحرا ، فنزل بجبل هنالك ، وكثر لغط الناس (٢) ، وحملوا على النصارى من غير تعبية (٣) ، وحين حركتهم للحملة بلغ الزّغل (٤) أن غرناطة بايعت صاحب البيازين ، فالتقوا مع النصارى فشلين وقبل الالتحام انهزموا ، وتبددت جموعهم مع كون النصارى خائفين وجلين منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فرجعوا منهزمين ، وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان ، فقصدوا وادي آش ، وعاد النصارى إلى بلش بعد أن كانوا رتبوا جيوشهم للقاء السلطان ، وأهل غرناطة ، فلما عادوا إلى بلش دخلوا عنوة ربضها ، وضيقوا بها ، وكانت ثورة غرناطة خامس جمادى الأولى.

ولما رأى أهل بلش تكالب العدو عليهم وإدبار جيوش المسلمين عنهم طلبوا الأمان ، فخرجوا يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من السنة ، وأطاعت النصارى جميع البلاد التي بشرقي مالقة وحصن قمارش.

ثم انتقل العدو إلى حصار مالقة ، وكان أهل مالقة قد دخلوا في الصلح وأطاعوا صاحب البيازين ، وأتى إليها النصارى بالميرة (٥) ، ولما نزل بلش بعثوا هدية لصاحب قشتالة مع قائدهم وزير صاحب البيازين وقائد شريش الذي كان مأسورا عندهم ، فلم يلتفت إليهم صاحب قشتالة لقيام جبل فاره وهو حصن مالقة بدعوة صاحب وادي آش ، وارتحل صاحب قشتالة إلى مالقة ونازلها برا وبحرا ، وقاتله أهلها قتالا عظيما بمدافعهم وعدتهم وخيلهم ورجلهم (٦) ، وطال الحصار حتى أداروا على مالقة من البر الخنادق والسور والأجفان من البحر ، ومنع الداخل إليها ولم يدخلها غير جماعة من المرابطين حال الحصار ، وحاربوا حربا شديدا ، وقربوا المدافع ودخلوا الأرباض ، وضيقوا عليهم بالحصار إلى أن فني ما عندهم من الطعام فأكلوا المواشي

__________________

(١) في بعض النسخ «لإعانة بلش».

(٢) اللغط : الصوت والجلبة والضجة.

(٣) من غير تعبئة : من غير استعداد وتجهيز.

(٤) في ب «بلغ السلطان الزغل».

(٥) الميرة ـ بكسر الميم ـ الزاد والطعام.

(٦) الرجل : جمع راجل. وهو المقاتل وليس لديه فرس.

٤٠٢

والخيل والحمير ، وبعثوا الكتب للعدوتين وهم طامعون في الإغاثة فلم يأت إليهم أحد ، وأثر فيهم الجوع ، وفشا في أهل نجدتهم القتل ، ولم يظهروا مع ذلك هلعا (١) ولا ضعفا ، إلى أن ضعف حالهم ، ويئسوا من ناصر أو مغيث من البر والبحر فتكلموا مع النصارى في الأمان كما وقع ممن سواهم ، فعوتبوا على ما صدر منهم وما وقع من الجفاء ، وقيل لهم لما تحقق العدو التجاءهم : تؤمّنون من الموت ، وتعطون (٢) مفتاح القلعة والحصن ، والسلطان ما يعاملكم إلا بالخير إذا فعلتم ، وهذا خداع من الكفار ، فلما تمكن العدو منهم أخذهم أسرى ، وذلك أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ، ولم يبق في تلك النواحي موضع إلا وملكه النصارى.

وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدوّ الكافر إلى الشرقية وبلش التي كانت في الصلح ، فاستولى عليها ، واحتجوا بالصلح ، فلم يلتفت إليهم ، وأخذ تلك البلاد كلها صلحا ، ثم رجع لبلاده.

وفي عام أربعة وتسعين [وثمانمائة](٣) خرج لبعض حصون بسطة فأخذها بعد حرب ، واستولى على ما هنالك من الحصون ، ثم نازل بسطة ، وكان صاحب وادي آش لما تعين العدوّ بمحلته بعث جميع جنده وقوّاده ، وحشد أهل نجدة تلك البلاد من وادي آش والمرية والمنكّب (٤) والبشرات ، فلما نزل العدوّ بسطة أتت الحشود المذكورة ودخلوها ووقعت بين المسلمين والنصارى حروب عظيمة حتى تقهقر العدوّ عن قرب بسطة ، ولم يقدر على منع الداخل والخارج ، وبقي الأمر كذلك رجبا وشعبان ورمضان ، ومحلات المسلمين نازلة خارج البلد ، ثم إن العدوّ شدّ الحصار وجدّ في القتال ، وقرب المدافع والآلات من الأسوار حتى منع الداخل والخارج بعض منع ، واشتد الحال في القعدة والحجة وقل الطّعام ، وفي آخر الحجة (٥) اختبروا الطعام في خفية فلم يجدوا إلا القليل ، وكانوا طامعين في إقلاع العدوّ عند دخول فصل الشتاء ، وإذا بالعدو بنى وعزم على الإقامة ، وقوي اليأس على المسلمين ، فتكلموا في الصلح على ما فعل غير هم من الأماكن ، وظن العدوّ أن الطعام لم يبق منه شيء ، وأن ذلك هو

__________________

(١) الهلع ـ بفتح الهاء واللام : شدة الخوف والجزع.

(٢) في ه «وتعطوا مفتاح القلعة».

(٣) في ه هنا زيادة كلمة «برجب».

(٤) قال ياقوت : «المنكب ـ بالضم ثم الفتح وتشديد الكاف وفتحها وباء موحدة ، من نكبت الشيء ، كأنك تعطيه منكبك ـ وهو بلد على ساحل جزيرة الأندلس من أعمال البيرة بينه وبين غرناطة أربعون ميلا». انظر معجم البلدان ، مادة نكب.

(٥) في ب «في ذي القعدة وذي الحجة وقل الطعام ، وفي آخر ذي الحجة ...».

٤٠٣

الملجئ لهم للكلام ، وفهموا عنه ذلك ، فاحتالوا في إظهار جميع أنواع الطعام بالأسواق ، وأبدوا للعدوّ القوّة مع كونهم في غاية الضعف ، والحرب خدعة (١) ، فدخل بعض كبار النصارى للتكلم معهم وهو عين ليرى ما عليه البلد وما صفة الناس ، وعند تحققهم بقاء الطعام والقوّة أعطوهم الأمان على أنفسهم دون من أعانهم من أهل وادي آش والمنكب والمرية والبشرات ، فإن دفعوا هؤلاء عنهم صح لهم الأمان ، وإلا فلا ، فلم يوافق أهل البلد على هذا ، وطال الكلام ، وخاف أهل البلد من كشف الستر ، فاتفقوا على أن تكون العقدة على بسطة ووادي آش والمرية والمنكب والبشرات ، ففعلوا ذلك ، ودخل جميع هؤلاء في طاعة العدوّ على شروط شرطوها وأمور أظهروا بعضها للناس وبعضها مكتوم ، وقبض الخواص مالا ، وحصلت لهم فوائد.

وفي يوم الجمعة عاشر محرم سنة خمس وتسعين وثمانمائة دخل النصارى قلعة بسطة ، وملكوها ، ولم يعلم العوام كيفية ما وقع عليه الشرط والالتزام ، وقالوا لهم : من بقي بموضعه فهو آمن ، ومن انصرف خرج بماله وسلاحه سالما ، ثم أخرج العدوّ الملسمين؟؟؟؟؟ من البلد ، وأسكنهم بالرّبض خوف الثورة ، ثم ارتحل العدوّ للمرية ، وأطاعته جميع تلك البلاد ، ونزل صاحب وادي آش للمرية ليلقاه بها فلقيه وأخذ الحصون والقلاع والبروج ، وبايع له السلطان أبو عبد الله على أن يبقى تحت طاعته في البلاد التي تحت حكمه كما أحب ، فوعده بذلك ، وانصرف معه إلى وادي آش ، ومكنه من قلعتها أوائل صفر من العام المذكور ، وأطاعته جميع البلاد ، ولم يبق غير غرناطة وقراها ، وجميع ما كان في حكم صاحب وادي آش صار للنصارى في طرفة عين ، وجعل في كل قلعة قائدا نصرانيا ، وكان قائد من المسلمين أصحاب هذه البلاد دفع لهم الكفار مالا من عند صاحب قشتالة إكراما منه لهم بزعمهم ، فتبّا لعقولهم (٢) ، وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدّته ودفع بالتي هي أحسن ، ثم أخذ برج الملاحة وغيره ، وبناه وحصنه ، وشحن الجميع بالرجال والذخيرة ، وأظهر الصحبة والصلح مع صاحب وادي آش ، وأباح الكلام بالسوء في حق صاحب غرناطة مكرا منه وخداعا ودهاء ، ثم بعث في السنة نفسها رسلا لصاحب غرناطة أن يمكنه من الحمراء كما مكنه عمه من القلاع والحصون ، ويكون تحت

__________________

(١) تروى هذه الكلمة بفتح الخاء وسكون الدال ، وهي المرة الواحدة من الخداع. وتروى بضم الخاء وسكون الدال ، وهو اسم مصدر بمعنى الخداع. وتروى بضم الخاء وفتح الدال ، وهو يدل بهذه الصيغة على ما يدل عليه اسم الفاعل ؛ يقال : فلان ضحكة وسخرة وهزأة ، أي أنه يضحك من الناس ، ويسخر منهم ويهزأ بهم ـ كثيرا.

(٢) تبا لعقولهم : هلاكا لعقولهم. وقد جاء في القرآن الكريم (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ).

٤٠٤

إيالته ، ويعطيه مالا جزيلا على ذلك ، وأي بلاد شاء من الأندلس يكون فيها تحت حكمه ، قالوا : وأطعمه صاحب غرناطة في ذلك ، فخرج العدو في محلاته لقبض الحمراء والاستيلاء على غرناطة ، وهذا في سر بين السلطانين ، فجمع صاحب غرناطة الأعيان والكبراء والأجناد والفقهاء والخاصة والعامة وأخبرهم بما طلب منه العدو ، وأن عمه أفسد عليه الصلح الذي كان بينه وبين صاحب قشتالة بدخوله تحت حكمه ، وليس لنا إلا إحدى خصلتين : الدخول في طاعته (١) ، أو القتال ، فاتفق الرأي على الجهاد والوفاء بما عقده من صلح ، وخرج بمحلته. ثم إن صاحب قشتالة نزل على مرج غرناطة ، وطلب من أهل غرناطة الدخول في طاعته ، وإلا أفسد عليهم زروعهم ، فأعلنوا بالمخالفة ، فأفسد الزرع ، وذلك في رجب سنة خمس وتسعين ، وثمانمائة ووقعت بين المسلمين والعدو حروب كثيرة ، ثم ارتحل العدو عند الإياس (٢) منهم ذلك الوقت ، وهدم بعض حصون ، وأصلح برج همدان والملاحة ، وشحنهما بما ينبغي ، ثم رجع إلى بلاده ، وعند انصرافه نزل صاحب غرناطة بمن معه إلى بعض الحصون التي في يد النصارى ففتحها عنوة (٣) ، وقتل من فيها من النصارى ، وأسكنها المسلمين ، ورجع لغرناطة ، ثم أعمل الرحلة إلى البشرات في رجب المذكور ، فأخذ بعض القرى ، وهرب من بها من النصارى والمرتدين أصحابهم ، ثم أتى حصن أندرش فتمكن منه ، وأطاعته البشرات ، وقامت دعوة الإسلام بها ، وخرجوا عن ذمة النصارى ، وهنالك عمه أبو عبد الله محمد بن سعد بجملة وافرة ، فقصدهم في شعبان من غرناطة ، واستقر عمه بالمرية ، وأطاعت صاحب غرناطة جميع البشرات إلى برجة ، ثم تحرك عمه مع النصارى إلى أندرش فأخذها لرمضان ، وخرج صاحب غرناطة لقرية همدان ، وكان برجها العظيم مشحونا بالرجال والعدة والطعام ، فحاصره أهل غرناطة ، ونصبوا عليه أنواعا من الحرب ، ومات به خلق كثير منهم ، ونقبوا البرج الأول والثاني والثالث ، وألجؤوهم للبرج الكبير ، وهو القلعة ، فنقبوها ثم أسروا من كان بها ، وهم ثمانون ومائة ، واحتووا على ما هنالك من عدة وآلات حرب.

وفي آخر رمضان خرج صاحب غرناطة بقصد المنكب (٤) ، فلما وصل حصن شلوبانية نزله ، وأخذه عنوة بعد حصاره ، وامتنعت القلعة (٥) ، وجاءتهم (٦) الأمداد من مالقة بحرا فلم

__________________

(١) في ب «الدخول تحته».

(٢) الإياس : اليأس.

(٣) عنوة : بالقوة ، رغما.

(٤) المنكب : بلد على ساحل جزيرة الأندلس من أعمال إلبيرة. انظر حاشيتنا ص (٠٣).

(٥) امتنعت القلعة : كانت منيعة ولم يستطع العدو فتحها.

(٦) في نسخة عند ه «وجاءهم الإمداد».

٤٠٥

تقدر على شيء ، وضيقوا بالقلعة ، فوصلهم الخبر أن صاحب (١) قشتالة خرج بمحلته لمرج غرناطة ، فارتحل صاحب غرناطة عن قلعة شلوبانية ، وجاء غرناطة ثالث شوال ، وبعد وصولهم غرناطة وصل العدو إلى المرج ومعه المرتدون والمدجنون ، وبعد ثمانية أيام ارتحل العدو لبلاده بعد هدم برج الملاحة وإخلائه وبرج آخر ، وتوجه إلى وادي آش ، فأخرج المسلمين منها ، ولم يبق بها مسلم في المدينة ولا الرّبض ، وهدم قلعة أندرش ، وحاف على البلاد (٢) ، ولما رأى ذلك السلطان الزّغل وهو أبو عبد الله محمد بن سعد عم سلطان غرناطة همّ (٣) بالجواز لبر العدوة فجاز لوهران ، ثم لتلمسان ، واستقر بها ، وبها نسله إلى الآن يعرفون ببني سلطان الأندلس ، ودخل صاحب قشتالة لأقاصي مملكته بسبب فتنة بينه وبين الإفرنج ثم تحرك صاحب غرناطة على برشانة وحاصرها وأخذها ؛ وأسر من كان بها من النصارى وأرادت فتيانه القيام على النصارى ، فجاء صاحب وادي آش ففتك فيهم.

وفي ذي القعدة من السنة رفع صاحب غرناطة من السند وخلت تلك الأوطان من الأنس.

وفي ثاني عشري (٤) جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة ، وأفسد الزرع ، ودوخ الأرض ، وهدم القرى ، وأمر ببناء موضع بالسور والحفير ، وأحكم بناءه ، وكانوا يذكرون أنه عزم على الانصراف فإذا به صرف الهمة إلى الحصار والإقامة ، وصار يضيق على غرناطة كل يوم ، ودام القتال سبعة أشهر ، واشتد الحصار بالمسلمين ، غير أن النصارى على بعد ، والطريق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام من ناحية جبل شلير ، إلى أن تمكن فصل الشتاء ، وكلب البرد (٥) ، ونزل الثلج ، فانسد باب المرافق ، وانقطع الجالب (٦) ، وقل الطعام ، واشتد الغلاء ، وعظم البلاء ، واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد ، ومنع المسلمين من الحرث والسبب (٧) ، وضاق الحال ، وبان الاختلال ، وعظم الخطب ، وذلك أول عام سبعة وتسعين وثمانمائة ، وطمع العدو في الاستيلاء

__________________

(١) في ه «سلطان غرناطة».

(٢) حاف على البلاد : جار وظلم أهلها.

(٣) في ب «بادر بالجواز».

(٤) في أصل ه «وفي ثاني عشر من جمادى الآخرة».

(٥) كلب البرد : اشتدّ.

(٦) في ب «وقطع الجالب».

(٧) السبب هنا : طلب الرزق والعمل من أجل تحصيله.

٤٠٦

على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب ، ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات ، ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة ، وقل الطعام ، وتفاقم (١) الخطب ، فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم ، وقالوا : انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم ، فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة ، وتكلموا في هذا المعنى ، وأن العدو يزداد مدده كل يوم ، ونحن لا مدد لنا ، وكان ظنّنا أنه يقلع عنا في فصل الشتاء فخاب الظن ، وبنى وأسّس ، وأقام ، وقرب منا ، فانظروا لأنفسكم وأولادكم ، فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين ، وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس ، ثم عددوا مطالب وشروطا أرادوها ، وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش : منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا مكنوه (٢) من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون ، ويحلف على عادة النصارى في العهود ، وتكلم الناس في ذلك ، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتنّ عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر ، ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة ، فانقادوا إليها ، ووافقوا عليها ، وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة ، فقبلها منهم ، ونزل سلطان غرناطة من الحمراء.

وفي ثاني ربيع الأول من السنة ـ أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة ـ استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان (٣) رهنا خوف الغدر ، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم ، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم (٤) وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك ، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا ، وأن لا يولي على المسلمين نصراني (٥) أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم قبل ، وأن يفتكّ جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا ، وخصوصا أعيانا نصّ عليهم ، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه ، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع ، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم

__________________

(١) تفاقم الخطب : اشتدت المصيبة وعظمت.

(٢) في ب «إذا أمكنوه من حمراء غرناطة».

(٣) الأعيان : جمع عين : وهو السيد الشريف في قومه.

(٤) في ب «ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم».

(٥) في ب «المسلمين إلا مسلم».

٤٠٧

والكراء ، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره ، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى (١) ودينهم ، وأن من تنصر (٢) من المسلمين يوقف أياما حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى ، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد ، ولا يعاتب على من قتل نصرانيا أيام الحرب ، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة ، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ، ولا بسفر (٣) لجهة من الجهات ، ولا يزيدون على المغارم المعتادة ، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة ، ولا يطلع نصراني للسور ، ولا يتطلع (٤) على دور المسلمين ، ولا يدخل مسجدا من مساجدهم ، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله ، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن ، ولا يمنع مؤذن ولا مصلّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه ، ومن ضحك منهم (٥) يعاقب ، ويتركون من المغارم سنين معلومة ، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده ، وأمثال هذا مما تركنا ذكره.

وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينة جعلوا قائدا بالحمراء وحكاما مقدّمين بالبلد ، ولما علم ذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح ، وشملهم حكمه على هذه الشروط ، ثم أمر العدو الكافر ببناء ما يحتاج إليه في الحمراء وتحصينها ، وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها ، وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهارا ويبيت بمحلته ليلا إلى أن اطمأن من خوف الغدر ، فدخل المدينة ، وتطوّف بها ، وأحاط خبرا بما يرومه ، ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له في سكناه بأندرش (٦) ، فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها ، ثم احتال في ارتحاله لبر العدوة ، وأظهر أن ذلك طلبه منه المذكور ، فكتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة ، ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه ويقف معه وفاء بما عهد له ، فانصرف في الحين بنص هذا الكتاب ، وركب البحر ، ونزل بمليلة ، واستوطن فاسا ، وكان قبل طلب الجواز لناحية مراكش ، فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء وبلاء (٧).

__________________

(١) في أصل ه «الرجوع إلى النصارى».

(٢) تنصر : دخل في دين النصرانية.

(٣) في ب «ولا يسفر».

(٤) ولا يتطلع : ولا ينظر.

(٥) في ب «ومن ضحك منه يعاقب».

(٦) في ب «وأنها تكون له وسكناه بأندرش».

(٧) في ب «لقي شدة وغلاء ووباء».

٤٠٨

ثم إن النصارى نكثوا العهد ، ونقضوا الشروط عروة عروة (١) ، إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة ، بعد أمور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا : إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهرا للكفر ، ففعلوا ذلك ، وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة ، ثم تعدوا إلى أمر آخر ، وهو أن يقولوا للرجل المسلم : إن جدك كان نصرانيا فأسلم فترجع نصرانيا ، ولما فحش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم ، وهذا كان السبب للتنصر ، قالوا : لأن الحكم خرج من السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت ، وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة ، وامتنع قوم من التنصر ، واعتزلوا النصارى (٢) ، فلم ينفعهم ذلك ، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما ، فجمع لهم العدو الجموع ، واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا ، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة ، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر ، ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين يعبد الله في خفية ويصلي ، فشدد عليهم النصارى في البحث ، حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك ، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلا عن غيرها من الحديد ، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا ولم يقيض الله لهم ناصرا (٣) ، إلى أن كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف ، فخرجت ألوف بفاس ، وألوف أخر بتلمسان من وهران ، وجمهورهم خرج بتونس ، فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات ، ونهبوا أموالهم ، وهذا ببلاد تلمسان وفاس ، ونجا القليل من هذه المضرة (٤) ، وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم ، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها ، وكذلك بتطاون (٥) وسلا وفيجة (٦) الجزائر ، ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن ، وحصنوا قلعة سلا ، وبنوا بها القصور والحمامات والدور (٧) ، وهم الآن بهذا الحال ، ووصل جماعة إلى

__________________

(١) نقضوا الشروط عروة عروة : أي نقضوا الشروط كلها واحدا واحدا.

(٢) في ب «واعتزلوا الناس».

(٣) لم يقيض لهم ناصرا : لم يهيئه لهم.

(٤) في ب «من هذه المعرة».

(٥) في ب «تبطاوين» وهذه هي المعروفة باسم «تطوان».

(٦) في ب «متيجة».

(٧) في ب «والدور والحمامات».

٤٠٩

القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام ، وهم لهذا العهد على ما وصف ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

والسلطان المذكور الذي أخذت على يده غرناطة هو أبو عبد الله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس ، ومحيت رسومها ، ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله ، واسطة عقدهم ، ومشيد مبانيهم الأنيقة ، وسلطان دولتهم على الحقيقة ، وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس ، العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الرحمانية العاطرة الأنفاس ، وهو سلطان لسان الدين ابن الخطيب ، وقد ذكرنا جملة من أخباره في غير هذا الموضع ، ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان إسماعيل قاتل سلطان النصارى دون بطرة بمرج غرناطة ابن فرج [بن إسماعيل](١) بن يوسف بن نصر بن قيس ، الأنصاري ، الخزرجي ، رحمهم الله تعالى جميعا!.

وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذرا عما أسلفه ، متلهفا على ما خلفه ، وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس ، رأيتها ودخلتها ، وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسعمائة ، ودفن بإزاء المصلّى خارج باب الشريعة ، وخلف ولدين اسم أحدهما يوسف والآخر أحمد ، وعقب هذا السلطان إلى الآن بفاس (٢) ، وعهدي بذريته بفاس [إلى الآن](٣) سنة ١٠٣٧ (٤) ، يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين ، ويعدّون من جملة الشحاذين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد رأيت أن أذكر هنا الرسالة التي كتب بها المخلوع المذكور إلى سلطان فاس الشيخ الوطاسي ، وهي من إنشاء الكاتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله تعالى وسماها «بالروض العاطر الأنفاس ، في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس» ونصها بعد الافتتاح : [البسيط]

مولى الملوك ملوك العرب والعجم

رعيا لما مثله يرعى من الذّمم

بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن

جار الزمان عليه جور منتقم (٥)

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من أصل ه.

(٢) في ب «بفاص إلى الآن».

(٣) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٤) كذا في أصل أ، ج. وفي ب «١٠٢٧».

(٥) جار : ظلم.

٤١٠

حتّى غدا ملكه بالرغم مستلبا

وأفظع الخط ما يأتي على الرّغم (١)

حكم من الله حتم لا مردّ له

وهل مردّ لحكم منه منحتم

وهي اللّيالي وقاك الله صولتها

تصول حتّى على الآساد في الأجم (٢)

كنّا ملوكا لنا في أرضنا دول

نمنا بها تحت أفنان من النّعم (٣)

فأيقظتنا سهام للرّدى صبب

يرمي بأفجع حتف من بهنّ رمي (٤)

فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا

وأيّ ملك بظلّ الملك لم ينم

يبكي عليه الّذي قد كان يعرفه

بأدمع مزجت أمواهها بدم

كذلك الدهر لم يبرح كما زعموا

يشمّ بوّ الصّغار الأنف ذا الشّمم

وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت

فالملك بين ملوك الأرض كالرّحم

وابسط لنا الخلق المرجوّ باسطه

واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم

لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم

نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم (٥)

فما أطقنا دفاعا للقضاء ، ولا

أرادت انفسنا ما حلّ من نقم

ولا ركوبا بإزعاج لسابحة

في زاخر بأكفّ الموج ملتطم

والمرء ما لم يعنه الله أضيع من

طفل تشكّى بفقد الأمّ في اليتم

وكلّ ما كان غير الله يحرسه

فإنّ محروسه لحم على وضم

كن كالسّموأل إذ سار الهمام له

في جحفل كسواد الليل مرتكم

فلم يبح أدرع الكنديّ وهو يرى

أن ابنه البرّ قد أشفى على الرّجم

أو كالمعلى مع الضّليل الأروع إذ

أجاره من أعاريب ومن عجم

وصار يشكره شكرا يكافىء ما

أسدى إليه من الآلاء والنّعم

__________________

(١) في ب «وأفضع الخطب».

(٢) الآساد : الأسود. والأجم : جمع أجمة وهي عرين الأسد.

(٣) أفنان : جمع فنن وهو الغصن.

(٤) في ب ، ه «سهام للردى صيب» وتقرأ بضم الصاد والياء ومعناها : صائبات.

(٥) في ب «لا تأخذنا بأقوال الوشاة» وقد أخذ هذا البيت من قول كعب بن زهير في لاميته التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل

٤١١

ولا تعاتب على أشياء قد قدرت

وخطّ مسطورها في اللوح بالقلم

وعدّ عمّا مضى إذ لا ارتجاع له

وعدّ أحرارنا في جملة الخدم

إيه حنانيك يا ابن الأكرمين على

ضيف ألمّ بفاس غير محتشم

فأنت أنت ، ولو لا أنت ما نهضت

بنا إليها خطا الوخّادة الرّسم (١)

رحماك يا راحما ينمى إلى رحما

في النّفس والأهل والأتباع والحشم (٢)

فكم مواقف صدق في الجهاد لنا

والخيل عالكة الأشداق للّجم

والسيف يخضب بالمحمر من علق

ما ابيضّ من سبل واسود من لمم (٣)

ولا ترى صدر عضب غير منقصف

ولا ترى متن لدن غير منحطم

حتى دهينا بدهيا لا اقتدار بها

سوى على الصون للأطفال والحرم

فقال من لم يشاهدها فربّتما

يخال جامحها يقتاد بالخطم

هيهات لو زبنته الحرب كان بها

أعيى يدا من يد جالت على رخم (٤)

تالله ما أضمرت غشا ضمائرنا

ولا طوت صحّة منها على سقم

لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت

ولاتنا قبلنا في الأعصر الدّهم

فخاننا عنده الجدّ الخؤون ، ومن

تقعد به نكبات الدّهر لم يقم (٥)

فاسودّ ما اخضرّ من عيش دهته عدا

بالأسمر اللّدن أو بالأبيض الخذم

وشتّت البين شملا كان منتظما

والبين أقطع للموصول من جلم (٦)

فربّ مبنى شديد قد أناخ به

ركب البلا فقرته أدمع الدّيم

قمنا لديه أصيلانا نسائله

أعيا جوابا وما بالرّبع من إرم

وما ظننّا بأن نبقى إلى زمن

نرى به غرر الأحباب كالحمم

لكن رضا بالقضا الجاري وإن طويت

منّا الضلوع على برح من الألم

لبّيك يا من دعانا نحو حضرته

دعاء إبراهيم الحجّاج للحرم

__________________

(١) الوخادة : النوق السريعة.

(٢) رحما : أصله : رحماء جمع رحيم ، مثل كريم وكرماء ، وبخيل وبخلاء. وقصره لما اضطر لإقامة الوزن.

(٣) العلق هنا : الدم.

(٤) زنبته الحرب : صدمته. وفي ب «على رحم».

(٥) الجدّ : هنا الخط.

(٦) الجلم : المقصّ.

٤١٢

واعط الأمان الّذي وصّت قواعده

على أساس وفاء غير منهدم (١)

خليفة الله وافاك العبيد فكن

في كل فضل وطول عند ظنّهم

وبين أسلافنا ما قد علمت به

من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم

وأنت منهم كأصل مطلع غصنا

أو كالشّراك الّذي قد قدّ من أدم

وقد خطوت خطاهم في مآثرهم

فلم يذمّوا إذن فيها ولم تذم

وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا

في الناس أشهر من نار على علم (٢)

سلالة الأمراء الجلّة الكبرا

ء العليّة الظّهراء القادة البهم (٣)

بنو مرين ليوث في عرين أبوا

رؤيا قرين لهم في البأس والكرم

النازلين من البيضاء وسط حمى

أحمى من الأبلق السامي ومن إرم

والجائسين بدهم الخيل كلّ ذرا

والدّاعسين بسمر الخط كل كمي

يريك فارسهم إن هز عامله

في مارق بلظى الهيجاء مضطرم

ليثا على أجدل عار من اجنحة

يسطو بأرقم لدّاغ بغير فم

في اللام يدغم من عسّاله ألفا

ولم نجد ألفا أصلا بمدّغم

أهل الحفيظة يوم الرّوع يحفظهم

من عصمة الله ما يربي على العصم

يا من تطير شرار منه محرقة

لكلّ مدّرع بالحزم محتزم

هم بطائفة التثليث قد فتكوا

كمثل ما يفتك السّرحان بالغنم (٤)

وإن يلثّمهم يوم الوغى رهج

أنسوك ما ذكروه عن ذوي اللّثم

تضيء آراؤهم في كلّ معضلة

إضاءة السّرج في داج من الظّلم

هذا ولو من حياء ذاب محتشم

لذاب منهم حياء كلّ محتشم

طابت مدائجهم إذ طابت انفسهم

فاشتقّت النسمات اسما من النّسم (٥)

لله درّهم والسّحب باخلة

بدرّهنّ على الأنعام والنّعم

__________________

(١) في ب «الأمان الذي رضت قواعده».

(٢) في نسخة عند ه «غدا في الفضل أشهر من نار على علم».

(٣) في ب «الظهراء القادة البهم».

(٤) طائفة التثليث : النصارى. والسرحان : الذئب.

(٥) في ب «طابت مدائحهم».

٤١٣

بحيث الافق يرى من لون حمرته

كالشيب يخضب بالحناء والكتم

هناك تنهلّ أيديهم بصوب حيا

يحيا بالاحداث ما فيها من الرّمم (١)

وأن بيتي زياد طالما ذكروا

إذا ألمّت أحاديث بذكرهم (٢)

أحلام عاد وأجسام مطهرة

من المعقّة والآفاق والأثم

يرون حقّا عليهم حفظ جارهم

فلم يضر نازل فيهم ولم يضم

فروعهم بالدواهي لا يراع ، ولا

يغمّ منها بما يعرو من الغمم (٣)

هم البحار سماحا غير أن بها

ما قد أناف على الأطواد من همم (٤)

وليس يسلم من حتف محاربهم

حتى يكون إليهم ملقي السّلم

كم فيهم من أمير أوحد ندس

يقرطس الغرض المقصود بالفهم (٥)

ولا كسبط أبي حسون من حسنت

أمداحه حسن ما فيه من الشّيم

هذا كم ابن أبي ذكرى الهمام فقل

في أصله المنتقى من مجده العمم (٦)

خليفة الله حقا في خليقته

كنائب ناب في حكم عن الحكم

مهما تنر قسمات منه نيّرة

تنل بنازله ما جل من نعم

فوجهه بدجا أو كفه بجدى

أبهى من الزهر أو أندى من الدّيم (٧)

وفضله وله الفضل المبين جرى

كجري الأمثال في الأقطار والأمم

وجوده المتوالي للبريّة ما

وجوده بينها طرّا بمنهدم

إذا ابتغت نعما منه العفاة له

لم يسمعوا كلمة منه سوى نعم (٨)

وإن يعبس زمان في وجوههم

لم يبصروا غير وجه منه مبتسم

وجه تبين سمات المكرمات به

كما تبين سمات الصدق في الكلم

__________________

(١) في ب

«بصوب حيا»

يحيي بالاجداث ...»

 (٢) في أ«وأن بيتي زياد طالما ذكروا» وزياد هو النابغة الذيباني.

(٣) في ب «فروعه بالدواهي ...».

(٤) الأطواد : الجبال ، جمع طود.

(٥) الندس : الفطن الذكي.

(٦) في ب «هذا كم بن أبي ذكرى ...».

(٧) الجدى ـ بفتح الجيم : العطاء. والديم : جمع ديمة وأصله : المطر الدائم الذي لا ينقطع.

(٨) العفاة : جمع عاف ، وهو طالب المعروف.

٤١٤

وراحة لم تزل في كل آونة

في نيلها راحة الشّاكي من العدم

لله ما التزمته من نوافله

أيام لا فرض مفروض بملتزم

أنسى الخلائف في حلم وفي شرف

وفي سخاء وفي علم وفي فهم

فجاز معتمدا منهم ومعتضدا

وامتاز عن واثق منهم ومعتصم

وناصر الدين في الإقبال فاق ، وفي

محبة العلم أزرى بابنه الحكم

أفعال أعدائه معتلة أبدا

متى يرم جزمها بالحذف تنجزم

فويل أهل القلى من حيّة ذكر

للمتلئبّ اللهام المجر ملتقم (١)

راموا عداوة من شاء غادرهم

مثل الأحاديث عن عاد وعن إرم

فسوف يأكلهم من جيشه لجب

بكل قرم إلى لحمانهم قرم (٢)

وإن الاعراب إذ ساروا لغايته

لسائرون إلى لقم على لقم

وهم كما قاله ماض «أرى قدمي

بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي» (٣)

فقل إذن للمناوي الناولان أذى

يا غر غرك ما أبصرت في الحلم

له صوارم لو ناجتك ألسنها

لبشرتك بعمر منك منصرم (٤)

وأن روحك عن قرب سيقبضه

قبض المسلم ما قد حاز من سلم

فهو الذي ما له ندّ يشابهه

من كل متصف بالدّهي متّسم (٥)

يدبر الأمر تدبيرا يخلصه

مما عسى أن يرى فيه من الوهم

ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا

تعمى عن ادراكه ألحاظ كل عمي

وينعم النظر المفضي بناظره

لصوب وجه صواب واضح اللقم

ذو منطق لم تزل تجلو نتائجه

عن مبطل بخصام المبطل الخصم

ومسمع ليس يصغي للوشاة فلم

ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي

__________________

(١) القلى ـ بكسر القاف : البغض والكراهية.

(٢) اللجب : الكثير الضجة. والقرم : الشديد الشهوة للّحم.

(٣) يشير إلى قول الشاعر :

أرى قدمي أراق دمي

وهو من أبيات الجناس

(٤) الصوارم السيوف القاطعة ، جمع صارم.

(٥) الندّ : المثيل ، النظير.

٤١٥

فعقله لا توازيه العقول ، وهل

يوازن الطود ما قد طال من أكم؟ (١)

إيه جميع الورى من بدو او حضر

نداء مرتبط بالنصر مرتسم

شدّوا وجدّوا ولا تعنوا ولا تهنوا

قد لفّها الليل بالسّوّاقة الحطم (٢)

هذا الإمام المرينيّ السعيد له

سعد يؤيده في كل مصطدم

قد أقسمت أنه المنصور ألسنة

من نخبة الأوليا مبرورة القسم

فشيّعوه ووالوه تروا عجبا

وتظفروا معه بالأجر والغنم

والحمد لله إذ أبقى خلافته

كهفا لنا من يخيم فيه لم يرم

حرز حريز وعزّ قائم وندى

غمر دراك بلا منّ ولا سأم

دامت ودام لها سعد يساعدها

في كل مبتدإ منه ومختتم

فالله عز اسمه قد زانها بحلى

من غرّ أمداحه كالدّرّ في النّظم

الواهب الألف بعد الألف من ذهب

كالجمر يلمع في مستوقد الضّرم

والفاعل الفعل لم يهمم به أحد

والقائل القول فيه حكمة الحكم

ذاكم هو الشيخ فاعجب إنه هرم

جودا وحاشاه أن يعزى إلى هرم (٣)

وحسبنا أن أيدينا به اعتصمت

من حبله بوثيق غير منفصم

فما محالفه يوما بمضطهد

ولا مؤالفه يوما بمهتضم (٤)

ولا موافيه في جهد بمطّرح

ولا مصافيه في ودّ بمتّهم

ولا محيّا محبّيه بمنكسف

ولا رجاء مرجّيه بمنخرم (٥)

وما تكرّمه سرا بمنكشف

ولا تنكّره جهرا بمكتتم

وليس لامح مرآه بمكتئب

وليس راضع جدواه بمنفطم

__________________

(١) الطود : الجبل. والأكم : جمع أكمة وهي الهضبة.

(٢) أخذ هذا من قول الحطم :

قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

(٣) هرم : هو هرم بن سنان ممدوح زهير بن أبي سلمى المزني.

(٤) اهتضم حقه : ضاع.

(٥) في ب «ولا محيا محييه ...».

٤١٦

ولا مقبل يمناه الكريمة في

محلّ ممتهن بل دست محترم

وما وسيلتنا العظمى إليه سوى

ما ليس ينكر ما فيها من العظم

وإنّما هي وما أدراك ما هي من

وسيلة ردّها أدهى من الوخم

نبيّنا المصطفى الهادي بخير هدى

محمد خير خلق الله كلّهم

داعي الورى من أولي خيم وأهل قرى

إلى طريق رشاد لاحب أمم (١)

عليه منا صلاة الله ما ذكرت

(أمّن تذكّر جيران بذي سلم) (٢)

وما تشفّع فيها بالشّفيع له

دخيل حرمته العلياء في الحرم

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ، ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير ، ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ، نعم المولى ونعم النصير.

أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح ، يدعو إلى سبيل كل فلاح ، أولي قلوب غافلة ونفوس سواه ، والرضا عن آله وأصحابه وعترته الأكرمين وأحزابه الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه (٣) وعزروه ونصروه في حال قربه ونواه (٤) ، فيا مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حطّ الله تعالى لكم من العزة أرواقا (٥) ، ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا ولا أوراقا ، ولا زالت مخضرة العود ، مبتسمة عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود ، ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون برق (٦) ولا رعود ، هذا مقام العائذ بمقامكم ، المتعلق بأسباب ذمامكم ، المترجّي لعواطف قلوبكم وعوارف إنعامكم المقبل الأرض تحت أقدامكم ، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم ، وما (٧) الذي يقول من وجهه خجل ، وفؤاده وجل ، وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجلّ ، بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي

__________________

(١) اللاحب : الطريق الواضح. والأمم بفتح الهمزة والميم : القريب.

(٢) ضمن هذا البيت صدر مطلع قصيدة البوصيري (البردة) والبيت بتمامه :

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

(٣) نواه : جمع نهي.

(٤) عزروه : آزروه وساعدوه وناصروه. ونواه : بعده.

(٥) كذا في أ، ج ، ه. وفي ب «رواقا».

(٦) في ب ، ه «دون بروق».

(٧) في أ«وما ذا».

٤١٧

واجترائي عليه أكثر ، واجترامي (١) إليه أكبر : اللهم لا برىء فأعتذر ، ولا قوي فأنتصر ، لكني مستقيل ، مستنيل مستعتب مستغفر وما أبرئ نفسي ، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] ، هذا على طريق التنزل والإنصاف ، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف ، وأما على جهة التحقيق ، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق (٢) : والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقول ما لم يكن ، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني ، فأقول ما قاله أبو يوسف (٣) : صبر جميل والله المستعان على ما تصفون (٤) ، على أني لا أنكر عيوبي فأنا معدن العيوب ، ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب ، إلى الله أشكو عجري وبجري ، وسقطاتي وغلطاتي ، نعم كل شيء ولا ما يقوله المتقول ، المشنع المهوّل ، الناطق بفم الشيطان المسوّل ، ومن أمثالهم «سبّني واصدق ، ولا تفتر ولا تخلق» أفمثلي كان يفعل أمثالها ، ويحتمل من الأوزار المضاعفة أحمالها؟ ويهلك نفسه ويحبط أعمالها ، عياذا بالله من خسران الدين ، وإيثار الجاحدين والمعتدين ، قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، وايم الله لو علمت شعرة في فوديّ تميل إلى تلك الجهة لقطعتها ، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطّعتها ، غير أن الرعاع (٥) في كل وقت وأوان ، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان ، كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان (٦) ، أو أعقل أو أعلم من أشجّ (٧) بني مروان ، ربّ متّهم بري ، ومسربل بسربال وهو منه عري ، وفي الأحاديث صحيح وسقيم ، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم ، ولكن ثم ميزان عقل ، تعتبر به أوزان النقل ، وعلى الراجح الاعتماد ، ثم إشاعة الأحماد ، المتصل المتماد ، وللمرجوح الاطراح ، ثم التزام الصراح ، بعد النّفض من الراح ، وأكثر ما تسمعه الكذب ، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب ، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار ، ورمينا بما لا يرمى به الكفار ، فضلا عن الفجار ، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو ، ما لديكم منه حفظ الجار وإذا عظم الإنكاء ، فعلى تكاءة التجلد الاتكاء ، أكثر المكثرون ، وجهد في تعثيرنا المتعثرون ، ورمونا عن قوس واحدة ، ونظمونا في سلك

__________________

(١) في ب «واحترامي إليه».

(٢) هي أم المؤمنين عائشة ابنة الصديق أبي بكر.

(٣) أبو يوسف : أرادت به أم المؤمنين يعقوب عليه السلام.

(٤) الآية ١٨ من سورة يوسف (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

(٥) الرعاع : الغوغاء والسفلة.

(٦) أبو ثروان : هو هبنقة العقيس الذي ضرب به المثل في الحماقة.

(٧) أشج بني مروان : هو عمر بن عبد العزيز.

٤١٨

الملاحدة ، أكفرا أيضا كفرا ، غفرا اللهم غفرا ، أعد نظرا يا عبد قيس ، فليس الأمر على ما خيل لك ليس ، وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ، ممن رام محقه ومحقنا ، فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين ، فانفتق علينا فتق ، لم يمكنا له رتق (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) [يوسف : ٨١] ، وبعد فاسأل أهل الحل والعقد ، والتمييز والنقد ، فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا (١) ، وقد رضينا بحكمهم يؤثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا (٢) ، إيه يا من اشرأبّ إلى ملامنا ، وقدح حتى في إسلامنا ، رويدا رويدا ، فقد وجدت قوة وأيدا (٣) ، ويحك إنما طال لسانك علينا ، وامتد بالسوء إلينا ، لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر ، والأمر عليك مقبل وعنا مدبر ، كما قال كاتب الحجاج الموبر ، وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلا ، وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر ، فلله در القائل (٤) : [الرجز]

إن كنت أخطأت فما أخطا القدر

وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا ، وعدم إنصافه يعلمه إلهنا ، قد ازورّ متجانفا ، ثم افتر متهانفا ، وجعل يتمثل بقولهم : إذا عيروا قالوا مقادير قدرت ، وبقولهم : المرء يعجزه المحال ، فيعارض الحق بالباطل ، والحالي بالعاطل ، ومنزع بقول القائل : رب مسمع هائل ، وليس تحته من طائل ، وقد فرغنا أول أمس من جوابه ، وتركنا الضغن يلصق حرارة الجوي به وسنلم الآن بما يوسعه تسكيتا ، ويقطعه تبكيتا ، فنقول له : ناشدناك الله تعالى ، هل اتفق لك قط وعرض ، خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض؟ مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك ، في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك ، أو جميع ما تزاوله بإدارتك ، لا يقع إلا مطابقا لإرادتك ، أو كل ما تقصده وتنويه ، تحرزه كما تشاء وتحويه؟ فلا بد أن يقر اضطرارا ، بأن مطلوبه يشذّ عنه مرارا ، بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ، ويطلبه فيعجز عن إدراكه ، فنقول : ومسألتنا من هذا القبيل ، أيها النبيه النبيل ، ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ماشينا (٥) ، مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم «كل شيء بقضاء وقدر ، حتى العجز والكيس»

«لو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ، ولو

__________________

(١) هذا الكلام معنى المثل القائل «وعند جهينة الخبر اليقين».

(٢) يوبقنا : يهلكنا ، ويقينا : يحفظنا.

(٣) الأيد : القوة.

(٤) هو أبو العتاهية. انظر ديوانه ص ٤٤٩.

(٥) شينا : أصله : شئنا ، مسهل الهمزة بقلبها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

٤١٩

اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله عليك (١) لم يقدروا عليه» أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأخلق به أن يلوذ بأكناف الإحجام ، ويزمّ على نفثة (٢) فيه كأنما ألجم بلجام ، حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه ، وقهره بحجته وعلاه : ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله ، وفي محاجّة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ، ويرخض (٣) عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من درن الوصم ، وكيفما كانت الحال ، وإن ساء الرأي والانتحال ، ووقعنا في أوجال وأوحال ، فثلّ عرشنا ، وطويت فرشنا ، ونكس لوانا ، وملك مثوانا ، فنحن أمثل من سوانا ، وفي الشر خيار ، ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار ، فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ، ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا ، وإلا فتلك بغداد دار السلام ، ومتبوّأ الإسلام ، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام ، مثابة الخلافة العباسية ، ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسيّة (٤) ، والعقول الإياسية (٥) ، قد نوزلت بالجيوش ونزلت ، وزوولت بالزحوف وزلزلت ، وتحيف جوانبها الحيف (٦) ، ودخلها كفار التّتار عنوة بالسيف ، ولا تسل إذ ذاك عن كيفية (٧) أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية ، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية ، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية ، وللنجيع سيول (٨) ، تخوضها الخيول ، فتخضبها إلى أرساغها ، وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها ، فطاح عاصمها ومستعصمها ، وراح ولم يغد (٩) ظالمها ومتظلمها ، وخربت مساجدها وديارها ، واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها ، فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف ، حسبما عرفت أو حسبما تعرف ، فلا تك متشككا متوقفا ، فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا (١٠) ، فأين تلك الجحافل ، والآراء المدارة في المحافل؟ حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر ، لم تجد

__________________

(١) في ب «لك لم يقدروا ...».

(٢) نفثه فيه : أراد نفخة فمه.

(٣) يرحض : يغسل. وكذلك هو في ب ونسخة عند ه. وفي أصل ه «يرخص».

(٤) نسبة إلى أويس القرني الزاهد.

(٥) نسبة إلى إياس بن معاوية القاضي الذي ضرب به المثل في الزكانة والفطنة.

(٦) تحيف : انتقص. والحيف : الجور والظلم.

(٧) في ب ، ج «عن كيف ، أيام تجلت ... إلخ».

(٨) النجيع : الدم.

(٩) في ب «ولم يعد».

(١٠) أراد أشهر من «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» معلقة امرئ القيس.

٤٢٠