نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

جناب بأعلاه بهار ونرجس

فأبيض مفتر الثنايا وأصفر (١)

وموردنا في قلب قلت كمقلة

حذارا علينا من قذى العين تستر

وكم قد هبطنا القاع نذعر وحشه

ويا حسنه مستقبلا حين يذعر (٢)

نقود إليه طائعا كلّ جارح

له منخر رحب وخصر مضمّر

إذا ما رميناه به عبثت به

مدلّلة الأطراف عنهن تكشر (٣)

تضمّ لأروى النّيق حزّان سهلها

وقد فقدت فيها مهاة وجؤذر (٤)

كذاك إلى أن صاح بالقوم صائح

وأنذر بالبيت المشتت منذر

وفرّقهم أيدي سبا وأصابهم

على غرّة منهم قضاء مقدّر

ونعود إلى حيث كنا من تبدد شمل الجيره ، وطيّ بساط الجزيرة :

أما شاطبة فكانت من قصبتها شوساء الطرف (٥) ، وببطحائها عروسا في نهاية الظرف فتخلى عن الذروة من أخلاها ، وقيل للكافر : شأنك وأعلاها ، فقبل أن تضع الحرب أوزارها ، كشط عنها إزارها (٦) ، فاستحلّ الحرمة أو تأوّلها ، وما انتظر أقصر المدة ولا أطولها ، وأما تدمير فجاد عودها على الهصر (٧) ، وأمكنت عدوها من القصر ، فداجى الكفر الإيمان ، وناجى الناقوس الأذان ، وما وراءها من الأصقاع التي باض الكفر فيها وفرّخ ، وأنزل بها ما أنسى التاريخ ومن أرخ ، فوصفكم على الحادثة فيها أتى ، وفي ضمان القدرة الانتصاف من عدوّ عثا وعتا (٨) ، وإنا لنرجوها كرة تفك البلاد من أسرها ، وتجبرها بعد كسرها ، وإن كانت الدولة العامرية منعت بالقراع ذمارها (٩) ، ورفعت على اليقاع (١٠) نارها ، فهذه العمرية بتلك المنقبة

__________________

(١) في ه «جنان بأعلاه بهار».

(٢) في ه «تذعر وحشه».

(٣) في ب «مؤللة الأطراف».

(٤) النيق : الجبل الطويل ، أو أعلى موضع في الجبل ، والمهاة : البقرة الوحشية. والجؤذر : ولد البقرة الوحشية.

(٥) الشوساء : الرافعة رأسها تكبرا ، ومذكرها أشوس.

(٦) كشط عنها غطاءها : رفعه عنها.

(٧) هصر العود هصرا : أماله وكسره.

(٨) عثا ـ بالمثلثة ـ أفسد. وعتا ـ بالمثناة ـ تجبر وتكبر.

(٩) القراع : النضال والقتال. والذمار : كل ما يجب أن يحميه المرء من عرض وغيره.

(١٠) اليقاع : ما ارتفع من الأرض.

٣٨١

أخلق ، والعدوّ لها أهيب ومنها أفرق ، وما يستوي نسب مع البقل نبت ، وبالمستفيض من النقل ما ثبت ، وآخر علت سماؤه على اللمس ، ورسا ركنه في الإسلام رسوّ قواعده الخمس ، وكان كما قال أبو حنيفة في خبر المسيح : جاءنا مثل الشمس ، والأيام العمرية هي أم الوقائع المحكية ، ومن شاء عدها من اليرموكية إلى الأركية ، وهذه الأيام الزاهرة هي زبدة حلاوتها ، وسجدة تلاوتها ، وإمامتها العظمى أيدها الله تعالى ، تمهل الكافر مدة إملائه ، ثم تشفي الإسلام من دائه ، وتطهر الأرض بنجس دمائه ، بفضل الله تعالى ، المرجو زيادة نعمه قبلها وآلائه ، راجعت سيدي مؤديا ما يجب أداؤه ، ومقتديا وما كل أحد يحسن اقتداؤه ، وإنما ناضلت ثعليا (١) ، وعهدي بالنضال قديم ، وناظرت جدليا ، وما عندي للمقال تقديم ، وأطعته في الجواب ولقريحتي يعلم الله تعالى نكول ، ورويتي لو لا حق المسألة بطير الحوادث المرسلة عصف مأكول ، أتم الله تعالى عليه آلاءه ، وحفظ مودته وولاءه ، ومتع بخلّته الكريمة أخلاءه ، بمنه ، والسلام ، انتهت الرسالة.

ورأيت في رحلة ابن رشيد لما ذكر أبا المطرف ما صورته : وأما الكتابة فقد كان حامل لوائها ، كما قال بعض أصحابنا : ألان الله تعالى له الكلام ، كما ألان الحديد لداود عليه السلام ، وأخبرني شيخنا أبو بكر أن شيخه أبا المطرف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ، فأعطاه حزمة أقلام ، وقال : استعن بهذه على كتابتك ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، انتهى.

وبعد كتبي لهذه الرسالة رأيت أن أذكر رسالة الحافظ ابن الأبار التي هذه جواب عنها ، وهي من غرض ما نحن فيه فلنقتبس نور البلاغة منها ، وهي :

سيدي وإن وجم لها النادي (٢) ، وجمجم بها المنادي (٣) ، ذلك لصغرها عن كبره في المعارف الأعلام ، وصدرها يوغر صدور الصحائف والأقلام ، وأعيذ ريحانة قريش ، أن تروح من حفيظتها في جيش ، قد هابتها مغاوير كل حي ، وأجابتها الغطاريف (٤) من قصي ، تدلف بين يديها كتيبة خالد ، وتحلف لا قدحت نار الهيجاء بزند صالد ، أو تنصف من غامطها ، وتقذف به وسط (٥) غطامطها ، لا جرم أني من جريمتي حذر ، وعما وضحت به قيمتي للمجد معتذر ، إلا

__________________

(١) ثعليا : نسبة إلى بني ثعل ، وهم قوم من العرب اشتهروا بجودة الرمي وإصابة المرمى.

(٢) وجم : سكت وعجز عن الكلام.

(٣) جمجم : لم يبين كلامه.

(٤) الغطاريف : جمع غطريف ، وهو الفتى الجميل.

(٥) في ه «من وسط غطامطها» والغطامط : الموج المرتفع.

٣٨٢

أن يصوح (١) من الروض نبته وجنّاته ، ويصرح بالقبول حلمه وأناته ، الحديث عن القديم شجون (٢) ، والشأن بتقاضي الغريم شؤون ، فلا غرو أن أطارحه إياه ، وأفاتحه الأمل في لقياه ، ومن لي بمقالة مستقلة ، أو إخالة (٣) غير مخلة ، أبت البلاغة إلا عمادها ، ومع ذلك فسأنيىء عمادها (٤) ، درجت اللّدات (٥) والأتراب ، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب ، أيام دفعنا لأعظم الأخطار ، وفجعنا بالأوطان والأوطار ، فإلام نداري برح الألم ، وحتام نساري النجم في الظلم ، جمع أوصاب ما له من انفضاض ، ومضض اغتراب شذ عن ابن مضاض ، فلو سمع الأول بهذا الحادث ، ما ضرب المثل بالحارث (٦) ، يا لله من جلاء ليس به يدان ، وثناء قلما يسفر عن تدان ، وعد الجدّ العاثر لقاءه فأنجز ، ورام الجلد الصابر انقضاءه فأعجز ، هؤلاء الأخوان ، مكثهم لا يمتع به أوان ، وبينهم كنبت الأرض ألوان ، بين هائم بالسّرى ، ونائم في الثرى ، من كل صنديد بطل ، أو منطيق غير ذي خطأ ولا خطل ، قامت عليه النوادب ، لما قعدت [به](٧) النوائب ، وهجمت بيوتها لمنعاه الجماجم والذوائب ، وأما الأوطان المحبّب عهدها بحكم الشباب ، المشبّب فيها بمحاسن الأحباب ، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد ، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد ، أسلمها الإسلام ، وانتظمها الانتثار والاصطلام ، حين وقعت أنسرها الطائرة ، وطلعت أنحسها الغائرة ، فغلب على الجذل الحزن ، وذهب مع المسكن السّكن : [البسيط]

كزعزع الريح صكّ الدوح عاصفها

فلم يدع من جنى فيها ولا غصن

وآها وواها يموت الصّبر بينهما

موت المحامد بين البخل والجبن (٨)

أين بلنسية ومغانيها ، وأغاريد ورقها وأغانيها (٩) ، أين حلى رصافتها وجسرها ، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غضارة ، وذكاؤها تبدو من خضارة (١٠)؟ أين جداولها

__________________

(١) يصوح : ييبس.

(٢) أخذه من المثل «الحديث ذو شجوت».

(٣) الإخالة : تفرس الخير وتوسّمه.

(٤) في ب ، ه «فأستنبىء عمادها».

(٥) اللدات : جمع لدة : المساوي في السن ، والأتراب جمع ترب ، وهو أيضا المساوي في السن.

(٦) الحارث بن مضاض الجرهمي قال قصيدة يبكي فيها تفرق قومه وتشتتهم.

(٧) «به» ساقطة من ب.

(٨) في ب «واها وآها».

(٩) ورق : جمع ورقاء ، وهي الحمامة.

(١٠) في أ«وركاؤها» وذكاء : الشمس. وخطارة : البحر.

٣٨٣

الطفّاحة وخمائلها؟ أين جنائنها (١) النفاحة وشمائلها؟ شذ ما عطل من قلائد أزهارها نحرها ، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها ، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان ، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان ، ثم لم يلبث داء عقرها ، أن دبّ إلى جزيرة شقرها ، فأمر (٢) عذبها النّمير ، وذوى غصنها النّضير ، وخرست حمائم أدواحها ، وركدت نواسم أرواحها (٣) ، ومع ذلك اقتحمت دانية ، فنزحت قطوفها وهي دانية ، ويا لشاطبة وبطحائها ، من حيف الأيام وإنحائها ، ولهفاه (٤) ثم لهفاه على تدمير وتلاعها ، وجيّان وقلاعها ، وقرطبة ونوديها ، وحمص وواديها ، كلها رعي كلؤهأ ، ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها (٥) ، عض الحصار أكثرها ، وطمس الكفر (٦) عينها وأثرها ، وتلك البيرة بصدد البوار ، ورية في مثل حلقة السّوار ، ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار ، إلى بنيات ، لواحق بالأمهات ، ونواطق بهاك لأول ناطق بهات ، ما هذا النفخ بالمعمور؟ أهو النفخ في الصور؟ أم النّفر عاريا من الحج المبرور؟ وما لأندلس أصيبت بأشرافها ، ونقصت من أطرافها؟ قوّض عن صوامعها الأذان ، وصمّت بالنواقيس فيها الآذان ، أجنت ما لم تجن الأصقاع؟ أعقّت الحقّ فحاق بها الإيقاع؟ كلا بل دانت للسّنّة ، وكانت من البدع في أحسن جنة ، هذه المروانية مع اشتداد أركانها ، وامتداد سلطانها ، ألقت حبّ آل النبوّة في حبات القلوب ، وألوت ما ظفرت من خلعه ولا قلعه بمطلوب ، إلى المرابطة بأقاصي الثغور ، والمحافظة على معالي الأمور ، والركون إلى الهضبة المنيعة ، والروضة المريعة (٧) ، من معاداة الشيعة ، وموالاة الشريعة ، فليت شعري بم استوثق تمحيصها؟ ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها ، اللهم غفرا طالما ضر ضجر ، ومن الأنباء ما فيه مزدجر ، جرى بما لم نقدّره المقدور ، فما عسى أن ينفث به المصدور؟ وربنا الحكيم العليم ، فحسبنا التفويض له والتسليم ، ويا عجبا لبني الأصفر أنسيت مرج الصفر ، ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر (٨) ، دع ذا فالعهد به بعيد ، ومن اتّعظ بغيره فهو سعيد ، هلا تذكرت العامرية وغزواتها ، وهابت العامرية وهبواتها (٩) ، أما الجزيرة بخيلها محدقة ، وبأحاديث فتحها مصدقة ، هذا الوقت المرتقب ، والزمان الذي زجيت له الشهور والحقب (١٠) ، وهذه الإمامة

__________________

(١) في ب ، ج «أين جنائبها».

(٢) أمرّ : أصبح مرا.

(٣) الأرواح : جمع ريح.

(٤) في ب «والهفاه».

(٥) في ه «كلاها ... ملاها».

(٦) في ه «وطمس الكفار».

(٧) المريعة : الخصيبة.

(٨) يوم اليرموك : معركة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون على الروم في الشام. والأغلب : الغليظ العنق ، وهنا القوي الشجاع.

(٩) هبوات : جمع هبوة ، وهي الغبرة.

(١٠) الحقبة : الفترة من الزمن.

٣٨٤

أيدها الله تعالى هي المنقذة من أسرها ، والمنفذة (١) لسلطانها مراسم نصرها ، فيتاح (٢) الأخذ بالنار ، ويزاح عن الجنة أهل النار ، ويعلم الكافر لمن عقبى الدار ، حاورت سيدي بمثار الفاجي الفاجع ، وحاولت برء الجوى من جوابه بالعلاج الناجع ، وبودّي لو تقع في الأرجاء مصاقبة ، فترفع من الإزراء معاقبة ، أليس لديه أسو (٣) المكلوم ، وتدارك المظلوم؟ وبيديه أزمّة المنثور والمنظوم ، خيال يختر في إقناع إياد ، وصوغ ما لم يخطر على قلب زيد ولا يخاطر زياد ، بسّت الجبال الطوامح (٤) ، لما بست وأبو فتحها ، وغيضت البحار الطوافح فمن يعبأ بالركايا ومتحها ، أين أبو الفضل بن العميد من العماد الفاضل؟ وصمصامة عمرو من قلمه الفاضل ، هذا مدرهها الذي فعل الأفاعيل ، وأحمدها الذي سما على إبراهيم وإسماعيل (٥) ، وهما إماما الصناعة ، وهماما البراعة واليراعة ، بهما فخر من نطق بالضاد ، وبسببهما حسدت الحروف الصاد ، لكن دفعهم بالراح ، وأعرى مدرّعهم من المراح ، وشرف دونهم ضعيف القصب على صمّ الرماح ، أبقاه الله تعالى وبيانه صادق الأنواء ، وزمانه كاذب الأسواء ، ولا زال مكانه مجاوزا ذؤابة الجوزاء ، وإحسانه مكافئا بأحسن الجزاء ، والسلام.

وقد عرفت بابن الأبار في «أزهار الرياض» بما لا مزيد عليه ، غير أني رأيت هنا أن أذكر فصولا مجموعة من كلامه في كتابه المسمى «بدرر السمط ، في خبر السبط».

قال رحمه الله تعالى : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، فروع النبوة والرسالة ، وينابيع السماحة والبسالة ، صفوة آل أبي طالب ، وسراة بني لؤي بن غالب ، الذين جاءهم (٦) الروح الأمين ، وحلّاهم الكتاب المبين ، فقل في قوم شرعوا الدين القيّم ، ومنعوا اليتيم أن يقهر والأيّم ، ما قدّ من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة ، ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة ، لو لا هم ما عبد الرحمن ، ولا عهد الإيمان ، وعقد الأمان ، ذؤابة غير أشابة (٧) ، فضلهم ما شانه نقص ولا شابه ، سراة محلتهم سر المطلوب ، وقرار (٨) محبتهم حبّات القلوب ، أذهب الله

__________________

(١) في ب «والمنقذة لسلطانها».

(٢) في ب «فيتاح الأخذ بالثأر».

(٣) أسو المكلوم : مداواته. ووقع في أ«أسواء المكلوم».

(٤) بست الجبال : فتتت ، وفي القرآن الكريم (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا).

(٥) إبراهيم : هو أبو إسحاق الصابي. وإسماعيل : هو الصاحب بن عباد.

(٦) في ب «حباهم».

(٧) الأشابة ـ بضم الهمزة ـ الأخلاط الذين لا تمايز بينهم.

(٨) في ب ، ه «وقرارة محبتهم».

٣٨٥

عنهم الرجس ، وشرف بخلقهم الجنس ، فإن تميزوا فبشريعتهم البيضاء ، أو تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء ، من كل يعسوب الكتيبة (١) ، منسوب لنجيب ونجيبة ، تجاره الكرم ، وداره الحرم ، نمته العرانين من هاشم أبي النسب الأصرح الأوضح ، إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرّة الأبطح ، أولئك السادة أحيّي وأفدي ، والشهادة بحبهم أوفي وأؤودي ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.

فصل : ما كانت خديجة لتأتي بخداج (٢) ، ولا الزهراء لتلد إلا أزاهر كالسّراج ، مثل النحلة لا تأكل إلا طيبا ، ولا تضع إلا طيبا ، خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب (٣) ، ويسمو مرقبها على النجم الثاقب ، لم تجد بمثلها المهاري ، ولم يلد له غيرها من المهاري ، آمت (٤) من بعولتها قبله ، لتصل السعادة بحبلها حبله ، ملاك العمل خواتمه ، ربّ ربّات حجال ، أنفذ من فحول رجال. [الوافر]

وما التّأنيث لاسم الشّمس عيب

ولا التّذكير فخر للهلال (٥)

هذه خديجة من أخيها حزام أحزم ، ولشعار الصدق من شعارات القص ألزم ، ركنت إلى الركن الشديد ، وسدّدت للهدى كما هديت للتسديد ، يوم نبىء خاتم الأنبياء ، وأنبئ بالنور المنزل عليه والضياء.

فصل : وكان قبيل المبعث بين يدي لم الشعث ، يثابر على كل حسنى وحسنة ، ويجاور شهرا من كل سنة ، يتحرى حراء بالتعهد ، ويزجي تلك المدة في التعبد ، وذلك الشهر المقصور على التبرر (٦) ، المقدور فيه رفع التضرر ، شهر رمضان ، المنزل فيه القرآن ، فبيناه ، لا ينام قلبه وإن نامت عيناه ، جاءه الملك مبشرا بالنجح ، وقد كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ، فغمره بالكلاءة ، وأمره بالقراءة ، وكلما تحبس له غطّه ثم أرسله ، وإذا أراد الله بعبد خيرا عسله [الطويل].

تريدين إدراك المعالي رخيصة

ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل

__________________

(١) في ه «يعسوب كتيبة» واليعسوب : الرئيس الكبير في قومه.

(٢) الخداج : بكسر الخاء : الناقص.

(٣) الحاشر العاقب : من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(٤) آمت : أصبحت أيما ، والأيّم : التي فقدت زوجها.

(٥) البيت لأبي الطيب المتنبي في رثاء أم سيف الدولة الحمداني.

(٦) التبرر : التحنف ، والعتبد.

٣٨٦

كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق ، وقد علق فاتحة العلق ، فلا يجري غيرها على لسانه ، وكأنما كتبت كتابا في جنانه (١).

فصل : ولما أصبح يؤمّ الأهل ، وتوسط الجبل يريد السهل ، وقد قضى الأجل ، وما نضا الوجل ، نوجي (٢) بما في الكتاب المسطور ، ونودي كما نودي موسى من جانب الطور ، فعرض له في طريقه ، ما شغله عن فريقه ، فرفع رأسه متأملا ، فأبصر الملك في صورة رجل متمثلا ، يشرّفه بالنداء ، ويعرفه بالاجتباء (٣) ، وإنما عضد خبر الليلة بعيان اليوم ، وأري في اليقظة مصداق ما أسمع في النوم ، ليحق الله الحق بكلماته ، وعلى ما ورد في الأثر ، وسرد رواة السير ، فذلك اليوم كان عيد فطرنا الآن وغير بدع ولا بعيد ، أن يبدأ الوحي بعيد كما ختم بعيد (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] فبهت عليه السلام لما سمع نداءه وراءه (٤) ، وثبت لا يتقدم أمامه ولا يرجع وراءه [الكامل].

توقف الهوى بي حيث أنت ، فليس لي

متقدّم عنه ولا متأخّر

ثم جعل في الخوف والرجاء ، لا يقلب وجهه في السماء ، إلا تعرض له في تلك الصورة ، وعرض عليه ما أعطاه الله سبحانه من السورة ، فيقف موقف التوكل ، ويمسك حتى عن التأمل. [الطويل]

تتوق إليك النّفس ثمّ أردّها

حياء ، ومثلي بالحياء حقيق

أذود سواد الطّرف عنك ، وما له

إلى أحد إلا إليك طريق (٥)

فصل : وفطنت خديجة لاحتباسه ، فأمعنت في التماسه ، تزوّجوا الودود الولود ، ولفورها بل لفوزها بعثت في طلبه رسلها ، وانبعثت تأخذ عليه شعاب مكة وسبلها. [البسيط]

إن المحب إذا لم يستزر زارا (٦)

طال عليها الأمد ، فطار إليها الكمد ، والمحب حقيقه ، من لا يفيق فيقه (٧) ، بالنفس

__________________

(١) في جنانه : في قلبه وفؤاده.

(٢) في ه «نوحي» بالحاء المهملة تحريف.

(٣) الاجتباء : الاصطفاء والاختبار.

(٤) راءه : هنا بمعنى رآه. مقلوب منه. والواو عاطفه ، وفي ب ، ه «لما سمعه وراءه».

(٥) في ب ، ه «أذود سوام الطرف».

(٦) في ه «إن المحب إذا ما لم يزر زارا».

(٧) في ب «والمحب حقيقة من لا يفيق فيقة».

٣٨٧

النفيسة سماحه وجوده ، وفي وجود المحبوب الأشرف وجوده (١). [الطويل]

كأنّ بلاد الله ما لم تكن بها

وإن كان فيه الخلق طرا بلاقع

أقضّي نهاري بالحديث وبالمنى

ويجمعني والهمّ باللّيل جامع

نهاري نهار النّاس حتّى إذا دجى

لي اللّيل هزّتني إليك المضاجع

لقد نبتت في القلب منك محبّة

كما نبتت في الرّاحتين الأصابع (٢)

فصل : وبعد لأي ما ورد عليها ، وقعد مضيفا إليها ، فطفقت بحكم الإجلال تمسح أركانه ، وتفسح مجال السؤال عما خلف له مكانه ، فباح لها بالسر المغيب ، وقد لاح وسم الكرامة على الطيب المطيب ، فعلمت أنه الصادق المصدوق ، وحكمت بأنه السابق لا المسبوق ، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، وما زالت حتى أزالت ما به من الغمّة ، وقالت : إني لأرجو تكون نبي هذه الأمة. [البسيط]

إن تفرّست فيك الخير أعرفه

والله يعلم أن ما خانني البصر

أنت النبيّ ومن يحرم شفاعته

يوم الحساب فقد أزرى به القدر

لا ترهب فسوف تبهر ، وسبيدو أمر الله تعالى ويظهر ، أنت الذي سجعت به الكهان ، ونزلت له من صوامعها الرهبان ، وسارت بخبر كرامته الركبان ، أنت الذي ما حملت أخفّ منه حامل ، ودرّت ببركته الشاة فإذا هي حافل (٣). [المنسرح]

وأنت لمّا ولدت أشرقت ال

أرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي ال

نور وسبل الرّشاد نخترق

فصل : وما لبثت أن غلقت أبوابها ، وجمعت عليها أثوابها ، وانطلقت إلى ورقة بن نوفل ، تطلبه بتفسير ذلك المجمل ، وكان يرجع إلى عقل حصيف (٤) ، ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف ، فاستبشر به ناموسا (٥) ، وأخبر أنه الذي كان يأتي موسى ، فازدادت إيمانا ،

__________________

(١) نسب الشعر للمجنون. انظر ديوانه ١٨٥ كما نسب إلى ابن الدمينة. انظر ديوانه ٨٨.

(٢) في ب «لقد ثبتت في القلب منك محبة ... كما ثبتت».

(٣) حافل : كثير اللبن.

(٤) الحصيف : المستحكم العقل ، الجيد الرأي.

(٥) الناموس : الوحي.

٣٨٨

وأقامت على ذلك زمانا ، ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه التنفيد (١) ، ودرت أن المجتهد لا يجوز له التقليد ، طلب العلم فريضة على كل مسلم ، فرجعت أدراجها في ارتياد الإقناع ، وألقى في روعها إلقاء الخمار والقناع ، فهناك وضح لها البرهان ، وصحّ لها أن الآتي ملك لا شيطان. [الطويل]

تولى عليه الروح من عند ربّه

ينزّل من جوّ السّماء ويرفع (٢)

نشاوره فيما نريد وقصدنا

إذا ما اشتهى أنّا نطيع ونسمع

فصل : سبقت لها من الله تعالى الحسنى ، فصنعت حسنا وقالت حسنا ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، ما فتر الوحي بعدها ، ولا مطل الحق الحي وعدها ، وعد الله لا يخلف الله وعده ، دانت لحب ذي الإسلام ، فحياها الملك بالسّلام ، من الملك السّلام ، من كان لله كان الله له ، أغنت غناء الأبطال ، فغناها لسان الحال. [البسيط]

هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا

يوم التقينا فلم أنطق من الحصر

لا أرفع الطّرف حولي من مراقبة

بقّي عليّ ، وبعض الحزم في الحذر (٣)

يسرت لاحتمال الأذى والنصب ، فبشرت ببيت في الجنة من قصب ، هل أمنت إذ آمنت من الرعب ، حتى غنيت عن الشبع بما (٤) في الشعب. [البسيط]

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبرا

واها لها احتملت عض الحصار ، وما أطاقت فقد النبي (٥) المختار. [الوافر]

يطول اليوم لا ألقاك فيه

وشهر نلتقي فيه قصير

والحبيب سمع المحبّ وبصره ، وله طول محياه وقصره. [الرمل]

أنت كلّ النّاس عندي فإذا

غبت عن عيني لم ألق أحد

مكثت للرياسة مواسية وآسية ، فثلثت في بحبوحة الجنة مريم وآسية (٦) ، ثم ربعت البتول

__________________

(١) فند الرأي أو الخبر : خطّأه.

(٢) في ب «تدلى عليه الروح ...».

(٣) في ب «بقي علي وبعض الحزم وفي الحذر».

(٤) في ه «الشبع في الشعب».

(٥) في ب «ما أطاقت فقد المختار».

(٦) ثلّثت : كانت ثالثة. ومريم هي مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم. وآسية هي بنت مزاحم زوجة فرعون.

٣٨٩

فبرعت (١) ، نطقت بذلك الآثار وصدعت ، خير نساء العالمين أربع.

فصل : إلى البتول سير بالشرف التالد ، وسبق الفخر بالأم الكريمة والوالد حلت في الجيل الجليل ، وتحلت بالمجد الأثيل ، ثم تولت إلى الظل الظليل [الوافر].

وليس يصح في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وأبيها إن أم أبيها ، لا تجد لها شبيها ، نثرة النبي ، وطلبة (٢) الوصي ، وذات الشرف المستولي (٣) على الأمد القصي ، كلّ ولد الرسول درج في حياته ، وحملت هي ما حملت من آياته ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، لا فرع للشجرة المباركة من سواها ، فهل جدوى أوفر من جدواها ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، حفت بالتطهير والتكريم ، وزفت إلى الكفؤ الكريم ، فوردا صفو العارفة والمنة ، وولدا سيدي شباب أهل الجنة ، عوضت من الأمتعة الفاخرة ، بسيدي الدنيا والآخرة ، ما أثقل نحوها ظهرا ، ولا بذل غير درعه مهرا ، كان صفر اليدين من البيضاء والصفراء ، وبحالة لا حيلة معها في إهداء الحلة السّيراء ، فصاهره الشارع وخالله.

وقال في بعض صعلوك لا مال له ، نرفع درجات من نشاء.

فصل : [الطويل]

أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد

وأفلاذ من عاداهم تتعدّد (٤)

ويضحى ويظما أحمد وبناته

وبنت زياد وردها لا يصرّد (٥)

أفي دينه في أمنه في بلاده

تضيق عليهم فسحة تتورّد

وما الدين إلا دين جدّهم الذي

به أصدروا في العالمين وأوردوا

انتهى ما سنح لي ذكره من «درر السمط» وهو كتاب غاية في بابه ، ولم أورد منه غير ما ذكرته ، لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع ، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه ولطفه (٦).

رجع إلى ما كنا بصدده (٧) فنقول : قد ذكرنا في الباب الثاني رسالة أبي المطرف بن عميرة

__________________

(١) ربعت : كانت رابعة. والبتول هنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

(٢) في ب «وطلة الوصي».

(٣) في ج «المستوي».

(٤) في أ«وأفلاذ من عاداهم تتودّد».

(٥) لا يصرّد : لا يقلّل.

(٦) كلمة «ولطفه» ساقط من ب.

(٧) في ب «رجع إلى ما كنا بسبيله».

٣٩٠

إلى أبي جعفر بن أمية ، وهي مشتملة على التلهف على الجزيرة الأندلسية ، حين أخذ العدوّ بلنسية ، وظهرت له مخايل الاستيلاء على ما بقي من الأندلس ، فراجعها فيما سبق ، وإن كان التناسب التام في ذكرها هنا فالمناسبة هناك حاصلة أيضا ، والله سبحانه الموفق.

وذكرنا هنالك أيضا جملة غيرها من كلامه ـ رحمه الله تعالى! ـ تتعلق بهذا المعنى وغيره ، فلتراجع ثمّة.

ورأيت أن أثبت هنا ما رأيته بخط الأديب الكاتب الحافظ المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى ما صورته : حدثني الفقيه العدل سيدي حسن ابن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف أنه حضر مرة لإنزال الطّلسم المعروف بفروج الرواح من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح ، وأنه عاينه من سبعة معادن مكتوبا فيه : [البسيط]

إيوان غرناطة الغرّاء معتبر

طلّسمه بولاة الحال دوّار

وفارس روحه ريح تدبّره

من الجماد ، ولكن فيه أسرار

فسوف يبقى قليلا ثمّ تطرقه

دهياء يخرب منها الملك والدّار (١)

وقد صدق قائل هذه الأبيات ، فإنه طرقت الدهياء ذلك القطر الذي ليس له في الحسن مثال ، ونسل (٢) الخطب إليه من كل حدب وانثال (٣) ، وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه ، ومقدّميه وقضاته وأمرائه ووزرائه ، فكلّ يروم الرياسة لنفسه ، ويجر نارها لقرصه ، والنصارى ـ لعنهم الله تعالى! ـ يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد ، ويضربون عمرا منهم بزيد ، حتى تمكنوا من أخذ البلاد ، والاستيلاء على الطارف والتلاد (٤) ، قال الرائس القاضي العلامة الكاتب الوزير أبو يحيى بن عاصم رحمه الله تعالى في كتابه «جنة الرضا ، في التسليم لما قدر الله تعالى وقضى» ما صورة محل الحاجة منه : ومن استقرأ التواريخ المنصوصة ، وأخبار الملوك المقصوصة ، علم أن النصارى ـ دمرهم الله تعالى! ـ لم يدركوا في المسلمين ثارا ، ولم يرحضوا (٥) عن أنفسهم عارا ، ولم يخربوا من الجزيرة منازل وديارا ، ولم يستولوا عليها بلادا جامعة وأمصارا ، إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف ، واجتهادهم في وقوع الافتراق بين

__________________

(١) الدهياء : الداهية الشديدة.

(٢) نسل الخطب إليه : سارع إليه.

(٣) انثال : تواتر وتوادر وكثر.

(٤) الطارف : المستحدث. والتلاد : القديم.

(٥) لم يرحضوا : لم يغسلوا العار عن أنفسهم. وفي ج «ولم يدحضوا».

٣٩١

المسلمين والاختلاف ، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة ، وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة (١) ، ومهما كانت الكلمة مؤتلفة ، والآراء لا مفترقة ولا مختلفة ، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة ، فالحرب إذ ذاك سجال (٢) ، ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال ، وللممانعة في غرض المدافعة ميدان رحب ومجال ، وروية وارتجال.

إلى أن قال : وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة ، ومضاربة ومقارعة ، ومنازلة ومنازعة ، وموافقة وممانعة ، ومحاربة وموادعة ، ولا أمل للطاغية إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين ، وإعمال الحيلة على المؤمنين ، وإضمار المكيدة للموحّدين ، واستبطان الخديعة للمجاهدين ، وهو يظهر أنه ساع للوطن في العاقبة الحسنى ، وأنه منطو لأهله على المقصد الأسنى ، ومهتم بمراعاة أمورهم ، وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم ، وهو يسرّ حسوا في ارتغائه (٣) ، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه ، فتبّا لعقول تقبل مثل هذا المحال ، وتصدق هذا الكذب بوجه أو بحال ، وليت المغرور الذي يقبل هذا لو فكر في نفسه ، وعرض هذا المسموع على مدركات حسّه ، وراجع أوّليّات عقله وتجربيات حدسه ، وقاس عدوه الذي لا ترجى مودته على أبناء جنسه ، فأنا أنا شده الله هل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتما ، وأصبح من خطب طرقهم مغتما ، ونظر لهم نظر المفكر في العاقبة الحسنة ، أو قصد لهم قصد المدبر في المعيشة المستحسنة ، أو خطر على قلبه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم ، أو عمر ضميره من تمكين عزهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم (٤) ، فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث ، ولم يشرب قلبه حب التثليث ، ويكون صادق اللهجة ، منصفا عند قيام الحجة ، فسيعترف أن ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال ، وأن عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعله ذا اهتبال (٥) ، وإن نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال ، وأشد على قلبه من وقع النبال ، هذا وعقده التوحيد ، وصلاته التحميد ، وملته الغراء ، وشريعته البيضاء ، ودينه الحنيف القويم ، ونبيه الرؤوف الرحيم ، وكتابه القرآن الحكيم ، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم ، فكيف نعتقد هذه المريبة الكبرى ، والمنقبة الشهرى ، لمن

__________________

(١) المبيرة : المهلكة.

(٢) الحرب بينهم سجال : أي حينا على هذا الفريق وحينا على ذاك.

(٣) «يسر حسوا في ارتغاء» مثل يضرب لمن يأخذ الكثير وهو يظهر الاكتفاء بالقليل.

(٤) الأحبار : جمع حبر ، وهو العالم. وهنا رجل دين عند النصارى.

(٥) اهتبله اهتبالا : خدعه واحتال عليه.

٣٩٢

عقده التثليث ، ودينه المليث ، ومعبوده التصليب ، وتسميته التصليب ، وملته المنسوخة ، وقضيته المفسوخة ، وختانه التغطيس (١) ، وغافر ذنبه القسّيس ، وربه عيسى المسيح ، ورأيه ليس (٢) البيّن ولا الصحيح ، وأن ذلك الرب قد ضرّج بالدماء ، وسقي الخل عوض الماء ، وأن اليهود قتلته مصلوبا ، وأدركته مطلوبا ، وقهرته مغلوبا ، وأنه جزع من الموت وخاف ، إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السّخاف ، فكيف يرجي من هؤلاء الكفرة ، من الخير مقدار الذرّة ، أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة؟ اللهم احفظ علينا العقل والدين ، واسلك بنا سبيل المهتدين.

ثم قال بعد كلام ما صورته : كانت خزانة هذه الدار النّصريّة مشتملة على كل نفيسة من الياقوت ، ويتيمة من الجوهر ، وفريدة من الزمرد ، وثمينة من الفيروزج ، وعلى كل واق (٣) من الدروع ، وخام من العدّة ، وماض من الأسلحة ، وفاخر من الآلة ، ونادر من الأمتعة ، فمن عقود فذة (٤) ، وسلوك جمة ، وأقراط تفضل على قرطي مارية نفاسة فائقة وحسنا رائقا ، ومن سيوف شواذ في الإبداع (٥) غرائب في الإعجاب ، منسوبات الصفائح في الطبع ، خالصات الحلى من التبر (٦) ، ومن دروع مقدّرة السّرد ، متلاحمة النسج ، واقية للناس في يوم الحرب ، مشهورة النسبة إلى داود نبي الله (٧) ، ومن جواشن سابغة اللبسة (٨) ، ذهبية الحلية ، هندية الضرب ، ديباجية الثوب ، ومن بيضات عسجدية الطرق (٩) ، جوهرية التنضيد ، زبرجدية التقسيم ، ياقوتية المركز ، ومن مناطق لجينية الصّوغ ، عريضة الشكل ، مزججة الصفح ، ومن درق لمطية (١٠) ، مصمتة المسام ، لينة المجسة ، معروفة المنعة ، صافية الأديم ، ومن قسيّ ناصعة الصبغة ، هلالية الخلقة ، منعطفة الجوانب ، زارية بالحواجب ، إلى آلات فاخرة من أوتار نحاسية ، ومنابر بلورية ، وطيافير دمشقية (١١) ، وسبحات زجاجية ، وصحاف صينية ، وأكواب عراقية ، وأقداح طباشيرية ، وسوى ذلك مما لا يحيط به الوصف ، ولا يستوفيه العد ، وكل ذلك التهبه شواظ الفتنة ، والتقمه تيار الخلاف والفرقة ، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور

__________________

(١) في ج «وختامة التغطيس».

(٢) في ب «ونظره ليس البين ولا الصحيح».

(٣) واق : حافظ. اسم فاعل من الوقاية.

(٤) فذة : نادرة ، عديمة النظير.

(٥) في ج «بالإبداع».

(٦) التبر : الذهب.

(٧) ينسب إلى داود عليه السلام عمل الدروع. وقد جاء في القرآن الكريم (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).

(٨) الجواشن : الدروع ، جمع جوشن.

(٩) في ه «عسجدية الطوق».

(١٠) الدرق : جمع درقة وهي الترس.

(١١) الطيافير : أطباق مستديرة عميقة.

٣٩٣

بمثله ، وتقصر ديار الملوك المؤثلة النعمة عن بعضه فضلا عن كله ، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

رجع : ولما أخذت قواعد الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وغيرها انحاز أهل الإسلام إلى غرناطة والمرية ومالقة ونحوها ، وضاق الملك بعد اتساعه ، وصار تنين العدوّ يلتقم كل وقت بلدا أو حصنا ، ويهصر من دوح تلك البلاد غصنا ، وملك هذا النزر اليسير الباقي من الجزيرة ملوك بني الأحمر ، فلم يزالوا مع العدوّ في تعب وممارسة كما ذكره ابن عاصم قريبا ، وربما أثخنوا في الكفار كما علم في أخبارهم ، وانتصروا بملوك فاس بني مرين ، في بعض الأحايين.

ولما قصد ملوك الإفرنج السبعة في المائة الثامنة غرناطة ليأخذوها اتفق أهلها على أن يبعثوا لصاحب المغرب من بني مرين يستنجدونه ، وعينوا للرسالة الشيخ أبا إسحاق بن أبي العاص والشيخ أبا عبد الله الطنجالي والشيخ ابن الزيات البلشي. نفع الله تعالى بهم! ثم بعد سفرهم نازل الإفرنج غرناطة بخمسة وثلاثين ألف فارس ونحو مائة ألف راجل مقاتل ، ولم يوافقهم سلطان المغرب ، فقضى الله تعالى ببركة المشايخ الثلاثة أن كسر النصارى في الساعة التي كسر خواطرهم فيها صاحب المغرب (١) ، وظهرت في ذلك كرامة لسيدي أبي عبد الله الطنجالي رحمه الله تعالى!.

ثم إن بني الأحمر ملوك الأندلس الباقية بعد استيلاء الكفار على الجل كانوا في جهاد وجلاد في غالب أوقاتهم ، ولم يزل ذلك شأنهم حتى أدرك دولتهم الهرم الذي يلحق الدول ، فلما كان زمان السلطان أبي الحسن علي بن سعد النّصري الغالبي الأحمري ، واجتمعت الكلمة عليه بعد أن كان أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعوّ بالزّغل (٢) قد بويع بمالقة ، بعد أن جاء به [بعض](٣) القوّاد من عند النصارى وبقي بمالقة برهة من الزمان (٤) ، ثم ذهب إلى أخيه ، وبقى من بمالقة من القوّاد (٥) والرؤساء فوضى ، وآل الحال إلى أن قامت مالقة بدعوة السلطان أبي الحسن ، وانقضت الفتنة ، واستقلّ السلطان أبو الحسن بملك ما بقي بيد المسلمين من بلاد الأندلس ، وجاهد المشركين ، وافتتح عدّة أماكن ، ولاحت له بارقة الكرة على العدوّ الكافر ، وخافوه ، وطلبوا هدنته ، وكثرت جيوشه ، فأجمع على عرضها كلها بين يديه ، وأعدّ لذلك

__________________

(١) في ه «ملك المغرب».

(٢) في نسخة «المدعو بالرغل» تحريف.

(٣) «بعض» ساقطة من ب.

(٤) برهة من الزمن : فترة من الزمن.

(٥) في ه «من الرؤساء والقواد».

٣٩٤

مجلسا أقيم له بناؤه خارج الحمراء قلعة غرناطة ، وكان ابتداء هذا العرض يوم الثلاثاء تاسع عشر الحجة (١) عام اثنين وثمانين وثمانمائة ، ولم تزل الجنود تعرض عليه كل يوم إلى الثاني والعشرين من محرم السنة التي تليها ، وهو يوم ختام العرض ، وكان معظم المتنزهين والمتفرجين بالسبيكة (٢) ، وما قارب ذلك ، فبعث الله تعالى سيلا عرما على وادي حدرة بحجارة وماء غزير كأفواه القرب ، عقابا من الله سبحانه وتأديبا لهم لمجاهرتهم بالفسق والمنكر ، واحتمل الوادي ما على حافتيه من المدينة من حوانيت ودور ومعاصر وفنادق وأسواق وقناطر وحدائق ، وبلغ تيار السيل إلى رحبة الجامع الأعظم ، ولم يسمع بمثل هذا السيل في تلك البلاد ، وكان بين رؤساء الإفرنج في ذلك الوقت اختلاف ، فبعضهم استقل بملك قرطبة ، وبعض بإشبيلية ، وبعض بشريش ، وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات ، وركن إلى الراحات ، وأضاع الأجناد ، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه ، واحتجب عن الناس ، ورفض الجهاد والنظر في الملك ، ليقضي الله تعالى ما شاء ، وكثرت المظالم والمغارم (٣) ، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه ، وكان أيضا قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعد (٤) البلاد ، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد ، واتفق أن صاحب قشتالة تغلب على بلادها بعد حروب ، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون ، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد ، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد ، وذلك أن كان للسلطان أبي الحسن ولدان محمد ويوسف وهما من بنت عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر ، وكان قد اصطفى على أمهما رومية كان لها منه بعض ذرية ، وكان حظية (٥) عنده مقدمة في كل قضية ، فخيف أن يقدم أولاد الرومية ، على أولاد بنت عمه السنية ، وحدث بين خدّام الدولة التنافر والتعصب ، لميل بعضهم إلى أولاد الحرة ، وبعض إلى أولاد الرومية ، وكان النصارى أيام الفتنة بينهم هادنوا السلطان لأمد حدّوه وضربوه ، ولما تم أمد الصلح وافق وقته هذا الشأن بين أولياء الدولة بسبب الأولاد ، وتشكى الناس مع ذلك بالوزراء (٦) والعمال لسوء ما عاملوا به الناس من

__________________

(١) في ب «ذي الحجة».

(٢) كذا في أب ، ج ، ه. وفي نسخة عند ه «بالسبيكية» وفي أخرى «بالسبكية».

(٣) في ب ، ه «وكثرت المغارم والمظالم».

(٤) في نسخة «لا يغزون بعد ذلك البلاد».

(٥) حظية : مقربة مكرمة.

(٦) في ب «وتشكى الناس مع ذلك بالوزير».

٣٩٥

الحيف والجور (١) ، فلم يصغ إليهم ، وكثر الخلاف واشتدّ الخطب ، وطلب الناس تأخير الوزير ، وتفاقم الأمر ، وصح عند النصارى ـ لعنهم الله تعالى! ضعف الدولة واختلاف القلوب ، فبادروا إلى الحامة (٢) فأخذوها غدرا آخر أيام الصلح على يد صاحب قادس سنة سبع وثمانين وثمانمائة ، وغدوا للقلعة ، وتحصنوا بها ، ثم شرعوا في أخذ البلد ، فملؤوا الطرق خيلا ورجالا ، وبذلوا السيف فيمن ظهر من المسلمين ، ونهبوا الحريم ، والناس في غفلة نيام من غير استعداد كالسكارى ، فقتل من قضى الله تعالى بتمام أجله ، وهرب البعض ، وترك أولاده وحريمه ، واحتوى العدوّ على البلد بما فيه ، وخرج العامة والخاصة من أهل غرناطة عند ما بلغهم العلم ، وكان النصارى عشرة آلاف بين ماش وفارس ، وكانوا عازمين على الخروج بما غنموه ، وإذا بالسرعان (٣) من أهل غرناطة وصلوا ، فرجع العدو إلى البلد ، فحاصرهم المسلمون ، وشدّدوا في ذلك ، ثم تكاثر المسلمون خيلا ورجالا من جميع بلاد الأندلس ، ونازلوا الحامة ، وطمعوا في منع الماء عن العدوّ ، وتبين للعامة أن الجند لم ينصحوا ، فأطلقوا ألسنتهم بأقبح الكلام فيهم وفي الوزير ، وبينما هم كذلك وإذا (٤) بالنذير جاء أن النصارى أقبلوا في جميع عظيم (٥) لإغاثة من بالحامة من النصارى ، فأقلع جند المسلمين من الحامة ، وقصدوا ملاقاة الواردين من بلاد العدو ، ولما علم بهم العدو ولّوا الأدبار من غير ملاقاة محتجين بقلتهم ، وكان رئيسهم (٦) صاحب قرطبة.

ثم إن صاحب إشبيلية جمع جندا عظيما من جيش النصارى الفرسان والرجالة (٧) ، وأتى لنصرة من في الحامة من النصارى ، وعند ما صح هذا عند العسكر اجتمعوا ، وأشاعوا عند الناس (٨) أنهم خرجوا بغير زاد ولا استعداد ، والصلاح الرجوع إلى غرناطة ليستعد الناس ويأخذوا ما يحتاج إليه الحصار من العدة والعدد ، فعندما أقلع المسلمون عنها دخلتها (٩) النصارى الواردون ، وتشاوروا في إخلائها أو سكناها ، واتفقوا على الإقامة بها ، وحصنوها ، وجعلوا فيها جميع ما يحتاج إليه ، وانصرف صاحب إشبيلية ، وترك أجناده ، وفرق فيهم

__________________

(١) الحيف : الظلم. والجور : مثله.

(٢) في ه «بادروا إلى الحمة» هنا. لكن ذكر فيما بعد بلفظ «الحامة» مكررا.

(٣) السرعان : المسرعون.

(٤) في ب «كذلك إذا بالنذير جاء ...».

(٥) في ب «في جمع عظيم».

(٦) في ه «وكان رائسهم».

(٧) في ج «من الفرسان والرجال».

(٨) في ه «عن الناس».

(٩) في ه «دخلها النصارى».

٣٩٦

الأموال ، ثم عاد المسلمون لحصارها ، وضيقوا عليها ، وطمعوا فيها من جهة موضع كان النصارى في غفلة عنه ، ودخل على النصارى (١) جملة وافرة من المسلمين ، وخاب السعد بذلك بأن شعر بهم النصارى ، فعادوا عليهم ، وتردّى بعضهم من أعلى الجبل ، وقتل أكثرهم ، وكانوا من أهل بسطة ووادي آش ، فانقطع أمل الناس من الحامة ، ووقع الإياس من ردها.

وفي جمادى الأولى من السنة تواترت الأخبار أن صاحب قشتالة أتى في جنود لا تحصى ولا تحصر ، فاجتمع الناس بغرناطة ، وتكلموا في ذلك ، وإذا به قد قصد لوشة ونازلها قصدا أن يضيفها إلى الحامة ، وجاء بالعدة والعدد ، وأغارت على النصارى جملة من المسلمين ، فقتلوا من لحقوه ، وأخذوا جملة من المدافع الكبار ، ثم جاءت جماعة أخرى من أهل غرناطة ، وناوشوا (٢) النصارى ، فالجؤوهم إلى الخروج عن الخيام ، وأخذوها وغيرها (٣) ، فهرب النصارى ، وتركوا طعاما كثيرا وآلة ثقيلة ، وذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة.

وفي هذا اليوم بعينه هرب الأميران أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفا من أبيهما أن يفتك بها بإشارة حظيته الرومية ثريّا ، واستقرا بوادي آش ، وقامت بدعوتهما ، ثم بايعتهما تلك البلاد المرية وبسطة وغرناطة ، وهب أبوهما السلطان أبو الحسن إلى مالقة.

وفي صفر سنة ثمان وثمانين وثمانمائة اجتمع جميع رؤساء النصارى ، وقصدوا قرى مالقة وبلش ، في نحو الثمانية آلاف ، وفيهم صاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب إستجة وصاحب أنتقيرة (٤) وغير هم ، فلم يتمكنوا من أخذ حصن ، ونشبوا في أوعار (٥) ومضايق وخنادق وجبال ، واجتمع عليهم أهل بشل ومالقة ، وصار المسلمون ينالون منهم في كل محل ، حتى بلغوا مالقة ، ففر كبيرهم ، ومن بقي أسر أو قتل ، وكان السلطان أبو الحسن في ذلك الوقت قد تحرك لنواحي المنكب ، وبقي أخوه أبو عبد الله بمالقة ومعه بعض الجند ، وقتل من النصارى في هذه الوقعة نحو ثلاثة آلاف ، وأسر نحو ألفين من جملتها خال السلطان وصاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب أنتقيرة (٦) وغيرهم ، وهم نحو الثلاثين من الأكابر ، وغنم المسلمون غنيمة وافرة من الأنفس والأموال والعدة والذهب والفضة ، وبعقب ذلك سافر أهل مالقة لبلاد النصارى ، فكسروا هنالك كسرة شنيعة قتل فيها أكثر قواد غرب الأندلس.

__________________

(١) في ه «ودخل مع النصارى».

(٢) في ه «وفارشوا النصارى». تحريف.

(٣) في ه : زيادة كلمة «وقتلوا» بعد «وغيرها».

(٤) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج «النقيرة».

(٥) أوعار : جمع وعر.

(٦) في ج «النقيرة».

٣٩٧

ولما استقر السلطان أبو عبد الله بن السلطان أبي الحسن بغرناطة وطاعت له البلاد غير مالقة والغربية تحرك السلطان أبو الحسن على المنكب ونواحيها ، وأتى ابنه السلطان أبو عبد الله في جند غرناطة والجهة الشرقية ، والتقوا في موضع يعرف بالدب ، فكسر السلطان أبو عبد الله.

ولما سمع السلطان أبو عبد الله صاحب غرناطة بأن عمه بمالقة غنم من النصارى أعمل السفر للغزو بأهل بلاده من غرناطة والشرقية ، وذلك في ربيع الأول من السنة ، إلى أن بلغ نواحي لشانة ، وقتل وأسر وغنم ، فتجمعت عليه النصارى من جميع تلك النواحي ومعه كبير قبرة (١) ، وحالوا بين المسلمين وبلادهم في جبال وأوعار ، فانكسر الجند ، وأسر من الناس كثير وقتل آخرون ، وكان في جملة من أسر السلطان أبو عبد الله ، ولم يعرف ، ثم علم به صاحب لشانة ، وأراد صاحب قبرة أن يأخذه منه ، فهرب به ليلا ، وبلغه إلى صاحب قشتالة ، ونال بذلك عنده رفعة على جميع القواد ، وتفاءل به ، فقلما توجه لجهة أو بعث سريّة إلا وبعثه فيها.

ولما أسر السلطان أبو عبد الله اجتمع كبراء غرناطة وأعيان الأندلس ، وذهبوا لمالقة للسلطان أبي الحسن ، وذهبوا به لغرناطة ، وبايعوه ، مع أنه كان أصابه مثل الصّرع إلى أن ذهب بصره ، وأصابه ضرر ، ولما تعذر أمره قدم أخاه أبا عبد الله ، وخلع له نفسه ، ونزل بالمنكب ، فأقام بها إلى أن مات ، واستقل أخوه أبو عبد الله المعروف بالزّغل بالملك بعده.

وأما أبو عبد الله ابن السلطان أبي الحسن فهو في أسر العدو.

وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وثمانمائة خرج العدو في قوة إلى نواحي مالقة ، بعد أن كان في السنة قبلها استولى على حصون ، فاستولى هذه السنة على بعض الحصون ، وقصد (٢) ذكوان ، فهد أسوارها ، وكان بها جملة من أهل الغربية ، ورندة ، ودخل ألف مدرع ذكوان عنوة (٣) ، فأظفر الله تعالى بهم أهل ذكوان ، فقتلوهم جميعا ، ثم طلبوا الأمان وخرجوا.

ثم انتقل في جمادى الأولى إلى رندة وحاصرها ، وكان أهلها خرجوا إلى نصرة ذكوان وسواها ، فحاصر رندة وهدّ أسوارها ، وخرج أهلها على الأمان ، وطاعت له جميع تلك البلاد ، ولم يبق بغربي مالقة إلا من دخل في طاعة الكافر وتحت ذمته ، وضيق بمالقة ، وفرق

__________________

(١) في نسخة «كبير قرة» تحريف. وفي ياقوت «قبرة ـ تأنيث القبر. أظنها أعجمية رومية ـ وهي كورة من أعمال الأندلس تتصل بأعمال قرطبة من قبليها» ا ه.

(٢) في نسخة عند ه «ذكران».

(٣) عنوة : رغما ، بالقوة.

٣٩٨

حصصه (١) على بعض الحصون ليحاصروا مالقة ، وعاد إلى بلاده.

وفي تاسع عشر شعبان من العام سافر صاحب غرناطة لتحصين بعض البلاد ، وبينما هو كذلك إذا بالخبر جاءه أن محلة العدو خارجة لذلك الحصن.

وفي صبيحة الثاني والعشرين من شعبان أصبحت جنود النصارى على الحصن ، كانوا قد سروا (٢) إليه ليلا ، وأصبحوا عند الفجر مع جند المسلمين ، فقاتلهم المسلمون من غير تعبية (٣) ، فاختل نظام المسلمين ، ووصل النصارى إلى خباء السلطان ، ثم التحم القتال واشتد ، وقوّى الله تعالى المسلمين فهزموا النصارى شرّ هزيمة ، وقتل منهم خلائق ، وقصر المسلمون خوفا من محلة سلطان النصارى إذ كانت قادمة في أثر هذه ، ولما رجعت إليهم الفلول (٤) رجعوا القهقرى ، واستولى المسلمون على غنائم كثيرة وآلات ، وجعلوا ذلك كله بالحصن (٥) ، ولم يحدث شيء بعد إلى رمضان ، فتوجه الكافر لحصن قنبيل (٦) ونازله وهدّ أسواره ، ولما رأى المسلمون أن الحصن قد دخل طلبوا الأمان ، وخرجوا بأموالهم وأولادهم مؤمنين ، وفر الناس من تلك المواضع من البراجلة هاربين ، واستولى العدو على عدة حصون مثل مشاقر وحصن اللوز ، وضيق العدو بجميع بلاد المسلمين ، ولم يتوجه لناحية إلا استأصلها ، ولا قصد جهة إلا أطاعته وحصلها ، ثم إن العدوّ دبّر الحيلة مع ما هو عليه من القوة ، فبعث إلى السلطان أبي عبد الله الذي تحت أسره وكساه ووعده بكل ما يتمناه ، وصرفه لشرقي بسطة ، وأعطاه المال والرجال ، ووعده أن من دخل تحت حكمه من المسلمين وبايعه من أهل البلاد فإنه في الهدنة والصلح والعهد والميثاق الواقع بين السلاطين (٧) ، وخرج لبلش فأطاعه أهلها ، ودخلت بلش في طاعته ، ونودي بالصلح في الأسواق ، وصرخت به في تلك البلاد الشياطين ، وسرى هذا الأمر حتى بلغ أرض البيازين من غرناطة ، وكانوا من التعصب وحمية الجاهلية والجهل بالمقام الذي لا يخفى ، وتبعهم بعض المفسدين المحبين تفريق (٨) كلمة المسلمين ، وممن مال إلى الصلح عامة غرناطة لضعف الدولة ، ووسوس للناس شياطين الفتنة وسماسرتها بتقبيح وتحسين ، إلى أن قام ربض البيازين بدعوة السلطان الذي كان مأسورا عند المشركين ، ووقعت فتنة عظيمة في غرناطة نفسها بين المسلمين لما أراده الله تعالى من استيلاء العدو على تلك

__________________

(١) في أصل ه «وفرق جيشه».

(٢) في أصل ه «أسروا إليه ليلا».

(٣) تعبئة : إعداد وتنظيم للجيش.

(٤) الفلول : جمع فل ، وهم المنهزمون.

(٥) في ه «في الحصن».

(٦) في ج «قبيل».

(٧) في ب ، ه «بين السلطانين».

(٨) في ب «المحبين في تفريق كلمة المسلمين».

٣٩٩

الأقطار ، ورجموا البيازين بالحجارة من القلعة ، وعظم الخطب (١) ، وكانت الثورة ثالث شهر ربيع الأول عام أحد وتسعين وثمانمائة ، ودامت الفتنة إلى منتصف جمادى الأولى من العام ، وبلغ الخبر أن السلطان الذي قاموا بدعوته قدم على لوشة ودخلها على وجه رجاء الصلح بينه وبين عمه الزّغل صاحب قلعة غرناطة ، بأن العم يكون له الملك ، وابن أخيه تحت إيالته بلوشة أو بأي المواضع أحب ، ويكونون يدا واحدة على عدوّ الدين ، وبينما هم كذلك (٢) إذا بصاحب قشتالة قد خرج بجند عظيم ومحلة قوية وعدد وعدد ، ونازل لوشة حيث السلطان أبو عبد الله الذي كان أسيرا ، وضيق عليها (٣) الحصار ، وقد كان دخلها جماعة من أهل البيازين بنية الجهاد والمعاضدة وليهم (٤) ، وخاف أهل غرناطة وسواها من أن يكون ذلك حيلة ، فلم يأت لنصرتهم غير البيازين ، واشتد عليهم الحصار ، وكثرت الأقاويل ، وصرحت الألسن بأن ذلك باتفاق بين السلطان المأسور وصاحب قشتالة ، ودخل على أهل لوشة في ربضهم ، وخافوا من الاستئصال ، فطلبوا الأمان في أموالهم وأنفسهم وأهليهم ، فوفى لهم صاحب قشتالة بذلك ، وأخذ البلد في السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثمانمائة ، وهي ـ أعني لوشة ـ كانت بلد سلف الوزير لسان الدين بن الخطيب ، كما ذكرناه مستوفى في غير هذا الموضع ، وهاجر أهل لوشة إلى غرناطة ، وبقي السلطان أبو عبد الله الذي كان مأسورا مع النصراني بلوشة ، فصرح عند ذلك أهل غرناطة بأنه ما جاء للوشة إلا ليدخل إليها العدو الكافر ، ويجعلها فداء له ، وقيل : إنه سرّح (٥) له حينئذ ابنه إذ كان مرهونا في الفداء ، وكثر القيل والقال بينهم وبين أهل البيازين في ذلك ، وظهر بذلك ما كان كامنا في القلوب ، ثم رجع صاحب قشتالة إلى بلاده ومعه السلطان المذكور.

وفي نصف جمادى الثانية خرج إلى إلبيرة فهد بعض الأسوار ، وتوعد الناس ، فأعطاه أهله الحصن على الأمان ، فخرجوا وقدموا على غرناطة ، ثم فعل بحصن التلين (٦) مثل ذلك ، وقاتلوا قتالا شديدا ، ولما ضاقوا ذرعا أعطوه بالمقادة على الأمان ، فخرجوا إلى غرناطة وأطاع أهل قلنبيرة من غير قتال ، فخرجوا إلى غرناطة ثم وصل العدو إلى منت فريد (٧) ، فرمى عليهم بالمحرقات وغيرها ، وأحرق دار العدة ، فطلبوا الأمان وخرجوا إلى غرناطة ، وانتقل للصخرة فأخذها ، وحصّن هذه الحصون كلها ، وشحنها بالرجال والعدة ، ورتب فيها الخيل لمحاصرة

__________________

(١) الخطب : المصيبة.

(٢) في ب ، ه «وبينما هم في هذا».

(٣) في ب ، ه «وضيق بها الحصار».

(٤) لمعاضدة وليهم : لمساعدة وليهم.

(٥) سرحه له : أطلقه.

(٦) كذا في أ، ج. وفي ب «بحصن المتلين».

(٧) في ج «متن فريد».

٤٠٠