نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

تبارك وجه وجّهت نحوه المنى

فأوزعها شكرا وأوسعها طولا

وما هو إلا وجهك الدائم الذي

أقلّ جلى عليائه يخرس القولا

تبرأت من حولي إليك وقوّتي

فكن قوّتي في مطلبي وكن الحولا (١)

وهب لي الرضا ما لي سوى ذاك مبتغى

ولو لقيت نفسي على نيله الهولا

وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ حافظا للحديث ، مبرّزا في نقده ، تام المعرفة بطرقه ، ضابطا لأحكام أسانيده ، ذاكرا لرجاله ، ريّان من الأدب ، خطب ببلنسية ، واستقضى ، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة ، والإقدام والجزالة ، حضر الغزوات وباشر القتال بنفسه ، وأبلى بلاء حسنا ، وروى عن أبي القاسم بن حبيش وطبقته ، وصنف كتبا منها «مصباح الظلم» في الحديث ، و «الأربعون» عن أربعين شيخا لأربعين من الصحابة ، و «الأربعون السباعية» و «السباعيات» من حديث الصدفي ، و «حلية الأمالي في الموافقات والعوالي» و «تحفة الورّاد ، ونجعة الرّوّاد» و «المسلسلات» و «الإنشادات» و «كتاب الاكتفاء ، في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازي الثلاثة الخلفاء» و «ميدان السابقين ، وحلبة الصادقين ، المصدقين» في غرض كتاب الاستيعاب ، ولم يكمله ، «والمعجم» فيمن وافقت كنيته زوجه (٢) من الصحابة ، و «الإعلام ، بأخبار البخاري الإمام» و «المعجم ، في مشيخة أبي القاسم بن حبيش» و «برنامج رواياته» و «جنى الرطب ، في سنى الخطب» و «نكتة الأمثال ، ونفثة السحر الحلال» و «جهد النصيح (٣) ، في معارضة المعري في خطبة الفصيح» و «الامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال» و «مفاوضة القلب العليل ، ومنابذة الأمل الطويل ، بطريقة المعري في ملقى السبيل» و «مجازفتي اللحن ، لللاحن الممتحن» مائة مسألة ملغزة ، «نتيجة الحب الصميم ، وزكاة المنثور والمنظوم ، في مثال النعل النبوية على لابسها أفضل الصلاة والسلام» قال ابن رشيد : لو قال وزكاة النثير والنظيم لكان أحسن ، وله كتاب «الصحف المنتشرة ، في القطع المعشرة» و «ديوان رسائله» سفر ، و «ديوان شعره» سفر ، وكتب إلى الأديب الشهير أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي عقب انفصاله من بلنسية سنة ٥٨٧ : [الطويل]

أحنّ إلى نجد ومن حلّ في نجد

وما ذا الذي يغني حنيني أو يجدي

وقد أوطنوها وادعين وخلّفوا

محبّهم رهن الصّبابة والوجد

__________________

(١) الحول ، بفتح الحاء وسكون الواو : القوة.

(٢) في ب «وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة».

(٣) في الذيل «جهد النصيح وحظ المنيح».

٣٦١

تبين بالبين اشتياقي إليهم

ووجدي فساوى ما أجنّ الذي أبدي (١)

وضاقت عليّ الأرض حتّى كأنّها

وشاح بخصر أو سوار على زند

إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى

وبعض الذي لاقيته من جوى يردي

فراق أخلّاء وصدّ أحبّة

كأنّ صروف الدهر كانت على وعد (٢)

فيا سرحتي نجد ، نداء متيّم

له أبدا شوق إلى سرحتي نجد

ظمئت فهل طل يبرّد لوعتي

ضحيت فهل ظلّ يسكن من وجدي (٣)

ويا زمنا قد بان غير مذمم

لعلّ لأنس قد تصرّم من ردّ

ليالي نجني الأنس من شجر المنى

ونقطف زهر الوصل من شجر الصّدّ

وسقيا لإخوان بأكناف حاجر

كرام السّجايا لا يحولون عن عهد

وكم لي بنجد من سريّ ممجّد

ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد

أخو همّة كالزهر في بعد نيلها

وذو خلق كالزهر غبّ الحيا العدّ (٤)

تجمّعت الأضداد فيه حميدة

فمن خلق سبط ومن حسب جعد

أيا راحلا أودى بصبري رحيله

وفلّل من عزمي وثلّم من حدّي

أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم

ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي

فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى

وعيش كما نمنمت حاشيتي برد (٥)

عسى الله أن يدني السرور بقربكم

فيبدو ، ومنا الشّمل منتظم العقد

وقال الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» عند تفسير قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ما صورته : ولقد نزل بنا العدوّ ـ قصمه الله تعالى! ـ سنة سبع وعشرين وخمسمائة ، فجاس ديارنا ، وأسر جيرتنا ، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيرا ، وإن لم يبلغ ما حدوده ، فقلت للوالي والمولى عليه : هذا عدو الله قد حصل في الشّرك والشبكة (٦) ، فلتكن عندكم بركة ، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم

__________________

(١) أجن : أخفي ، وأبدي : أظهر.

(٢) الأخلاء : جمع خليل ، وهو الصديق الخالص.

(٣) الطلّ : الندى. وضحي : أصابته الشمس.

(٤) غب الحيا : بعد المطر مباشرة. والعدّ : الجاري الذي لا ينقطع.

(٥) نمنم : زخرف ، زين.

(٦) الشّرك : الفخ.

٣٦٢

حركة ، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار ، فيحاط بهم ، فإنه هالك لا محالة ، وإن يسركم الله له فغلبت الذنوب ، ورجفت بالمعاصي القلوب ، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره (١) ، وإن رأى المكيدة بجاره ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وحسبنا الله ونعم الوكيل!.

ولا خفاء أن هذا كان قبل أخذ العدو الجزيرة (٢) وشرق الأندلس وسرقسطة وميورقة وغيرها مما قدمنا ذكره ، والبدايات ، عنوان على النهايات.

وقال أبو جعفر الوقشي البلنسي نزيل مالقة يمدح أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي : [الطويل]

أبت غير ماء بالنخيل ورودا

وهامت به عذب الجمام برودا (٣)

وقالت لحاديها أثمّ زيادة

على العشر في وردي له فأزيدا (٤)

غلبتك ما هذا القنوع وما أنا

عهدتك لا تثنين عنه وريدا

أنونا إذا ما كنت منه قريبة

وضبّا إذا ما كان عنك بعيدا (٥)

ردي حضرة الملك الظليل رواقه

لعمري ففيها تحمدين ورودا

بحيث إمام الدين يوسع فضله

جميع البرايا مبدئا ومعيدا

أعاد إليها الأنس بعد شروده

وأحيا لنا ما كان منه أبيدا

وليّن أيّام الزّمان بعدله

وكانت حديدا في الخطوب حديدا

فلا ليلة إلا يروقك حسنها

ولا يوم إلا عاد يفضل عيدا

ومنها يصف حال الأندلس ويبعث على الجهاد : [الجهاد]

ألا ليت شعري هل يمدّ لي المدى

فأبصر شمل المشركين طريدا

وهل بعد يقضي في النّصارى بنصرة

تغادرهم للمرهفات حصيدا (٦)

__________________

(١) الوجار : جحر الضبع وغيرها.

(٢) كلمة «الجزيرة» ثابتة في أ، ج ، وقد أثبتناها منهما.

(٣) الجمام : الكثير الماء. والبرود : البارد.

(٤) أثمّ زيادة؟ : أهناك زيادة؟.

(٥) النون : الحوت مسكنه الماء. والضب من حيوان البر.

(٦) المرهفات : السيوف الحادة.

٣٦٣

ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب

يعيد عميد الكافرين عميدا (١)

ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل

فيتركهم فوق الصّعيد هجودا (٢)

يغادرهم جرحى وقتلى مبرّحا

ركوعا على وجه الفلا وسجودا

ويفتك من أيدي الطغاة نواعما

تبدّلن من نظم الحجول قيودا

وأقبلن في خشن المسوح وطالما

سحبن من الوشي الرّقيق برودا

وغبّر منهن التراب ترائبا

وخدّد منهنّ الهجير خدودا (٣)

فحقّ لدمعي أن يفيض لأزرق

تملّكها دعج المدامع سودا

ويا لهف نفسي من معاصم طفلة

تجاور بالقدّ الأليم نهودا (٤)

ويا أسفي ما إن يزال مردّدا

على شمل أعياد أعيد بديدا

وآها بمد الصوت منتحبا على

خلوّ ديار لو يكون مفيدا (٥)

وقال في آخرها ، وهو مما استحسنه الناس :

حملت إليه من نظامي قلادة

يلقبها أهل الكلام قصيدا

غدت يوم إنشاد القريض وحيدة

كما قصدت في المعلوات وحيدا

ولما تمهدت الأندلس لعبد المؤمن وبنيه كان لهم فيها وقائع مع عدوّ الدين ، واجتاز إليها عبد المؤمن ، ثم لما ولي بعده ملكه ابنه يوسف ، دخل الأندلس سنة ٥٦٦ ، وفي صحبته مائة ألف فارس من المغرب (٦) والموحّدين ، فنزل بإشبيلية ، فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش صاحب شرق الأندلس مرسية وأعمالها وما انضاف إليها ، فحمل على قلبه ، فمرض ، فمات ، وشرع السلطان يوسف في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج ، فاتسعت مملكته بالأندلس ، وأغارت سراياه على طليطلة إذ هي قاعدة ملكهم ، ثم إنه حاصرها ، فاجتمعت طائفة الفرنج عليه ، واشتد الغلاء في عسكره ، فرحل عنها ، وعاد إلى حضرة ملكه مراكش المحروسة.

__________________

(١) العميد : الشديد الحزن.

(٢) الكلكل : الصدر. وهجودا : نوما.

(٣) الترائب : موضع القلادة من الصدر ، وخدّد : قلّص ، شنّج ، قبّض. والهجير : شدة الحر.

(٤) الطّفلة ـ بفتح الطاء وسكون الفاء : الرخصة الناعمة.

(٥) في ب «وآها تمد الصوت».

(٦) في ب «من العرب الموحدين».

٣٦٤

ولم يزل أهل الأندلس بعد ظهور النصارى ـ دمرهم الله تعالى! ـ على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخد الثار ، بالنظم والنثار ، فلم ينفعهم ذلك حتى اتسع الخرق ، وأعضل الداء أهل الغرب والشرق ، فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب صاحب إفريقية أبا زكريا عبد الواحد (١) بن أبي حفص : [الكامل]

نادتك أندلس فلبّ نداءها

واجعل طواغيت الصليب فداءها

صرخت بدعوتك العلية فاحبها

من عاطفاتك ما يقي حوباءها (٢)

واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها

تردد على أعقابها أرزاءها

هي دارك القصوى أوت لإيالة

ضمنت لها مع نصرها إيواءها

وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى

سبل الضّراعة يسلكون سواءها

خلعت قلوبهم هناك عزاءها

لما رأت أبصارهم ما ساءها

دفعوا لأبكار الخطوب وعونها

فهم الغداة يصابرون عناءها (٣)

وتنكرت لهم الليالي فاقتضت

سرّاءها وقضتهم ضرّاءها

تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا

لم يضمن الفتح القريب بقاءها

رش أيها المولى الرحيم جناحها

واعقد بأرشية النجاة رشاءها (٤)

أشفى على طرف الحياة ذماؤها

فاستبق للدين الحنيف ذماءها (٥)

حاشاك أن تفنى حشاشتها وقد

قصرت عليك نداءها ورجاءها

طافت بطائفة الهدى آمالها

ترجو بيحيى المرتضى إحياءها

واستشرقت أمصارها لإمارة

عقدت لنصر المستضام لواءها

يا حسرتي لعقائل معقولة

سئم الهدى نحو الضلال هداءها

إيه بلنسية وفي ذكراك ما

يمري الشؤون دماءها لا ماءها

__________________

(١) في ب «أبا زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص».

(٢) الحوباء : النفس.

(٣) الأبكار : جمع بكر. والعون : جمع عوان ، وهي المرأة المتوسطة في السن. وأراد هنا المصيبة التي عرفها الناس وذاقوا مرارتها مرة بعد مرة.

(٤) راش جناحه : أنبت ريش جناحه. والأرشية : جم رشاء وهو الحبل.

(٥) الذماء : بقية الروح في البدن.

٣٦٥

كيف السبيل إلى احتلال معاهد

شب الأعاجم دونها هيجاءها (١)

وإلى ربا وأباطح لم تعر من

حلل الربيع مصيفها وشتاءها

طاب المعرّس والمقيل خلالها

وتطلعت غرر المنى أثناءها

بأبي مدارس كالطلول دوارس

نسخت نواقيس الصليب نداءها (٢)

ومصانع كسف الضلال صباحها

فيخاله الرائي إليه مساءها

ناحت بها الورقاء تسمع شدوها

وغدت ترجّع نوحها وبكاءها (٣)

عجبا لأهل النار حلّوا جنة

منها تمدّ عليم أفياءها

أملت لهم فتعجلوا ما أملوا

أيامهم لا سوّغوا إملاءها

بعدا لنفس أبصرت إسلامها

فتوكفت عن حزبها إسلاءها

أما العلوج فقد أحالوا حالها

فمن المطيق علاجها وشفاءها (٤)

أهدى إليها بالمكاره جارح

للكفر كرّه ماءها وهواءها

وكفى أسى أن الفواجع جمة

فمتى يقاوم أسوها أسواءها

هيهات في نظر الإمارة كف ما

تخشاه ، ليت الشكر كان كفاءها

مولاي هاك معادة أنباءها

لتنيل منك سعادة أبناءها

جرّد ظباك لمحو آثار العدا

تقتل ضراغمها وتسب ظباءها (٥)

واستدع طائفة الإمام لغزوها

تسبق إلى أمثالها استدعاءها

لا غرو أن يعزى الظهور لملة

لم يبرحوا دون الورى ظهراءها

إن الأعاجم للأعارب نهبة

مهما أمرت بغزوها أحياءها

تالله لو دبّت لها دبابها

لطوت عليها أرضها وسماءها (٦)

ولو استقلت عوفها لقتالها

لاستقبلت بالمقربات عفاءها

أرسل جوارحها تجئك بصيدها

صيدا وناد لطحنها أرحاءها

هبّوا لها يا معشر التوحيد قد

آن الهبوب وأحرزوا علياءها

__________________

(١) شبّ : أوقد. والهيجاء : الحرب.

(٢) أراد بالنداء : الأذان.

(٣) الورقاء : الحمامة.

(٤) العلوج : أراد النصارى.

(٥) الظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف وأراد هنا السيف.

(٦) دبابها : جمع داب ، مثل كفار وتجار وفساق ، جمع كافر ، وتاجر ، وفاسق. وفي ب «أدبابها».

٣٦٦

إن الحفائظ من خلالكم التي

لا يرهب الداعي بهن خلاءها (١)

هي نكتة المحيا فحيّهلا بها

تجدوا سناها في غد وسناءها

أولو الجزيرة نصرة إن العدا

تبغي على أقطارها استيلاءها

نقصت بأهل الشرك من أطرافها

فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها

حاشاكم أن تضمروا إلغاءها

في أزمة أو تضمروا إقصاءها

خوضوا إليها بحرها يصبح لكم

رهوا وجوبوا نحوها بيداءها (٢)

وافى الصريخ مثوّبا يدعو لها

فلتجملوا قصد الثواب ثواءها (٣)

دار الجهاد فلا تفتكم ساحة

ساوت بها أحياؤها شهداءها

هذي رسائلها تناجي بالّتي

وقفت عليها ريثها ونجاءها

ولربما أنهت سوالب للنهى

من كائنات حملت أنهاءها

وفدت على الدار العزيزة تجتني

آلاءها أو تجتلي آراءها (٤)

مستسقيات من غيوث غياثها

ما وقعه يتقدّم استسقاءها

قد أمّنت في سبلها أهواءها

إذ سوّغت في ظلّها أهواءها

وبحسبها أن الأمير المرتضى

مترقّب بفتوحها آناءها

في الله ما ينويه من إدراكها

بكلاءة يفدي أبي أكلاءها

بشرى لأندلس تحبّ لقاءه

ويحب في ذات الإله لقاءها

صدق الرواة المخبرون بأنه

يشفي ضناها أو يعيد رواءها

إن دوّخ العرب الصعاب مقادة

وأبى عليها أن تطيع إباءها

فكأن بفيلقه العرمرم فالقا

هام الأعاجم ناسفا أرجاءها (٥)

أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد

نذرت صوارمه الرقاق دماءها (٦)

لا يعدم الزمن انتصار مؤيّد

تتسوّغ الدنيا به سرّاءها

__________________

(١) الحفائظ : جمع حفيظة ، وهي الغضب.

(٢) الرهو : الساكن.

(٣) مثوّبا : مرجّعا.

(٤) الآلاء : النعم.

(٥) الفيلق : الجيش. والعرمرم : الكثير العدد.

والأرجاء : جمع رجا ، وهو الناحية.

(٦) الصوارم : السيوف.

٣٦٧

ملك أمدّ النّيّرين بنوره

وأفاده لألاؤه لألاءها (١)

خضعت جبابرة الملوك لعزه

ونضت بكف صغارها خيلاءها

أبقى أبو حفص أمارته له

فسما إليها حاملا أعباءها (٢)

سل دعوة المهدي عن آثاره

تنبيك أنّ ظباه قمن إزاءها

فغزا عداها واسترقّ رقابها

وحمى حماها واسترد بهاءها

قبضت يداه على البسيطة قبضة

قادت له في قدّه أمراءها

فعلى المشارق والمغارب ميسم

لهداه شرف وسمه أسماءها

تطمو بتونسها بحار جيوشه

فيزور زاخر موجها زوراءها

وسع الزمان فضاق عنه جلالة

والأرض طرّا ضنكها وفضاءها

ما أزمع الإيغال في أكنافها

إلا تصيّد عزمه زعماءها (٣)

دانت له الدنيا وشمّ ملوكها

فاحتلّ من رتب العلا شمّاءها (٤)

ردت سعادته على أدراجها

ليل الزمان ونهنهت غلواءها (٥)

إن يعتم الدول العزيزة بأسه

فالآن يولي جوده إعطاءها

تقع الجلائل وهو راس راسخ

فيها يوقّع للسعود جلاءها

كالطود في عصف الرياح وقصفها

لا رهوها يخشى ولا هوجاءها (٦)

سامي الذّوائب في أعزّ ذؤابة

أعلت على قمم النّجوم بناءها (٧)

بركت بكل محلّة بركاته

شفعا يبادر بذلها شفعاءها

كالغيث صبّ على البسيطة صوبه

فسقى عمائرها وجاد قواءها (٨)

ينميه عبد الواحد الأرضى إلى

عليا فتجنح بأسها وسخاءها

في نبعة كرمت وطابت مغرسا

وسمت وطالت نضرة نظراءها

ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت

لسرادقات فخارها جوزاءها

__________________

(١) النيران : الشمس والقمر.

(٢) في ب «أبو حفص إمارته له».

(٣) أزمع : عزم. وأوغل في البلاد إيغالا : ذهب فيها وأبعد.

(٤) شمّ : جمع أشم وهو السيد الأبي الكريم ، والشماء : المرتفعة.

(٥) نهنه : منع. والغلواء : الغلو.

(٦) الرهو : الساكن.

(٧) الذؤابة : من كل شيء أعلاه.

(٨) الصوب : المطر الذي لا يؤذي.

٣٦٨

فئة كرام لا تكفّ عن الوغى

حتى تصرّع حولها أكفاءها

وتكبّ في نار القرى فوق الذّرا

من عزة ألويها وكباءها

قد خلّقوا الأيام طيب خلائق

فثنت إليهم حمدها وثناءها

ينضون في طلب النفائس أنفسا

حبسوا على إحرازها أمضاءها (١)

وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم

أبصرت فيهم قطعها ومضاءها (٢)

لا عذر عند المكرمات لهم متى

لم تستبن لعفاتهم عذراءها

قوم الأمير فمن يقوم بمالهم

من صالحات أفحمت شعراءها

صفحا جميلا أيها الملك الرضي

عن محكمات لم نطق إحصاءها

تقف القوافي دونهن حسيرة

لا عيّها تخفي ولا إعياءها

فلعل علياكم تسامح راجيا

إصغاءها ومؤملا إغضاءها

ومن ذلك قول بعضهم يندب طليطلة أعادها الله تعالى للإسلام : [الوافر]

لثكلك كيف تبتسم الثغور

سرورا بعد ما بئست ثغور (٣)

أما وأبى مصاب هدّ منه

ثبير الدين فاتصل الثّبور (٤)

لقد قصمت ظهور حين قالوا

أمير الكافرين له ظهور

ترى في الدهر مسرورا بعيش

مضى عنا لطيّته السّرور

أليس بها أبيّ النفس شهم

يدير على الدوائر إذ تدور

لقد خضعت رقاب كنّ غلبا

وزال عتوّها ومضى النّفور (٥)

وهان على عزيز القوم ذلّ

وسامح في الحريم فتى غيور

طليطلة أباح الكفر منها

حماها ، إن ذا نبأ كبير

فليس مثالها إيوان كسرى

ولا منها الخورنق والسّدير

__________________

(١) في ب «إمضاءها».

(٢) انتضوا : استلوا. والبيض : السيوف ، ويوم الكريهة : يوم المعركة الشديدة القاسية.

(٣) بئست : وقعت في البؤس. ووقع في ب ، ه «سبيت ثغور» والثغور : في النصف الأول من البيت الأفواه.

والثغور في آخر البيت جمع ثغر ، وهو الموضع القريب من العدو يخاف منه.

(٤) ثبير : اسم جبل ، والثبور : الهلاك.

(٥) غلبا : جمع أغلب ، وهو الغليظ العنق القويه.

٣٦٩

محصّنة محسّنة بعيد

تناولها ومطلبها عسير

ألم تك معقلا للدّين صعبا

فذلله كما شاء القدير

وأخرج أهلها منها جميعا

فصاروا حيث شاء بهم مصير

وكانت دار إيمان وعلم

معالمها الّتي طمست تنير

فعادت دار كفر مصطفاة

قد اضطربت بأهليها الأمور

مساجدها كنائس ، أي قلب

على هذا يقرّ ولا يطير؟

فيا أسفاه يا أسفاه حزنا

يكرّر ما تكررت الدّهور

وينشر كل حسن ليس يطوى

إلى يوم يكون به النشور

أديلت قاصرات الطّرف كانت

مصونات مساكنها القصور (١)

وأدركها فتور في انتظار

لسرب في لواحظه فتور

وكان بنا وبالقينات أولى

لو انضمت على الكل القبور (٢)

لقد سخنت بحالتهن عين

وكيف يصحّ مغلوب قرير

لئن غبنا عن الإخوان إنا

بأحزان وأشجان حضور

نذور كان للأيّام فيهم

بمهلكهم فقد وفت النذور (٣)

فإن قلنا العقوبة أدركتهم

وجاءهم من الله النكير

فإنا مثلهم وأشد منهم

نجور وكيف يسلم من يجور

أنأمن أن يحل بنا انتقام

وفينا الفسق أجمع والفجور

وأكل للحرام ولا اضطرار

إليه فيسهل الأمر العسير

ولكن جرأة في عقر دار

كذلك يفعل الكلب العقور

يزول الستر عن قوم إذا ما

على العصيان أرخيت السّتور

يطول عليّ ليلي ، رب خطب

يطول لهوله الليل القصير

خذوا ثار الديانة وانصروها

فقد حامت على القتلى النّسور

__________________

(١) قاصرات الطرف : النساء. وفي القرآن الكريم (قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ).

(٢) في ه «وكان بنا وبالفتيات أولى».

(٣) مهلكهم : هلاكهم.

٣٧٠

ولا تهنوا وسلّوا كل عضب

تهاب مضاربا عنه النّحور (١)

وموتوا كلكم فالموت أولى

بكم من أن تجاروا أو تجوروا

أصبرا بعد سبي وامتحان

يلام عليهما القلب الصّبور

فأمّ الصبر مذكار ولود

وأمّ الصقر مقلات نزور (٢)

تخور إذا دهينا بالرزايا

وليس بمعجب بقر يخور (٣)

ونجبن ليس نزأر ، لو شجعنا

ولم نجبن لكان لنا زئير

لقد ساءت بنا الأخبار حتى

أمات المخبرين بها الخبير

أتتنا الكتب فيها كلّ شرّ

وبشّرنا بأنحسنا البشير

وقيل تجمعوا لفراق شمل

طليطلة تملّكها الكفور

فقل في خطة فيها صغار

يشيب لكربها الطفل الصغير

لقد صم السميع فلم يعوّل

على نبإ كما عمي البصير

تجاذبنا الأعادي باصطناع

فينجذب المخوّل والفقير

فباق في الديانة تحت خزي

تثبطه الشّويهة والبعير (٤)

وآخر مارق هانت عليه

مصائب دينه فله السعير

كفى حزنا بأن الناس قالوا

إلى أين التحول والمسير

أنترك دورنا ونفر عنها

وليس لنا وراء البحر دور

ولا ثمّ الضياع تروق حسنا

نباكرها فيعجبنا البكور

وظلّ وارف وخرير ماء

فلا قرّ هناك ولا حرور (٥)

ويؤكل من فواكهها طريّ

ويشرب من جداولها نمير

__________________

(١) العضب : السيف القاطع. وسله : أخرجه من غمده.

(٢) أصل هذا البيت قول الشاعر :

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلاة نزور

ووقع في ب ، ه «فأم الثكل مذكار ولود» وفي ب «مقلات».

(٣) نخور : نصوت ، وأصل الخوار صوت البقر.

(٤) الشويهة : تصغير الشاة.

(٥) القرّ : البرد.

٣٧١

يؤدي مغرم في كل شهر

ويؤخذ كلّ صائفة عشور

فهم أحمى لحوزتنا وأولى

بنا وهم الموالي والعشير

لقد ذهب اليقين فلا يقين

وغر القوم بالله الغرور

فلا دين ولا دنيا ولكن

غرور بالمعيشة ما غرور

رضوا بالرّقّ لله ما ذا

رآه وما أشار به مشير

مضى الإسلام فابك دما عليه

فما ينفي الجوى الدمع الغزير (١)

ونح واندب رفاقا في فلاة

حيارى لا تحطّ ولا تسير

ولا تجنح إلى سلم وحارب

عسى أن يجبر العظم الكسير

أنعمى عن مراشدنا جميعا

وما إن منهم إلا بصير

ونلقى واحدا ويفر جمع

كما عن قانص فرت حمير (٢)

ولو أنا ثبتنا كان خيرا

ولكن ما لنا كرم وخير (٣)

إذا ما لم يكن صبر جميل

فليس بنافع عدد كثير

ألا رجل له رأي أصيل

به مما نحاذر نستجير

يكر إذا السيوف تناولته

وأين بنا إذا ولت كرور

ويطعن بالقنا الخطّار حتى

يقول الرمح ما هذا الخطير

عظيم أن يكون الناس طرّا

بأندلس قتيل أو أسير

أذكر بالقراع الليث حرصا

على أن يقرع البيض الذكور (٤)

يبادر خرقها قبل اتساع

لخطب منه تنحسف البدور (٥)

يوسّع للذي يلقاه صدرا

فقد ضاقت بما تلقى صدور

تنقّصت الحياة فلا حياة

وودع جيرة إذ لا مجير

__________________

(١) الجوى : الحزن. والدمع الغزير : الكثير المتوالي.

(٢) القانص : الصياد. وقد يكون أراد به السبع ، ويكون أخذه من قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).

(٣) الخير ـ بكسر الخاء ـ الكرم.

(٤) البيض ـ بفتح الباء وسكون الياء : جمع بيضة وهي الخوذة. والذكور : هنا السيوف القاطعة.

(٥) في ب «تنخسف البدور».

٣٧٢

فليل فيه همّ مستكنّ

ويوم فيه شرّ مستطير (١)

ونرجو أن يتيح الله نصرا

عليهم ، إنه نعم النصير (٢)

ومن مشهور ما قيل في ذلك قول الأديب الشهير أبي البقاء صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى : [البسيط]

لكلّ شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغرّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سرّه زمن ساءته أزمان (٣)

وهذه الدار لا تبقي على أحد

ولا يدوم على حال لها شان

يمزق الدهر حتما كلّ سابغة

إذا نبت مشرفيّات وخرصان (٤)

وينتضي كل سيف للفناء ولو

كان ابن ذي يزن والغمد غمدان

أين الملوك ذوو التيجان من يمن

وأين منهم أكاليل وتيجان

وأين ما شاده شدّاد في إرم

وأين ما ساسه في الفرس ساسان

وأين ما حازه قارون من ذهب

وأين عاد وشداد وقحطان

أتى على الكلّ أمر لا مرد له

حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا

وصار ما كان من ملك ومن ملك

كما حكى عن خيال الطيف وسنان

دار الزمان على دارا وقاتله

وأمّ كسرى فما آواه إيوان (٥)

كأنما الصعب لم يسهل له سبب

يوما ولا ملك الدنيا سليمان

فجائع الدهر أنواع منوّعة

وللزمان مسرّات وأحزان

وللحوادث سلوان يسهلها

وما لما حلّ بالإسلام سلوان

دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

هوى له أحد وانهدّ ثهلان (٦)

أصابها العين في الإسلام فارتزأت

حتى خلت منه أقطار وبلدان (٧)

__________________

(١) المستكن : المستتر ، والشر المستطير : المنتشر المتسع.

(٢) يتيح : يهيئ ويقدّر.

(٣) دول : متداولة.

(٤) السابغة : الدروع. والمشرفيات : السيوف ، ونبوها : ألا تصيب الضريبة. والخرصان : أراد بها الرماح.

(٥) قاتل دارا هو الإسكندر الأكبر ، وإيوان كسرى : ديوان ملكه.

(٦) أحد وثهلان : جبلان.

(٧) في ب ، ه «أصابها العين في الإسلام فامتحنت».

٣٧٣

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

وأين شاطبة أم أين جيّان

وأين قرطبة دار العلوم ، فكم

من عالم قد سما فيها له شان

وأين حمص وما تحويه من نزه

ونهرها العذب فيّاض وملآن (١)

قواعد كنّ أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركان

تبكي الحنيفية البيضاء من أسف

كما بكى لفراق الإلف هيمان (٢)

على ديار من الإسلام خالية

قد أقفرت ولها بالكفر عمران

حيث المساجد قد صارت كنائس ما

فيهن إلا نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي جامدة

حتى المنابر ترثي وهي عيدان

يا غافلا وله في الدهر موعظة

إن كنت في سنة فالدهر يقظان

وماشيا مرحا يلهيه موطنه

أبعد حمص تغر المرء أوطان

تلك المصيبة أنست ما تقدمها

وما لها مع طول الدهر نسيان

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة

كأنها في مجال السبق عقبان

وحاملين سيوف الهند مرهفة

كأنها في ظلام النقع نيران

وراتعين وراء البحر في دعة

لهم بأوطانهم عز وسلطان

أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

قتلى وأسرى فما يهتز إنسان

ما ذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان

ألا نفوس أبيّات لها همم

أما على الخير أنصار وأعوان

يا من لذلة قوم بعد عزهم

أحال حالهم كفر وطغيان

بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم

واليوم هم في بلاد الكفر عبدان (٣)

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم

عليهم من ثياب الذل ألوان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لهالك الأمر واستهوتك أحزان

يا رب أم وطفل حيل بينهما

كما تفرّق أرواح وأبدان

__________________

(١) حمص : اسم إشبيلية ، سميت بذلك لأن الفاتحين من أهل حمص الشام نزلوها.

(٢) الحنيفية البيضاء : الإسلام.

(٣) عبدان : عبيد.

٣٧٤

وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت

كأنما هي ياقوت ومرجان (١)

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حيران

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان

انتهت القصيدة الفريدة ، ويوجد بأيدي [بعض](٢) الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف ، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته ، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة ، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك بالمشرق والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات ، وقد بينت ذلك في «أزهار الرياض» فليراجع.

وصالح بن شريف الرندي صاحب القصيدة من أشهر أدباء الأندلس ، ومن بديع نظمه قوله : [السريع]

سلّم على الحي بذات العرار

وحيّ من أجل الحبيب الدّيار (٣)

وخلّ من لام على حبهم

فما على العشاق في الذّلّ عار

ولا تقصّر في اغتنام المنى

فما ليالي الأنس إلّا قصار

وإنما العيش لمن رامه

نفس تداري وكؤوس تدار

وروحه الراح وريحانه

في طيبه بالوصل أو بالعقار(٤)

لا صبر للشيء على ضده

والخمر والهم كماء ونار

مدامة مدنية للمنى

في رقة الدمع ولون النّضار (٥)

مما أبو ريق أباريقها

تنافست فيها النفوس الكبار

معلّلتي والبرء من علتي

ما أطيب الخمرة لولا الخمار (٦)

__________________

(١) الطفلة : الفتاة الناعمة.

(٢) كلمة «بعض» ساقطة من ب. وموجودة في أ.

(٣) العرار : نبت طيب الرائحة. وذات العرار في الأصل واد بنجد.

(٤) العقار : الخمر ، سميت بذلك لأنها تعقر عقل شاربها.

(٥) النضار : الذهب. ومدنية للمنى : مقربة للأماني.

(٦) الخمار ، بضم الخاء : الصداع الذي يصيب شارب الخمر.

٣٧٥

ما أحسن النار التي شكلها

كالماء لو كف شرار الشرار

وبي وإن عذّبت في حبه

ببعده عن اقتراب المزار

ظبي غرير نام عن لوعتي

ولا أذوق النوم إلّا غرار (١)

ذو وجنة كأنها روضة

قد بهر الورد بها والبهار

رجعت للصبوة في حبه

وطاعة اللهو وخلع العذار

يا قوم قولوا بذمام الهوى

أهكذا يفعل حب الصغار

وليلة نبّهت أجفانها

والفجر قد فجر نهر النّهار

والليل كالمهزوم يوم الوغى

والشهب مثل الشهب عند الفرار (٢)

كأنما استخفى السّها خيفة

وطولب النجم بثار فثار

لذاك ما شابت نواصي الدجا

وطارح النسر أخاه فطار (٣)

وفي الثريا قمر سافر

عن غرة غيّر منها السفار

كأن عنقودا تثنّى به

إذ صار كالعرجون عند السّرار (٤)

كأنها تسبك ديناره

وكفها يفتل منه السوار

كأنما الظلماء مظلومة

تحكم الفجر عليها فجار (٥)

كأنما الصبح لمشتاقه

عزّ غنى من بعد ذلّ افتقار

كأنما الشمس وقد أشرقت

وجه أبي عبد الإله استنار

محمد محمد كاسمه

شخص له في كل معنى يشار

أما المعالي فهو قطب لها

والقطب لا شك عليه المدار

مؤتّل المجد صريح العلا

مهذب الطبع كريم النّجار (٦)

تزهى به لخم وساداتها

وتنتمي قيس له في الفخار

__________________

(١) لا أذوق النوم إلا غرارا : أي إلّا قليلا. والغرار : القليل من النوم.

(٢) الوغى : الحرب ، والشهب : الأول جمع شهاب ، والثاني جمع أشهب وهو الجواد الذي يخالط بياضه سواد.

(٣) في ج «كذاك ما شابت نواحي الدجى ـ وطير النسر ...».

(٤) العرجون : عنقود النخل الذي يبقى على النخل يابسا بعد أن يقطع العذق. والسرار : آخر ليلة من الشهر.

(٥) جار : أجحف في حكمه وظلم.

(٦) كريم النجار : كريم الحسب. والمجد المؤثل : الثابت.

٣٧٦

يفيض من جود يديه على

عافيه ما منه تحار البحار (١)

اليمن من يمناه حكم جرى

واليسر من شيمة تلك اليسار

أخ صفا منه لنا واحد

فالدهر مما قد جنى في اعتذار

فإن شكرنا فضله مرة

فقد سكرنا من نداه مرار

ونحن منه في جوار العلا

تدور للسعد بنا منه دار

الحافظ الله وأسماؤه

لذلك الجار وذاك الجوار

رجع : وقد رأيت أن أثبت هنا رسالة خاطب بها الكاتب البارع القاضي أبو المطرف بن عميرة المخزومي الشيخ الحافظ أبا عبد الله بن الأبار ، يذكر له أخذ العدو مدينة بلنسية وهي : [الطويل]

ألا فيئة للدهر تدنو بمن نأى

وبقيا يرى منها خلاف الذي رأى (٢)

ويا من عذيري منه يغدر من أوى

إليه ولا يدري سوى خلف من وأى (٣)

ذخائر ما في البر والبحر صيده

فلا لؤلؤا أبقى عليه ولا وأى

أيها الأخ الذي دهش ناظري لكتابه ، بعد أن أدهش خاطري من إغبابه ، وسرني من بشره إيماض ، بعد أن ساءني من جهته إعراض ، جرت على ذكره الصلة فقوّم قدح نبعتها ، وروى أكناف قلعتها (٤) ، وأحدث ذكرا من عهدنا الماضي فنقّط وجه عروسه ، وشعشع خمر كؤوسه ، وسقى بماء الشبيبة ثراه ، وأبرز مثال مرآة الغريبة (٥) مرآه ، فبورك فيه أحوذيا (٦) وصل رحمه ، وكسا منظره من البهجة ما كان حرمه ، وحيا الله تعالى منه وليا على سالف عهدي تمادى ، وبشعار ودي نادى ، وبين الإحسان شيمته (٧) ، وأبان والبيان لا تنجاب عنه ديمته ، ولا تغلو بغير قلمه قيمته واعتذر عن كلمة تمني تبديلها ، ودعوة ذكر وجوم النادي لها ، ثم أرسلها ترجف

__________________

(١) عافيه : طالب معروفه.

(٢) فيئة : عودة ورجوع. ووقع في ج «ألا فئة للدهر تدنو بمن نأى».

(٣) في ج «ويا من عذيري منه يعذر من أوى» وضمير «منه» يعود للدهر. ووأى : وعد.

(٤) في ب «تلعتها».

(٥) في ب ، ه «وأبرز مثل مرآة الغربية مرآه».

(٦) الأحوذي : الذي يسوق الأمور سوقا حسنا.

(٧) في ج «وبين والإحسان شيمته».

٣٧٧

بوادرها من خيفة ، وتوغر زعم صدور قلم وصحيفة (١) ، وتنذر من ريحانة قريش أن تمنعه عرفها ، وتحدق إليه طرفها ، واتقى غارة على غرة ، من الناجي برأس طمرّة ، ولم يأمن هجران المهاجر بعد وصله ، وعكر عكرمة المغطى بحلمه على أبي جهله ، وعند ذكر كتيبة خالد أحجم (٢) ، وذكر يوم أحاطت به فارس فاستلجم (٣) ، فاعتذر عما قال ، وأضمر الحذر إلا أن يقال ، فمهلا أيها الموفى على علمه ، النافث بسحر قلمه ، أتظن منزلتك في البلاغة ومهيعها لاحب (٤) ، ومنزعها بالعقول لاعب ، تسفل وقد ترفعت ، أو تخفى وإن تلفعت عرفناك يا سودة ، وشهرت حلّة عطارد الملاحة والجودة ، فلم حين تهيب الأخذ الأوحد من قصيّ غطارفها (٥) ، ولو استثار من حفائظها تالدها وطارفها (٦) ، لم يذكر يد قومه عند أبيها ، وقد رام خطة أشرف على تأبّيها ، حين أهاب بكم لمهمّة ، ودعا منكم أخاه لأمه ، ولو ذلك لما خلا له وجه الكعبة ، ولا خلص من تلك المضايق الصعبة ، وبأن أعرتموه نجدتكم الموصوفة ، غلب على ما كان بأيدي صوفه ، فكيف نجحد اليد عند عمنا ، أو نشحذ أسنة الألسنة لذمنا ، أو كيف نلقاكم بحدنا (٧) ، وأبوكم بكر (٨) معدّنا ، وما تيامنكم إلى سبأ بن يشجب ، وإن أطلنا فيه التعجب ، بالذي يقطع أرحامنا ، ويمنع اشتباكنا والتحامنا ، بعد أن شددنا فعالنا بفعالكم ، ورأينا أقدامنا في نعالكم ، ولو شئتم توعدتم بأسود سؤددكم عند الإقدام ، وإلحاح إلحافكم في ضرب الهام ، لكن نقول إن قومنا لكرام ، ولو شاؤوا كان لنا منهم شرّة وعرام ، وأعود من حيث بدأ الأخ الذي أبثه شوقي ، وأتطعم حلاوة عشرته باقية في حاسة ذوقي ، طارحني حديث مورد جف ، وقطين خفّ ، فيا لله لأتراب درجوا ، وأصحاب عن الأوطان خرجوا ، قصت الأجنحة وقيل طيروا ، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا ، فتفرقوا أيدي سبا ، وانتشروا ملء الوهاد والرّبا ، ففي كل جانب عويل وزفره ، وبكل صدر غليل وحسره ، ولكل عين عبره ، لا ترقأ من أجلها عبره ؛ داء خامر بلادنا حين أتاها ، وما زال بها حتى سجّى على موتاها ، وشجا ليومها

__________________

(١) في ه «وتوغر رغم صدر قلم وصحيفة» وفي أ«وتوغر رغم صدور قلم وصحيفة» وفي ب «وتوغر بوغم صدر قلم وصحيفة». والوغم : الحقد والترة.

(٢) في ب «أحجم».

(٣) كذا في ب «فاستحلم» وفي أ«استلجم».

(٤) المهيع : الطريق البينة الواسعة ، ولا حب : واضح.

(٥) في ب ، ه «غطاريفها».

(٦) في ب ، ه «تالدها وطريفها».

(٧) في ب ، ه «بجدنا».

(٨) في ب ، ه «وأبوكم أبو بكر معدنا».

٣٧٨

الأطول كهلها وفتاها ، وأنذر بها في القوم بحران أنيجه (١) ، يوم أثاروا أسدها المهيجة ، فكانت تلك الحطمة طلّ الشؤبوب (٢) ، وباكورة البلاء المصبوب ، أثكلتنا إخوانا أبكانا نعيهم ، ولله أحوذيّهم وألمعيّهم ، ذاك أبو ربيعنا ، وشيخ جميعنا ، سعد بشهادة يومه ، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه ، وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنّق ، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق ، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان ، وأخرج من جسدها روح الإيمان ، فبرح الخفاء ، وقيل : على آثار منح ذهب العفاء ، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء ، فأودت الخفة والحصافة ، وذهب الجسر والرصافة ، ومزقت الحلة والشملة ، وأوحشت الجرف والرملة ، ونزلت بالحارة وقعة الحرّة ، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسرة ، فأين تلك الخمائل ونضرتها ، والجداول وخضرتها ، والأندية وأرجها (٣) ، والأودية ومنعرجها ، والنواسم وهبوب مبتلّها ، والأصائل وشحوب معتلها ، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها ، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها تردّدها وحيرتها ، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها ، حتى أحاطت بجزيرة شقرها ، فآها لمسقط الرأس هوى نجمه ، ولفادح الخطب (٤) سرى كلمه ، ويا لجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها ، وروضة أجاد أبو إسحاق (٥) نعتها ، وإنما كانت داره التي فيها دبّ ، وعلى أوصاف محاسنها أكب ، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب ، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه ، ودمعهم عليها أراقوه ، وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع ، وإن لم يكن له ذلك الموقع : [الطويل]

أقلّوا ملامي أو فقولوا وأكثروا

ملومكم عما به ليس يقصر

وهل غير صبّ ما تني عبراته

إذا صعدت أنفاسه تتحدّر (٦)

يحن وما يجدي عليه حنينه

إلى أربع معروفها متنكّر

ويندب عهدا بالمشقّر فاللّوى

وأين اللوى منه وأين المشقّر

__________________

(١) في ه «وأنذرها في القوم بحران أينجة». والبحران : المرض ، وأراد أن مرض أنيجة كان إنذارا بسقوط بلنسية.

(٢) الشؤبوب : الدفعة القوية من المطر.

(٣) الأرج : الريح العطرة الطيبة.

(٤) فادح الخطب : عظيم المصيبة. والكلم : الجرح.

(٥) أبو إسحاق : هو ابن خفاجة وهو من جزيرة شقر.

(٦) ما تني : ما تفتر ولا تضعف ، والعبرات : الدموع.

٣٧٩

تغير ذاك العهد بعدي وأهله

ومن ذا على الأيام لا يتغيّر (١)

وأقفر رسم الدّار إلا بقيّة

لسائلها عن مثل حالي تخبر

فلم تبق إلا زفرة إثر زفرة

ضلوعي لها تنقدّ أو تتفطّر

وإلا اشتياق لا يزال يهزّني

فلا غاية تدنو ولا هو يفتر

أقول لساري البرق في جنح ليلة

كلانا بها قد بات يبكي ويسهر

تعرض مجتازا فكان مذكّرا

بعهد اللوى ، والشيء بالشّيء يذكر

أتأوي لقلب مثل قلبك خافق

ودمع سفوح مثل دمعك يقطر (٢)

وتحمل أنفاسا كومضك نارها

إذا رفعت تبدو لمن يتنوّر

يقرّ لعيني أن أعاين من نأى

لما أبصرته منك عيناي تبصر (٣)

وأن يتراءاك الخليط الذين هم

بقلبي وإن غابوا عن العين حضّر

كفى حزنا أنا كأهل محصّب

بكلّ طريق قد نفرنا وننفر

وأنّ كلينا من مشوق وشائق

بنار اغتراب في حشاه تسعّر

ألا ليت شعري والأماني ضلّة

وقولي ألا يا ليت شعري تحيّر

هل النّهر عقد للجزيرة مثل ما

عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر

وهل للصّبا ذيل عليه تجره

فيزورّ عنه موجه المتكسّر

وتلك المغاني هل عليها طلاوة

بما راق منها أو بما رقّ تحسر

ملاعب أفراس الصّبابة والصبا

تروح إليها تارة وتبكر

وقبليّ ذاك النهر كانت معاهد

بها العيش مطلول الخميلة أخضر

بحيث بياض الصبح أزرار جيبه

تطيب وأردان النسيم تعطّر

ليال بماء الورد ينضح ثوبها

وطيب هواء فيه مسك وعنبر

وبالجبل الأدنى هناك خطا لنا

إلى اللهو لا نكبو ولا نتعثر (٤)

__________________

(١) أخذ عجز هذا البيت من قول كثير عزة :

وقد زعمت أني تغيرت بعدها

ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغير؟

(٢) في ب ، ه «ودمع سفوح مثل قطرك يقطر».

(٣) في ب ، ه «يقر بعيني».

(٤) في ب ، ه «لا تكبو ولا تتعثر».

٣٨٠