نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

قال : وكان السبب في قتلهم أنه خاف من يصل لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله ، فشرع في القتل لعنه الله تعالى ، حتى قتل منهم نيفا على ستة آلاف قتيل ، ثم نادى الملك بتأمين من بقي وأمر أن يخرجوا فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم ، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب ومبادرة إلى شرب الماء ، وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه وحاروا في نفوسهم ، وانتظروا ما ينزل بهم ، فلما خلت ممن أسر وقتل وأخرج من الأبواب والأسوار ، وهلك في الزحمة (١) نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله ، وله الأمان ، وأرهقوا وأزعجوا ، فلما حصل كل واحد [منهم](٢) بمن معه من أهله في منزله اقتسمهم الإفرنج لعنهم الله تعالى بأمر الملك ، وأخذ كل واحد [منهم](٣) دارا بمن فيها من أهلها ، نعوذ بالله تعالى.

وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا (٤) برءوس الجبال ، وتحصنوا بمواضع منيعة ، وكادوا يهلكون من العطش ، فأمنهم الملك على نفوسهم ، وبرزوا في صور الهلكى من العطش ، فأطلق سبيلهم ، فبينما هم في الطريق إذا لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة ، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.

قال : وكان الفرنج لعنهم الله تعالى ، لما استولوا على أهل المدينة يفتضّون البكر بحضرة أبيها ، والثيب (٥) بعين زوجها وأهلها ، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثلة قط فيما مضى من الزمان ، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش (٦) أعطاهن خوله وغلمانه يعيثون (٧) فيهن عيثة ، وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة ، ولما عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال ، ومن صبيانهم الحسان ألوفا عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه ، وترك من رابطة خيله ببر بشتر ألفا وخمسمائة ، ومن الرجالة ألفين. انتهى.

قال ابن حيان : وأختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب أولي الألباب بنادرة منها يكتفى باعتبارها عما سواها ، وهي أن بعض تجار اليهود جاء برّ بشتر بعد الحادثة ملتمسا فدية بنات

__________________

(١) الزحمة : الزحام.

(٢) ما بين حاصرتين غير موجود في ب ، ه في الموضعين.

(٣) الوخش ـ بالخاء والشين المعجمتين ـ الواحد من رذائل الناس وصغارهم.

(٤) عاذوا بها : لجؤوا إليها وتحصنوا بها.

(٥) الثيب : هنا المرأة المتزوجة.

(٦) الوخش ـ بالخاء والشين المعجمتين ـ الواحد من رذائل الناس وصغارهم.

(٧) الخول : العبيد والخدم. ويعيثون : يفسدون.

٣٤١

بعض الوجوه ممن نجا من أهلها حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه (١) ، قال : فهديت إلى منزله فيها ، واستأذنت عليه ، فوجدته جالسا مكان رب الدار ، مستويا على فراشه ، رافلا في نفيس ثيابه ، والمجلس والسرير كما خلّفهما (٢) ربهما يوم محنته لم يغير شيئا من رياشهما وزينتهما ، ووصائفه مضمومات الشعور ، قائمات على رأسه ساعيات في خدمته ، فرحّب بي ، وسألني عن قصدي ، فعرفته وجهه ، وأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي ، فتبسم وقال بلسانه : ما أسرع ما طمعت فيمن عرضناه لك! أعرض عمن هنا وتعرّض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أقاربك (٣) فيمن شئت منهن ، فقلت له : أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه ، وبقربك أنست ، وفي كنفك اطمأننت ، فسمني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك ، فقال : وما عندك؟ قلت : العين الكثير الطيب والبز (٤) الرفيع الغريب ، فقال : كأنك تشهيني ما ليس عندي ، يا مجة (٥) ، ينادي بعض أولئك الوصائف ، يريد «يا بهجة» فغيره بعجمته ، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق ،؟؟؟؟ إليه وأقبلت ببدر الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلى ، فكشف وجعل بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه ، ثم قال لها : أدني إلينا من تلك التخوت ، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت ، واسترذلت ما عندي ، ثم قال لي : لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به ، ثم حلف بإلاهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يدي ، فهي ابنة صاحب المنزل ، وله حسب في قومه ، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم ، وقد رد لنا الكرة عليهم ، فصرنا فيما تراه ، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة (٦) ، وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى ، مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته ، إلى أن أيقظناه من نوماته ، يا فلانة ، يناديها بلكنته (٧) ، خذي عودك فغني (٨) زائرنا بشجوك ، قال :

__________________

(١) في ه «فيما كان يعرفه».

(٢) في ب ، ه «كما تخلفهما ربهما».

(٣) في ج «وأسراري من أقاربك» وليس بذاك. وأقاربك : مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب. وأقاربك هنا : أتساهل معك في الثمن.

(٤) البزّ : الثياب.

(٥) في ج «يا باجة».

(٦) الخود : الفتاة الشابة الناعمة.

(٧) في ج «يناديها بلكنة» واللكنة : عجمة اللسان.

(٨) في ب ، ه «تغني زائرك».

٣٤٢

فأخذت العود ، وقعدت تسويه ، وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها ، فتسارق العلج مسحه ، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلا عن العلج ، فصار من الغريب أن حثّ شربه هو عليه (١) ، وأظهر الطرب منه ، فلما يئست مما عنده قمت منطلقا عنه ، وارتدت لتجارتي سواه ، واطلعت لكثرة ما لدي القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به ، فهذا فيه مقنع لمن تدبره ، وتذكر لمن تذكره.

قال ابن حيان : قد أشفينا بشرح هذه الحالة (٢) الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة (٣) ، ولا شك عند ذوي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة ، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة. انتهى ببعض اختصار.

وذكر بعده كلاما في ذم أهل ذلك الزمان من أهل الأندلس ، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل ، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم ، وبعدهم عن طاعة خالقهم ، ورفضهم وصية نبيهم ، وغفلتهم عن سدّ ثغورهم ، حتى أطل عدوّهم الساعي لإطفاء نورهم ، يجوس خلال ديارهم ، ويستقري بسائط بقاعهم ، ويقطع كل يوم طرفا ، ويبيد أمة ، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم ، لهاة عن بثهم (٤) ، ما إن سمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا ، مذكر لهم أو داع ، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم ، حتى كأنهم ليسوا منا أو كأنّ بثقهم (٥) ليس بمفض إلينا ، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء ، عجائب فاتت التقدير ، وعرضت للتغيير ، ولله عاقبة الأمور ، وإليه المصير.

ولقد صدق رحمه الله تعالى ، فإن البثق سرى إليهم جميعا كما ستراه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال قبله : إن بر بشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة ، من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس ، فرسخ فيها الإيمان ، وتدورس القرآن ، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام ، فصك الأسماع ، وأطار الأفئدة ، وزلزل أرض الأندلس قاطبة ، وصير لكلّ شغلا يشغل الناس في التحدث به ، والتساؤل عنه ، والتصور لحلول مثله ، أياما لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل (٦) ، والاغترار بالأمل ، والاستناد

__________________

(١) حث شربه : سرّعه.

(٢) في ب «الحادثة».

(٣) في ه «من إشارة».

(٤) البث : شدة الحزن.

(٥) البثق : الخرق.

(٦) استبعاد الوجل : استبعاد الخوف.

٣٤٣

إلى أمراء الفرقة الهمل ، الذين هم منهم ما بين فشل ووكل ، يصدونهم عن سواء السبيل ، ويلبسون عليهم الدليل (١) ، ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم الأمراء والفقهاء بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون ، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ولا مخلص منه ، فالأمراء القاسطون (٢) قد نكبوا عن نهج الطريق ذيادا عن الجماعة ، وجريا إلى الفرقة ، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبيين لهم ، قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم ، وخابط في أهوائهم ، وبين مستشعر مخافتهم ، آخذ في التّقية من صدقهم ، وأولئك هم الأقلون فيهم ، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها؟ وما هي إلا مشفية من بوارها (٣) ، ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء ، لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق ، وتعلية الأسوار ، وشدّ الأركان ، وتوثيق البنيان ، كاشفين لعدوّهم عن السّوأة السّوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه أمورا قبيحات الصور ، مؤذيات الصدور بأعجاز الغير. [الوافر]

أمور لو تدبّرها حكيم

إذا لنهى وهبّب ما استطاعا (٤)

ثم قال ابن حيان : فلما كان عقب جمادى الأولى سنة ٤٥٧ شاع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها ، وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها ، والمتهم على أهلها ، لانحرافهم إلى أخيه ، صمد لها مع إمداد لحليفه (٥) عبّاد ، وسعى لإصمات سوء المقالة عنه ، وقد كتب الله تعالى عليه منها ما لا يمحوه إلا عفوه ، فتأهّب لقصد بر بشتر في جموع من المسلمين ، فجالدوا الكفار بها جلادا ارتاب منه كل جبان ، وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة والشجعان ، وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى أولياءه ، وخذل أعداءه ، وولّوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة ، فاقتحمها المسلمون عليهم ، وملكوهم أجمعين ، إلا من فر من مكان الوقعة ، ولم يدخل المدينة ، فأجيل السيف في الكافرين ، واستؤصلوا أجمعين ، إلا من استرق من أصاغرهم ، وفدي من أعاظمهم ، وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبنائهم ، وملكوا

__________________

(١) في ب ، ه «ويلبسون عليهم وضوح الدليل».

(٢) القاسطون : الظالمون الجائرون.

(٣) البوار : الهلاك.

(٤) البيت للقطامي عمير بن شييم (ديوانه ٣٩) وهو في ديوانه هكذا :

أمور لا تلافاها حليم

إذا لنهى وهيب ما استطاعا

وفي ج «لنهى وحبب» وفي ب ، ه إذن لنهى وهيب».

(٥) في أ«الخليفة عباد».

٣٤٤

المدينة بقدرة الخالق البارئ ، وأصيب في منحة (١) النصر المتاح طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين ، نحو الخمسين ، كتب الله تعالى شهادتهم ، وقتل فئة (٢) من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل ، فغسلها المسلمون من رجس الشرك ، وجلوها من صدإ الإفك. انتهى.

وليت طليطلة البائسة استرجعت كهذه ، ومع هذا فقد غلب العدو بعد على الكل ، والله سبحانه المرجو في الإدالة.

وقال ابن اليسع : أخذ العدو مدينة تطيلة وأختها طرشونة (٣) سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، ولما صار أمر بلنسية إلى الفقيه القاضي أبي أحمد بن جحاف قاضيها صيرها لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، فحصره بها القادر بن ذي النون الذي مكن الأذفونش من طليطلة ، فهجم عليه القاضي في لمة من المرابطين ، وقتله ، ودفع ابن جحاف لما لم يعهد من تدبير السلطان ، ورجعت عنه (٤) طائفة الملثّمين الذي كان يعتد بهم ، وجعل يستصرخ إلى أمير المسلمين فيبطىء عليه ، وفي أثناء ذلك أنهض يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة لذريق (٥) الطاغية للاستيلاء على بلنسية ، فدخلها ، وعاهده القاضي ابن جحاف ، واشترط عليه إحضار ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون ، فأقسم أنها ليست عنده ، فاشترط عليه أنه إن وجدها عنده قتله ، فاتفق أنه وجدها عنده ، فأحرقه بالنار ، وعاث في بلنسية ، وفيها يقول ابن خفاجة حينئذ : [الكامل]

عاثت بساحتك الظّبا يا دار

ومحا محاسنك البلى والنّار (٦)

فإذا تردّد في جنابك ناظر

طال اعتبار فيك واستعبار

أرض تقاذفت الخطوب بأهلها

وتمخّضت بخرابها الأقدار (٧)

كتبت يد الحدثان في عرصاتها

لا أنت أنت ولا الدّيار ديار (٨)

وكان استيلاء القبنطور (٩) ـ لعنه الله تعالى! ـ عليها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وقيل : في التي قبلها ، وبه جزم ابن الأبار قائلا : فتم حصار القبنطور (١٠) إياها عشرين شهرا ، وذكر أنه

__________________

(١) في ب ، ه «على منحة النصر».

(٢) في ب ، ه «وقتل فيه من أعداء الله».

(٣) في ب ، ه «طرسونة».

(٤) في ه «ورجعت عند ذلك طائفة الملثمين».

(٥) في ب ، ه «ردريق».

(٦) الظبا : هنا السيوف.

(٧) الاستعبار : سيلان الدمع.

(٨) العرصات : جمع عرصة ، وهي ساحة الدار.

(٩) في ب «القنبيطور».

(١٠) في ب «القنبيطور».

٣٤٥

دخلها صلحا ، وقال غيره : إنه دخلها عنوة ، وحرقها (١) ، وعاث فيها ، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر البنّي (٢) الشاعر المشهور رحمه الله تعالى وعفا عنه ، فوجه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي ففتحها الله تعالى على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة ، وتوالى عليها أمراء الملثمين ، ثم صارت ليحيى بن غانية الملثم حين ولي جميع شرق الأندلس ، فقدم عليها أخاه عبد الله بن غانية ، ولما ثارت الفتنة في المائة السادسة أخرجه منها مروان بن عبد العزيز ، إلى أن قام عليه جيش بلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وبايعوا لابن عياض ملك شرق الأندلس ، ففر مروان إلى المرية ، ثم رجعت بلنسية إلى أبي عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس بعد ابن عياض ، وقدم عليه أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش ، إلى أن رجع أبو الحجاج إلى جهة بني عبد المؤمن ، إلى أن ولي عليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص ابن أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي ، فلما ثار العادل بمرسية تمنع واعتز ، وأظهر طاعة في باطنها معصية ، ودام على ذلك مع أبي العلاء المأمون ، وكان قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية الأمير زياد بن أبي الحملات بن أبي الحجاج بن مردنيش ، فأخرجه من بلنسية ، وملكها ، وفر السيد إلى النصارى ، ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني ، فاستغاث زيان بصاحب إفريقية أبي زكريا بن أبي حفص ، وأوفد عليه في هذه الرسالة كاتبه الشهير أبا عبد الله بن الأبار القضاعي صاحب كتاب «التكملة» و «إعتاب الكتاب» وغير هما ، فقام بين يدي السلطان منشدا قصيدته السينية الفريدة التي فضحت من باراها ، وكبا دونها من جاراها ، وهي : [البسيط]

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إنّ السّبيل إلى منجاتها درسا (٣)

وهب لها من عزيز النّصر ما التمست

فلم يزل منك عزّ النّصر ملتمسا

وحاش ممّا تعانيه حشاشتها

فطالما ذاقت البلوى صباح مسا

يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا

للحادثات وأمسى جدّها تعسا (٤)

في كلّ شارقة إلمام بارقة

يعود مأتمها عند العدا عرسا (٥)

__________________

(١) في ب «وأحرقها».

(٢) في أ، ه «البتي».

(٣) منجاتها : أراد نجاتها مما حلّ بها. ودرس : عفت آثاره وطمست معالمه.

(٤) جزرا : معدين للذبح. والجد : البخت والحظ.

(٥) في ب ، ه «في كل شارقة إلمام بائقة».

٣٤٦

وكلّ غاربة إخجال شائبة

تثني الأمان حذارا والسّرور أسى (١)

تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم

إلّا عقائلها المحجوبة الأنسا

وفي بلنسية منها وقرطبة

ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا

مدائن حلّها الإشراك مبتسما

جذلان ، وارتحل الإيمان مبتئسا (٢)

وصيّرتها العوادي العائثات بها

يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا

فمن دساكر كانت دونها حرسا

ومن كنائس كانت قبلها كنسا (٣)

يا للمساجد عادت للعدا بيعا

وللنّداء غدا أثناءها جرسا (٤)

لهفي عليها إلى استرجاع فائتها

مدارسا للمثاني أصبحت درسا

وأربعا نمنمت أيدي الرّبيع لها

ما شئت من خلع موشية وكسا

كانت حدائق للأحداق مونقة

فصوّح النضر من أدواحها وعسا

وحال ما حولها من منظر عجب

يستجلس الرّكب أو يستركب الجلسا (٥)

سرعان ما عاث جيش الكفر وا حربا

عيث الدّبا في مغانيها التي كبسا (٦)

وابتزّ بزّتها مما تحيّفها

تحيّف الأسد الضّاري لما افترسا (٧)

فأين عيش جنيناه بها خضرا

وأين عصر جليناه بها سلسا

محا محاسنها طاغ أتيح لها

ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا

ورجّ أرجاءها لمّا أحاط بها

فغادر الشّمّ من أعلامها خنسا (٨)

خلا له الجوّ فامتدّت يداه إلى

إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا

وأكثر الزّعم بالتّثليث منفردا

ولو رأى راية التّوحيد ما نبسا (٩)

__________________

(١) في ب «وكل غاربة إحجاف نائبة».

(٢) جذلان : فرحان.

(٣) الدساكر : جمع دسكرة وهي هنا : الصومعة. والكنس : جمع كناس.

(٤) البيع : جمع بيعة ، وهي الكنيسة هنا والنداء هنا : الأذان.

(٥) حال : تغير وتحول من حال إلى حال.

(٦) الدبى : الجراد.

(٧) تحيفها : تنقصها.

(٨) الأعلام : جمع علم وهو الجبل.

(٩) نبس : تكلم.

٣٤٧

صل حبلها أيّها المولى الرّحيم فما

أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا

وأحي ما طمست منها العداة كما

أحييت من دعوة المهديّ ما طمسا

أيّام صرت لنصر الحقّ مستبقا

وبتّ من نور ذاك الهدي مقتبسا

وقمت فيها بأمر الله منتصرا

كالصارم اهتزّ أو كالعارض انبجسا (١)

تمحو الذي كشف التّجسيم من ظلم

والصبح ماحية أنواره الغلسا

وتقتضي الملك الجبّار مهجته

يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا

هذي رسائلها تدعوك من كثب

وأنت أفضل مرجوّ لمن يئسا (٢)

وافتك جارية بالنّجح راجية

منك الأمير الرضا والسيد النّدسا (٣)

خاضت خضارة يعليها ويخفضها

عبابه فتعاني اللين والشّرسا (٤)

وربّما سبحت والريح عاتية

كما طلبت بأقصى شدّه الفرسا

تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي

حفص مقبّلة من تربه القدسا

ملك تقلّدت الأملاك طاعته

دينا ودنيا فغشّاها الرضا لبسا

من كلّ غاد على يمناه مستلما

وكلّ صاد إلى نعماه ملتمسا (٥)

مؤيد لو رمى نجما لأثبته

ولو دعا أفقا لبّى وما احتبسا

تالله إنّ الذي تزجى السعود له

ما جال في خلد يوما ولا هجسا (٦)

إمارة يحمل المقدار رايتها

ودولة عزّها يستصحب القعسا

يبدي النّهار بها من ضوئه شنبا

ويطلع اللّيل من ظلمائه لعسا

ماضي العزيمة والأيام قد نكلت

طلق المحيّا ووجه الدّهر قد عبسا

كأنّه البدر والعلياء هالته

تحفّ من حوله شهب القنا حرسا

تدبيره وسع الدّنيا وما وسعت

وعرف معروفه واسى الورى وأسا (٧)

__________________

(١) العارض هنا : السحاب. وانبجس : انفجر بالمطر.

(٢) من كثب : عن قرب.

(٣) الندس : الفطن ، السريع الفهم.

(٤) خضارة : البحر.

(٥) الصادي : العطشان.

(٦) تزجى : تساق.

(٧) واسى : من المواساة. وأسا الجرح يأسوه : داواه.

٣٤٨

قامت على العدل والإحسان دولته

وأنشرت من وجود الجود ما رمسا (١)

مبارك هديه باد سكينته

ما قام إلّا إلى حسنى وما جلسا

قد نوّر الله بالتقوى بصيرته

فما يبالي طروق الخطب ملتبسا

برى العصاة وراش الطائعين فقل

في الليث مفترسا والغيث مرتجسا (٢)

ولم يغادر على سهل ولا جبل

حيّا لقاحا إذا وافيته بخسا

فربّ أصيد لا تلفى به صيدا

وربّ أشوس لا تلقى له شوسا (٣)

إلى الملائك ينمي والملوك معا

في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا

من ساطع النور صاغ الله جوهره

وصان صيقله أن يقرب الدنسا

له الثّرى والثريّا خطّتان فلا

أعزّ من خطّتيه ما سما ورسا

حسب الذي باع في الأخطار يركبها

إليه محياه أنّ البيع ما وكسا

إن السّعيد امرؤ ألقى بحضرته

عصاه محتزما بالعدل محترسا

فظلّ يوطن من أرجائها حرما

وبات يوقد من أضوائها قبسا

بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا

آماله ومن العذب المعين حسا (٤)

كأنّما يمتطي واليمن يصحبه

من البحار طريقا نحوه يبسا

فاستقبل السّعد وضاحا أسرّته

من صفحة فاض منها النور وانعكسا

وقبّل الجود طفّاحا غواربه

من راحة غاص فيها البحر وانغمسا

يا أيّها الملك المنصور أنت لها

علياء توسع أعداء الهدى تعسا

وقد تواترت الأنباء أنّك من

يحيي بقتل ملوك الصّفر أندلسا (٥)

طهّر بلادك منهم إنّهم نجس

ولا طهارة ما لم تغسل النّجسا

__________________

(١) رمس : قبر.

(٢) الليث : الأسد. والغيث : المطر. والمرتجس : المطر الذي يصحبه رعد وبرق.

(٣) الصيد : ميل العنق كبرياء. والشوس : التكبر.

(٤) حسا يحسو : هنا : شرب.

(٥) ملوك الصفر : أطلق العرب على الروم اسم : بني الأصفر. وملوك الصفر هنا ملوك نصارى الأندلس.

٣٤٩

وأوطىء الفيلق الجرار أرضهم

حتى يطأطئ رأسا كلّ من رأسا (١)

وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت

عيونهم أدمعا تهمي زكا وخسا (٢)

هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت

داء متى لم تباشر حسمه انتكسا (٣)

فاملأ هنيئا لك التأييد ساحتها

جردا سلاهب أو خطّية دعسا (٤)

واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه

لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسى

فبادر السلطان بإعانتهم (٥) ، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم ، من المال والأقوات والكسى ، فوجدوهم في هوّة الحصار ، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية ، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس ، وكان تغلب العدو على بلنسية صلحا يوم الثلاثاء ، السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة ، فهزّت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح ، وحركت من جنانه أخفض جناح ، ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها ، فجاوبها غير واحد ، وحال العدو بين بلنسية وبينه ، وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم ، وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة ، أعادها الله تعالى للإسلام.

وكانت وقعة كتندة (٦) على المسلمين قبل هذا التاريخ بمدة ، وكتندة ـ يقال «قتندة» بالقاف ـ من حيز دورقة من عمل سرقسطة من الثغر الأعلى ، وكانت الهزيمة على المسلمين جبرهم الله تعالى ، قتل فيها من المطوّعة نحو من عشرين ألفا ، ولم يقتل فيها من العسكر أحد ، وكان على المسلمين الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألّف الفتح باسمه «قلائد العقيان» وكانت سنة أربع عشرة وخمسمائة ، وممن حضرها الشيخ أبو علي الصدفي السابق الذكر ، وقرينه في الفضل أبو عبد الله بن الفراء خرجا غازيين ، فكانا ممن فقد فيها.

وقال غير واحد : إن العسكر انصرف مفلولا (٧) إلى بلنسية ، وإن القاضي أبا بكر بن العربيّ كان ممن حضرها ، وسئل مخلصه منها عن حاله ، فقال : حال من ترك الخباء والعباء ، وهذا مثل عند المغاربة معروف ، يقال لمن ذهبت ثيابه وخيامه ، بمعنى أنه ذهب جميع ما لديه.

__________________

(١) الفيلق : القطعة العظيمة من الجيش.

(٢) زكا وخسا : أي شفعا ووترا.

(٣) في ج «راء متى لم تباشر جسمها انتكسا».

(٤) الجرد : هنا الخيول. والسلاهب : جمع سلهب وهو الطويل من الخيل. والخطية : الرماح. ودعس : حادة.

(٥) انظر ابن عذاري ٣ / ٣٤٤.

(٦) انظر معجم البلدان ط صادر بيروت ٤ / ٣١٠.

(٧) مفلولا : هنا منهزما.

٣٥٠

ودخل العدو لوشة سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، مع السيد أبي محمد البياسي في الفتنة التي كانت بينه وبين العادل ، فعاثوا فيها أشد العيث ، ثم ردها المسلمون إلى أن أخذت بعد ذلك كما يأتي.

ودخل العدو مدينة المريّة يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، عنوة.

وحكى أبو زكريا الجعيدي عن أبي عبد الله بن سعادة الشاطبي المعمر أن أبا مروان بن ورد أتاه في النوم شيخ عظيم الهيئة فرمى يديه في عضديه من خلفه ، وهزه هزا عنيفا حتى أرعبه ، وقال له قل : [الطويل]

ألا أيّها المغرور ويحك لا تنم

فلله في ذا الخلق أمر قد انبهم (١)

فلا بدّ أن يرزوا بأمر يسوءهم

فقد أحدثوا جرما على حاكم الأمم (٢)

قال : وكان هذا في سنة أربعين وخمسمائة ، فلم يمض إلا يسير حتى تغلب الروم على المرية في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، بعد تلك الرؤيا بعامين أو نحوهما.

وهو مما حكاه ابن الأبار الحافظ في كتاب «التكملة» له.

وفي وقعة المرية هذه استشهد الرّشاطي (٣) لإمام المشهور ، وهو أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر ، اللخمي ، الرشاطي ، المريي ، وكانت له عناية كبيرة (٤) بالحديث والرجال والرواة والتواريخ ، وهو صاحب كتاب «اقتباس الأنوار ، والتماس الأزهار ، في أنساب الصحابة ورواة الآثار» أخذه الناس عنه ، وأحسن فيه ، وجمع وما قصر (٥) ، وهو على أسلوب كتاب أبي سعد بن السمعاني الحافظ المسمى «بالأنساب».

وولد الرّشاطي سنة ٤٦٦ بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريوا له ـ بفتح الهمزة ، وسكون الواو ، وكسر الراء ، وضم المثناة التحتية ، وبعد الألف لام مفتوحة ، وبعدها هاء ـ وتوفي شهيدا بالمرية عند تغلب العدوّ عليها صبيحة الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة ٥٤٢.

والرشاطي ـ بضم الراء ، وفتح الشين المخففة ـ وذكر هو أن أحد أجداده كان في جسمه

__________________

(١) انبهم : غمض.

(٢) حاكم الأمور : الله سبحانه وتعالى.

(٣) انظر ترجمته في وفيات الأعيان ٢ / ٢٩١.

(٤) في وفيات الأعيان «عناية كثيرة».

(٥) في وفيات الأعيان «وما أقصر».

٣٥١

شامة كبيرة ، وكانت حاضنته عجمية ، فإذا لاعبته قالت : رشاطة ، وكثر ذلك منها ، فقيل له : الرشاطي ، انتهى ملخصا من «وفيات الأعيان» ، وبعضه بالمعنى.

وبعد أخذ النصارى المرية هذه المرة رجعت إلى ملك المسلمين ، واستنقذها الله تعالى على يد الموحدين ، وبقيت بأيدي أهل الإسلام سنين ، وكان أول الولاة عليها حين استولى عليها أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي رجلا يقال له يوسف بن مخلوف فثار عليه أهل المرية ، وقتلوه ، وقدموا على أنفسهم الرميمي ، فأخذها النصارى منه عنوة كما ذكرنا ، وأحصى عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفا.

وقال ابن حبيش آخر الحفاظ بالأندلس : كنت في قلعة المرية لما وقع الاستيلاء عليها أعادها تعالى للإسلام ، فتقدّمت إلى زعيم الروم السليطين ، وهو ابن بنت الأذفونش ، وقلت له : إني أحفظ نسبك منك إلى هرقل ، فقال لي : قل ، فذكرته له ، فقال لي : اخرج أنت وأهلك ومن معك طلقاء بلا شيء.

وابن حبيش (١) شيخ ابن دحية وابن حوط الله وأبي الربيع الكلاعي ، رحمهم الله تعالى!.

ولما أخذت المرية أقبل إليها السيدان أبو حفص وأبو سعيد ابنا أمير المؤمنين فحصرا النصارى بها (٢) ، وزحف إليهما أبو عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس محاربا لهما ، فكانا يقاتلان النصارى والمسلمين داخلا وخارجا ، ثم رأى ابن مردنيش العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى ، فارتحل ، فقال النصارى : ما رحل ابن مردنيش إلا وقد جاءهم مدد ، فاصطلحوا ودخل الموحدون المدينة ، وقد خربت وضعفت ، إلى أن أحيا رمقها الرئيس (٣) أبو العباس أحمد بن كمال ، وذلك أن أخته أخذت سبيّة في دخلة عبد المؤمن لبجانة (٤) ، فاختلت بقصره واعتنت بأخيها ، فولاه بلده ، فصلح به حالها ، وكان جوادا حسن المحاولة كثير الرفق ، واشتهر من ولاتها في مدة بني عبد المؤمن في المائة السابعة الأمير أبو عمران بن أبي حفص عم ملك إفريقية أبي زكريا.

ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة وثارت الأندلس على مأمون بني عبد المؤمن

__________________

(١) ابن حبيش : هو الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الأنصاري نزيل مرسية توفي سنة ٥٨٤ ه‍. انظر تذكرة الحفاظ ١٣٥٣.

(٢) في ه «فحصر النصارى بها».

(٣) في ه «الرائس».

(٤) في بعض النسخ «لبجاية».

٣٥٢

بسبب قيام ابن هود بمرسية قام في المرية بدعوة ابن هود أبو عبد الله محمد بن أبي يحيى بن الرميمي ، وجده أبو يحيى هو الذي أخذها النصارى من يده ، ولما قام بدعوة ابن هود وفد عليه بمرسية وولاه وزارته ، وصرف إليه سياسته ، وآل أمره معه إلى أن أغراه بأن يحصن قلعة المرية ، ويجعلها له (١) عدة ، وهو يبغي (٢) ذلك عدة لنفسه ، وترك ابن هود فيها جارية تعلق ابن الرميمي بها ، واجتمع معها ، فبلغ ذلك ابن هود ، فبادر إلى المرية ، وهو مضمر الإيقاع بابن الرميمي ، فتغدّى به قبل أن يتعشى به (٣) ، وأخرج من قصره ميتا ، ووجّهه في تابوت إلى مرسية في البحر ، واستبدّ ابن الرميمي بملك المرية ، ثم ثار عليه ولده ، وآل الأمر بعد أحوال إلى أن تملكها ابن الأحمر صاحب غرناطة ، وبقيت في يد أولاده بعده إلى أن أخذها العدوّ الكافر عندما طوى بساط بلاد الأندلس كما سننبه عليه ، والله غالب على أمره.

وما أحسن قول أبي إسحاق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي في هزيمة العقاب بإشبيلية : [الوافر]

وقائلة أراك تطيل فكرا

كأنّك قد وقفت لدى الحساب

فقلت لها أفكر في عقاب

غدا سببا لمعركة العقاب

فما في أرض أندلس مقام

وقد دخل البلا من كلّ باب

وقول القائد أبي بكر ابن الأمير ملك شلب أبي محمد عبد الله (٤) ابن وزيرها (٥) يخاطب منصور بني عبد المؤمن وقد التقى هو وأصحابه مع جماعة من الفرنج فتناصفوا ، ثم كان الظفر للمسلمين : [الطويل]

ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا

فمنّا ومنهم طائحون عديد (٦)

وجال غرار الهند فينا وفيهم

فمنّا ومنهم قائم وحصيد (٧)

__________________

(١) في نسخة عند ه «يجعلها له مدة».

(٢) يبغي ، هنا : يريد.

(٣) هذا مثل ، والمقصود أنه عاجله بالفتك قبل أن يستطيع الفتك به.

(٤) في نسخة عند ه «أبي محمد بن عبد الله».

(٥) في ب «ابن وزير».

(٦) طائحون : هالكون.

(٧) غرار الهند : غرار السيف : حده. والهند هنا : السيف المصنوع في الهند. والقائم الذي ما يزال دون حصاد وأراد هنا : الحي. والحصيد : المحصود من الزرع وأراد : المقتول.

٣٥٣

فلا صدر إلا فيه صدر مثقّف

وحول الوريد للحسام ورود (١)

صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا

كلانا على حرّ الجلاد جليد (٢)

ولكن شددنا شدّة فتبلّدوا

ومن يتبلّد لا يزال يحيد

فولّوا وللسّمر الطّوال بهامهم

ركوع وللبيض الرّقاق سجود

وكان المذكور من فرسان الأندلس ، وكان ابنه الفاضل أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وقدرا وأدبا وشعرا ، وولاه ناصر بني عبد المؤمن مدينة قصر أبي دانس في الجهة الغربية ، وقتله ابن هود بإشبيلية ، وزعم أنه يروم القيام عليه ، ومن شعره قوله في ابن عمرو صاحب أعمال إشبيلية : [الكامل]

لا تيأسنّ من الخلافة بعد ما

ولي ابن عمرو خطّة الأشراف

تبّا لدهر هذه أفعاله

يضع النوافج في يدي كنّاف

رجع : ودخل العدو كورة ماردة من محمد بن هود سنة ست وعشرين وستمائة ، وكان مفتتح المصائب على يده ، أعادها الله تعالى للإسلام! وهي قاعدة بلاد الجوف في مدة العرب والعجم ، والحضرة المستجدّة بعدها هي مدينة بطليوس ، وبين ماردة وقرطبة خمسة أيام.

وملك بطليوس وماردة وما إليها المظفر محمد بن المنصور بن الأفطس مشهور ، وهو من رجال «القلائد» و «الذخيرة» وهو أديب ملوك عصره بلا مدافع (٣) ولا منازع ، وله التصنيف الرائق ، والتأليف الفائق ، المترجم ب «التذكر المظفري» خمسون مجلدا اشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع علوم الأدب ، وقال يوما : والله ما يمنعني من إظهار الشعر إلا كوني لا أقول مثل قول أبي العشائر بن حمدان : [الكامل]

أقرأت منه ما تخطّ يد الوغى

والبيض تشكل والأسنّة تنقط (٤)

وقول أبي فراس ابن عمه (٥) : [الوافر]

وجرّرنا العوالي في مقام

تحدّث عنه ربّات الحجال

كأنّ الخيل تعلم من عليها

ففي بعض على بعض تعالي

فأين هذا من قولي : [الوافر]

__________________

(١) المثقف : الرمح الذي أحسن تقويمه.

(٢) البيض : السيوف والقنا : الرماح.

(٣) في ه «غير مدافع».

(٤) يد الوغى : يد الحرب.

(٥) انظر ديوان أبي فراس الحمداني ٢٨٤.

٣٥٤

أنفت من المدام لأنّ عقلي

أعزّ عليّ من أنس المدام

ولم أرتح إلى روض وزهر

ولكن للحمائل والحسام

إذا لم أملك الشّهوات قهرا

فلم أبغي الشّفوف على الأنام (١)

وله رحمه الله تعالى : [الخفيف]

يا لحظه زد فتورا

تزد عليّ اقتدارا

فاللحظ كالسّيف أمضا

ه ما يرقّ غرارا (٢)

وابنه المتوكل من رجال «القلائد» و «المسهب» وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بن عباد بإشبيلية ، قد أناخت الآمال بحضرتهما ، وشدّت رحال الآداب إلى ساحتهما ، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين ، وينظر الأدب منهما عن مقلتين ، والمعتمد أشعر ، والمتوكل أكتب.

رجع : وقال الفاضل الكاتب أبو عبد الله محمد الفازازي ، وقيل : إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته : [الكامل]

الروم تضرب في البلاد وتغنم

والجور يأخذ ما بقى والمغرم (٣)

والمال يورد كلّه قشتالة

والجند تسقط والرّعيّة تسلم

وذوو التّعيّن ليس فيهم مسلم

إلا معين في الفساد مسلّم

أسفي على تلك البلاد وأهلها

الله يلطف بالجميع ويرحم (٤)

وقيل : إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده ، فلما وقف عليها قال بعد ما بكى : صدق رحمه الله تعالى ، ولو كان حيا ضربت عنقه!.

وهذا الفازازي أخو الشاعر الشهير الكاتب الكبير أبي زيد عبد الرحمن الفازازي صاحب الأمداح في سيد الوجود محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو كما قال فيه بعضهم : صاحب القلم الأعلى ، والقدح المعلّى ، أبرع من ألّف وصنف ، وأبدع من قرّط وشنف ، فقد طاع القلم لبنانه ، والنظم والنثر لبيانه ، كان نسيج وحده رواية (٥) وأخبارا ، ووحيد نسجه رواية وابتكارا ، وفريد وقته خبرا وإخبارا ، وصدر عصره إيرادا وإصدارا ، صاحب فهوم ، ورافع ألوية علوم ، أما الأدب فلا يسبق فيه مضماره ، ولا يشق غباره ، إن شاء إنشاء أنشى ووشّى ، سائل الطبع ، عذب النّبع ، له في

__________________

(١) الشفوف : أراد به الظهور.

(٢) غرار السيف : حده.

(٣) بقي ، هنا بفتح القاف ، وهي لغة في بقي.

(٤) في أصل ه «أسفي على تلف البلاد وأهلها».

(٥) في ه «رؤية وأحبارا» تحريف.

٣٥٥

مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، بدائع قد خضع لها البيان وسلم ، أعجز بتلك المعجزات نظما ونثرا ، وأوجز في تحبير تلك الآيات البينات فجلا سحرا ، ورفع للقوافي راية استظهار تخير فيها الأظهر ، فعجم وعشر وشفع وأوتر ، وأما الأصول فهي التي من فروعه (١) ، في متفرق منظومه ومنثور مجموعه ، وأما النسب ، فإلى حفظه انتسب ، وأما الأيام والدول ، ففي تاريخه الأواخر والأول ، وقد سبك من هذه العلوم في منثوره وموزونه ، ما يشهد بإضافتها إلى فنونه ، وله سماع في الحديث ورواية ، وفهم بقوانينه ودراية ، سمع من أبي الوليد اليزيد بن عبد الرحمن بن بقي القاضي ، ومن أبي الحسن جابر بن أحمد القرشي التاريخي ، وهو آخر من حدّث عنه ، ومن أبي عبد الله التّجيبي كثيرا وهو أول من سمع عنه في حياة الحافظ أبي الطاهر السّلفي إذ قدم عليهم تلمسان ، وأجازه الحافظ السهيلي وابن خلف الحافظ وغيرهما ، وولد بعد الخمسين والخمسمائة ، وتوفي بمراكش سنة ٦٣٧ (٢) ، رحمه الله تعالى!. انتهى ملخصا.

رجع : ولما ثارت الأندلس على طائفة عبد المؤمن كان الوالي بجزيرة ميورقة أبو يحيى بن أبي عمران التينملي (٣) فأخذها الفرنج منه ، كذا قال ابن سعيد ، وقال ابن الأبار : إنها أخذت يوم الاثنين الرابع عشر من صفر سنة سبع وعشرين وستمائة ، وقال المخزومي في تاريخ ميورقة : إن سبب أخذها من المسلمين أن أميرها في ذلك الوقت محمد بن علي بن موسى كان في الدولة الماضية أحد أعيانها ، ووليها سنة ست وستمائة ، واحتاج إلى الخشب المجلوب من يابسة ، فأنفذ طريدة بحرية وقطعة حربية ، فعلم بها والي طرطوشة ، فجهز إليها من أخذها ، فعظم ذلك على الوالي ، وحدث نفسه بالغزو لبلاد الروم ، وكان ذلك رأيا مشؤوما ، ووقع بينه وبين الروم ، وفي آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بلغه أن مسطحا من برشلونة ظهر على يابسة ، مركبا وآخر من طرطوشة انضم إليه ، فبعث ولده في عدة قطع إليه حتى نزل [في](٤) مرسى يابسة ، ووجد فيه لأهل جنوة مركبا كبيرا ، فأخذه وسار حتى أشرف على المسطح ، فقاتله وأخذه ، وظن أنه غالب الملوك ، وغاب عنه أنه أشأم من عاقر الناقة (٥) ، وأن الروم لما بلغهم الخبر قالوا لملكهم وهو من ذرية أذفونش : كيف يرضى الملك بهذا الأمر

__________________

(١) في ب «فهي من فروعه».

(٢) في نسخة عند ه «سنة ٦٢٧».

(٣) في ب ، ه «التينمللي» وفي نسخة عند ه «التيفلي».

(٤) كلمة «في» ساقطة من ب وموجودة في أ.

(٥) عاقر الناقة : الذي قتل ناقة صالح عليه الصلاة والسلام ، فكان سببا في دمار قومه ، وكان اسمه قدار ، ويضرب به المثل في الشؤم ؛ فيقال : أشأم من قدار.

٣٥٦

ونحن نقاتل بنفوسنا وأموالنا؟ فأخذ عليهم العهد بذلك ، وجمع عشرين ألفا من أهل البلاد ، وجهز في البحر ستة عشر ألفا ، وشرط عليهم حمل السلاح ، وفي سنة ست وعشرين وستمائة اشتهر أمر هذه الغزوة فاستعد لها الوالي ، وميز نيفا على ألف فارس من فرسان الحضر والرعية مثلهم ، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفا ، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة ، ومن سوء الاتفاق أن الوالي أمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر ، فساقهم وضرب أعناقهم ، وكان فيهم ابنا خاله ، وخالهما أبو حفص بن سيري ذو المكانة الوجيهة ، فاجتمعت الرعية إلى ابن سيري ، فأخبروه بما نزل ، وعزوه (١) فيمن قتل وقالوا : هذا أمر لا يطاق ، ونحن كل يوم إلى الموت نساق ، وعاهدوه على طلب الثأر ، وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال ، والناس من خوفه في أهوال ، ومن أمر العدو في إهمال ، فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة فأحضرهم ، وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي ، وأخبره بأن الروم قد أقبلت ، وأنه عد فوق الأربعين من القلوع ، وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر من جانب آخر وقال : إن أسطول العدو قد تظاهر ، وقال : إنه عد سبعين شراعا ، فصح الأمر عنده ، فسمح لهم بالصفح والعفو ، وعرفهم بخبر العدو ، وأمرهم بالتجهز ، فخرجوا إلى دورهم ، كأنما نشروا من قبورهم ، ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد ، فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعا ، ولما عبر وقصد المرسى أخرج الوالي جماعة تمنعهم النزول ، فباتوا على المرسى في الرجل والخيل (٢) ، وفي الثامن عشر من شوال ، وهو يوم الاثنين ، وقع المصافّ ، وانهزم المسلمون ، وارتحل النصارى إلى المدينة ، ونزلوا منها على الحربية (٣) الحزينة من جهة باب الكحل ، ولم يزل الأمر في شدة وقد أشرفوا على أخذ البلد ، ولما رأى ابن سيري أن العدو قد استولى على البلد خرج إلى البادية ، ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالا شديدا ، ولما كان يوم الأحد أخذ البلد ، وأخذ منه أربعة وعشرون ألفا قتلوا على دم واحد ، وأخذ الوالي ، وعذب ، وعاش بعد ذلك خمسة وأربعين يوما ، ومات تحت العذاب ، وأما ابن سيري فإنه صعد إلى الجبل ، وهو منيع لا ينال من تحصن فيه ، وجمع عنده سنة عشر ألف مقاتل ، وما زال يقاتل إلى أن قتل يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين

__________________

(١) في أصل ه «وأغروه بمن قتل».

(٢) الرجل : جمع راجل ، وهو المقاتل وليس معه فرس. ويسمون في هذه الأيام : المشاة. وأراد بالخيل : الفرسان.

(٣) في ب «الحريبة الحزينة». والحربية : الغنيمة في الحرب.

٣٥٧

وستمائة ، وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني (١) ، وأما الحصون فأخذت في آخر رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة ، وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين إلى بلاد الإسلام ، انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصا.

وكان بميورقة جماعة أعلام وشعراء ، ومن شعر ابن عبد الولي الميورقي : [الخفيف]

هل أمان من لحظك الفتّان

وقوام يميل كالخيزران

مهجتي منك في جحيم ، ولكنّ

جفوني قد متّعت في جنان

فتنتني لواحظ ساحرات

لست أخشى من فتنة الشّيطان

ولما استولى النصارى على ميورقة في التاريخ المتقدم ثار بجزيرة منورقة ، وهي قريبة منها الجواد العادل العالم أبو عثمان سعيد بن حكم القرشي ، وكان وليها من قبل الوالي أبي يحيى المقتول ، وتصالح مع النصارى على ضريبة معلومة ، واشترط أن لا يدخل جزيرته أحد من النصارى ، وضبطها أحسن ضبط ، قال أبو الحسن علي بن سعيد : أخبرني أحد من اجتمع به أنه لقي منه برا حبب إليه الإقامة في تلك الجزيرة المنقطعة ، وذكر أنه ركب معه فنظر إلى حمالة سيف ضيقة وقد أثرت في عنقه ، فأمر له بإحسان وغنباز ، وكتب معه : [البسيط]

حمّالة السيف توهي جيد حاملها

لا سيّما يوم إسراع وإنجاز

وخير ما استعمل الإنسان يومئذ

لحسم علّتها إلباس غنباز

والغنباز عند أهل المغرب : صنف من الملبوس غليظ يستر العنق.

وأصل أبي عثمان من مدينة طلبيرة (٢) من غرب الأندلس ، وقد ألفت باسمه التآليف المشهورة بالمغرب ككتاب «روح الشحر ، وروح الشعر» (٣) وغيره.

وأخذ العدو منورقة بعد مدة.

وأخذ العدو جزيرة شقر صلحا سنة تسع وثلاثين وستمائة في آخرها.

وأخذ العدو ـ دمره الله تعالى! ـ مدينة سرقسطة يوم الأربعاء لأربع خلون من رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.

__________________

(١) جبلة بن الأيهم الغساني : آخر ملوك الغساسنة في الشام ، أسلم في خلافة عمر بن الخطاب ثم عاد إلى النصرانية ، وفر إلى بلاد الروم ومات بها.

(٢) في ب «طبيرة».

(٣) في أصل ه «دوح الشجر ، وروح الشعر».

٣٥٨

وكان استيلاء الإفرنج على شرق الأندلس شاطبة وغيرها وإجلاؤهم من يشاركهم من المسلمين فيما تغلبوا عليه منها في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.

وكان استيلاء العدو ـ دمره الله تعالى! ـ على مدينة قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال (١) من سنة ست وثلاثين وستمائة.

وكان تملك العدو مرسية صلحا ظهر يوم الخميس العاشر من شوال قدم أحمد بن محمد بن هود ولد والي مرسية بجماعة من وجوه النصارى ، فملكهم إياها صلحا ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم!]. (٢).

وحصر العدو أشبيلية سنة خمس وأربعين وستمائة.

وفي يوم الاثنين الخامس من شعبان للسنة بعدها ملكها الطاغية صاحب قشتالة صلحا بعد منازلتها حولا كاملا (٣) وخمسة أشهر أو نحوها.

وقال ابن الأبار في ترجمة أبي علي الشلوبين من «التكملة» ما صورته : وتوفي بين يدي منازلة الروم إشبيلية ليلة الخميس منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة ، وفي العام القابل ملكها الروم.

وكانت وقعة أنيجة (٤) التي قتل فيها الحافظ أبو الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة ، ولم يزل رحمه الله تعالى متقدما أمام الصفوف زحفا إلى الكفار مقبلا على العدو ينادي بالمنهزمين : أعن الجنة تفرون؟ حتى قتل صابرا محتسبا برّد الله تعالى مضجعه! وكان دائما يقول : إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره ، فكان كذلك ، ورثاه تلميذه الحافظ أبو عبد الله بن الأبار بقصيدته الميمية الشهيرة التي أولها : [الطويل]

ألمّا بأشلاء العلا والمكارم

تقدّ بأطراف القنا والصّوارم

وعوجا عليها مأربا ومفازة

مصارع خصّت بالطلا والجماجم (٥)

__________________

(١) في ج «من شوال».

(٢) ما بين حاصرتين غير موجود في ب.

(٣) حولا كاملا : سنة كاملة.

(٤) انظر الروض المعطار «أنيشه».

(٥) في ب «وعوجا عليها مأربا وحفاوة».

٣٥٩

نحيّي وجوها في الجنان وجيهة

مجاسد من نسج الظّبا واللهاذم (١)

وهي طويلة.

ومن شعر الحافظ أبي الربيع المذكور (٢) : [الطويل]

توالت ليال للغواية جون

ووافى صباح للرّشاد مبين (٣)

ركاب شباب أزمعت عنك رحلة

وجيش مشيب جهّزته منون

ولا أكذب الرحمن فيما أجنّه

وكيف ولا يخفى عليه جنين (٤)

ومن لم يخل أن الرياء يشينه

فمن مذهبي أن الرياء يشين

لقد ريع قلبي للشّباب وفقده

كما ريع بالعلق الفقيد ضنين (٥)

وآلمني وخط المشيب بلمّتي

فخطّت بقلبي للشجون فنون

وليل شبابي كان أنضر منظرا

وآنق مهما لا حظته عيون

فآها على عيش تكدر صفوه

وأنس خلا منه صفا وحجون

ويا ويح فودي أو فؤادي كلّما

تزيّد شيبي كيف بعد يكون

حرام على قلبي سكون بغرّة

وكيف مع الشيب الممضّ سكون (٦)

وقالوا شباب المرء شعبة جنّة

فما لي عراني للمشيب جنون (٧)

وقالوا شجاك الشيب حدثان ما أتى

ولم يعلموا أن الحديث شجون

وقال أيضا : [الطويل]

أمولى الموالي ليس غيرك لي مولى

وما أحد يا ربّ منك بذا أولى

__________________

(١) في ب :

«نحيي وجوها في الجنان وجيهة

بما لقيت حمرا وجوه الملاحم

وأجساد إيمان كساها نجيعها

مجاسد من نسج الظبى واللهاذم

(٢) الذيل والتكملة ٤ / ٨٨.

(٣) جون : أسود. والجون من الأضداد يطلق على الأبيض والأسود.

في ب «تولت ليال».

(٤) أجنه : أخفيه ، والجنين هنا : المخفي.

(٥) العلق ـ بالكسر ـ النفيس الذي يضن به والضنين : البخيل.

(٦) الممض : المؤلم ، الموجع.

(٧) الجنة ـ بضم الجيم ـ الدرع والحافظ.

٣٦٠