نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

أنا شاعر الدنيا وأنت أميرها

فما لي لا يسري إلي سرورها

أشار الأمير إلى مضحك له كان حاضرا أن يحبق (١) له لقوله «أنا شاعر الدنيا» فقال له ابن الروح : على من حبقت؟ يعني أنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل لقوله «أنا شاعر الدنيا» أو لقوله «وأنت أميرها» ففطن الأمير لما قصده ، وضحك وتغافل.

وقال أبو بكر بن المنخل الشلبي (٢) : [الكامل]

كم ليلة دارت عليّ كواكب

للخمر تطلع ثم تغرب في فمي

قبّلتها في كفّ من يسعى بها

وخلطت قبلتها بقبلة معصم

وكأنّ حسن بنانه مع كأسه

غيم يشير لنا ببعض الأنجم

وقال ذو الوزارتين أبو بكر بن عمار (٣) : [المتقارب]

قرأت كتابك مستشفعا

بوجه أبى الحسن من ردّه

ومن قبل فضّ ختام الكتاب

قرأت الشفاعة في خدّه

وقال : [المجتث]

غزا القلوب غزال

حجّت إليه العيون

قد خطّ في الخدّ نونا

وآخر الحسن نون

قال الحجاري : وإكثار ابن عمار في المعذّرين وإحسانه فيهم يدلّك على أنه ، كما قيل عنه ، كان مشغوفا بالكاس ، والاستلقاء من غير نعاس.

وكان أبو الفضل بن الأعلم (٤) من أجمل الناس وأذكاهم (٥) في علم الأدب والنحو ، وأقرأ علم النحو قبل أن يلتحي ، فقال ابن صارة فيه : [الكامل]

أكرم بجعفر اللبيب فإنه

ما زال يوضح مشكل «الإيضاح» (٦)

__________________

(١) يحبق : يضرط.

(٢) انظر المغرب ج ١ ص ٣٨٧. وزاد المسافر ص ٨٧. والتكملة ص ٤٩٦.

(٣) انظر المغرب ج ١ ص ٣٨٨.

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٣٩٦.

(٥) في ب : «وأذكرهم».

(٦) الإيضاح : اسم كتاب في النحو ألفه أبو علي الفارسي.

٢١

ماء الجمال بخدّه مترقرق

فالعين منه تجول في ضحضاح (١)

ما خدّه جرحته عيني ، إنما

صبغت غلالته دماء جراحي

لله زاي زبرجد في عسجد

في جوهر في كوثر في راح (٢)

ذي طرّة سبجيّة ذي غرّة

عاجيّة كالليل والإصباح

رشأ له خدّ البريء ولحظه

أبدا شريك الموت في الأرواح

وقال الرمادي : [مجزوء الرجز]

ونور غيث مسبل

وقهوة تسلسل (٣)

تدور بين فتية

بخلقهم تمثّل

والأفق من سحابه

طلّ ضعيف ينزل

كأنه من فضّة

برادة تغربل

وقال (٤) : [السريع]

بدر بدا يحمل شمسا بدت

وخدّها في الحسن من خدّه

تغرب في فيه ولكنها

من بعد ذا تطلع في خدّه

ومن نظم أبي الفضل بن الأعلم السابق الذكر : [الكامل]

وعشية كالسّيف إلّا حدّه

بسط الربيع بها لنعلي خدّه

عاطيت كأس الأنس فيها واحدا

ما ضرّه أن كان جمعا وحده

وهو جعفر ابن الوزير أبي بكر محمد ابن الأستاذ الأعلم ، من رجال «القلائد» و «المسهب» و «سمط الجمان» ، وكان قاضي شنتمرية ، والأستاذ الأعلم هو إمام نحاة زمانه أبو الحجاج يوسف بن عيسى من رجال «الصلة» و «المسهب» و «السمط» ، وهو شارح الأشعار الست ، ومن نظمه يخاطب المعتمد بن عباد : [البسيط]

يا من تملّكني بالقول والعمل

ومبلغي في الذي أمّلته أملي

__________________

(١) مترقرق : سيال. والضحضاح : القليل من الماء.

(٢) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد.

والعسجد : الذهب. والكوثر : الشراب العذب. والراح : الخمر.

(٣) في ب ، ه : «نور وغيث مسبل».

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٣٩٣.

٢٢

كيف الثناء وقد أعجزتني نعما

مالي بشكري عليها الدهر من قبل

رفعت للجود أعلاما مشهّرة

فبابك الدهر منها عامر السبل

وقال أبو علي إدريس بن اليماني العبدري (١) : [المديد]

قبلة كانت على دهش

أذهبت ما بي من العطش

ولها في القلب منزلة

لو عدتها النفس لم تعش (٢)

طرقتني والدّجا لبست

خلعا من جلدة الحبش

وكأنّ النّجم حين بدا

درهم في كفّ مرتعش

وسأله المعتضد أن يمدحه بقصيدة يعارض بها قصيدته السينية التي مدح بها ابن حمّود فقال له : أشعاري مشهورة ، وبنات صدري كريمة ، فمن أراد أن ينكح بكرها ، فقد عرف مهرها ، وكانت جائزته مائة دينار.

ومن مشهور شعره بالمغرب والمشرق قوله : [الكامل]

ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا

حتى إذا ملئت بصرف الراح

خفّت فكادت أن تطير بما حوت

وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح (٣)

وكانت بين الأديب الحسيب أبي عمرو بن طيفور والحافظ (٤) الهيثم مهاجاة ، فقال فيه الحافظ : [مجزوء الرمل]

لابن طيفور قريض

فيه شوك وغموض

عدمت فيه القوافي

والمعاني والعروض

وقال فيه ابن طيفور : [مجزوء الرمل]

إنما الهيثم سفر

من كلام الناس ضخم (٥)

لا تطالبه بفهم

ليس للديوان فهم

__________________

(١) انظر الجذوة ص ١٦٠ ـ والذخيرة ج ٣ ص ١١٥.

(٢) في ه : «لوعدتها النفس لم تعطش».

(٣) في ه :

خفت فكادت تستطير بما حوت

إن الجسوم تخف بالأرواح»

(٤) في ج : «الحافظ أبي الهيثم» خطأ. انظر المغرب ج ١ ص ٤٠٤.

(٥) السفر : الكتاب الكبير.

٢٣

وقال أبو عمران بن سعيد : أخبرني والدي أنه زار ابن حمدين بقرطبة في مدة يحيى بن غانية ، قال فوجدته في هالة من العلماء والأدباء ، فقام وتلقّاني ، ثم قال : يا أبا عبد الله ، ما هذا الجفاء؟ فاعتذرت بأني أخشى التثقيل ، وأعلم أنّ سيدي مشغول بما هو مكبّ عليه ، فأطرق قليلا ثم قال : [الكامل]

لو كنت تهوانا طلبت لقاءنا

ليس المحبّ عن الحبيب بصابر

فدع المعاذر إنما هي جنّة

لمخادع فيها ، ولست بعاذر (١)

فقلت : تصديق سيدي عندي أحبّ إليّ وإن ترتبت عليّ فيه الملامة من منازعته منتصرا لحقّي ، فاستحسن جوابي ، وقال لي : كرره فإنه والله ماح لكل ذنب ، ثم سألته كتب البيتين عنه ، فقال لي : وما تكتب فيهما؟ فقلت : [أليس في الإنعام ذلك](٢) لأجد ما أخبر به والدي إذا أبت إليه؟ فأملاهما عليّ ، فقلت : من قائلهما؟ قال : قائلهما ، فعلمت أنهما له ، وقنعت بذلك.

وقال الحجاري صاحب «المسهب» ، في أخبار المغرب» : [الكامل]

كم بتّ من أسر السّهاد بليلة

ناديت فيها هل لجنحك آخر

إذ قام هذا الصبح يظهر ملّة

حكمت بأن ذبح الظلام الكافر

وعلى ذكر «المسهب» فقد كنت كثيرا ما أستشكل هذه التسمية ، لما قال غير واحد : إنّ المسهب إنما هو بفتح الهاء ، كقولهم سيل مفعم ـ بفتح العين ـ والفقرة الثانية وهي «المغرب» تقتضي أن يكون بكسر الهاء ، ولم يزل ذلك يتردّد في خاطري إلى أو وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عبّاد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم ، ونص السؤال:سألك ـ أبقاك الله ـ الوزير الكاتب أبو عمرو بن غطمش (٣) ، سلّمه الله ، عن «المسهب» وزعم أنك تقول بالفتح والكسر ، والذي ذكر ابن قتيبة في «أدب الكاتب» والزبيدي في «مختصر العين» أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام ، بالفتح خاصّة ، فبيّن لي ـ أبقاك الله تعالى! ـ ما تعتقد فيه ، وإلى أي كتاب تسند القولين ، لأقف على صحّة من ذلك.

فأجابه : وصل إليّ ـ أدام الله تعالى توفيك! ـ هذا السؤال العزيز ، ووقفت على ما

__________________

(١) في ه : «ولست بغادر».

(٢) ما بين حاصرتين ساقط من ب.

(٣) كذا في أ، ب. وفي ه : «غمطش».

٢٤

تضمّنه ، والذي ذكرته من قول ابن قتيبة والزبيدي في الكتابين موضوع كما ذكرته ، والذي أحفظه وأعتقده أن المسهب بالفتح المكثر من غير صواب ، وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب (١) ، إلّا أني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه ، ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي عن (٢) كتاب «البارع» أو غيره ، معلّقا في عدة نسخ من كتاب «البيان والتبيين» على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو : [الخفيف]

حصر مسهب جريء جبان

خير عيّ الرجال عيّ السكوت

والمعلقة : «تقول العرب : أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج ، إذا افتقر ، قال الخليل : يقال رجل مسهب ومسهب ، قال أبو علي : أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في غير صواب ، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب ، قال أبو عبيدة : أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف وذهن ، وقال أبو عبيد (٣) عن الأصمعي : أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا خرف وأهتر ، فإن أكثر من الخطإ قيل : أفند فهو مفند» ، انتهت المعلقة. فرأي مملوكك ـ أيّدك الله تعالى! ـ واعتقاده أنّ المسهب بالفتح لا يوصف به البليغ المحسن ، ولا المكثر المصيب ، ألا ترى قول الشاعر «حصر مسهب» أنه قرن فيه المسهب بالحصر وذمّه بالصفتين ، وجعل المسهب أحقّ بالعيّ من الساكت والحصر فقال : [الخفيف]

خير عيّ الرجال عيّ السكوت

والدليل على أن المسهب بالكسر يقال للبليغ المكثر من الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصّة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان ، وليس قول ابن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أنّ المكثر هو البليغ المصيب ؛ لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذمّ ، لأنه من الثرثرة والهذر ، ألا تراهم قالوا : رجل مكثار ، كما قالوا : ثرثار ، ومهذار ، وقال الشاعر : [البسيط]

فلا تمارون إن ماروا بإكثار

فهذا ما عندي ، والله تعالى الموفق للصواب.

قال الأعلم : ثم نظمت السؤال العزيز والجواب المذكور ، فقلت : [المتقارب]

__________________

(١) في أ: «في الصواب».

(٢) في ب ، ه : «من كتاب البارع».

(٣) في ب ، ه : «وقال أبو عبيدة عن الأصمعي».

٢٥

سلام الإله وريحانه

على الملك المجتبى المنتخل (١)

سلام امرئ ظلّ من سيبه

خصيب الجناب رحيب المحل (٢)

أتاني سؤالك أعزز به

سؤال مبرّ على من سأل (٣)

يسائل عن حالتي مسهب

ومسهب المبتلى بالعلل

لم اختلفا في بناءيهما

وحكمهما واحد في فعل

أتى ذا على مفعل لم يعلّ

وذاك على مفعل قد أعل

فقلت مقالا على صدقه

شهيد من العقل لا يستزل

بناء البليغ أتى سالما

سلامته من فضول الخطل

وأسهب ذاك مسيئا فزلّ

ذليلا ثنى متنه فانخذل (٤)

وأحسن ذا فجرى وصفه

على سنن المحسن المستقل

فهذا مقالي مستبصرا

ولست كمن قال حدسا فضل

تقلّدت في رأيه مذهبا

يخصّك بين الظّبا والأسل (٥)

سمّوك في الروع مستشرفا

إلى مهجة المستميت البطل

كأنك فيها هلال السما

يزيد بهاء إذا ما أهلّ

بل أنت مطلّ كبدر السما

ء يمضي الظلام إذا ما أطل

قلت : رأيت في بعض الحواشي الأندلسية : أنّ ابن السكيت ذكر في بعض كتبه في بعض ما جعله بعض العرب فاعلا وبعضهم مفعولا : رجل مسهب ومسهب ، لكثير الكلام ، وهذا يدلّ على أنهما بمعنى واحد ، انتهى.

وسأل بعض الأدباء الأستاذ الأعلم المذكور عن المسألة الزنبورية ، المقترنة بالشهادة الزورية ، الجارية بين سيبويه والكسائي أو الفراء ، والقضاء بينهم فيها ، وهي «ظننت أنّ العقرب

__________________

(١) المنتخل ـ بالخاء المعجمة ـ المختار.

(٢) في ه : «خصيب الجنان» تحريف.

والسيب : العطاء.

(٣) اعزز به : ما أعزّه.

(٤) في ب : «زليلا».

(٥) الظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.

والأسل : الرمح.

٢٦

أشدّ لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي ، أو إياها» وعن نسب سيبويه : هل هو صريح أو مولّى (١)؟ وعن سبب لزومه الخليل بعد أن كان يطلب الحديث والتفسير ، وعن علّة تعرضه لمناظرة الكسائي والفراء ، وعن كتابه الجاري بين الناس : هل هو أول كتاب أو أنشأه بعد كتاب أول ، ضاع كما زعم بعض الناس؟

فأجاب : أما المسألة الزنبورية المأثورة بين سيبويه والكسائي ، أو بينه وبين الفراء على حسب الاختلاف في ذلك ، بحضرة الرشيد ، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي فيما يروى ، فقد اختلفت الرواة فيها : فمنهم من زعم أنّ الكسائي أو الفراء قال لسيبويه : كيف تقول «ظننت أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي ، أو إياها»؟ فأجاب سيبويه ـ بعد أن أطرق شيئا ـ «فإذا هو إياها» في بعض الأقاويل ، وزعم آخرون أنه قال «فإذا هو هي» ففيها من الاختلاف عنهم ما ترى ، فإن كان أجاب بإذا هو هي ، فقد أصاب لفظا ومعنى ، ولم تدخل عليه في جوابه شبهة ، ولا علقة لمعترض ؛ لأن «إذا» في المسألة من حروف الابتداء المتضمّنة للتعليق بالخبر ، فإذا اعتبرت المضمرين بعدها بالاسمين المظهرين لزمك أن تقول «فإذا الزنبور العقرب» أو «اللسعة اللسعة (٢)» أي مثلها سواء ، فلو قلت «فإذا هو إياها» بنصب الضمير الأخير (٣) للزمك أن تقول : فإذا الزنبور العقرب ، بالنصب ، وهذا لا وجه له ، فإذا لم يجز نصب الخبر المظهر فكيف يجوز نصب الخبر المضمر الواقع موقعه؟ ويروى في المسألة أنّ الكسائي أو الفراء قال لسيبويه بعد أن أجاب برفع الضميرين على ما يوجبه القياس : كيف تقول يا بصري «خرجت فإذا زيد قائم ، أو قائما؟» فقال سيبويه : أقول «قائم» ولا يجوز النصب ، فقال الكسائي : أقول قائم وقائما ، والقائم والقائم ، بالرفع والنصب في الخبر مع النكرة والمعرفة ، فتأول الكسائي والفراء في اختيارهما «فإذا هو إياها» حمل الخبر المضمر في النصب على الخبر المظهر المعرفة مع الإعراب بوجه النصب ، فكأنه قال : فإذا الزنبور العقرب ، كما تقول : فإذا زيد القائم ، فيجري المعرفة في النصب مجرى النكرة ، وقولهما في هذا خطأ من جهتين : إحداهما : أنّ نصب الخبر بعد إذا لا يكون إلّا بعد تمام الكلام الأول في الاسم مع حرف المفاجأة ، ومع كون الخبر نكرة ، كقولك : خرجت فإذا زيد قائما؟ لأنك لو قلت «خرجت فإذا زيد» تمّ الكلام ، لتعلّق المفاجأة بزيد على معنى حضوره ، ثم تبيّن حاله في المفاجأة المتعلّقة به فتقول «قائما» أي : خرجت ففاجأني زيد في هذا الحال ، وقوله في المسألة «إياها» لا يتم الكلام في

__________________

(١) الصريح : الخالص ، الصافي. والمولى : العجمي يستطل بحماية العربي.

(٢) في ه : «أو الشدة اللسعة».

(٣) في ه : «الآخر».

٢٧

الاسم الأول دونها ، ألا ترى أنك لو قلت «ظننت أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو» وسكتّ ، لم يتمّ الكلام أولا ، ولا أفدت بذكر المفاجأة وتعليقها بالزنبور فائدة ، وإنما المفاجأة للضمير الآخر ، فلابدّ من ذكره والاعتماد عليه ، وهذا يوجب الرفع في الخبر ؛ لأنّ الظرف له ، لا للمخبر عنه ، فهذا بيّن واضح ، والجهة الأخرى في غلطهما أنّ «إياها» معرفة ، والحال لا تكون إلّا نكرة ، فقد اجتمع في قولهما أن أتيا بحال لم يتمّ الكلام دونها ، معرفة ، والحال لا تكون إلّا بعد تمام الكلام ومع التنكير ، فقد تبيّن خطؤهما وإصابة سيبويه في لزوم الرفع في الخبر فقط.

وأما من زعم عن سيبويه أنه قال «خرجت فإذا زيد قائم» بالرفع لا غير فباطل ، وكيف ينسب إليه وهو علّمنا أنّ الظرف إذا كان مستقرّا للاسم المخبر عنه نصب الخبر ، وإذا كان مستقرّا للخبر رفع الخبر ، ونحن نقول «خرجت فإذا زيد» فيتمّ الكلام ، و «نظرت فإذا الهلال طالع» فيتبعه الخبر رفعا ، كما تقول «في الدار زيد قائم ، وقائما» و «اليوم سيرك سريع ، وسريعا» ولكن الخبر إذا كان الظرف له ولم يتعلّق إلّا به لم يكن إلّا رفعا ، كقولك «اليوم زيد منطلق ، وغدا عمرو خارج» ؛ لأنّ الظرف لا يكون مستقرّا للاسم المخبر عنه إذا كان زمانا ، والمخبر عنه جثّة ، وكذلك المفاجأة إذا كانت للخبر لم يكن إلّا مرفوعا ، معرفة كان أو نكرة ، فإذا كانت للمخبر عنه والخبر نكرة انتصب على الحال ، فجرى قولك «ظننت أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي ، وطننت زيدا عالما فإذا هو جاهل» في لزوم الرفع في الخبر مجرى «اليوم زيد منطلق ، وغدا عمرو خارج» كما جرى «خرجت فإذا زيد قائم ، وقائما» في جواز الرفع والنصب مجرى «في الدار زيد جالس ، وجالسا» فتأمّل الفرق بينهما وحصّله ، فإنّ النحويين المتقدمين والمتأخرين قد أغفلوا الفرق بين المفاجأتين.

وأمّا نصب الخبر المعرفة بعد إذا ، تمّ الكلام أو لم يتمّ ، فباطل لا تقوله العرب ، ولا يجيزه إلّا الكوفيون.

وإن كان سيبويه ، رحمة الله تعالى ، أجاب بقوله «فإذا هو إياها» كما روى بعضهم فظاهر جوابه مدخول ؛ لما قدمت ، والخطأ فيه بيّن من جهة القياس كما ذكرنا ، فإن كان قاله والتزمه دون الرفع فقد أخطأ خطأ لا مخرج له منه ، وإن كان قد قاله وهو يرى أن الرفع أولى وأحقّ ، إلّا أنه آثر النصب للإعراب حملا على المعنى الخفي ، دون ما يوجبه القياس واللفظ الجلي ، فلجوابه عندي وجهان حسنان :

أحدهما : أن يكون الضمير المنصوب وهو «إياها» كناية عن اللسعة ، لا عن العقرب ، والضمير المرفوع كناية عن الزنبور ، فكأنه قال «ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا

٢٨

الزنبور لسعة العقرب» أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب ، فاختزل الفعل لما تقدّم من الدليل عليه ، بعد أن أضمر اللسعة متّصلة بالفعل ، فكأنه قال «فإذا الزنبور يلسعها» فاتّصل الضمير بالفعل لوجوده ، فلمّا اختزل الفعل انفصل الضمير ، لعدم الفعل.

ونظير هذا من كلام العرب قولهم «إنما أنت شرب الإبل» أي : إنما أنت تشرب شرب الإبل ، فاختزل الفعل ، وبقي عمله في المصدر ، ولم يرفع ، لأنه غير الاسم الأول ، فلو أضمرت شرب الإبل بعد ما جرى ذكره فقلت «ما يشرب زيد شرب الإبل ، «إنما أنت تشربه» لاتّصل الضمير بالفعل ، فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه» فتدبره تجده منقادا صحيحا.

والوجه الآخر أن يكون قوله «فإذا هو إياها» محمولا على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولا وآخرا ، لأنّ الأصل في تأليف المسألة «ظننت أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فلمّا لسعني الزنبور ظننته هو إياها» فاختصر الكلام لعلم المخاطب ، وحذف الظنّ آخرا لما جرى من ذكره أولا ، ودلّت «إذا» لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالّة على وقوع الشيء لوقوع غيره ، فإذا جاز حذف الكلام إيثارا للاختصار مع وجود الدليل على المحذوف كان قولنا «فإذا هو إياها» بمنزلة قولنا «فلمّا لسعني الزنبور ظننته هو إياها» فحذف الظن مع مفعوله الأول ، وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكدا للضمير المحذوف مع الفعل ودالّا على ما يأتي بعده من الخبر المحتاج إليه ، فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ)[سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠] فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله «يحسبن» وبقي الضمير مؤكدا له مثبتا لما بعده من الخبر ، وجاز حذفه لدلالة «يبخلون» عليه ، والمعنى : لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيرا لهم ، فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظنّ المضمر ومثبت لما يجيء بعده من الخبر الذي هو «إياها» فتفهّمه فإنه متمكّن من جهة المعنى ، وجار من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل ، وشاهده القرآن في الحذف واستعمال العرب النظائر ، وهي أكثر من أن تحصى ، فمنها قولهم «ما أغفله عنك شيئا» أي تثبّت شيئا ودع الشكّ ، وقولهم لمن أنكر عليه ذكر إنسان ذكره «من أنت زيدا» أي : من أنت تذكر زيدا ، وربما قالوا «من أنت زيد» بالرفع على تقدير : من أنت ذكرك زيد (١) ، فحذفوا الفعل مرّة وأبقوا عمله ،

__________________

(١) قدره ابن هشام : «من أنت مذكورك زيد». وعليه يكون «ذكرك» في كلام الأعلم مصدرا بمعنى اسم المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق.

٢٩

وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره ، وكلّ ذلك اختصار ؛ لعلم المخاطب بالمعنى ، وكذلك قولهم «هذا ولا زعماتك» أي هذا القول والزعم الحقّ ولا أتوهّم زعماتك ، فحذف هذا لعلم السامع مع تحصّل المعنى وقيامه عند المخاطب ، والحمل في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى.

فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتّة إلّا رفع الضميرين بالابتداء والخبر ، على حدّ قولك «ظننت زيدا عاقلا فإذا هو أحمق ، وحسبت عبد الله قاعدا فإذا هو قائم» ولو تقدّم ذكر الخبر والمخبر عنه لقلت «فإذا هو هو» ولم يجز فإذا هو إياه البتّة. ويجوز في (١) المسألة أن تقول «فإذا هي هو» على التقديم والتأخير على حدّ قولك «فإذا العقرب الزنبور» أي سواء في شدة اللسعة كما تقول «خرجت فإذا قائم زيد» على تقدير فإذا زيد قائم ، ويجوز أن يكون «هو» كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه ، وتكون «هي» كناية عن اللسعة على تقدير : فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب ، ويجوز «فإذا هي هو» على إضمار اللسعة واللسع ، والتقدير : فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب ، وهذا كلّه لا يجوز فيه إلّا الرفع عند البصريين ؛ لأنّ الآخر هو الأول ، والخبر معرفة متعلّق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال ، والكوفيون يجيزون النصب كما تقدّم ، وهو غلط بيّن ، وخطأ فاحش ، لا تقوله العرب ، ولا تعلّق له بقياس ، فاعلمه.

ويجوز في المسألة «فإذا هو هو» على تقدير : فإذا اللسع اللسع ، ويجوز «فإذا هي هي» على تقدير : فإذا اللسعة اللسعة ، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.

وأمّا نسب سيبويه ففارسي مولى لبني الحارث بن كعب بن علة بن خلدة بن مالك ، وهو مذحج ، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر ، وكنيته أبو بشر ، ولقبه الذي شهر به سيبويه ، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح ، وكان من أطيب الناس رائحة ، وأجملهم وجها ، وقيل : معنى «سي» ثلاثون ، ومعنى «بويه» رائحة ، فكأنّ معناها : الذي ضوعف طيب رائحته ثلاثين مرّة.

وأما سبب تعويله على الخليل (٢) في طلب النحو ـ مع ما كان عليه من الميل إلى التفسير والحديث ـ فإنه سأل يوما حماد بن سلمة فقال له : أحدّثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة ، بضم العين ، فقال له حماد : أخطأت ، إنما هو رعف بفتح العين ، فانصرف

__________________

(١) في ه : «ويجوز في المسألة إذا قلت : فإذا هو ، لأبي أن يكون الضمير للزنبور والعقرب على حد قولك :الزنبور العقرب ، أي مثلها ، ويجوز : فإذا هي هو على التقديم والتأخير ... الخ.

(٢) الخليل هو الخليل بن أحمد الفراهيدي.

٣٠

إلى الخليل ، فشكا إليه ما لقيه من حماد ، فقال له الخليل : صدق حماد ، ومثل حماد يقول هذا ، ورعف بضم العين لغة ضعيفة ، وقيل : إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس ، وكان مولده ومنشؤه بها ، ليكتب الحديث ويرويه ، فلزم حلقة حماد بن سلمة ، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي ، صلى الله عليه وسلم «ليس من أصحابي إلّا من لو شئت لأخذت (١) عليه ، ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه «ليس أبو الدرداء» بالرفع ، وظنه (٢) اسم ليس ، فقال له حماد : لحنت يا سيبويه (٣) ، فقال سيبويه : سأطلب علما لا تلحنني فيه ، فلزم الخليل ، وبرع في العلم.

وأمّا سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرّضه لمناظرة الكسائي والفراء ، فلما كانا عليه من تمكّن الحال ، والقرب من السلطان ، وعلوّ همّته ، وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه ؛ لأنه كان أعلم أهل زمانه ، وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب ، فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل ، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه فسعوا له في ذلك ، وأوصلوه إلى الرشيد ، فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر ، وكان آخر أمره أنّ الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقّنوا أن قال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن لا يرجع خائبا فعلت ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، وانصرف إلى الأهواز ، ولم يعرّج على البصرة ، وأقام هنالك مدّة (٤) إلى أن مات كمدا ، ويروى أنه ذربت (٥) معدته فمات ، فيرون أنه مات غمّا ، ويروى أنّ الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد : ده (٦) يا أمير المؤمنين ، فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه ، ولمّا احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خدّه ، فرفع عينيه وقال : [الطويل]

أخيّين كنّا فرّق الدهر بيننا

إلى الأمد الأقصى ، ومن يأمن الدهرا

ومات على السنّة والجماعة ، رحمة الله تعالى!

وأمّا كتابه الجاري بين الناس فلم يصحّ أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله ، على أن ذلك قد ذكر.

__________________

(١) في ب ، ه : «لأقدت عليه».

(٢) في ب ، ه : «وخمنه» والتخمين : الظن.

(٣) في ب ، ه : «لحنت يا سيبويه ، ليس هذا حيث ذهبت ، إنما ليس ها هنا استثناء».

(٤) في ه : «وأقام هناك مديدة».

(٥) ذربت معدته : فسدت.

(٦) ده : أمر من : واده يديه ، مثل : وقاه يقيه إذا غرم ديته.

٣١

فهذا ما حضر فيما سألت عنه ؛ فمن قرأه وأشرف فيه على تقصير فليبسط العذر فإنه لساعتين من نهار ، إملاء يوم الثلاثاء عشي النهار لثمان خلون لصفر سنة ٤٧٦ انتهى.

وقال الإلبيري (١) ، رحمة الله تعالى : [الكامل]

لا شيء أخسر صفقة من عالم

لعبت به الدنيا مع الجهّال

فغدا يفرق دينه أيدي سبا

ويذيله حرصا بجمع المال (٢)

لا خير في كسب الحرام ، وقلّما

يرجى الخلاص لكاسب لحلال

فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة

فالفضل تسأل عنه أيّ سؤال

وكان أبو الفضل بن الأعلم من أحسن الناس وجها ، وأذكاهم (٣) في علم النحو والأدب ، وأقرأ النحو في صباه ، وفيه يقول ابن صارة الأندلسي ، رحمة الله تعالى : [الكامل]

أكرم بجعفر اللبيب فإنه

ما زال يوضح مشكل «الإيضاح»

ماء الجمال بوجهه مترقرق

فالعين منه تجول في ضحضاح

ما خدّه جرحته عيني ، إنما

صبغت غلالته دماء جراحي

لله زاي زبرجد في عسجد

في جوهر في كوثر في راح

ذي طرّة سبجيّة ذي غرّة

عاجيّة ، كالليل والإصباح

رشأ له خدّ البريء ، ولحظه

أبدا شريك الموت في الأرواح

وقال محمد بن هانىء الأندلسي من قصيدة (٤) : [الكامل]

السافرات كأنهنّ كواكب

والناعمات كأنهنّ غصون

ما ذا على حلل الشقيق لو أنها

عن لابسيها في الخدود تبين

لأعطّشنّ الروض بعدهم ولا

يرويه لي دمع عليه هتون (٥)

أأعير لحظ العين بهجة منظر

وأخونهم؟ إني إذن لخؤون

لا الجوّ جوّ مشرق وإن اكتسى

زهوا ، ولا الماء المعين معين (٦)

__________________

(١) انظر ديوان الإلبيري ص ٨١.

(٢) يذيله : يبتذله.

(٣) في ب ، ه : «وأذكرهم».

(٤) انظر ديوان ابن هانىء ص ١٧١.

(٥) الدمع الهتون : الغزير.

(٦) في ه : «زهرا ، ولا الماء المعين معين».

والماء المعين ـ بفتح الميم ـ الظاهر الجاري على وجه الأرض.

٣٢

لا يبعدنّ إذ العبير له ثرى

والبان روح ، والشموس قطين

الظلّ لا متنقّل ، والحوض لا

متكدّر ، والأمن لا ممنون (١)

وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة (٢) : [الطويل]

تحمّل منه البحر بحرا من القنا

يروع بها أمواجه ويهول

بكلّ ممالات الشّراع كأنها

وقد حملت أسد الحقائق غيل

إذا سابقت شأو الرياح تخيّلت

خيولا مدى فرسانهنّ خيول

سحائب تزجيها الرياح فإن وفت

أطافت بأجياد النعام فيول (٣)

ظباء شمام ما لهنّ مفاحص

وزرق حمام ما لهنّ هديل (٤)

سواكن في أوطانهنّ كأن سما

بها الموج حيث الراسيات نزول

كما رفع الآل الهوادج بالضّحى

غداة استقلّت بالخليط حمول

أراقم تحوي ناقع السمّ مالها

بما حملت دون العداة مقيل

وقد أطنب الناس في وصف السفن وأطابوا ، وقرطسوا القريض وأصابوا ، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في هذا الكتاب.

وقال أبو بحر صفوان بن إدريس التّجيبي : حدّثني بعض الطلبة بمراكش أنّ أبا العباس الجراوي كان في حانوت ورّاق بتونس ، وهناك فتى يميل إليه ، فتناول الفتى سوسنة صفراء ، وأومأ بها إلى خدّيه مشيرا ، وقال : أين الشعراء؟ تحريكا للجراوي ، فقال ارتجالا : [الوافر]

علويّ الجمال إذا تبدّى

أراك جبينه بدرا أنارا

أشار بسوسن يحكيه عرفا

ويحكي لون عاشقه اصفرارا (٥)

قال أبو بحر : ثم سألني أن أقول في هذا المعنى : فقلت بديها : [المنسرح]

أومى إلى خدّه بسوسنة

صفراء صيغت من وجنتي عبده

لم تر عيني من قبله غصنا

سوسنه نابت إزا ورده (٦)

__________________

(١) ممنون : مقطوع.

(٢) انظر ديوان ابن دراج القسطلي ص ٥.

(٣) تزجيها : تدفعها.

(٤) في ب ، ه : «ظباء سمام».

(٥) عرفا : رائحة.

(٦) في ه : «سوسنة بانت إزاء ورده» ولا يتم عليه الوزن.

٣٣

أعملت زجري فقلت ربّتما

قرّب خدّ المشوق من خدّه

فحدّثني المذكور أنه اجتمع مع أبي بكر بن يحيى بن مجبر (١) ـ رحمه الله تعالى! ـ قبل اجتماعه بي في ذلك الموضع الذي اجتمع فيه بي بعينه ، فحدّثه بالحكاية كما حدّثني ، وسأله أن يقول في تلك الحال ، فقال بديها : [المنسرح]

بي رشأ وسنان مهما انثنى

حار قضيب البان في قدّه (٢)

مذولي الحسن وسلطانه

صارت قلوب الناس من جنده

أودع في وجنته زهرة

كأنها تجزع من صدّه

وقد تفاءلت على فعله

أني أرى خدّي على خدّه

فتعجبت من توارد خاطرينا على معنى هذا البيت الأخير.

قال أبو بحر : ثم قلت في تلك الحال : [السريع]

أبرز من وجنته وردة

أودعها سوسنة صفرا

وإنما صورته آية

ضمّنها من سوسن عشرا

وقال بعضهم في الباذنجان : [الطويل]

ومستحسن عند الطعام مدحرج

غذاه نمير الماء في كلّ بستان

تطلّع في أقماعه فكأنه

قلوب نعاج في مخاليب عقبان (٣)

وقال ابن خروف ، ويقال : إنها في وصف دمشق : [الوافر]

إذا رحلت عروبة عن حماها

تأوّه كلّ أوّاه حليم

إلى سبت حكى فرعون موسى

يجمع كلّ سحّار عليم

فتبصر كلّ أملود قويم

يميس بكلّ ثعبان عظيم (٤)

إذا انسابت أراقمها عليها

تذكرنا بها ليل السليم (٥)

__________________

(١) في أ: «بن مجير».

(٢) الرشأ : ولد الغزال الذي قوي على المشي ، والوسنان : الذي أخذه النعاس.

(٣) المخلب : ظفر السبع ، وكل حيوان مفترس ، وجمعها مخالب ومخاليب. والعقبان : جمع عقاب وهو طائر من الجوارح قوي المخالب ، أعقف المنقار ، حاد البصر.

(٤) الأملود والأملد : الناعم اللين من الناس والغصون.

(٥) السليم : هو الذي لدغته الأفعى ، وسمي بذلك تفاؤلا له بالسلامة.

٣٤

وشاهدنا بها في كلّ حين

حبالا ألقيت نحو الكليم (١)

وقال أبو القاسم بن هشام (٢) ارتجالا في وسيم عضّ وردة ثم رمى بها ، وسئل ذلك منه امتحانا : [الكامل]

ومعجّز الأوصاف والوصّاف في

بردي جمال طرّزا بالتّيه

سوسان أنمله تناول وردة

فغدا يمزّقها أقاحي فيه

فكأنني شبهت وجنته بها

فرمى بها غضبا على التشبيه

وقال أيضا فيمن عضّ كلب وجنته : [الطويل]

وأغيد وضّاح المحاسن باسم

إذا قامر الأسياف ناظره قمر

تعمّد كلب عضّ وجنته التي

هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر

فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم

وقد أثر العوّاء في صفحة القمر

وقال آخر يصف شجّة في خدّ وسيم : [الطويل]

عذيري من ذي صفحة يوسفية

بها شجّة جلّت عن اللّثم واللّمس

يقولون من عجب : أتحسن وصفها

فقلت : هلال لاح في شفق الشمس

وقال القاضي أبو الوليد الوقشي فيمن طرّ شاربه : [الكامل]

قد بيّنت فيه الطبيعة أنها

لبديع أفعال المهندس باهره

عنيت بمبسمه فحطّت فوقه

بالمسك خطّأ من محيط الدائره (٣)

وقال أبو الحسن بن عيسى : [الكامل]

عابوه أسمر ناحلا ذا زرقة

رمدا وظنّوا أنّ ذاك يشينه

جهلوا بأنّ السمهريّ شبيهه

وخضابه بدم القلوب يزينه

وقال الأستاذ أبو ذر الخشني : [السريع]

أنكر صحبي إذ رأوا طرفه

ذا حمرة يشفى بها المغرم

لا تنكروا ما احمرّ من طرفه

فالسيف لا ينكر فيه الدم

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام كليم الله : (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ).

(٢) انظر ترجمته في زاد المسافر ص ٦٢.

(٣) في ب : «فخطت فوقه».

٣٥

وقال أبو عبد الله محمد بن أبي خالص الرندي : [الكامل]

يا شادنا برز العذار بخدّه

وازداد حسنا ، ليته لم يبرز

الآن أعلم حين جدّ بي الهوى

كم بين مختصر وبين مطرّز

وقال أبو الحسين عبد الملك بن مفوّز المعافري : [الكامل]

ومعذّر من خدّه ورقيبه

شغلان حلّا عقد كلّ عزيمة

خدّ وخبّ عيل صبري منهما

هذا بنمنمة وذا بنميمة

وقال أبو الوليد بن زيدون فيمن أصابه جدريّ (١) : [الخفيف]

قال لي اعتلّ من هويت ، حسود

قلت : أنت العليل ويحك لا هو

ما الذي قد أنكرت من بثرات

ضاعفت حسنه وزانت حلاه (٢)

جسمه في الصفاء والرقّة الما

ء فلا غرو أن حباب علاه

وقال الهيثم : [الكامل]

قالوا : به جرب فقلت لهم قفوا

تلك الندوب مواقع الأبصار

هو روضة والقدّ غصن ناعم

أرأيتم غصنا بلا نوّار

وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبي (٣) في مخضوبة الأنامل : [الكامل]

وعلقتها فتّانة أعطافها

تزري بغصن البانة الميّاد

من للغزالة والغزال بحسنها

في الخدّ أو في العين أو في الهادي

خضبت أناملها السواد وقلّما

أبصرت أقلاما بغير مداد

وقال أبو الحسين النفزي : [المجزوء الخفيف]

بدا يوسفا وشدا معبدا

فللعين ما تشتهي والأذن

كأنّ بأعلاه قمريّة

تغرّد من قدّه في غصن (٤)

__________________

(١) انظر ديوان ابن زيدون ص ١٢٤.

(٢) في ه : «ما الذي أنكرته من بثرات». وفي ب : «وما الذي نكرت».

(٣) انظر ترجمته في التكملة ص ٥١٥.

(٤) القمري : ضرب من الحمام مطوّق ، حسن الصوت.

٣٦

وقال ابن صارة : [مخلع البسيط]

مقام حرّ بأرض هون

عجز لعمري من المقيم

سافر فإن لم تجد كريما

فمن لئيم إلى لئيم

وقال المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى : (١) : [مخلع البسيط]

مولاي ، أشكو إليك داء

أصبح قلبي به قريحا

سخطك قد زادني سقاما

فابعث إليّ الرضا مسيحا (٢)

قال بعضهم : وقوله «مسيحا» من القوافي التي يتحدّى بها.

وكتب إلى أبيه جوابا عن تحفة : [السريع]

يا مالكا قد أصبحت كفّه

ساخرة بالعارض الهاطل

قد أفحمتني منّة مثلها

يضيّق القول على القائل

وإن أكن قصّرت في وصفها

فحسنها عن وصفها شاغلي

وكتب إلى وزيره ابن عمار : [الكامل]

لمّا نأيت نأى الكرى عن ناظري

ورددته لمّا انصرفت عليه (٣)

طلب البشير بشارة يجزى بها

فوهبت قلبي واعتذرت إليه (٤)

وقال في جارية له كان يحبّها ، وبينما هي تسقيه إذ لمع البرق فارتاعت : [السريع]

يروعها البرق وفي كفّها

برق من القهوة لمّاع (٥)

يا ليت شعري وهي شمس الضحى

كيف من الأنوار ترتاع (٦)

ومن توارد الخواطر أنّ ابن عبّاد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول ، وأمره أن يذيله ، فقال : [السريع]

ولن ترى أعجب من آنس

من مثل ما يمسك يرتاع

__________________

(١) انظر ديوان المعتمد بن عباد ص ٣٣.

(٢) أراد بالمسيح طبيبا يمسح بيده على العلّة فتبرأ.

(٣) في ب ، ه : «ووددته لما انصرفت عليه».

(٤) في ه : «يجري بها».

(٥) القهوة : الخمر.

(٦) ترتاع : تفزع وتخاف.

٣٧

وقال المعتمد رحمه الله تعالى : [الكامل]

داوى ثلاثته بلطف ثلاثة

فثنى بذاك رقيبه لم يشعر

أسراره بتستّر ، وأواره

بتصبّر ، وخباله بتوقّر

وكانت له جارية اسمها «جوهرة» وكان يحبّها ، فجرى بينهما عتاب ، ورأى أن يكتب إليها يسترضيها ، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها ، فقال : [السريع]

لم تصف لي بعد وإلّا فلم

لم أر في عنوانها جوهره

درت بأني عاشق لاسمها

فلم ترد للغيظ أن تذكره

قالت : إذا أبصره ثابتا

قبّله ، والله لا أبصره

وقال في هذه الجارية : [السريع]

سرورنا بعدكم ناقص

والعيش لا صاف ولا خالص

والسّعد إن طالعنا نجمه

وغبت فهو الآفل الناكص (١)

سمّوك بالجوهر مظلومة

مثلك لا يدركه غائص (٢)

وقال فيها أيضا : [مجزوء الرمل]

جوهرة عذبني

منك تمادي الغضب

فزفرتي في صعد

وعبرتي في صبب

يا كوكب الحسن الذي

أزرى بزهر الشّهب

مسكنك القلب فلا

ترضي له بالوصب (٣)

وقال في جارية اسمها وداد : [الخفيف]

اشرب الكأس في وداد ودادك

وتأنّس بذكرها في انفرادك (٤)

قمر غاب عن جفونك مرآ

ه وسكناه في سواد فؤادك (٥)

__________________

(١) في ه : «وغيث فهو الآفل الناكص» ، تحريف. والناكص : المحجم ، الراجع ، الآفل.

(٢) الغائص : أراد من يغوص في البحر بحثا عن الجواهر.

(٣) الوصب : الوجع والمرض.

(٤) في ج : «اشرب الكأس من وداد ودادك».

(٥) سواد القلب : حبة القلب ، ومهجته.

٣٨

وقال : [الطويل]

لك الله كم أودعت قلبي من أسى

وكم لك ما بين الجوانح من كلم

لحاظك طول الدهر حرب لمهجتي

ألا رحمة تثنيك يوما إلى سلمي

وقال : [مجزوء الرجز]

قلت متى ترحمني؟

قال ولا طول الأبد

قلت فقد أيأستني

من الحياة قال قد

وأهدى أبو الوليد بن زيدون باكورة تفاح إلى المعتضد والد المعتمد ، وكتب له معها (١) : [مجزوء الكامل]

يا من تزيّنت الريا

سة حين ألبس ثوبها

جاءتك جامدة المدا

م فخذ عليها ذوبها

وقال المعتمد وقد أمره أبوه المعتضد أن يصف مجنّا فيه كواكب فضة (٢) : [المتقارب]

مجنّ حكى صانعوه السما

لتقصر عنه طوال الرماح

وقد صوّروا فيه شبه الثّريّا

كواكب تقضي له بالنجاح

وقال ابن اللّبّانة : كنت بين يدي الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه ، فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة ٤٨٣ ، فتفجّع وتلهّف ، واسترجع وتأسّف ، وذكر قصر غرناطة ، فدعونا لقصره بالدوام ، ولملكه بتراخي الأيام ، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء ، فغنّى : [البسيط]

يا دار ميّة بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد (٣)

فاستحالت مسرّته ، وتجهّمت أسرّته ، وأمر بالغناء من ستارته ، فغنّى : [البسيط]

إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر

فانظر على أيّ حال أصبح الطّلل

فتأكّد تطيّره ، واشتدّ اربداد (٤) وجهه وتغيره ، وأمر مغنية أخرى من سراريه بالغناء ، فغنّت: [البسيط]

__________________

(١) انظر ديوان ابن زيدون ص ٢٢١.

(٢) انظر ديوان المعتمد ص ٢٩.

(٣) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح فيها النعمان بن المنذر ويعتذر إليه وقد جاء في أ، ب : «سالف الأمد» وليس بذلك.

(٤) اربدّ وجهه : احمر حمرة فيها سواد عند الغضب.

٣٩

يا لهف نفسي على مال أفرّقه

على المقلّين من أهل المروءات

إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني

ما لست أملك من إحدى المصيبات

قال : فتلافيت الحال بأن قلت : [البسيط]

محلّ مكرمة لا هدّ مبناه

وشمل مأثرة لا شتّت الله (١)

البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفا

أنّ الرشيد مع المعتدّ ركناه

ثاو على أنجم الجوزاء مقعده

وراحل في سبيل السعد مسراه

حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت

بالشرق والغرب يمناه ويسراه

بأس توقد فاحمرّت لواحظه

ونائل شبّ فاخضرّت عذاراه

فلعمري لقد بسطت من نفسه ، وأعادت عليه بعض أنسه ، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي «البيت كالبيت» وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء ، فغنّى : [الطويل]

ولمّا قضينا من منّى كلّ حاجة

ولم يبق إلّا أن تزمّ الركائب (٢)

فأيقنّا أنّ هذا التطيّر ، يعقبه التغير.

وقد كان المعتضد بن عباد ـ حين تصرّمت أيامه ، وتدانى حمامه ـ استحضر مغنّيا يغنّيه ليجعل ما يبدأ به فألا ، وكان المغنّي السوسي ، فأول شعر قاله : [البسيط]

نطوي المنازل علما أن ستطوينا

فشعشعيها بماء المزن واسقينا (٣)

فمات بعد خمسة أيام ، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات.

وقال المعتمد بعد ما خلع وسجن (٤) : [الرمل]

قبّح الدهر فماذا صنعا؟

كلّما أعطى نفيسا نزعا (٥)

قد هوى ظلما بمن عاداته

أن ينادي كلّ من يهوي : لعا (٦)

من إذا قيل الخناصمّ وإن

نطق العافون همسا سمعا

قل لمن يطمع في نائله

قد أزال اليأس ذاك الطمعا

راح لا يملك إلّا دعوة

جبر الله العفاة الضّيّعا

__________________

(١) في ه : «لاشتّه الله».

(٢) زم الجمل : جعل له الزمام.

(٣) شعشع الشراب : خلطه بالماء.

(٤) ديوان المعتمد ص ١٠٨.

(٥) النفيس : الغالي ، الثمين.

(٦) لعا : دعاء للعاثر يعني «أنعشك الله ونجوت».

٤٠