نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

شرك الحين (١) فما أفلته ، قبض عليه من الخلصان الأولياء من خبر ضميره ، وأحكم تقريره ، فلم يجب عند الاستفهام جوابا يعقل ، ولا عثر منه على شيء عنه ينقل ، لطفا من الله أفاد براءة الذمم ، وتعاورته للحين أيدي التمزيق ، وأتبع شلوه بالتحريق ، واحتمل مولانا الوالد رحمه الله تعالى إلى القصر وبه ذماء (٢) لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير ، وتخلف الملك ينظر من الطّرف الحسير ، وينهض بالجناح الكسير ، وقد عاد جمع السلامة إلى التكسير ، إلا أن الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب بأن أقامنا مقامه لوقته وحينه ، ورفع بناء عماد ملكه ولم شعث دينه ، وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم ، وأعلامهم ولفيفهم ، قد جمعه ذلك الميقات ، وحضر الأولياء الثقات ، فلم تختلف علينا كلمة ، ولا شذت منهم عن بيعتنا نفس مسلمة ، ولا أخيف بريّ ، ولا حذر جريّ ، ولا فري فريّ ، ولا وقع لبس ، ولا استوحشت نفس ، ولا نبض للفتنة عرق ، ولا أغفل للدين حق ، فاستند (٣) النقل إلى نصه ، ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه ، وبادرنا إلى مخاطبة البلاد نمهدها ونسكنها ، ونقرر الطاعة في النفوس ونمكنها ، وأمرنا الناس بها بكف الأيدي ، ورفع التعدّي ، والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي ، ومن شره منهم للفرار (٤) ، وعاجلناه بالإنكار ، وصرفنا على النصارى ما أوصاه مصحبا بالاعتذار ، وخاطبنا صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار ، واتصلت بنا البيعات من جميع الأقطار ، وعفّى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الاستبشار ، واستبقوا تطير بهم أجنحة الابتدار ، جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالاعتبار ، وكان على حذر من تصاريف الأقدار ، واختلاف الليل والنهار ، وأعاننا على إقامة دينه في هذا الوطن الغريب المنقطع بين العدو الطاغي والبحر الزخّار ، وألهمنا من شكره ما يتكفل (٥) بالمزيد من نعمه ، ولا قطع عنا عوائد كرمه ، وإن فقدنا والدنا فأنتم لنا من بعده الوالد ، والذخر الذي تكرم منه العوائد ، والحبّ يتوارث كما ورد في الأخبار التي صحت (٦) منها الشواهد ، ومن أعدّ مثلكم لبنيه ، فقد تيسرت من بعد الممات أمانيه ، وتأسست قواعد ملكه وتشيدت مبانيه ، والاعتقاد الجميل موصول ، والفروع لها في

__________________

(١) الحين ـ بفتح فسكون : الموت والهلاك.

(٢) الذماء ـ بفتح الذال : بقية الروح من الجسد.

(٣) في ج «فاستنفد إلى نصه» تحريف.

(٤) في نسخة «ومن شره منهم للغوار». والغوار : الغارة والانقضاض.

(٥) في ب «لما يتكفل».

(٦) في ه «وضحت منها الشواهد».

٣٢١

التشيع إليكم أصول ، وفي تقرير فخركم محصول ، وأنتم ردء المسلمين (١) بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم بإرفاده ، وينصرهم بإنجاده ، ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده.

وعندما استقر هذا الأمر الذي تبعت المحنة فيه المنحة ، وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة ، وأخذنا البيعة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصّهم وأعيانهم ، وتزاحمت على رقّها المنشور (٢) خطوط أيمانهم ، وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم ، وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم ، بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته فيما ساء وسر وأحلى وأمر ، عملا بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر ، والحب الذي ما مال يوما ولا ازورّ (٣) وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور ، وانجلاء ليله عن صبح الصنع البادي السّفور ، وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور ، إلا أنه أمر له ما بعده ، وحادث يأخذ حدّه ، ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال ما بين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان (٤) ، وتولى تسديد الأمور بأعماله الكريمة ومقاصده الحسان ، ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر وأوعب للبيان (٥) ، فوجهنا إليكم وزير أمرنا ، وكاتب سرنا ، الكذا أبا فلان ، وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى ، واستنادنا من التشيع إليه إلى الركن الوثيق المبني ، ما نرجو أن يكون له فيه المقام الأعنى ، والثمرة العذبة المجنى ، فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا ، وقامع أعدائنا ، آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج إليه ، ومدار الحال عليه ، والمرغوب من أبوتكم المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي ، والخلافة السامية المعالي ، والله عز وجل يديم أيامكم لصلة الفضل المتوالي (٦) ، ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي (٧) ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، ويوالي نصركم وعضدكم ، والسلام الكريم يخصكم ، ورحمة الله وبركاته. انتهى.

وقوله في هذه الرسالة «فوجهنا إليكم وزير أمرنا ـ إلى آخره» هو لسان الدين رحمه الله تعالى! إذ هو كان الوزير إذ ذاك والسفير في هذه القضية ، ومن صفحات هذا الكلام يتضح لك ما نال لسان الدين رحمه الله تعالى من الرياسة والجاه ونفوذ الكلمة بالأندلس وبالمغرب

__________________

(١) الردء : المعين ، والعون ، والقوة ، والعماد ، والسند.

(٢) الرّق ، بفتح الراء : جلد رقيق يكتب عليه ، الصحيفة البيضاء.

(٣) ازورّ : انحرف ومال.

(٤) العيان ، بكسر العين : المعاينة ورؤية العين.

(٥) أوعب الشيء : أخذه كلّه. وأوعب هنا : اسم تفضيل من الفعل أوعب.

(٦) في أصل ه «لصلة فضله المتوالي».

(٧) غير الأيام : حوادثها المتغيرة.

٣٢٢

رحمه الله تعالى! وقد أكرمه السلطان أبو عنان في هذه الوفادة وغيرها غاية الإكرام ، وكان المقصود الأعظم من هذه الوفادة استعانة سلطان الأندلس الغني بالله بالسلطان أبي عنان على طاغية النصارى ، كما ألمعنا بذلك في الباب الثاني من القسم الثاني الذي تعلق بلسان الدين.

وكان السلطان أبو عنان ابن السلطان أبي الحسن معتنيا بالأندلس غاية الاعتناء ، وخصوصا بجبل الفتح ، حتى إنه بلغ من اعتنائه به (١) أن أمّر عليه ولده أبا بكر السعيد ، وهو الذي تولى الملك بعده.

ومن إنشاء لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى على لسان سلطانه ما خاطب به الأمير السعيد المذكور إذ قلّده والده جبل الفتح ، وهو :

الإمارة التي أشرق في سماء الملك شهابها ، واتصلت بأسباب العز أسبابها ، واشتملت على الفضل والطهارة أثوابها ، وأجيلت قداح المفاخر فكان إلى جهة الله تعالى انتدابها ، إمارة محلّ أخينا الذي تأسس على مرضاة الله تعالى أصيل فخره ، واتّسم بالمرابط المجاهد على اقتبال سنه وجدّة عمره (٢) ، وبدأ بفضل الجهاد صحيفة أجره ، وافتتح بالرباط والصلاح ديوان نهيه وأمره ، لما يسّره من سعادة نصبته وحباه من عز نصره ، الأمير الأجل الأعز الأرفع الأسنى الأطهر الأظهر الأمنع الأصعد الأسمى الموفق الأرض ، محل أخينا العزيز علينا ، المهداة أنباء مأمول جواره إلينا ، أبي بكر السعيد ابن محل والدنا الذي مقاصده للإسلام وأهله على مرضاة الله تعالى جارية ، وعزائمة على نصر الملة الحنيفية متبارية ، السلطان الكذا أبو عنان ابن السلطان الكذا أبي الحسن ابن السلطان الكذا أبي سعيد ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق ، أبقاه الله تعالى سديدة آراؤه ناجحة أعماله ، ميسّرة أغراضه من فضل الله تعالى متممة آماله ، رحيبا (٣) في العدل مجاله (٤) ، يكنفه من الله تعالى ومحل أبينا غمام وارفة ظلاله ، هامر (٥) نواله ، حتى يرضى الله تعالى مصاعه بين يديه ومصاله (٦) ، وتمضي في الأعداء أمام رايته المنصورة نصاله ، أخوه المسرور بقربه ، المنطوي على مضمر حبه ، أمير المسلمين محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر.

__________________

(١) في ب «اهتمامه به».

(٢) يريد أنه شجاع بطل رغم حداثة سنه. وأن شجاعته وبطولته قد صرفت إلى جهاد العدو وغزوه والمرابطة والمثاغرة في سبيل الله تعالى.

(٣) رحيبا : فسيحا واسعا. ومجاله : مكانه الذي يجول فيه.

(٤) في ب ، ه «رحيبا في السعد مجاله».

(٥) في ه «هام نواله» وهامر وهام بمعنى منسكب.

(٦) المصاع : المضاربة بالسيوف ونحوها. والمصال : هنا جرحه للأعداء والإيقاع بهم.

٣٢٣

سلام كريم ، طيب بر عميم ، يخص أخوّتكم الفضلى ، وإمارتكم التي آثار فضلها بحول الله تتلى ، ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد حمد الله على ما كيف من ألطافه المشرقة الأنوار ، ويسّره لهذه الأوطان بنصرته من الأوطار ، فكلما دجت بها (١) شدة طلع الفرج عليها طلوع النهار ، وكلما اضطرب منها جانب أعاده بفضل الله تعالى من أقامه لذلك واختاره إلى حال السكون والقرار ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار ، الذي أكد عليه جبريل صلوات الله عليه حقّ الجوار ، حتى كاد يلحقه بالوسائل والقرب الكبار ، الذي وصانا بالالتئام ، واتصال اليد في نصرة الإسلام ، فنحن نقابل وصاته (٢) بالبدار ، ونجري على نهجه الواضح الآثار ، ونرتجي باتباعه الجمع بين سعادة هذه الدار وتلك الدار (٣) ، والرضا عن آله وأصحابه ، وأنصاره وأحزابه ، أكرم الآل والأصحاب والأحزاب والأنصار ، الذين كانوا كما أخبر الله تعالى عنهم على لسان الصادق الأخبار «رحماء بينهم أشدّاء على الكفار» (٤) والدعاء لإمارتكم السعيدة بالتوفيق الذي تجري به الأمور على حسب الاختيار ، والعز المنيع الذّمار (٥) ، والسعد القويم المدار ، والوقاية التي يأمن بها أهلها من الشرار ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم أسنى ما كتب للأمراء الأرضياء الأخيار ، ومتعكم من بقاء والدكم بالعدة العظمى والسيرة الرحمى والجلال الرفيع المقدار ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوضح برهانه إلا ألطاف باهرة ، وعناية من الله تعالى باطنة وظاهرة ، وبشارة بالقبول واردة وبالشكر صادرة ، والله تعالى يصل لدينا نعمه ، ويوالي فضله وكرمه ، وإلى هذا فإننا اتصل بنا في هذه الأيام ما كان من عناية والدكم محلّ أبينا أبقاه الله تعالى بهذه البلاد المستندة إلى تأميل مجده ، وإقطاعها الغاية التي لا فوقها من حسن نظره وجميل قصده ، وتعيينكم إلى المقام بجبل الفتح إبلاغا في اجتهاده الديني وجدّه ، فقلنا : هذا خبر إن صدق مخبره ، وتحصل منتظره ، فهو فخر تجددت أثوابه ، واعتناء تفتحت أبوابه ، وعمل عند الله تعالى ثوابه ، فإن الأندلس عصمها الله تعالى وإن أنجدته عدده وأمواله ، ونجحت في نصرها مقاصده الكريمة وأعماله ، لا تدري موقع النظر لها من نفسه ، وزيادة يومه في العناية

__________________

(١) دجت : أظلمت.

(٢) الوصاة : الوصية. والبدار : المبادرة والمسارعة.

(٣) هذه الدار : أي الدنيا. وتلك الدار : أي الآخرة.

(٤) الآية الكريمد رقم ٢٩ سورة الفتح (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

(٥) المنيع : الحصين. والذمار : كل ما يلزم الإنسان حفظه والدفاع عنه.

٣٢٤

على أمسه ، حتى يسمح لها بولده ، ويخصها بقرة عينه وفلذة كبده ، فلما ورد منه الخبر ، الذي راقت منه الحبر ، ووضحت من سعادته الغرر ، بإجازتكم البحر ، واختياركم في حال الشبيبة الفخر ، وصدق مخيلة الدين فيكم ، واستقراركم في الثغر الشهير الذي افتتحه سيف جدّكم واستنقذه سعد أبيكم ، سررنا بقرب المزار ، ودنوّ الدار (١) ، وقابلنا صنع الله تعالى بالاستبشار ، ووثقنا وإن لم نزل على ثقة من عناية الله تعالى وعناية محل والدنا بهذه الأقطار ، وحمدنا الله تعالى على هذه الآلاء المشرقة (٢) ، والنعم المغدقة ، والصنائع المتألقة (٣) ، بادرنا نهنّي أخوّتكم أو لا بما يسره الله تعالى لكم من سلامة المجاز ، ثم بما منحكم الله تعالى من فضل الاختصاص بهذا الغرض والامتياز ، فإمارتكم الإمارة التي أخذت بأسباب السماء ، وركبت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى جياد الخيل والماء ، وأصبحت على حال الشبيبة شجا في حلوق الأعداء ، ونحن أحق بهذا الهناء ، ولكنها عادة الود وسنّة الإخاء ، فالله عز وجل يجعله مقدما ميمون (٤) الطائر ، متهلل البشائر ، تتهّلل (٥) بصنع الله بعده وجوه القبائل والعشائر ، ويجري خبر سعادتكم مجرى المثل السائر ، ويشكر محل والدنا فيما كان من اختياره ، ومزيد إيثاره ، ويجازيه جزاء من سمح في ذاته بمظنة ادّخاره ، ومذ رأينا أن هذا الغرض لا يجتزى (٦) فيه بالكتابة ، دون الاستنابة ، وجهنا لكم من يقوم بحقه ، ويجري من تقرير ما لدينا على أوضح طرقة ، وهو القائد الكذا ، ومجدكم يصغي (٧) لما يلقيه ، ويقابل بالقبول ما من ذلك يؤديه ، والله تعالى يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام.

وكان الطاغية الملعون أيام السلطان أبي عنان رحمه الله تعالى نازل جبل الفتح ثم كفى الله تعالى شره في ذلك التاريخ.

ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب أبا عنان سلطان فاس والمغرب وذلك بما نصه :

المقام الذي رمى له الملك الأصيل بأفلاذه ، وأدّى منه الإسلام إلى ملجئه الأحمى وملاذه ، وكفلت السعود بإمضاء أمره المطاع وإنفاذه ، وشأي (٨) حلبة الكرم فكان وحيد آحاده وفذّ أفذاذه ، وابتدع غرائب الجود فقال لسان الوجود : نعمت البدعة هذه ، مقام محل أخينا

__________________

(١) دنو الدار : قربها.

(٢) الآلاء : النعم.

(٣) الصنائع : جمع صنيعة ، وهي الإحسان.

(٤) ميمون الطائر : أراد أنه مبارك.

(٥) تتهلل : تشرق.

(٦) يجتزى : أصلها يجتزأ : أي يكتفى.

(٧) يصغي : يستمع.

(٨) شأي : سبق ، والحلبة : الموضع الذي تتسابق فيه الخيل.

٣٢٥

الذي أركان مجده راسية راسخة ، وغرر عزه بادية باذخة ، وأعلام فخره سامية شامخة ، وآيات سعده محكمة ناسخة ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى يجري بسعده الفلك ، ويجلي بنور هديه الحلك (١) ، ويسطر حسنات ملكه الملك ، ويشهد بفضل بأسه ونداه النادي (٢) والمعترك ، معظّم حقوقه التي تأكد فرضها ، المثني على مكارمه التي أعيا الأوصاف البليغة بعضها ، أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر.

سلام كريم ، طيب برّ عميم ، يخص أخوّتكم الفضلى ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي هيأ لملة الإسلام ، بمظاهرة ملككم المنصور الأعلام ، إظهارا وإعزازا ، وجعل لها العاقبة الحسنى بيمن مقامكم الأسنى تصديقا لدعوة الحق وإنجازا ، وسهل لها بسعدكم كل صعب المرام وقد سامتها صروف الأيام ليّا (٣) وإعوازا ، وأتاح (٤) لها منكم وليّا يسوم أعداءها استلابا وابتزازا (٥) ، ويسكن آمالها وقد استشعرت انحفازا ، حمدا يكون على حلل النعم العميمة والآلاء الكريمة طرازا ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بهرت آياته وضوحا وإعجازا ، واستحقت الكمال صفاته حقيقة لا مجازا ، ونبيه الذي بين للخلق أحكام دينه الحق امتناعا وجوازا ، ويسّر لهم وقد ضلوا في مفاوز (٦) الشك مفازا ، والرضا عن آله وأصحابه المستولين على ميادين فضائل الدنيا والدين اختصاصا بها وامتيازا ، فكانوا غيوثا إن وجدوا محلا وليوثا إن شهدوا برازا (٧) والدعاء لمقام أخوّتكم الأسمى بنصر على أعدائه تبدي له الجياد الجرد ارتياحا والرماح الملد اهتزازا ، وعز يطأ من أكناف البسيطة وأرجائها المحيطة سهلا وعزازا (٨) ، ويمن يشمل من بلاد الإيمان أقطارا نازحة ويعم أحوازا (٩) ، وسعد تجول في ميدان ذكره المذاع أطراف ألسنة اليراع إسهابا وإيجازا ، وفخر يجوب جيوب الأقطار جوب المثل السيار عراقا وحجازا ، ولا زالت كتائب سعده تنتهز فرص الدهر انتهازا ، وتوسع مملكات

__________________

(١) الحلك : الظلمة الشديدة.

(٢) النادي : المكان الذي يجتمع فيه للتشاور أو للسمر. والمعترك : المكان الذي تعترك فيه الأبطال.

(٣) اللي : مطل المدين دائنه وتسويفه في أدائه.

(٤) أتاح : هيأ.

(٥) ابتز الشيء منه ابتزازا : انتزعه.

(٦) المفاوز : جمع مفازة ، وهي الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.

(٧) المحل : القحط والجهد والشدة. والبراز : القتال.

(٨) العزاز : الصعب ، وهو هنا ضد السهل.

(٩) الأقطار النازحة : البعيدة. والأحواز : الأماكن التي أقيمت حولها حواجز.

٣٢٦

الكفر انتهابا واحتيازا ، فإنا كتبناه إلى مقامكم كتب الله تعالى لكم سعدا ثابت المراكز ، وعزا لا تلين قناتة في يد الغامز ، وثناء لا يثني عنان سراه عرض المفاوز ، وصنعا رحيب الجوانب رغيب الجوائز (١) ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وفضله عز وجل قد أدال العسر يسرا وأحال القبض بسطا ، وقرّب نوازح الآمال بعد أن تناءت ديارها شحطا (٢) ، وراض مركب الدهر الذي كان لا يلين لمن استمطى (٣) ، وقرب غريم الرجاء في هذه الأرجاء وكان مشتطا ، والتوكل عليه سبحانه وتعالى قد أحكم منه اليقين والاستبصار المبين ربطا ، ومشروط المزيد من نعمه قد لزم من الشكر شرطا ، ومقامكم هو عدّة الإسلام إذا جدّ حفاظه ، وظله الظليل إذا لفح للكفر شواظه ، وملجؤه الذي تنام في كنف أمنه أيقاظه ، ووزره الذي إلى نصرة تمدّ أيديه وتشير ألحاظه ، ففي أرجاء ثنائه تسرح معانيه وألفاظه ، ولخطب تمجيده وتحميده يقول قسّه وتحتفل (٤) عكاظه ، وتشيّعنا إلى ذلك الجناب الكريم طويل عريض ، ومقدمات ودنا إياه لا يعترضها نقيض ، وأفلاك تعظيمنا له ليس لأوجها الرفيع حضيض (٥) ، وأنوار اعتقادنا الجميل فيه يشف سواد الحبر عن أوجهها البيض ، وإلى هذا ألبسكم الله تعالى ثوب السعادة المعادة فضفاضا ، كما صرف ببركة إيالتكم الكريمة على ربوع الإسلام وجوه الليالي والأيام وقد أزورت إعراضا ، وبسطت آمالها وقد استشعرت انقباضا ، فإننا ورد علينا كتابكم الذي كرم أنحاء وأغراضا ، وجالت البلاغة من طرسه الفصيح المقال رياضا ، ووردت الأفكار من معانيه الغرائب وألفاظه المزرية بدرر النحور والتّرائب بحورا صافية وحياضا ، فاجتلينا منه حلة من حلل الود سابغة (٦) ، وحجة من حجج المجد بالغة ، وشمسا في فلك السعد بازغة ، الذي بيّن المقاصد الكريمة وشرحها ، وجلا الفضائل العميمة وأوضحها ، فما أكرم شيم ذلك الجلال وأسمحها ، وأفضل خلال ذلك الكمال (٧) وأرجحها ، حثثتم فيه على إحكام السلم التي تحوط الأنفس والحريم بسياج ، ويداوي القطر العليل منها بأنجع علاج ، والحال ذات احتياج ، وساحة الجبل

__________________

(١) في ب «الحوائز».

(٢) الشحط : البعد.

(٣) استميطت الدابة : أردت أن أمتطيها.

(٤) قس : هو قس بن ساعدة الإيادي ، أحد مشهوري خطباء العرب في الجاهلية.

وعكاظ : اسم سوق كان العرب يتناشدون فيه الشعر ويتفاخرون.

(٥) الحضيض : كل ما سفل من الأرض.

(٦) سابغة : واسعة ، فضفاضة.

(٧) خلال الكمال : صفاته الجميلة الحسنة.

٣٢٧

عصمه الله تعالى ميدان هياج ، ومتبوّأ أعلاج (١) ، ومظنة اختلاف للظنون (٢) الموحشة واختلاج ، فحضر لدينا محتمله (٣) وزيركم الشيخ الأجل الأعظم الموقر الأسمى الخاصة الأحظى أبو علي ابن الشيخ الوزير الأجل الحافل الفاضل المجاهد (٤) الكامل أبي عبد الله بن محلى والشيخ الفقيه الأستاذ الأعرف الفاضل الكامل أبو عبد الله ابن الشيخ الفقيه الأجل العارف الفاضل الصالح المبارك المبرور المرحوم أبي عبد الله القشتالي (٥) ، وصل الله سبحانه سعادتهما ، وحرس مجادتهما ، حالين من مراتب ترفيعنا أعلى محل الإعزاز ، وواردين على أحلى القبول الذي لا تشاب (٦) حقيقته بالمجاز ، عملا بما يجب علينا لمن يصل إلينا من تلك الأنحاء الكريمة والأحواز ، فتلقينا ما اشتملت عليه الإحالة السلطانية من الود الذي كرم مفهوما ونصا ، والبر الذي ذهب من مذاهب الفضل والكمال الأمد الأقصى ، وقد كان سبقهما صنع الله جلّ جلاله بما أخلف الظنون ، وشرح الصدور وأقر العيون ، فلم يصلا إلينا إلا وقد أهلك الله تعالى الطاغية ، ومزق أحزابه الباغية ، نعمة منه سبحانه وتعالى ومنه ملأت الصدور انشراحا ، وعمت الأرجاء أفراحا ، وعنوانا على سعد مقامك الذي راق غررا في المكرمات وأوضاحا ، ومد يده إلى سهام المواهب الإلهية فحاز أعلاها قداحا ، فتشوّفت (٧) نفوس المسلمين إلى ما كانت تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه ، وبدت في القضية التي أشرتم بأعمالها الوجوه ، وانبعثت الآمال إلى (٨) ما آلت إليه هذه الحال انبعاثا ، والتاثت أمور العدو قصمه الله تعالى التياثا (٩) ، وانتقض غزله من بعد قوّته بفضل الله تعالى أنكاثا (١٠) ، واحتملت المسألة التي تفضلتم بعرضها وأشرتم إلى فرضها مأخذا وأبحاثا ، فألقينا في هذه الحال إلى رسوليكم أعزهما الله تعالى ما يلقيانه إلى مقامكم الأعلى ، ومثابتكم الفضلى ، وما يتزيد عندنا من الأمور فركائب التعريف بها إليكم محثوثة ، وحزئياتها بين يدي مقامكم الرفيع مبثوثة ، وقد اضطربت أحوال الكفر وفالت

__________________

(١) الأعلاج : جمع علج ، وهو الرجل الضخم من الكفار ، وأطلقت على الكافر مطلقا.

(٢) في ب ، ه «وفطنة اختلاف الظنون».

(٣) في ه «متحملة».

(٤) في ه «الماجد».

(٥) في ب «الغشتالي».

(٦) تشاب : تخلط.

(٧) تشوّفت : تطلعت.

(٨) في ب ، ه «بما آلت».

(٩) التاثت أموره : اختلطت والتبست.

(١٠) نكث الكساء والثياب : نقضها. وفي القرآن الكريم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً).

٣٢٨

آراؤه (١) ، واستحكم بالشتات (٢) داؤه ، وارتجّت بزلزال الفتن أرجاؤه ، وتيسرت آمال الإسلام بفضل الله تعالى ورجاؤه ، وما هو إلا السعد يذلل لكم صعب العدو ويروضه ، والله سبحانه يهيئ لكم فضل الجهاد حتى تقضى بكم فروضه ، وأما الذي لكم عندنا من الخلوص الصافية شرائعه ، والثناء الذي هو الروض تأرّج ذائعه ، فأوضح من فلق الصبح إذا أشرقت طلائعه ، جعله الله تعالى في ذاته ، ووسيلة إلى مرضاته! ورسولاكم يشرحان لكم الحال بجزئياته ، ويقرران ما عندنا من الود الذي سطع نور آياته ، وهو سبحانه وتعالى يصل لكم سعدا سامي المراتب والمراقي ، ويجمع لكم بعد بعد المدى وتمهيد دين الهدى بين نعيم الدنيا والنعيم الباقي ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.

وأبين من هذا في القضية كتاب آخر من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى صورته :

من أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر ، إلى محل أخينا الذي نثني على مجادته أكرم الثناء ، ونجدد له ما سلف بين الأسلاف الكرام من الولاء ، ونتحفه من سعادة الإسلام وأهله بالأخبار السارة والأنباء ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى رفيع المقدار ، كريم المآثر والآثار ، وعرّفه من عوارف فضله كلّ مشرق الأنوار ، كفيل بالحسنى وعقبى الدار (٣).

سلام كريم ، برّ عميم ، يخص جلالكم الأرفع ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله على عميم آلائه ، وجزيل نعمائه ، ميسّر الصعب بعد إبائه ، والكفيل بتقريب الفرج وإدنائه ، له الحمد والشكر ملء أرضه وسمائه ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله الكرام وأنبيائه ، الهادي إلى سبيل الرشد وسوائه (٤) ، مطلع نور الحق يجلو ظلم الشك بضيائه ، والرضا عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه وخلفائه ، السائرين في الدنيا والآخرة تحت لوائه ، الباذلين نفوسهم في إظهار دينه القويم وإعلائه ، والدعاء لمقامكم بتيسير أمله من فضل الله سبحانه ورجائه ، واختصاصه بأوفر الحظوظ من اعتنائه ، فإنا كتبناه إليكم كتبكم الله تعالى فيمن ارتضى قوله وعمله من أوليائه ، وعرفكم عوارف السعادة المعادة

__________________

(١) فالت : ضعفت ، وركت.

(٢) الشتات ، بفتح الشين : التفرّق.

(٣) العقبى : العاقبة والخاتمة ، وتختص بالثواب. وفي التنزيل الحكيم (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).

(٤) يقال : استوى الشيء : بمعنى اعتدل واستقام ، ويقال : صراط سوي ؛ أي معتدل مستقيم. وسواء الرشد : استقامته أو وسطه.

٣٢٩

في نهاية كل أمر وابتدائه ، من حمراء غرناطة ـ حرمها الله تعالى! ـ ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم الذي أوضح برهانه ، وعظم أمره ورفع شأنه ، ثم بما عندنا من الود الكريم وتجديد العهد القديم لمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه ، إلا الخير الهامي (١) السحاب ، والتيسير (٢) المتين الأسباب ، واليمن المفتح الأبواب ، والسعد الجديد الأثواب ، ومقامكم معتمد بترفيع الجناب ، متعهد (٣) بالود الخالص والاعتقاد اللّباب (٤) ، معلوم له (٥) فضل الدين وأصالة الأحساب ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم (٦) مديد الأطناب ، ثاقب الشّهاب ، وأطلع عليكم وجوه البشائر سافرة النقاب ، فإنه قد كان بلغكم ما آلت الحال إليه بطاغية قشتالة الذي كلب على هذه الأقطار الغربية من وراء البحار ، وما سامها من الأوصاب (٧) والإضرار ، وأنه جرى في ميدان الإملاء والاغترار ، ومحّص المسلمون على يده بالوقائع العظيمة الكبار ، وأنه نكث العهد الذي عقده ، وحل الميثاق الذي أكّده ، وحمله الطمع الفاضح على أن أجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله (٨) ، ودهمها بتيار سيله وقطع ليله ، وأمل أن يستولي على جبل الفتح الذي يدعي منه فتحها ، وطلع للملة المحمدية صبحها ، فضيقه حصارا ، واتخذه دارا ، وعندما عظم الإشفاق ، وأظلمت الآفاق ، ظهر فينا لقدرة الله تعالى الصنع العجيب ، ونزل الفرج القريب ، وقبل الدعاء السميع المجيب ، وطرق الطاغية ، جند من جنود الله تعالى أخذه أخذة رابية ، ولم يبق له من باقية ، فهلك على الجبل حتف أنفه ، وغالته غوائل حتفه ، فتفرقت جموعه وأحزابه ، وانقطعت أسبابه ، وتعجل لنار الله تعالى مآبه ، وأصبحت البلاد مستبشرة ، ورحمة الله منتشرة ، ورأينا أن هذه البشارة التي يأخذ منها كل معلم بالنصيب الموفور ، ويشارك فيما جلبته من السرور ، أنتم أولى من نتحفه بطيب ريّاها. ونطلع عليه جميل محيّاها ، لما تقرر عندنا من دينكم المتين ، وفضلكم المبين ، وعملكم في المساهمة (٩) على شاكلة صالحي السلاطين ، فما ذلك إلا فضل نيتكم للمسلمين في هذه

__________________

(١) الهامي : المنهمر.

(٢) في ب «واليسر المتين الأسباب».

(٣) في ج «معتمد».

(٤) اللباب : الخالص.

(٥) في ب ، ه «معلوم له من فضل الدين وأصالة الأحساب».

(٦) في ه «أوصل الله لكم سعدا مديد الأطناب».

(٧) في ب ، ه «وما سامها من الإرهاق والإضرار».

(٨) أجلب : صاح بقهر ، وفي التنزيل العزيز(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).

(٩) في ب ، ه «من المساهمة».

٣٣٠

البلاد ، وأثر ما عندكم من جميل الاعتقاد ، وقد ورد علينا رسولكم (١) القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح ، أعزه الله تعالى! مقرّرا ما لديكم من الود الراسخ القواعد ، والخلوص الصافي الموارد ، الواضح الشواهد ، وأثنى على مكارمكم الأصيلة (٢) ، وألقى ما عندكم من المذاهب الجميلة ، فقابلنا ذلك بالشكر الذي يتصل سببه ، ويتضح مذهبه ، وسألنا الله أن يجعله ودّا في ذاته ، ووسيلة إلى مرضاته ، وتعرفنا ما كان من تفضلكم بالطريدة المفتوحة المؤخر ، وما صدر عن الرئيس المعروف بالناظر من خدام دار الصنعة بالمرية من قبح محاولته ، وسوء معاملته ، فأمرنا بقطع جرايته وثقافه بمطمورة القصة جزاء لجنايته ، ولو لا أننا توقفنا أن يكون عظيم عقابه مما لا يقع من مقامكم بوفقه ، لمشهور عفافه ورفقه ، لجعلناه نكالا لأمثاله (٣) ، وعبرة لأشكاله ، وقد وجهنا جفنا سفريا لإيساق الخيل التي ذكرتم ، وإيصال ما إليه من ذلك أشرتم ، ويكمل القصد إن شاء الله تعالى تحت لحظ اعتنائكم ، وفضل ولائكم ، هذا ما تزيد عندنا عرفناكم به ، عملا على شاكلة الود الجميل ، والولاء الكريم الجملة والتفصيل ، فعرفونا بما يتزيد عندكم يكن من جملة أعمالكم الفاضلة ، ومكارمكم الحافلة ، والله تعالى يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.

ومن إنشاء لسان الدين فيما يتعلق بالأندلس وانقطاعها ، وأنها لا غنى لها عن العدوة وغير ذلك ، ما صورته :

المقام الذي بنور سعادته تنجلي الغمّاء وتتصل النعماء ، من نيته قد حصل منها لجانب الله تعالى الانتماء ، واتفقت منها المسمّيات والأسماء ، مقام محل أبينا الذي تتفيأ هذه الجزيرة الغربية أفياء (٤) نيته الصالحة وعمله ، وتثق بحسن العاقبة اعتمادا على وعد الله (٥) تعالى المنزل على خيرة رسله ، وتجتني ثمار النجح من أفنان آرائه المتألقة تألق الصبح حالي ريثه وعجله (٦) ، وتتعرف حالي المودود والمكروه عارفة الخير والخيرة من قبله ، أبقاه الله تعالى يحسم الأدواء

__________________

(١) في ب ، ه «ورد علينا رسولنا إليكم».

(٢) في ه «مكارمكم الأملية».

(٣) نكلت به : أي فعلت به ما ينكل به غيره ويضعف والاسم نكال. وفي القرآن الكريم (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) وفيه أيضا(جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ).

(٤) الأفياء : جمع فيء ، وهو الظل ، وتتفيؤه : تستظل به.

(٥) في ه «وتثق بحسن العاقبة اعتهادا على وعد الله ...».

(٦) الريث : التمهل.

٣٣١

كلما استشرت (١) ، ويحلي موارد العاقبة (٢) كلما أمّرت ، ويعفّي على آثار الأطماع الكاذبة مهما خدعت بخلّبها وغرت ، ويضمن سعده عودة الأمور إلى أفضل ما عليه استقرت ، معظم مقامه الذي هو بالتعظيم حقيق ، وموقر ملكه الذي لا يلتبس منه في الفخر والعز طريق ، ولا يختلف في فضله العميم ومجده الكريم فريق.

أما بعد حمد الله المثيب المعاقب ، الكفيل لأهل التقوى بحسن العواقب ، المشيد بالعمل الصالح إلى أرفع المراقي والمراقب (٣) ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبقضائه وقدره اختلاف المسالك والمذاهب ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الحاشر العاقب ، ونبيه الكريم الرؤوف الرحيم ذي المفاخر السامية والمناقب ، والرضا عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه الذين ظاهروه في حياته بإعمال السّمر العوالي والبيض القواضب (٤) ، وخلفوه في أمته بخلوص الضمائر عن شوب الشوائب (٥) ، فكانوا في سماء ملته كالنجوم الثواقب ، والدعاء لمقامكم الأسمى بالسعادة المعادة في الشاهد من الزمن والغائب ، والنصر الذي يقضي بعز الكتائب ، والصنع الذي تطلع من ثناياه غرر الصنائع العجائب ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من الاعتداد بمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه ، وشمل بالتمهيد أوطانه ، إلّا نشيّع ثابت ويريد (٦) ، وإخلاص ما عليه في ميدان الاستطاعة مزيد ، وتعظيم أشرق (٧) منه جيد ، وثناء راق فوق رياضه تحميد وتمجيد ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم ، وحرس الطاهر الكريم مجدكم ، فقد وصلنا كتابكم الذي هو على الخلوص والاعتقاد عنوان ، وفي الاحتجاج على الرضا والقبول برهان ، تنطق بالفصل (٨) فصوله ، وتشير إلى كرم العقد فروعه الزكية وأصوله ، ويحق أن ينسب إلى ذلك الفخر الأصيل محصوله ، عرفتمونا بما ذهب إليه عيسى بن الحسين من الخلاف الذي ارتكبه ، وسبيل الصواب الذي انتكبه (٩) ، وتنبهون (١٠) على ما حده الحق في مثل ذلك وأوجبه ، حتى لا يصل أحد من جهتنا سببه ، ولا

__________________

(١) استشرت : عظم خطبها وصعب دفعها. والأدواء : الأمراض.

(٢) في ب «موارد العافية».

(٣) المرقب : المكان المرتفع يستعمل للمراقبة وجمعه مراقب.

(٤) البيض القواضب : السيوف القاطعة.

(٥) في ب ، ه «عند شوب الشوائب».

(٦) في ب «ويزيد».

(٧) في ب ، ه «أشرف منه جيد». وكلا المعنيين حسن.

(٨) في ب «تنطق بالفضل».

(٩) انتكبه وتنكبه : عدل عنه.

(١٠) في ه «وتنبهونا».

٣٣٢

يظاهره مهما ندبه ، ولا يسعف في الإيواء طلبه ، فاستوفينا ما استدعاه ذلك البيان الصريح وجلبه ، وخطه القلم الفصيح وكتبه ، وليعلم مقامكم وهو من أصالة النظر غنيّ عن الإعلام ، ولكن لابد من الاستراحة بالكلام ، والتنفث بنفثات الأقلام ، أننا إنما نجري أمورنا مع هذا العدو الكافر الذي رمينا بجواره ، وبلينا والحمد لله بمصادمة تيّاره ، على تعداد أقطاره ، واتساع براريه وبحاره ، بأن تكون الأمّة المحمدية بالعدوتين تحت وفاق ، وأسواق النّفاق غير ذات نفاق (١) ، والجماهير تحت عهد من الله تعالى وميثاق ، فمهما تعرفنا أن اثنين اختلف منهما بالعدوتين عقد ، ووقع بينهما في قبول الطاعة رد ، ساءنا واقعه ، وعظمت لدينا مواقعه ، وسألنا أن يتدارك الخرق راقعه ، لما نتوقعه من التشاغل عن نصرنا ، وتفرغ العدو إلى ضرنا ، فكيف إذا وقعت الفتنة في صقعنا وقطرنا ، إنما هي شعلة في بعض بيوتنا وقعت ، وحادثة إلى جهتنا أشرعت ، وإن كان لسوانا لفظهما فلنا معناها ، وعلى وطننا يعود جناها ، فنحن أحرص الناس على إطفائها وإخمادها ، وأسعى في إصلاح فسادها ، والمثابرة على كفها واستئسادها (٢) ، وما الظن بدار فسد بابها ، وآمال رثّت أسبابها (٣) ، وجزيرة لا تستقيم أحوال من بها إلا بالسكون ، وسلم العدو والمغرور المفتون ، حتى تقضى منه بإعانتكم الديون ، وإن اضطرابها إنما هو داء نستبصر (٤) من رأيكم فيه بطبيب ، وهدف خطب نرميه من عزمكم بسهم مصيب ، وأمر نضرع في تداركه إلى سميع للدعاء مجيب ، ونحن فيه يد أمام يدكم ، ومقصدنا فيه تبع لقصدكم ، وتصرفنا على حد إشارتكم جار ، وعزمنا إلى منتهى مرضاتكم متبار ، وعقدنا في مشايعة أمركم غير متوار ، وقد كنا لأول اتصال هذا الخبر ، القبيح العين والأثر ، بادرنا تعريفكم بجميع ما اتصل بنا في شأنه ، ولم نطو عنكم شيئا من إسراره ولا إعلانه ، وبعثنا رسولنا إلى بابكم العلي نعتدّ بسلطانه ، ونرتجي تمهيد هذا الوطن بتمهيد أوطانه ، وبادرنا بالمخاطبة من وجبت مخاطبته من أهل مربلة وأسطبونة نثبت بصائرهم في الطاعة ونقويها ، ونعدهم بتوجيه من يحفظ جهاتهم ويحميها ، وعجلنا إلى بعضها مددا من الرماة والسلاح ليكون ذلك عدّة فيها ، وعلمنا (٥) ما أوجب الله تعالى من الأعمال التي يزلف بها (٦) ويرتضيها ، وكيف لا نظاهر أمركم الذي هو العدة المذخورة ، والفئة الناصرة المنصورة ، والباطل سراب يخدع ، والحق إليه يرجع ، والبغي

__________________

(١) نفاق ـ بفتح النون : رواج.

(٢) استئسادها : الزيادة في شرها واندلاع لهبها.

(٣) رثت : بليت وتقطعت ، والأسباب جمع سبب ، وأصله : الحبل.

(٤) في ب «نستنصر».

(٥) في ب «وعلمنا ما أوجب الله».

(٦) يزلف : يقرب.

٣٣٣

يردي ويصرع ، وكم تقدم في الدهر منتز شذ عن الطاعة ، وخرج عن الجماعة ، ومخالف على الدول ، في العصور الأول ، بهرج الحقّ زائفه ، ورجمت شهب الأسنة طائفه ، وأخذت عليه الضيقة وهاده وتنائفه (١) ، فتقلص ظله ، ونبا به عن الحق محله ، وكما قال يذهب الباطل وأهله ، لا سيما وسعادة ملككم قد وطأت المسالك ومهّدتها ، وقهرت الأعداء وتعبدتها ، وأطفأت جداول سيوفكم النار التي أوقدتها ، وكأن بالأمور إذا أعملتم فيها رأيكم السديد وقد عادت إلى خير أحوالها ، والبلاد بيمن تدبيركم قد شفى ما ظهر من اعتلالها ، وعلى كل حال فإنما نحن إلى تكميل (٢) مرضاتكم مبادرون ، وفي أغراضكم الدينية واردون وصادون ، ولإشاراتكم التي تتضمن الخير والخيرة منتظرون ، عندنا من ذلك عقائد لا يحتمل نصّها التأويل ، ولا يقبل صحيحها التعليل ، فلتكن أبوّتكم من ذلك على أوضح سبيل ، فشمس النهار لا تحتاج إلى دليل ، والله تعالى يسنّي لكم عوائد الصنع الجميل ، حتى لا يدع عزمكم مغصوبا إلا رده ، ولا ثلما في ثغر الدين إلا سدّه ، ولا هدفا متعاصيا إلا هدّه ، ولا عرقا من الخلاف إلا حده (٣) ، وهو سبحانه يبقى ملككم ويصل سعده ، ويعلي أمره ويحرس مجده ، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.

ومن إنشائه رحمه الله تعالى من جملة رسالة على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب الرعايا ، ما نص محل الحاجة منه :

وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح (٤) ، ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصّبوح ، حتى طمح بسكر اغتراره ، ومحّص المسلمون على يده بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره ، وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامح (٥) أفكاره ، ووثق بأنه يطفئ نور الله بناره ، ونازل جبل الفتح فشد مخنّق حصاره ، وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره ، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب ، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين

__________________

(١) الوهاد : جمع وهد ـ الفتح ـ وهو المكان الممهد المطمئن. والتنائف : جمع تنوفة ـ بفتح التاء وضم النون ـ وهي الأرض التي لا ماء فيها ولا إنسان.

(٢) في ب ، ه «على تكميل فرضاتكم».

(٣) في ب «إلا جده» وجدّه : قطعه كجذّه.

(٤) جمع : تمرّد ، وركب هواه. والجموح : المتمرد والراكب هواه.

(٥) في ب ، ه «مطامح» وفي نسخة «مطالع».

٣٣٤

على مألوف الحساب ، وتكالب التثليث على التوحيد (١) ، وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد ، المنقطع بين الأمة الكافرة والبحور الزاخرة والمرام البعيد ، وإننا صابرنا بالله تعالى تيّار سيله ، واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنّة ليله (٢) ، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق ، واعتلقنا (٣) من حبله المتين بأوثق العلائق ، وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق ، وأخلصنا لله مقيل العثار ومؤوي أولي الاضطرار قلوبنا ، ورفعنا إليه أمرنا ووقفنا عليه مطلوبنا ، ولم نقصر مع ذلك في إبرام العزم ، واستشعار الحزم ، وإمداد الثغور بأقصى الإمكان ، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاد على الأحيان ، فرحم الله تعالى انقطاعنا إلى كرمه ، والتجاءنا إلى حرمه ، فجلّى بفضله سبحانه ظلم الشدة ، ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة ، وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدّة ، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف (٤) الركاب ، واحتشاد الأحزاب ، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب ، واستخلاص العباد والبلاد من بين الظّفر والناب ، فقد كان جعجع على الحق بأباطيله (٥) ، وسد المجاز بأساطيله ، ورمى الجزيرة الأندلسية بشؤبوب (٦) شرّه ، وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان برّه ، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرقبة إلا على الخطر الشديد ، والإفلات من يد العدوّ العنيد مع توفر العزائم والحمد لله على العمل الحميد ، والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد ، وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد ، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد ، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد ، إذا طلع علينا البشير بانفراج الأزمة ، وحلّ تلك العزمة ، وموت شاه تلك الرقعة ، وإبقاء الله تعالى على تلك البقعة ، وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغترارا ، وأعظم أنصارا ، وزلزلت (٧) أرض عزه وقد أصابت قرارا ، وأن شهاب سعده قد أصبح آفلا ، وعلم كبره انقلب سافلا ، وأن من بيده ملكوت السماوات والأرض طرقه بحتفه (٨) ، وأهلكه برغم أنفه ، وأن محلته عاجلها التّباب والتّبار ، وعاثت في منازلها النار ، وتمخض (٩) عن سوء عاقبتها الليل والنهار ، وأن حماتها يخبرون بيوتهم بأيديهم ، وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم ، وتلاحق الفرسان من جبل الفتح المعقل الذي عليه من عناية الله تعالى رواق مضروب ، والرباط الذي من حاربه فهو المحروب،

__________________

(١) أراد بالتثليث : النصرانية ، وبالتوحيد : الإسلام.

(٢) دجنة الليل : ظلمته الشديدة.

(٣) اعتلقنا : تمسكنا وفي ب «اعتقلنا».

(٤) إيجاف الركاب : إعمال الخيل وإجراؤها.

(٥) جعجع : اشتد صوته.

(٦) الشؤبوب : في الأصل : الدفعة من المطر.

وهنا : الشر القوي المتدافع.

(٧) في ب «وزلزل أرض عزه».

(٨) الحتف : الموت.

(٩) في أصل ه «وتمحض عن سوء عاقبتها».

٣٣٥

فأخبرت بانفراج الضيق ، وارتفاع العائق لها عن الطريق ، وبرء الداء الذي أشرق بالريق ، وأن النصارى دمرها الله تعالى جدت في ارتحالها ، وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها وحالها ، وسمحت للنار والنهب بأسلابها وأموالها ، فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها ، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها (١) ، وسألنا الله تعالى أن يعيننا على شكر هذه النعمة التي إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها ، ورجحتها ، ورأينا سر الطائف الخفية كيف سريانه في الوجود ، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطائف الإلهية والجود ، وقلنا : إنما هو الفتح الأوّل شفع بثان ، وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله تعالى ببنيان ، اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة ، ومننك الوافرة ، إنك ولينا في الدنيا والآخرة. انتهى.

ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى من أخرى مما يتعلق بضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته :

وإن تشوّفتم (٢) إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين ، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين ، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدوّ تيارا ، ونكابر بحرا زخّارا ، ونتوقع إلا إن وقى الله تعالى خطوبا كبارا ، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصارا ، ونلجأ إليه اضطرارا ، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعدادا به واستظهارا (٣) ، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطارا ، وينشئ ريح روح الله طيبة معطارا ، فإذا القومس (٤) الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع ، ومخالفته لا تستطيع ، رمي هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها ، ولا يحصى فريقها ، التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله ، وتبلغه أمله ، ويكون الكل يدا واحدة على المسلمين ، ومناصبة هذا الدين ، واستئصال شأفة المؤمنين ، وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد ، ولا عرفها نجد ولا وهد (٥) ، وقد اقتحموا الحدود القريبة ، والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة ، وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوّي الضعيف ، ويدرأ الخطب المخيف (٦) ، ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران : ١٧٣] ، وهو سبحانه المرجو

__________________

(١) السهاد : الأرق.

(٢) في أصل ه «تشوقتم».

(٣) استعدادا به : أي نجعله عدلا لنا على العدو. واستظهارا : نستظهر به ، أي نتقوى.

(٤) في ب ، ه «فإن القوس الأعظم».

(٥) النجد : ما ارتفع من حزن من الأرض. والوهد ضده.

(٦) يدرأ : يدفع. والخطب : المصيبة.

٣٣٦

في حسن العقبى والمآل ، ونصر فئة الهدي على فئة الضلال ، وما قل من كان الحقّ كنزه ، ولا ذلّ من استمد من الله عزّه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] ودعاء من قبلكم من المسلمين مدد موفور ، والله سبحانه على كل حال محمود مشكور. انتهى.

ومن أخرى طويلة من جملتها ما صورته :

وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام ، ورعي الجوار والذّمام ، وما جعل الله تعالى للمأموم على الإمام ، إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة ، وجمع أهوائكم المتفرقة ، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة ، وهو أن كبير دين النصرانية الذي إليه ينقادون ، وفي مرضاته يصادقون ويعادون ، وعند رؤية صليبه يكبرون ويسجدون ، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضما وقضما (١) ، وأوسعتهم هضما ، فلم تبق عصبا ولا عظما ، ونثرت ما كان نظما ، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق ، ويرفع ما طرق ، ويرفو ما مزّق الشتات وخرق (٢) ، فرمى الإسلام بأمة عددها القطر المنثال ، وأمرهم وشأنهم الامتثال ، أن يدمنوا (٣) لمن ارتضاه من أمته الطاعة ، ويجمعوا في ملته الجماعة ، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام الساعة ، وأقطعهم قطع الله تعالى بهم العباد والبلاد ، والطارف والتّلاد (٤) ، وسوّغهم الحريم والأولاد ، وبالله تعالى نستدفع ما لا نطيقه ، ومنه نسأل عادة الفرج فما سدّت طريقه ، إلا أنا رأينا غفلة الناس مؤذنة البوار (٥) ، وأشفقنا للدين المنقطع من وراء البحار ، وقد أصبح مضغة في لهوات الكفار ، وأردنا أن نهزكم بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار ، فإن جبر الله تعالى الخواطر بالضراعة إليه والانكسار ، ونسخ الإعسار بالإيسار ، وأنجد اليمين بأختها اليسار ، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار ، فإن من ظهر عليه عدو دين الله تعالى وهو من الله مصروف ، وبالباطل مشغوف ، وبغير العرف معروف ، وعلى الحطام المسلوب عنه ملهوف ، فقد تلّه (٦) الشيطان للجبين ، وقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ومن نفذ فيه أوله قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود ، وأفرد بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود ، ووطّن النفس على الشهادة المبوّئة دار الخلود ، العائدة بالحياة الدائمة والوجود ، أو الظهور

__________________

(١) خضم الطعام : قطعه وأكله. والقضم : التقطيع بأطراف الأسنان.

(٢) يرفو : يرقع. وخرّق : مزّق.

(٣) يدمنوا : هنا : يديموا.

(٤) الطارف : الجديد المستحدث ، والتلاد : القديم الموروث.

(٥) البوار : الهلاك.

(٦) تلّه للجبين : أي أكبه على وجهه وفي القرآن الكريم (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ).

٣٣٧

على عدوّه المحشور إليه المحشود ، صبرا على المقام المحمود ، وبيعا من الله تعالى تكون الملائكة فيه الشهود ، حتى يعين يد الله في ذلك البناء [المهدوم بقوة الله و](١) المهدود ، والسواد الأعظم الممدود ، كان على أمريه بالخيار المردود (٢)(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢]. انتهى.

وقال صاحب «مناهج الفكر» بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها ، ما صورته :

ولم تزل هذه الجزيرة منتظمه لمالكها في سلك الانقياد والوفاق ، إلى أن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق ، فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط رأسه ، وجعله معقلا يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه ، فصار كل منهم يشنّ الغارة على جاره ، ويحاربه في عقر داره ، إن أن ضعفوا عن لقاء عدوّ في الدين يعادي ، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي (٣) ، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدّرة ، وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة ، كان ذلك في الكتاب مسطورا وقدرا في سابق علم الله مقدورا ، انتهى.

وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخذ النصارى قواعد الأندلس فنقول :

قد قدمنا أوائل هذا الباب أن طليطلة أعادها الله تعالى من أول ما أخذ الكفار من المدن العظام بالأندلس.

قال ابن بسام (٤) : لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة ، والحوادث المصطلمة (٥) وترادف عليهم البلاء والجلاء ، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى أموالهم وأرواحهم ، كان من أعجب ما جرى من النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير ، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها ، فلما كانت السنة التي استولى عليها العدوّ فيها لم ترفع الغلة من الأندر (٦) حتى أسرع فيها الفساد ، فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى لأمر أراده ، من شمول البلوى ، وعموم الضراء ، فاستولى العدوّ على طليطلة ، وأنزل من

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من ب.

(٢) في أ«المودود».

(٣) العيث : الإفساد : عاث يعيث عيثا. ويغادي : يأتي باكرا.

(٤) انظر الذخيرة ٢ / ١ : ١٢٧.

(٥) اصطلمه : استأصله.

(٦) الأندر : بوزن الأحمر ـ البيدر.

٣٣٨

بها على حكمه ، وخرج ابن ذي النون منها على أقبح صورة ، وأفظع سيرة ، ورآه الناس وبيده اصطرلاب يأخذ به وقتا يرحل فيه ، فتعجب منه المسلمون ، وضحك عليه الكافرون ، وبسط الكافر العدل على أهل المدينة ، وحبب التنصر إلى عامة طغامها (١) ، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله ، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة.

ومما جرى في ذلك اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي (٢) رحمه الله تعالى صار إلى الجامع ، وصلى فيه ، وأمر مريدا له بالقراءة ، ووافاه الفرنج لعنهم الله تعالى وتكاثروا لتغيير القبلة ، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته ، وعصمه الله تعالى منهم ، إلى أن أكمل القراءة ، وسجد سجدة ، ورفع رأسه ، وبكى على الجامع بكاء شديدا ، وخرج ولم يعرض أحد له بمكروه.

وقيل لملك النصارى : ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك ، فقال : حتى نأخذ قرطبتهم ، وأعد لذلك ناقوسا تأنق فيه وفيما رصّع به من الجواهر ، فأكذبه الله وأزعجه (٣).

وورد أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين ، فما قصر فيما أثر من إذلال المشركين ، وإرغام الكافرين ، واستدراك أمور المسلمين ، انتهى ملخصا ، وقد مر مطولا.

وكانت قبلها وقعة بطرنة سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وذلك أن الفرنج ـ خذلهم الله تعالى! ـ انتدبت منهم قطعة كثيفة ، ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة ، وأهلها جاهلون بالحرب ، معرضون (٤) عن أمر الطعن والضرب ، مقبلون على اللذات من الأكل والشرب ، وأظهر الفرنج الندم على منازلتها ، والضعف عن مقاومة من فيها ، وخدعوهم بذلك فانخدعوا ، وأطمعوهم فطمعوا ، وكمن (٥) في عدة أماكن جماعة من الفرسان ، وخرج أهل البلد بثياب زينتهم ، وخرج معهم أمير هم عبد العزيز بن أبي عامر ، فاستدرجهم العدو لعنهم الله تعالى ، ثم عطفوا عليهم فاستأصلوهم بالقتل والأسر ، وما نجا منهم إلا من حصّنه أجله ، وخلص الأمير نفسه ، ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر : [الطويل]

خليليّ ليس الرّأي في صدر واحد

أشيرا عليّ اليوم ما تريان

__________________

(١) الطغام : أرذال الناس.

(٢) هكذا في أ، ب ، ه ، وفي ج «المقامي».

(٣) أزعجه : طرده ، وقلعه من مكانه.

(٤) في ب «مغترون بأمر الطعن والضرب».

(٥) في ب «وكمّنوا في عدة أماكن جماعة من الفرسان».

٣٣٩

وفي أهل بلنسية يقول بعض الشعراء حين خرجوا في ثياب الزينة والترفه : [الكامل]

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم

حلل الحرير عليكم ألوانا

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها

لو لم يكن ببطرنة ما كانا

قال ابن بسام : وهكذا جرى لأهل طليطلة ، فإن العدو ـ خذله الله تعالى! ـ استظهر عليهم (١) ، وقتل جماهيرهم ، وكان من جملة ما غنمه الفرنج من أهلها لما خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف غفارة (٢) خارجا عما سواها.

وقال ابن حيان : وكان تغلب العدو ـ خذله الله تعالى! ـ على بربشتر قصبة بلد برطانية ، وهي تقرب من سرقسطة ، سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وذلك أن جيش الأرذمليس (٣) نازلها وحاصرها ، وقصّر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها ، ووكل أهلها إلى نفوسهم ، فأقام العدو عليها أربعين يوما ، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلته ، واتصل ذلك بالعدو ، فشدّد القتال عليها والحصر لها حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرّع ، فدهش الناس ، وتحصنوا بالمدينة الداخلة ، وجرت بينهم حروب شديدة قتل فيها خمسمائة إفرنجي ، ثم اتفق أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب (٤) موزون انهارت وفسدت ، ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السّرب بأسره ، فانقطع الماء عن المدينة ، ويئس من بها من الحياة ، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال ، فأعطاهم العدو الأمان ، فلما خرجوا نكث بهم وغدر ، وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه ، وحصل للعدو من الأموال والأمتعة (٥) ما لا يحصى ، حتى إن الذي خص بعض مقدّمي العدو لحصنه وهو قائد خيل رومة نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارا ، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل ، وقدّر من قتل وأسر مائة ألف نفس ، وقيل : خمسون ألف نفس ، ومن نوادر ما جرى على هذه المدينة لما فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها (٦) ، فيقول لها : اعطيني ما معك ، فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره.

__________________

(١) استظهر عليهم : قوي ، وتمكن منهم.

(٢) الغفارة : منديل تغطي المرأة به رأسها ، أو زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة ، وكلا المعنين ممكن هنا.

(٣) في ب «الأردمليس».

(٤) السّرب ، والسّرب : قناة الماء.

(٥) أوقار الأمتعة : الأمتعة الثقيلة وأراد أحمالا ثقالا من الأمتعة.

(٦) في ب ، ه «أو لولدها».

٣٤٠