نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا الحسن الموصوف أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك ، ومنها لصاحب الأندلس صلة وصدقة [وهدية](١) في مرات ، ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم ، ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي ، ومنها لصاحب إفريقية ، ومنها لصاحب تلمسان ، انتهى.

وقال مؤرخ مصر المقريزي في كتاب «السلوك» في سنة ٧٣٨ ما نصه : وفي ثاني عشرين من رمضان قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج ، ومعها هدية جليلة إلى الغاية ، نزل لحملها من الإصطبل السلطاني ثلاثون قطارا من بغال النقل سوى الجمال ، وكان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة (٢) ومائة فحل ومائتا بغل وجميعها بسرج ولجم مسقطة بالذهب والفضة ، وبعضها سرجها وركبها كلها ذهب ، وكذلك لجمها ، وعدتها اثنان وأربعون رأسا منها سرجان من ذهب مرصع بجوهر ، وفيها اثنان وثلاثون بازا ، وفيها سيف قرابه (٣) ذهب مرصع ، وحياصه (٤) ذهب مرصع ، وفيها مائة كساء ، وغير ذلك من القماش العال ، وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم ، وأنزلهم بالقرافة قريب مسجد الفتح ، وهم جمع كثير (٥) جدا ، وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة ، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم ، حتى نفدت كلها سوى الجواهر واللؤلؤ فإنه اختص به ، فقدرت قيمة هذه الهدية ما يزيد على مائة ألف دينار ، ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها ، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم (٦) ، فكان مرتبهم كل يوم عدة ثلاثين رأسا من الغنم ، ونصف أردب (٧) أرز ، وقنطار حب رمان ، وربع قنطار سكر ، وثمان فانوسيات شمع ، وتوابل الطعام ، وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم ، وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم ، ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة ، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم ، حتى خلع على الرجال الذين قادوا (٨) الخيول ، وحمل إلى

__________________

(١) «وهدية» ساقطة من ب.

(٢) الحجرة : الأنثى من الخيل ، والفصيح بغير هاء.

(٣) قراب السيف : غمده.

(٤) في ب ، ه «وحياصته ذهب مرصع» والحياصة : سير طويل يشد به حزام السرج على الدابة.

(٥) في ب «جمع كبير جدا».

(٦) في ه «وفضل منهم».

(٧) الأردب : مكيال.

(٨) في ه «قادوا الخيل».

٣٠١

الحرة من الكسوة ما يجل قدره ، وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها شيء ، وإنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا ، فتقدم السلطان إلى النشو وإلى الأمير أحمد أقبغا بتجهيزها اللائق بها ، فقاما بذلك ، واستخدما لها السقائين والضوية (١) ، وهيّآ كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر والدقيق والبقسماط ، وطلبا الحمالة لحمل جهازها وأزودتها ، وندب السلطان للسفر معها جمال الدين متولي الجيزة ، وأمره أن يرحل بها في مركب لها بمفردها قدام المحمل (٢) ، ويمتثل كل ما تأمر به ، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.

وقال في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ما نصه : وفي نصف شعبان قدمت الحرة أخت صاحب المغرب في جماعة كثيرة ، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام ، وأن يدعو له الخطباء في يوم الجمعة ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم ، ويكتب إلى أهل الحرمين بذلك ، وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة قتل فيها ولده ، ونصره الله تعالى بمنه على العدو ، وقتل كثيرا منهم ، وملكوا منهم الجزيرة الخضراء ، فعمر الفرنج مائتي شيني (٣) ، وجمعوا طوائفهم ، وقصدوا المسلمين ، وأوقعوا بهم على حين غفلة ، فاستشهد عالم كثير ، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد ، وملك الفرنج الجزيرة ، وأسروا وسبوا وغنموا شيئا يجل وصفه ، ثم مضوا إلى جهة غرناطة ، ونصبوا عليها مائة منجنيق حتى صالحهم على قطيعة يقومون بها ، وتهادنوا مدة عشر سنين ، ا ه كلامه.

وقد تقدم نص هذا الكتاب الموجه من السلطان أبي الحسن فليراجع قريبا.

وقال ابن مرزوق في «المسند الصحيح الحسن» بعد كلام ما ملخصه : وكان يعني السلطان أبا الحسن ـ مجتهدا في الجهاد بنفسه وحرمه ، وجاز للآندلس برسم ذلك بنفسه ، وأظهر آثاره الجميلة ، ومنها ارتجاع جبل الفتح ليد المسلمين بعد أن أنفق (٤) عليه الأموال ، وصرف (٥) إليه الجنود والحشود ، إذ كان من عمالته هو والجزيرة ورندة ، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين ، وأنفق على بنائه أحمال مال ، واعتنى بتحصينه ، وبنى حصنه وأبراجه وسوره وجامعه ودوره ومخازنه ، ولما كاد يتم ذلك نازله العلو برا وبحرا ، فصبر المسلمون صبر الكرام ، فخيب الله تعالى أمل العدو ، وعاد خاسرا (٦) ، والمنة لله ، فرأى

__________________

(١) في ه «والضوئية».

(٢) قدام المحمل : أمام المحمل.

(٢) قدام المحمل : أمام المحمل.

(٣) في ه «شيتي».

(٤) في بعض النسخ «انفقوا ... وصرفوا».

(٥) في بعض النسخ «انفقوا ... وصرفوا».

(٦) في ه «وصار خاسرا».

٣٠٢

أن يحصن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته ، ولا يجد سبيلا للتضييق عند محاصرته ، ورأى الناس ذلك من المحال ، فأنفق الأموال ، وأنصف العمال ، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال ، وأما بناؤه للمحاسن والطوالع فأمر غير مجهول ، اه.

وقد رأيت أن أذكر هنا بعض إنشاء لسان الدين بن الخطيب في شأن ما يتعلق بجبل الفتح وغيره من بلاد الأندلس ، وحال العدو الكافر ، وما ينخرط في هذا السلك : فمن ذلك على لسان سلطانه يخاطب به أحد السلاطين من أولاد السلطان أبي الحسن المريني ، ونصه :

المقام الذي يصرخ وينجد (١) ، ويتهم في الفضل وينجد (٢) ، ويسعف ويسعد ، ويبرق في سبيل الله ويرعد ، فيأخذ الكفر من عزماته المقيم المقعد ، حتى ينجز من نصر الله تعالى الموعد ، مقام محل أخينا الذي حسن الظن بمجده جميل ، وحدّ الكفر بسعده كليل ، وللإسلام فيه رجاء وتأميل ، ليس للقلوب عنه مميل ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى وعزمه الماضي لصولة الكفر قامعا ، وتدبيره الناجح لشمل الإسلام جامعا ، وملكه الموفّق لنداء (٣) الله مطيعا سامعا ، معظم مقداره ، وملتزم إجلاله وإكباره ، المعتدّ في الله بكرم شيمته وطيب نجاره ، المستظهر على عدوّ بإسراعه إلى تدمير الكافر وبداره.

سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد حمد الله مجيب دعوة السائل ، ومتقبل الوسائل ، ومتيح النعم الجلائل ، مربح (٤) من عامله في هذا الوجود الزائف الزائل ، والأيام القلائل ، بالمتاع الدائم الطائل ، والنعيم غير الحائل (٥) ، ومقيم أود الإسلام المائل ، بأولي المكارم من أوليائه والفضائل ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المنقذ من الغوائل ، المنجي من الرّوع الهائل ، الصادع بدعوة الحق الصائل ، بين العشائر والفصائل ، الذي ختم به وبرسالته ديوان الرسل والرسائل ، وجعله في الأواخر شرف الأوائل ، فحبه كنز العائل ، والصلاة عليه زكاة القائل ، والرضا عن آله وصحبه وعترته وحزبه تيجان الأحياء والقبائل ، المتميزين بكرم السجايا وطيب الشمائل ، والدعاء لمقام أخوّتكم في البكر والأصائل ، بالسعد الصادق المخايل ، والصنع الذي تتبرج مواهبه تبرج العقائل ، والنصر الذي تهز له الصّعاد (٦)

__________________

(١) يصرخ : يغيث ، وينجد هنا بمعناه.

(٢) ينجد : هنا يدخل نجدا ، ويتهم : يدخل تهامة.

(٣) في ه «لدين الله».

(٤) في أصل ه «مريح».

(٥) الحائل : الزائل.

(٦) الصعاد : جمع صعدة ، وهي القناة المستوية المستقيمة.

٣٠٣

الملد عطف المترانح المتخايل ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عزا يانع الخمائل ، ونصرا يكفل للكتائب المدونة في الجهاد ومرضاة رب العباد بسرد المسائل وإقناع السائل ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى! ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استبصار في التوكل على من بيده الأمور ، وتسبب مشروع تتعلق به بإذن الله تعالى أحكام القدر المقدور ، ورجاء فيما وعد به من الظهور ، يتضاعف على توالي الأيام وترادف الشهور ، والحمد لله كثيرا كما هو أهله ، فلا فضل إلا فضله ، ومقامكم المعروف محله ، الكفيل بالإرواء نهله وعلّه ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم ، وحرس مجدكم ، ووالى النعم عندنا وعندكم ، فإننا في هذه الأيام ، أهمنا من أمر الإسلام ، ما رنّق الشراب (١) ونغض الطعام ، وذاد المنام (٢) ، لما تحققنا من عمل الكفر على مكايدته ، وسعى الضّلّال ، والله الواقي ، في استئصال بقيته ، وعقد النوادي للاستشارة في شانه ، وشروع الحيل في هد أركانه ، ومن يؤمّل من المسلمين لدفع الردى وكشف البلوى وبث الشكوى ، وأهله حاطهم الله تعالى وتولاهم ، وتمم عوائد لطفه الذي أولاهم ، فهو مولاهم ، في غفلة ساهون ، وعن المغبة (٣) فيه لاهون ، قد شغلتهم دنياهم عن دينهم ، وعاجلهم عن آجلهم ، وطول الأمل ، عن نافع العمل ، إلا من نوّر الله تعالى قلبه بنور الإيمان وتململ بمناصحة الله تعالى والإسلام تململ السليم (٤) ، واستدل بالمشاهد على الغائب (٥) ، وصرف الكفر إلى مطالب الأمم النوائب ، فلما رأينا أن الدولة المرينية التي على ممر الأيام (٦) شجا العدا ، ومتوعد من يكيد الهدى ، وفئة الإسلام التي إليها يتحيز ، وكهفه الذي إليه يلجأ ، قد أذن الله تعالى في صلاح أمورها ، ولمّ شعثها ، وإقامة صغاها (٧) ، بأن صرف الله تعالى عنها هنات الغدر ، وأراحها من مس الضر ، ورد قوسها إلى يد باريها ، وصير حقها إلى وارثها ، وأقام لرعي مصالحها من حسن الظنّ بحسبه ودينه ، ورحي الخير من ثمرات نصحه ، ومن لم يعلم إلا الخير من سعيه والسداد من سيرته ، ومن لا يستريب المسلمون بصحة عقده ، واستقامة قصده ، أردنا أن نخرج لكم عن العهدة في هذا الدين الحنيف الذي وسمت دعوته وجوه أحبابكم شملهم الله تعالى بالعافية ، وتشبثت به أنفس من صار إلى الله تعالى من السلف تغمدهم الله بالرحمة والمغفرة ، وفي هذا القطر الذي بلاده ما بين مكفول يجب رعيه طبعا وشرعا ، وجار يلزم حقه دينا ودنيا وحمية وفضلا ، وعلى الحالين فعليكم بعد الله المعوّل ،

__________________

(١) رنق الشراب : كدره.

(٢) ذاد المنام : منعه وطرده.

(٣) المغبة : العقبى ، العاقبة ، النهاية.

(٤) السليم : الملدوغ.

(٥) في ب «بالشاهد على الغائب».

(٦) في ب «على مر الأيام».

(٧) في أ«صفاها». والصفا : الميل.

٣٠٤

وفيكم المؤمل ، فأرعونا أسماعكم (١) المباركة نقصّ عليكم ما فيه رضا الله ، والمنجاة من نكيره ، والفخر والأجر وحفظ النعم ، والخلف في الذرية ، بهذا وعدت الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، وهو أن هذا القطر الذي تعددت فيه المحاريب (٢) والمنابر ، والراكع والساجد والذاكر ، والعابد (٣) والعالم واللفيف ، والأرملة والضعيف ، قد انقطع عنه إرفاد الإسلام ، وشحت الأيدي به منذ أعوام ، وسلم إلى عبدة الأصنام ، وقوبلت ضرائره بالأعذار ، والمواعيد المستغرقة للأعمار ، وإن عرضت شواغل وفتن ، وشواغب وإحن (٤) ، فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته ، ولا يذهب المعروف بكليته : [الطويل]

ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك أو يسليك أو يتوجّع (٥)

ولو كانت الأشغاب تقطع المعروب وتصرف عن الواجب لم يفتح المقدّس والدكم جبل الفتح وهو منازل أخاه بسجلماسة (٦) ، ولا أمدّه ولده السلطان أبو عنان وهو بمراكش ، وبالأحس بعثنا إلى الجبل وسماته في جملة ما أهمنا مبلغ جهد وسداد من عوز ، وقد فضلت عن ضرائرنا أموال فرضت من أجل الله على عباده ، وطعام سمحنا به على الاحتياج إليه في سبيل جهاده ، فلم يسهم المتغلب منها لجانب الله بحبة ، ولا أقطعه منها ذرة مستخفا به جل وعلا ، متهاونا بنكيره الذي هو أحق أن يخشى ، فضاعت الأمور ، واختلت الثغور ، وتشذبت الحامية ، وتبدّدت العدد ، وخلت المخازن ، وهلكت بها الجراذن ، وعظمت بها حسرة الإسلام ، أضعاف ما عظمت حبرته أيام ما كانت تكفلها همم الملوك الكرام والخلفاء العظام ، والوزراء والنصحاء ، والأشياخ الأمجاد ، قدّس الله تعالى أرواحهم! وضاعف أنوارهم! ولا كالحسرة في الجبل باب الأندلس وركاب الجهاد وحسنة بني مرين ومآثر آل يعقوب وكرامة الله للسلطان المقدّس أبي الحسن والد الملوك وكبير الخلفاء والمجاهدين والدكم الذي ترد على قبره مع الساعات والأنفاس وفود الرحمة ، وهدايا الزلفة ، وريحان الجنة ، فلو لا أنكم على علم من أحواله لشرحنا المجمل ، وشكلنا المهمل ، إنما هو اليوم شيخ مائد (٧) ، وطلل بائد ، لو لا أن الله تعالى شغل العدا عنه بفتنة لم يصرف وجهه إلا إليه ، ولا حوّم طيره إلا عليه ، ولكان بصدد أن يتخذه الصليب دارا ، وأن يقر به عينا ، والعدوة فضلا عن الأندلس ، قد أوسعها شرا ، وأرهق ما يجاوره عسرا ، نسأل الله تعالى بنور وجهه أن لا يسوّد الوجوه

__________________

(١) أرعونا أسماعكم : أسمعونا جيدا.

(٢) في ب ، ه «المحارب» ومحاريب ومحارب جمع محراب.

(٣) في ه «والراكع والساجد والعابد والذاكر».

(٤) الإحن : جمع إحنه : وهي الحقد.

(٥) في ه «أو يتفجّع».

(٦) في ه «بسلجماسة».

(٧) كذا في ج. وفي ه «شيخ ماثل» وفي ب «شبح مائل».

٣٠٥

بالفجع فيه ، ولا يسمع المسلمين الثكلة ، وما دونه فهو ـ وإن أنعش بالتعليل عليله ، ووقع بالجهد خلقه ـ لحم على وضم (١) ، إلا أن يصل الله تعالى وقايته ، ويوالي دفاعه وعصمته ، لا إله إلا هو الولي النضير ، وما زلنا نشكو إلى غير المصمت ، ونمدّ اليد إلى المدبر عن الله المعرض ، ونخطب له زكاة الأموال من المباني الضخمة ، والخزائن الثرّة ، والأهراء الطامية ، والحظ التافه من المفترض برسمه ، فتمضي الأيام لا تزيد الضرائر فيها إلا ضيقا ، ولا الأحوال إلا شدّة ، ولا الثغر إلا ضعة ، ولا نعلم أن نظرا وقع له فكرا أعمل فيه إلا ما كان من تسخير رعيته الضعيفة ، وبلالة مجباه (٢) السخيفة ، في بناء قصر بمنت ميور من جباله : [الخفيف]

شاده مرمزا وجلّله كل

سا فللطّير في ذراه وكور (٣)

جلب إليه الزليج ، واختلفت فيه الأوضاع في رأس نيق ، لأمل نزوة ، وسوء فكرة ، فلما تم أقطع الهجران ، فهو اليوم ممتنع البوم وحظ الخراب ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، حتى جاء أمر الله خالي الصحيفة من البر ، صفر اليد من العمل الصالح ، نعوذ بالله من ذلك (٤) ، ونسأله الإلهام والسّداد ، والتوفيق والرشاد ، وقد بذلنا جهدنا قولا وفعلا ، وموعظة ونصحا ، واستدعينا لتلك الجهة صدقة المسلمين محمولة على أكتاد (٥) العباد الضعفاء الذين كانت صدقات فاتحيه رضي الله تعالى عنهم ترفدهم ، ونوافلهم (٦) تتعهدهم ، فما حرك ذلك الجؤار (٧) حلوبا ، ولا استدعى مطلوبا ، ولا رفدا مجلوبا ، فإلى متى تنضى ركاب الصبر وقد بلغ الغاية ، واستنفد البلالة ، بعد أن أعاد الله تعالى العهد ، وجبر المال ، وأصلح السعي ، وأجرى ينابيع الخير ، وأنشق رياح الإقالة ، وجملة ما نريد أن نقرره فهو الباب الجامع ، والقصد الشامل ، والداعي والباعث أن صاحب قشتالة لما عاد إلى ملكه ، ورجع إلى قطره ، جرت بيننا وبينه المراسلة التي أسفرت بعدم رضاه عن كدحنا لنصره ، ومظاهرتنا إياه على أمره ، وإن كنا قد بلغنا جهدا ، وأبعدنا وسعا ، وأجلت عن شروط ثقيلة لم نقبلها ، وأغراض صعبة لم نكملها ، ونحن نتحقق

__________________

(١) الوضم : الخشبة التي يستعملها القصاب ويقطع عليها اللحم.

(٢) في أصل ه «وبلالة محياه السخيفة».

(٣) البيت لعدي بن زيد العبادي.

(٤) في ب «نعوذ بالله من نكيره».

(٥) الأكتاد : جمع كتد وهو مجتمع الكتفين من الإنسان أو الفرس.

(٦) في ب «ونوافله تتعدهم».

(٧) الجؤار : رفع الصوت بالدعاء.

٣٠٦

إنه إما أن تهيج حفيظته (١) ، وتثور إحنته (٢) ، فيكشف وجه المطالبة مستكثرا بالأمة التي داس بها أهل قشتالة ، فراجع أمره غلابا ، وحقه ابتزازا واستلابا ، أو يصرفها ويهادن المسلمين بخلال ما لا يدع جهة من جهات دينه الغريب إلا عقد معها صلحا ، وأخذ عليها بإعانتها إياه عهدا ، ثم تفرغ إلى شفاء غليله ، وبلوغ جهده ، ولا شك أنها تجيبه صرفا لبأسه عن نحورها ، ومقارضة كما وقع باطريرة من مضيق صدورها ، ومؤسف جمهورها ، وكل من له دين ما فهو يحرص على التقرب إلى من دانه به وكلفه وظائف تكليف ، رجاء لو عده وخوفا من وعيده ، وبالله ندفع ما لا نطيق من جموع تداعت من الجزر ووراء البحور والبر المتصل الذي لا تقطعه الرفاق ، ولا تحصي ذرعه الحذاق (٣) ، وقد أصبحنا بدار غربة ، ومحل روعة ، ومفترس نبوة ، ومظنة فتنة ، والإسلام عدده قليل ، ومنتجعه في هذه البقعة جديب ، وعهده بالإرفاد والإمداد من المسلمين بعيد ، (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] إلى آخر السورة.

وإذا تداعت أمم الكفر نصرة لدينها المكذوب ، وحمية لصليبها المنصوب ، فمن يستدعي لنصر دين الله وحفظ أمانة نبيه إلا أهل ذلك الوطن؟ حيث المآذن بذكر الله تعالى تملأ الآفاق ، وكلمة الإسلام قد عمت الربا والوهاد ، إنما الإسلام غريق قد تشبّث بأهدابكم ، يناشدكم الله في بقية الرمق ، وقبل الرمي تراش السهام (٤) ، وهذا أوان الاعتناء ، واختيار الحماة ، وإعداد الأقوات ، قبل أن يضيق المجال ، وتمنع الموانع ، وقد وجهنا هذا الوفد المبارك للحضور بين يديكم مقرّرا الضرورة ، منهيا الرغبة ، مذكرا بما يقرب عند الله ، مذكّرا لذمام الإسلام ، جالبا على من وراءهم بحول الله تعالى من المسلمين البشرى التي تشرح الصدور ، وتسني الآمال ، وتستدعي الدعاء والثناء ، فالمؤمن كثير بأخيه ، ويد الله مع الجماعة ، والمسلمون يد على من سواهم ، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، والتعاون على البر والتقوى مشروع ، وفي الذكر الحكيم مذكور ، وحق الجار مشهور ، وما كان جبريل يوصي به في الصحيح مكتوب (٥) ، وكما راع المسلمين اجتماع كلمة الكفر ، فنرجو أن يروّع الكفر من العز بالله ، وشدّ الحيازيم في سبيل الله ، ونفير النفرة لدين الله ، والشعور لحماية (٦) الثغور وعمرانها ، وإزاحة عللها ، وجلب الأقوات إليها ، وإنشاء الأساطيل ، وجبر ما تلف من عدة البحر أمور

__________________

(١) الحفيظة : الغضب.

(٢) الإحنة : الحقد.

(٣) الحذاق : جمع حاذق ، وهو الماهر المدرب.

(٤) مثل معناه : يجب الاستعداد للأمر والتهيؤ له.

(٥) اعتمادا على الحديث الشريف «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

(٦) في ب ، ه «والشعور في حماية الثغور».

٣٠٧

تدل على ما وراءها ، وتخبر بمشيئة الله تعالى عما بعدها ، (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٦] ومن خطب علي رضي الله تعالى عنه : أما بعد ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فمن تركه رهبة ألبسه الله تعالى سيما الخسف ، ووسمه بالصّغار (١) ، وما بعد الدنيا إلا الآخرة ، وما بعد الآخرة إلا إحدى داري البقاء ، أفي الله شك؟ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] والاعتناء بالجبل عنوان هذا الكتاب ، ومقدمة هذا الباب ، والغفلة عنه منذ أعوام قد صيرتنا لا نقنع باليسير ، وقد أبرمته المواعيد ، وغيّر رسومه الانتظار ، ومن المنقول «ارحموا السائل ولو جاء على فرس» والإسراف في الخير أرجح في هذا المنحل من عكسه ، وكان بعض الأجواد يقول وقد أقتر (٢) : اللهم هب لي الكثير ، فإن حالي لا تقوم على القليل ، وعسى أن يكون النظر له بنسبة الغفلة عنه ، والامتعاض له مكافئا للإزراء به ، وخلو البحر يغتنم لإمداده وإرفاده ، قبل أن يثوب نظر الكفر إلى قطع المدد وسد البحر ، ومن ضيع الحزم ندم ، ولا عذر لمن علم ، والله عز وجل يطلع من قبلكم على ما فيه شفاء الصدور ، وجبر القلوب ، وشعب الصدوع ، وما نقص مال من صدقة ، وطعام الواحد كافي الاثنين (٣) ، والدين دينكم ، والبلاد بلادكم ، ومحل رباطكم وجهادكم ، وسوق حسناتكم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] وقد قلدنا العهد الحفيظ علينا ، المصروف العناية بفضل الله تعالى إلينا ، والله المستعان ، وعليه التكلان ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ انتهى.

وفي اعتقادي أن هذا المكتوب للسلطان أبي فارس عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن المريني ؛ وأن المراد بالمتغلب الوزير عمر بن عبد الله ظفر به أبو فارس المذكور واستقل بالملك بعد محو أثره ؛ حسبما ذكرناه في غير هذا المحل ؛ والله سبحانه أعلم.

ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه في استنهاض عزم صاحب فاس السلطان المريني لنصرة الأندلس ، ما نصه : المقام الذي يؤثر (٤) حظ الله إذا اختلفت الحظوظ وتعدّدت المقاصد ، ويشرع الأدنى منه إذا تفاضلت المشارع وتمايزت الموارد ، وتشمل عادة حلمه وفضله الشارد ، ويسع وارف ظله الصادر والوارد ، والغائب والشاهد ، ويعيد من نصر الله للإسلام العوائد ، ويسدّ الذرائع ويدرّ الفوائد ، مقام محل أخينا الذي حسنت في الملك سيره ، وتعاضد في الفضل خبره (٥) وخبره ، ودلت شواهد مداركه للحقوق ، وتغمده للعقوق ، على أن

__________________

(١) الوسم : العلامة.

(٢) أقتر : ضاق عيشه.

(٣) في ب «كاف لاثنين».

(٤) يؤثر : يفضل.

(٥) الخبر ـ بضم الخاء وسكون الباء ـ الاختبار.

٣٠٨

الله تعالى لا يهمله ولا يذره ، فسلك فخره متسقة درره ، ووجه ملكه شادخة غرره ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله رفيعا علاؤه! هامية لديه منن الله تعالى وآلاؤه (١)! مزدانة بكواكب السعد سماؤه! محروسة بعز النصر أرجاؤه! مكملا من فضل الله تعالى في نصر الإسلام ، وكبت عبدة الأصنام ، أمله ورجاؤه! معظم قدره الذي يحق له التعظيم ، وموقر سلطانه الذي له الحسب الأصيل والمجد الصّميم ، الداعي إلى الله تعالى باتّصال سعادته حتى ينتصف من عدوّ الإسلام الغريم (٢) ، ويتاح على يد (٣) سلطانه الفتح الجسيم ، فلان.

سلام كريم ، طيب عميم ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولا يخيب لمن أخلص الرغبة إليه أملا ، وموفي من ترك له حقه أجره المكتوب متمما مكملا ، وجاعل الجنة لمن اتقاه حق تقاته نزلا ، ملك الملوك الذي جل وعلا ، وجبار الجبابرة الذي لا يجدون عن قدره محيصا ولا من دونه موئلا (٤) ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي أنزل الله تعالى عليه (٥) الكتاب مفصّلا ، وأوضح طريق الرشد وكان مغفلا ، وفتح باب السعادة ولولاه كان مقفلا ، والرضا عن آله وأصحابه ، وعترته وأحزابه ، الذين ساهموه فيما مرّ وما حلا ، وخلفوه من بعد بالسّير التي راقت مجتلى ، ورفعوا عماد دينه فاستقام لا يعرف ميلا ، وكانوا في الحلم والعفو مثلا ، والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يلفى نصه صريحا لا متأوّلا ، والصنع الذي يبهر حالا ومستقبلا ، والعز الذي يرسو جبلا ، والسعد الذي لا يبلغ أمدا ولا أجلا ، فإنا كتبناه إليكم أصحب الله تعالى ركابكم حلف التوفيق (٦) حلّا ومرتحلا ، وعرفكم عوارف اليمن الذي يثير جذلا (٧) ، ويدعو وافد ـ الفتح المبين فيرد (٨) مستعجلا ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من التشيع لمقامكم حرس الله تعالى سلطانه ، ومهّد أوطانه ، إلا الخير الذي نسأل بعده تحسين العقبى (٩) ، وتوالي عادة الرحمى ، والحمد لله على التي هي أزكى ، وسدل جناح الستر الأضفى (١٠) ، وصلة اللطائف التي هي أكفل وأكفى ، وأبر وأوفى ، ومقامكم عندنا العدّة التي بها نصول ونرهب ، والعمدة التي نطيل في ذكرها ونسهب ، وقد

__________________

(١) هامية : هاطلة ، والآلاء : النعم.

(٢) الغريم : الخصم.

(٣) في ه «على يدي سلطانه».

(٤) محيصا : محيدا ، وموئلا : ملجأ.

(٥) في ه «الذي أنزل عليه الكتاب مفصلا».

(٦) في ب «حليف التوفيق».

(٧) الجذل : الفرح.

(٨) في أصل ه «ويرد».

(٩) العقبى : العاقبة ، النهاية.

(١٠) الأضفى : الأكثر زيادة وسعة.

٣٠٩

أوفدنا عليكم كل ما زاد لدينا ، أو فتح الله تعالى به علينا ، ونحن مهما شد المخنق بكم نستنصر ، أو تراخى ففي ودكم نستبصر ، أو فتح الله تعالى فأبوابكم نهني ونبشر ، وقررنا عندكم أن العدوّ في هذه الأيام توقف عن بلاد المسلمين فلم نصل منه إليها سريّة ، ولا بطشت له يد جريّة (١) ، ولا افترعت من تلقائه ثنيّة ، ولا ندري ألمكيدة تدبر ، أم آراء تنقض بحول الله وتتبّر (٢) ، أو لشاغل في الباطن لا يظهر ، وبعد ذلك وردت على بابنا من بعض كبارهم ، وزعماء أقطارهم ، مخاطبات يندبون فيها إلى جنوحها للسلم في سبيل النصح ، لأياد سلفت منّا لهم قررها ، ورسائل ذكرها ، فلم يخف عنا أنه أمر دبّر بليل ، وخبية تحت ذيل ، فظهر لنا أن نسبر الغور ، ونستفسر الأمر ، فوجهنا إليه ، على عادتنا مع سلفه لنعتبر ما لديه ، وننظر إلى بواطن أمره ، ونبحث عن زيد قومه وعمره ، فتأتي ذلك وجر مفاوضة في الصلح أعدنا لأجلها الرسالة ، واستشعرنا البسالة ، ووازنا الأحوال واختبرنا ، واعتززنا في الشروط ما قدرنا ، ونحن نرتقب ما يخلق الله تعالى من مهادنة تحصل بها الأفوات (٣) المهيأة للانتساف ، وتسكن ما ساء البلاد المسلمة من هذا الإرجاف ، ونفرغ الوقت لمطاردة هذه الآمال العجاف (٤) ، أو حرب يبلغ الاستبصار فيه غايته ، حتى يظهر الله تعالى في نصر الفئة القليلة آيته ، ولم نجعل سبب الاعتزاز فيما أردناه ، وشموخ الأنف فيما أصدرناه ، إلا ما أشعنا من عزمكم على نصرة الإسلام ، وارتقاب خفوق الأعلام ، والنهوض إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأن الأرض حمية لله تعالى قد اهتزت ، والنفرة (٥) قد غلبت النفوس واستفزت ، واستظهرنا بكتبكم التي تضمنت ضرب المواعد ، وشمرت عن السواعد ، وأن الخيل قد أطلقت إلى الجهاد في سبيل الله الأعنّة ، والثنايا سدتها بروق الأسنّة (٦) ، وفرض الجهاد قد قام به المؤمنون ، والأموال قد سمح بها المسلمون ، وهذه الأمور التي تمشت بقريبها أو بعيدها أحوال الإسلام ، والأماني المعدة لتزجية (٧) الأيام ، ثم اتصل بنا الخبر الكارث (٨) بما كان من حور العزائم المؤمنة بعد كورها (٩) ،

__________________

(١) جرية : أصلها جريئة ، فقلب الهمزة ياء ثم أدغمها في الياء.

(٢) تتبر : تهلك. وفي القرآن الكريم (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً).

(٣) في ب «الأقوات».

(٤) العجاف : جمع أعجف وعجفاء : والأعجف : الدقيق من الهزال. واستعملها هنا على سبيل الاستعارة.

(٥) في ه «والنعرة».

(٦) الثنايا : جمع ثنية ، وهي الطريق في الجبل. وبروق الأسنة : أراد لمعانها الذي يشبه البرق.

(٧) تزجية الأيام : دفعها برفق.

(٨) الخبر الكارث : الذي يشتد له الحزن لشدته وقسوته.

(٩) الحور : النقصان. والكور : الزيادة.

٣١٠

وتسويف مواعد النصرة بعد استشعار فورها ، وأن الحركة معملة إلى مراكش الجهة التي في يديكم زمامها ، وإليكم وإن تراخى الطول ترجع أحكامها ، والقطر الذي لا يفوتكم مع الغفلة ، ولا يعجزكم عن الصولة ، ولا يطلبكم إن تركتموه ، ولا يمنعكم إن طرقتموه وعركتموه ، فسقط في الأيدي الممدودة ، واختلفت المواعد المحدودة ، وخسئت الأبصار المرتقبة ، ورجفت (١) المعاقل الأشبة ، وساءت الظنون ، وذرفت العيون ، وأكذب الفضلاء الخبر ، ونفوا أن يعتبر ، وقالوا : هذا لا يمكن حيث الدين الحنيف ، والملك المنيف ، والعلماء الذين أخذ الله تعالى ميثاقهم ، وحمّل النصيحة أعناقهم ، هذا المفترض الذي يبعد ، والقائم الذي يقعد ، يأباه الله تعالى والإسلام ، وتأباه العلماء الأعلام (٢) ، وتأباه المآذن والمنابر ، وتأباه الهمم والأكابر ، فبادرنا نستطلع طلع هذا النبأ الذي إذا كان باطلا فهو الظن ، ولله المن ، وإن كان خلافه لرأي ترجّح ، وتنفّق بقرب الملك وتبجح ، فنحن نوفد كل من يقدم إلى الله تعالى بهذا القطر في شفاعه ، ويمد إليه كف ضراعه ، ومن يوسم بصلاح وعباده ، ويقصد في الدين بثّ إفاده ، يتطارحون عليكم في نقض ما أبرم ، ونسخ ما أحكم ، فإنكم تجنون به على من استنصركم عكس ما قصد ، وتحلون عليه ما عقد ، وهب العذر يقبل في عدم الإعانة ، وضرورة الاستعانة والاستكانة ، أي عذر يقبل في الإطراح ، والإعراض الصّراح (٣)؟ كأن الدين غير واحد ، كأن هذا القطر لكلمة الإسلام جاحد ، كأن ذمام الإسلام غير جامع ، كأن الله غير راء ولا سامع ، فنحن نسألكم الله الذي تساءلون به والأرحام ، ونأنف لكم من هذا الإحجام ، ونتطارح عليكم أن تتركوا حظكم في أهل تلك الجهة حتى يحكم الله بيننا وبين العدو الذي يتكالب علينا بإدباركم ، بعد ما تضاءل لاستنفاركم ولا نكلفكم غير اقتراب داركم ، وما سامكم المسلمون بها شططا ، ولا (٤) حملوكم إلا قصدا وسطا ، وما ذهبتم إليه لا يفوت ، ولا يبعد وقد تجاورت البيوت ، إنما الفائت ما وراءكم ، من حديث تأنف من سماعه أودّاؤكم (٥) ، ودين يشمت به أعداؤكم ، فأسعفوا بالشفاعة فيمن بتلك الجهة المراكشية قصدنا ، وحاشا إحسانكم أن يرى فيه ردّنا ، وأنتم بعد بالخيار فيما يجريه الله على يديكم من قدره ، أو يلهمكم إليه من نصره ،

__________________

(١) المعاقل : جمع معقل ، وهو الحصن. ورجفت المعاقل : ارتجت. والأشبة : أراد القوية ، والأشب في الأصل : الملتف المشتبك من الشجر.

(٢) في ب «العلماء والأعلام».

(٣) الصراح : الخالص الذي لا شائبة فيه.

(٤) في ب ، ه «وما حملوكم».

(٥) أوداؤكم : الذين يصفون لكم الود ، ويخلصون لكم.

٣١١

وجوابكم مرتقب بما يليق بكم ، ويجمل بحسبكم ، والله سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس (١) مجدكم ، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ومن إنشاء لسان الدين أيضا في مخاطبة سلطان فاس والمغرب على لسان سلطان غرناطة فيما يقرب من الأنحاء السابقة ، ما نصه :

المقام الذي أقمار سعده في انتظام واتّساق ، وجياد عزه إلى الغاية القصوى ذات استباق ، والقلوب على حبه ذات اتفاق ، وعناية الله تعالى عليه مديدة الرّواق ، وأياديه الجمة في الأعناق ، ألزم من الأطواق ، وأحاديث مجده سمر النوادي وحديث الرفاق ، مقام محل أبينا الذي شأن قلوبنا الاهتمام بشأنه ، وأعظم مطلوبنا من الله تعالى سعادة سلطانه ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحط ببابه ، والألطاف الخفية تعرّس في جنابه (٢) ، والنصر العزيز يحفّ بركابه ، وأسباب التوفيق متصلة بأسبابه ، والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه (٣) ، معظم سلطانه الذي له الحقوق المحتومة ، والفواضل المشهورة المعلومة ، والمكارم المسطورة المرسومة ، والمفاخر المنسوقة المنظومة ، الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة ، وحفظها على هذه الأمة المرحومة ، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر.

سلام كريم ، طيب برّ عميم ، كما سطعت في غيهب (٤) الشدة أنوار الفرج ، وهبت نواسم ألطاف الله عاطرة الأرج (٥) ، يخص مقامكم الأعلى ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله جالي الظلم بعد اعتكارها ، ومقيل الأيام من عثارها ، ومزيّن سماء الملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ، ومريح القلوب من وحشة أفكارها ، ومنشئ سحاب الرحمة على هذه الأمة بعد افتقارها ، وشدة اضطرابها واضطرارها ، ومتداركها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله صفوة النبوّة ومختارها ، ولباب مجدها السامي ونجارها (٦) ، نبي الملاحم وخائض تيّارها ، ومذهب رسوم الفتن ومطفئ نارها ، الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها ، حتى بلغت كلمة الله ما شاءت من سطوع أنوارها ، ووضوح آثارها ، والرضا عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على إجلاء الحوادث وإمرارها ، وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها ، والدعاء لمقامكم

__________________

(١) في ه «ويجري مجدكم».

(٢) تعرّس : تنزل وتحط.

(٣) في ب ، ه «مسرورة بإيابه».

(٤) الغيهب : شدة الظلمة.

(٥) الأرج : الرائحة الطيبة العطرة.

(٦) النجار ، بكسر النون : الأصل والحسب.

٣١٢

الأعلى باتصال السعادة واستمرارها ، وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها ، حتى تقف الأيام ببابكم موقف اعتذارها ، وتعرض على مثابتكم ذنوبها رغبة في اغتفارها ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم أوفى ما كتب لصالحي الملوك من مواهب إسعاده ، وعرّفكم عوارف الآلاء في إصدار أمركم الرفيع وإيراده ، وأرجى الفلك الدوار بحكم مراده ، وجعل العاقبة (١) الحسنى كما وعد به محكم كتابه المبين للصالحين من عباده ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ، وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد ، وإلى كنف فضله الاستناد ، ثم ببركة جاه نبينا الذي وضح بهدايته الرشاد ، إلا الصنائع التي تشام بوارق اللطف من خلالها (٢) ، وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها ، وتدلّ مخايل يمنها على حسن مآلها ، لله الحمد على نعمه التي نرغب في كمالها ، ونستدرّ عذب زلالها ، وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه ، والسرور بسعادة أيامه ، والدعاء إلى الله تعالى في إظهاره وإتمامه ، ما لا تفي العبارة بأحكامه ، ولا تتعاطى حصر أحكامه ، وإلى هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه (٣) ، وصان سلطانكم وتولاه ، فقد علم الحاضر والغائب ، وخلص الخلوص الذي لا تغيره الشوائب ، ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب ، وأننا لما اتصل بنا ما جرت به الأحكام من الأمور التي صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة ، وجعل على العباد والبلاد الوقاية والنعمة ، لا يستقر بقلوبنا القرار ، ولا تتأتى بأوطاننا الأوطار ، تشوّفا لما تتيحه (٤) لكم الأقدار ، ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار ، ورجاؤنا في استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوى ، علما بأن العاقبة للتقوى ، وفي هذه الأيام عمّيت الأنباء ، وتكالبت في البر والبحر الأعداء ، واختلفت الفصول والأهواء ، وعاقت الوارد (٥) الأنواء ، وعلى ذلك من فضل الله الرجاء ، ولو كنا نجد للاتصال بكم سببا ، أو نلفي لإعانتكم مذهبا ، لما شغلنا البعد الذي بيننا اعترض ، والعدو بساحتنا في هذه الأيام ربض ، وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة ، وافتنى منه (٦) في سوق الكساد بضاعة نافقة ، الشيخ الأجل الأوفى ، الأودّ الأخلص الأصفى ، أبو محمد ابن أحبانا سنى الله مأموله ، وبلغه من سعادة أمركم سوله ، وقد ورد على بابنا ، وتحيز إلى اللحاق

__________________

(١) في ج «وجعل لكم العاقبة الحسنى ...».

(٢) شام البرق : نظر إليه ليعلم أين يهطل المطر.

(٣) في أصل ه «أمركم وعلاكم».

(٤) في أصل ه «تشوقا لما تنتجه لكم الأقدار».

(٥) في ب ، ه «وعاقت الوراد».

(٦) في ب «واقتنى منه».

٣١٣

بجنابنا ، ليتيسر له من جهتنا القدوم ، ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم ، فبينما نحن ننظر في تتميم غرضه ، وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضه ، إذ اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان التي استعنتم بها على الحركة ، والعزيمة المقترنة بالبركة ، حطت إحداهما بمرسى المنكّب والأخرى بمرسى المريّة ، في كنف العناية الإلهية ، فتلقينا من الواصلين فيها الأنباء المحققة بعد التباسها ، والأخبار التي يغني نصّها عن قياسها ، وتعرفنا ما كان من عزمكم على السفر ، وحركتكم المعروفة باليمن والظفر ، وأنكم استخرتم الله تعالى في اللحاق بالأوطان التي يؤمّن قدومكم خائفها ، ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها ، ويصلح أحوالها ، ويسكن أهوالها ، وأنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور ، والسعد الموفور ، واليمن الرائق السفور ، والأسطول النصور ، فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها ، ونهوض طيور الرجاء من وكونها (١) ، واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها ، وتحقق ظنونها ، وارتياح البلاد إلى دعوتكم التي ألبستها ملابس العدل والإحسان ، وقلدتها قلائد السير الحسان ، وما منها إلا من باح بما يخفيه من وجده ، وجهر بشكر الله تعالى وحمده ، وابتهل إليه في تيسير غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده ، واستئناس نور سعده ، وكم مطل الانتظار بديون آمالها (٢) ، والمطاولة من اعتلالها ، وأما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنوّ حبيبه ، بعد طول مغيبه ، إنما هو صدر راجعه فؤاده ، وطرف ألفه رقاده (٣) ، وفكر ساعده مراده ، فلما بلغنا هذا الخبر بادرنا إلى إنجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد ، واغتنمنا ميقات هذا السعد ، ليصل سببه بأسبابكم ، ويسرع لحاقه بجنابكم ، فعنده خدم نرجو أن ييسر الله تعالى أسبابها ، ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها ، وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين له بالتشيع الكريم الودد ، ونصل له على بعد المزار ونزوح (٤) الأقطار سبب الاعتداد ، ما يغني عن القلم والمداد (٥) ، وقد ألقينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع العماد ، وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحدّ لهم ما يكون عليه عملهم في برّ من يرد عليهم (٦) من جهة أبوّتكم الكريمة ، ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة ، وهم يعملون في ذلك بحسب المراد ، وعلى شاكلة جميل الاعتقاد ، ويعلم

__________________

(١) الوكون : جمع وكن ، بفتح الواو وسكون الكاف ، وهو عش الطائر.

(٢) في ج «بديوان آملها» تحريف.

(٣) الرقاد : النوم.

(٤) في أصل ه «وتروح الأقطار بسبب الاعتداد».

(٥) المداد : الحبر.

(٦) في ه «من يرد عليه».

٣١٤

الله تعالى أننا لو لم تعق العوائق الكبيرة ، والموانع الكثيرة ، والاعداء الذين دهيت (١) بهم في الوقت هذه الجزيرة ، ما قدمنا عملا على اللحاق بكم ، والاتصال بسببكم ، حتى نوفي لأبوّتكم الكريمة حقها ، ونوضح من المسرة طرقها ، لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر ، والله العالم بالسرائر ، وإلى الله تعالى نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقا ، يجعل السعد لكم مصاحبا ورفيقا ، ولا يعدمكم عناية منه وتوفيقا ، ويتم سرورنا عن قريب بتعرف (٢) أنبائكم السارة ، وسعودكم الدارّة ، فذلك منه سبحانه غاية آمالنا ، وفيه إعمال ضراعتنا وابتهالنا (٣) ، هذه ما عندنا بادرنا لإعلامكم به أسرع البدار ، والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار ، بسعادة ملككم السامي المقدار ، وييسر ماله من الأوطار ، ويصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

وكان طاغية النصارى الملعون لكثرة ما مارس من أمور الأندلس وسلاطين فاس كثيرة ما يدسّ لأقارب الملوك القيام على صاحب الأمر ، ويزين له الثورة ، ويعده بالإمداد بالمال والعدّة ، وقصده بذلك كله توهين المسلمين (٤) ، وإفساد تدبيرهم ، ونسخ الدول بعضها ببعض ، لما له في ذلك من المصلحة ، حتى بلغ أبعده الله تعالى من أمله الغاية.

ومن إنشاء لسان الدين بن الخطيب ـ رحمه الله تعالى! ـ عن سلطان الأندلس إلى سلطان فاس المريني ، يعتذر عن فرار الأمير أبي الفضل المريني الذي كان معتقلا بغرناطة ، فتحيل الطاغية في أمره حتى خرج طالبا للملك ، ما نصه :

المقام الذي شهد الليل والنهار بأصالة سعادته ، وجرى الفلك الدوّار بحكم إرادته ، وتعود الظفر بمن يناويه فاطرد والحمد لله جريان عادته ، فوليّه متحقق لإفادته ، وعدوه مرتقب لإبادته ، وحلل الصنائع الإلهية تضفو (٥) على أعطاف مجادته ، مقام محل أخينا الذي سهم سعده صائب ، وأمل من كاده خاسر خائب ، وسير الفلك المدار في مرضاته دائب ، وصنائع الله تعالى له تصحبها الألطاف العجائب ، فسيان شاهد منه في عصمة وغائب ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى مسدّد السهم! ماضي العزم! تجل سعوده عن تصور الوهم! ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم! موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم! فائزا بفلج الخصام (٦) عند لد الخصم! معظم قدره ، وملتزم بره ، المبتهج بما يسببه الله تعالى له من إعزاز نصره ، وإظهار أمره ، فلان.

__________________

(١) في ج «الذين ذهبت بهم».

(٢) في ج «بتعريف».

(٣) في ب ، ه «ضراعتنا وسؤالنا».

(٤) توهين المسلمين : إضعافهم.

(٥) تضفو : تكثر وتزيد.

(٦) الفلج : النصر والفوز.

٣١٥

سلام كريم ، طيب برعميم ، يخص مقامكم الأعلى ، ومثابتكم (١) الفضلى ، التي حازت في الفخر الأمد البعيد ، وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد ، ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي فسح لملككم الرفيع في العز مدى ، وعرفه عوارف آلائه وعوائد النصر على أعدائه يوما وغدا ، وحرس سماه علائه بشهب ما قدره وقضائه (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] وجعل نجح (٢) آماله وحسن مآله قياسا مطردا ، فربّ مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه أهدى وما هدى ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نورا وهدى ، وحيا مراسم الحق وقد صارت طرائق قددا (٣) ، أعلى الأنام يدا ، وأشرفهم محتدا (٤) ، الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة جددا ، ونظفر بالنعيم الذي لا ينقطع أبدا ، والرضا عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته عمدا ، وأوضحوا من سبيل اتباعه مقصدا ، وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وسجّدا ، سيوفا على من اعتدى ، ونجوما لمن اهتدى ، حتى علت فروع ملته صعدا (٥) ، وأصبح بناؤها مديدا مخلدا ، والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا ، كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب ، على توالي الأحقاب ، فجعل سيفكم سفّاحا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم صنعا يشرح للإسلام خلدا ، ونصرا يقيم للدين الحنيف أودا (٦) ، وعزما يملأ أفئدة الكفر كمدا ، وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا ، ويسر لكم العاقبة الحسنى كما وعد به في كتابه العزيز والله أصدق موعدا ، من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية ، واعتقاد جميل صنع الله في البداية والنهاية ، والعلم بأن ملككم تحدّى من الظهور على أعدائه بآية ، وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية ، وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا لأصحاب الكرامة والولاية ، ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا ، ويسدل عليه من العصمة سجفا (٧) نقاسمه الارتياح (٨)

__________________

(١) المثابة : في الأصل : المكان الذي يرجع إليه الإنسان ، وأراد هنا الموطن. وفي التنزيل العزيز(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥].

(٢) في ب «نجح أعماله».

(٣) القدد : الطرائق. وفي التنزيل الحكيم (طَرائِقَ قِدَداً).

(٤) المحتد : الأصل.

(٥) في ه «مصعدا».

(٦) الأود : المعوج. وأقام أوده : جعله مستقيما.

(٧) السجف : الستر.

(٨) في أ، ج ، ه «فقاسمه الارتياح». والصواب ما أثبتناه وهو كذلك في ب.

٣١٦

لمواقع نعم الله تعالى نصفا ونصا ، ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا ، ونعدّ التشيع له مما يقربنا إلى الله زلفى ، ونؤمل من إمداده ونرتقب من جهاده وقتا يكفل به الدين ويكفى ، وتروى غلل النفوس (١) وتشفى ، وإلى هذا وصل الله سعدكم ، ووالى نصركم وعضدكم ، فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع الآمال ، والاغترار بموارد الآل (٢) ، وفال رأيه (٣) في اقتحام الأهوال ، وتورط في هفوة حار فيها حيرة أهل الكلام في الأحوال ، وناصب من أمركم السعيد جبلا قضى الله له بالاستقراء ، والاستقبال ، ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال؟ وأخلف الظن منّا في وفائه ، وأضمر عملا استأثر عنا بإخفائه ، واستعان من عدو الدين بمعين قلما يورى (٤) لمن استنصر به رند ، ولا خفق لمن تولاه بالنصر بند (٥) ، وإن الطاغية أعانه وأنجده ورأى أنه سهم على المسلمين سدده وعضب للفتنة جرّده (٦) ، فسخر له الفلك ، وأمل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك ، فأورده الهلك والظلم الحلك ، علمنا أن طرف سعادته كاب ، وسحاب آماله غير ذات انسكاب ، وقدم عزته لم يستقر من السداد في غرز ركاب ، فإن نجاح أعمال النفوس مرتبط بنيّاتها ، وغايات الأمور تظهر في بداياتها ، وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل ، ومن غالب أمر الله خاب منه المعوّل ، فبينما نحن نرتقب خسار تلك الصفقة المعقودة ، وخمود تلك الشعلة الموقودة ، وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار ، ويهدي طرف المسرات على أكف الاستبشار ، ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار ، عن الود الواضح وضوح النهار ، والتحقق بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار ، فأعاد في الإفادة وأبدى ، وأسدى من الفضائل الجلائل ما أسدى ، فعلم منه مآل من رام أن يقدح زند الشتات من بعد الالتئام (٧) ، ويثير عجاجة المنازعة من بعد ركود القتام (٨) ، هيهات تلك قلادة الله تعالى التي ما كان يتركها بغير نظام ، ولم يدر أنكم نصبتم له من الحزم حبالة لا يفلتها قنيص (٩) ، وسدّدتم له من السعد سهما ما له عنه من محيص (١٠) ، بما كان من إرسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره ، حائلا بينه وبين أوطاره ، فما كان إلا التسمية والإرسال ، ثم الإمساك والقتال ، ثم الاقتيات والاستعمال ، فيا له من زجر استنطق لسان الوجود فجدله (١١) ، واستنصر البحر فخذله ، وصارع القدر فجدله لما جد له ، وإن خدامكم استولوا على ما كان فيه

__________________

(١) الغلل : جمع غلة ، وهي شدة العطش.

(٢) الآل : السراب.

(٣) فال رأيه : ضعف.

(٤) أورى الزند يوري : قدح بالنار.

(٥) البند : العلم ، وجمعه بنود.

(٦) العضب : السيف الصارم.

(٧) الشتات : الفرقة بها ، والالتئام : الاجتماع.

(٨) القتام : الغبار.

(٩) القنيص : الصيد.

(١٠) محيص : محيد.

(١١) في أصل ه «فخذله».

٣١٧

من مؤمل غاية بعيدة ، ومنتسب إلى نسبة (١) غير سعيدة ، وشانىء غمرته من الكفار ، خدام الماء وأولياء النار ، تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشّفار (٢) ، وتحصل منهم من تخطاه الحمام في قبضة الإسار ، فعجبنا من تيسير هذا المرام ، وإخماد الله لهذا الضّرام ، وقلنا : تكييف لا يحصل في الأوهام ، وتسديد لا تستطيع إصابته السهام ، كلما قدح الخلاف زندا أطفأ سعدكم شعلته ، أو أظهر الشتات ألما أبرأ يمن طائركم علته ، ما ذاك إلا لنية صدقت معاملتها في جنب الله تعالى وصحت ، واسترسلت بركتها وسحّت ، وجهاد نذرتموه إذا فرغت شواغلكم وتمت ، واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التي أهمّت ، فنحن نهنيكم بمنح الله ومننه ونسأله أن يلبسكم من إعانته (٣) أوقى جننه ، فأملنا أن تطرد آمالكم ، وتنجح في مرضاة الله أعمالكم فمقامكم هو العمدة التي يدفع العدوّ بسلاحها ، وتنبلج (٤) ظلمات صفاحها ، وكيف لا نهنيكم بصنع على جهتنا يعود ، وبآفاقنا تطلع منه السعود ، فتيقنوا ما عندنا من الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت واكتفت ، وديمه بساحة الود قد وكفت (٥) ، والله عز وجل يجعل لكم الفتوح عادة ، ولا يعدمكم عناية وسعادة ، وهو سبحانه يعلي مقامكم ، وينصر أعلامكم ، ويهني الإسلام أيامكم ، والسلام الكريم يخصكم ، ورحمة الله وبركاته. انتهى.

وكان سلطان الأندلس في الأزمان المتأخرة كثيرا ما يشم أرج (٦) الفرج في سلم الكفار ومهادنتهم ، حيث لم يقدر في الغالب على مقاومتهم ، ولذلك لما قتل السلطان أبو الحجاج الذي كان لسان الدين كاتبه ووزيره ، وقام بالأمر بعده ابنه محمد الغني بالله الذي ألقى مقاليده للسان الدين ـ أكّد أمر السلم ، وانتظم ما يبرمه القضاء الجزم ، والقدر الحتم.

ومن إنشاء لسان الدين في ذلك على لسان الغني مخاطبا لسلطان فاس والمغرب أبي عنان ما صورته :

المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده ، ويهز إلى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ، ونستضيء (٧) عند إظلام الخطوب بنور سعوده ، ونرث من الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد

__________________

(١) في ب «إلى نصبة».

(٢) العوالي : الرماح. والشفار : السيوف.

(٣) في أصل ه «اعتنائه أو في جنته» والجنن : الدروع.

(٤) انبلج : اشتد ظهوره ، ووضح.

(٥) الديم : جمع ديمة ، وهي المطر الدائم.

ووكفت : تتابع نزولها.

(٦) الأرج : الريح الطيبة.

(٧) في نسخة عن ه «ونستضيء عن إظلام الخطوب» وما أثبتناه أحسن ، وهو في النسخ كلها.

٣١٨

عن آبائه وجدوده ، مقام محل أبينا الذي رعي الأذمة شانه ، وضلة الرعى سجية انفرد بها سلطانه ، ومواعد النصر (١) ينجزها زمانه ، والقول والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه ، وتطابق فيهما إسراره وإعلانه ، السلطان الكذا بين السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله تعالى محروسا من غير الأيام (٢) جنابه ، موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه ، مسدولا على ذاته الكريمة ستر الله تعالى وحجابه ، مصروفا عنه من صروف (٣) القدر ما يعجز عن رده بوّابه ، ولا زال ملجأ تنفق (٤) لديه الوسائل التي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ، ويسطر في صحف الفخر ثوابه ، وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه ، وتتكفل بنصر الإسلام وجبر القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتّابه (٥) ، معظّم ما عظم من حقه السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب (٦) طرقه ، المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه ، الأمير عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر.

سلام كريم ، طيب بر عميم ، يخص مقامكم الأعلى ، ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله ، مصرف الأمر بقدرته وحكمته (٧) وعدله ، الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله ، مقدر الآجال والأعمال فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله ، جاعل الدنيا مناخ قلعة لا يغتبط العاقل بمائه ولا بظله ، وسبيل رحلة فما أكثب (٨) ظعنه من حله ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله ، الذي نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله ، ونمد يد الافتقار إلى فضله ، ونجاهد في سبيله من كذب به أو حاد عن سبله ، ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله ، والرضا عن آله وأحزابه وأنصاره وأهله ، المستولين من ميدان الكمال على خصله ، والدعاء لمقامكم الأعلى بعز نصره ومضاء فضله ، فإنا كتبناه إليكم ـ كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها ، وعصمة ترجع عنها سهام النوائب كلما فوّقها الدهر ورماها (٩) ، وعناية لا تغير الحادث اسمها ولا مسمّاها ، وعزا يزاحم أجرام الكواكب منتماها! ـ من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم الله سبحانه تتواتر لدينا دفعا ونفعا ، وألطافه نتعرفها وترا وشفعا (١٠) ،

__________________

(١) في نسخة «ومواعيد النصر» وكلاهما صحيح.

(٢) غير الأيام : أحداثها المتغيرة.

(٣) في ب «من صرف القدر».

(٤) تنفق : تروج.

(٥) الكتائب : جمع كتيبة وهي الفرقة من الجيش.

والكتاب جمع كاتب.

(٦) الطريق اللاحب : الواضح.

(٧) في ب ، ه «بحكمته وقدرته وعدله».

(٨) أكثب : أقرب. والظعن : الارتحال ، والحل النزول والإقامة.

(٩) فوّق السهم : سدده وجهزه للرمي.

(١٠) وترا وشفعا : فردا وزوجا.

٣١٩

ومقامكم الأبوي هو المستند الأقوى ، والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروى ، وتهوي إليه أفئدتهم فتجد ما تهوى (١) ، ومثابتكم العدّة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم ، وأبقى مجدكم ، فإننا لما نعلم من مساهمة مجدكم التي تقتضيها كرام الطباع وطباع الكرم ، وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم ، نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع الله تعالى عن ارتقائه ، وإمتاع المسلمين ببقائه ، بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه الله تعالى بالشهادة (٢) ، التي ألبسه حلتها ، والشهادة التي في أعماله الزكية كتبها ، والدرجة العالية التي حتمها (٣) له وأوجبها ، وبما تصير إلينا من أمره ، وضم بنا من نشره ، وسدل على من خلفه من ستره ، وإنها لعبرة لمن ألقى السمع ، وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع ، وحادثة أجمل الله سبحانه فيها الدفع ، وشرح مجملها وإن أخرس اللسان هولها ، وأسلم العبارة قوتها وحولها ، أنه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة سنة هذا العيد ، مستشعرا شعار كلمة التوحيد ، مظهرا سمة الخضوع (٤) للمولى الذي تضرع بين يديه رقاب العبيد ، آمنا بين قومه وأهله ، متسربلا في حلل نعم الله تعالى وفضله ، قرير العين باكتمال عزه واجتماع شمله ، قد احترس بأقصى استطاعته ، واستظهر بخلصان طاعته ، والأجل المكتوب قد حضر ، والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر ، وسجد بعد الركعة الثانية من صلاته ، أتاه أمر الله لميقاته ، على حين الشباب غضّ جلبابه (٥) ، والسلاح زاخر عبابه ، والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه ، وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ كتابه ، ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب ، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب ، إلّا شقي قيضه الله لسعادته غير معروف ولا منسوب ، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب ، تخلّل الصفوف المعقودة ، وتجاوز الأبواب المسدودة ، وخاض الجموع المشهودة ، والأمم المحشورة (٦) إلى طاعة الله المحشودة ، لا تدل العين عليه شارة ولا بزّة ، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة ، وإنما هو خبيث ممرور ، وكلب عقور ، وحية سمها وحيّ (٧) محذور ، وآلة مصرّفة لينفذ بها قدر مقدور ، فلما طعنه وأثبته ، وأعلق به

__________________

(١) تهوي إليه أفئدتهم : تسير. وتجد ما تهوى : تجد ما تحب.

(٢) في ب «نفعه الله بالسعادة».

(٣) حتمها : أوجبها.

(٤) سمة الخضوع : علامته.

(٥) في ه «على غض الشباب عض جلبابه». تحريف. وقد أثبتنا ما في بقية النسخ وهو الصواب.

(٦) في نسخة عند ه «والجموع المحشورة».

(٧) سم وحي : سريع الفتك.

٣٢٠