نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك (١) الطوائف بني عباد وبني ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتظمت في سلك اللّمتونيين ، وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ.

ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين علي بن يوسف ، وسلك سنن أبيه وإن قصّر عنه في بعض الأمور ، ودفع العدو عن الأندلس مدة ، إلى أن قيض الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسّس دولة الموحدين ، فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش ، ولكنه ملك كثيرا من البلاد ، فاستخلف عبد المؤمن بن علي ، فكان من استيلائه على مملكة اللمتونيين ما هو معروف ، ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيرا منها ، ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية ، وملك بلاد إفريقية وضخم ملكه ، وتسمّى بأمير المؤمنين (٢).

ولما كانت سنة ٥٤٥ سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس ، فحاصرها ، وكان أهلها في غلاء شديد ، فبلغ الخبر عبد المؤمن ، فجهز إليهم جيشا يحتوي على اثني عشر ألف فارس ، فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها ، وكان فيها القائد أبو الغمر السائب ، فسلمها إلى صاحب جيش عبد المؤمن بن يحيى بن ميمون ، فبات فيها ، فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم ، ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه ، فلما عاين ذلك رتب هنالك ناسا ، وعاد إلى عبد المؤمن ، ثم رحل الفرنج إلى ديارهم.

وفي السنة بعدها دخل جيش عبد المؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفا عليهم الهنتاتي (٣) ، فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما ، فدخلوا تحت طاعة الموحّدين ، وحرصوا (٤) على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس ، وبلغ ذلك ابن مردنيش ، فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده (٥) ، فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس ، وسار صاحب جيش عبد المؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش ، فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي ، فرجع ، ونازل مدينة المريّة وهي بأيدي الروم ، فحاصرها ، فاشتد الغلاء

__________________

(١) في ه «ملك الطوائف» بدون كلمة «ملوك».

(٢) في ب «بأمير المسلمين».

(٣) في نسخة عند ه «الهتناتي». وفي أخرى «الهتاني».

(٤) في أصل ه «وحرضوا».

(٥) يستنجده : يطلب منه أن ينجده.

٢٨١

في عسكره ، فرجع إلى إشبيلية ، فأقام فيها ، وسار عبد المؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر.

ثم سار عبد المؤمن سنة ٥٤٧ إلى المهدية فملكها (١) ، وملك إفريقية ، وضخم ملكه كما قدمناه.

ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبد المؤمن ، ولما تمهدت له الأمور ، واستقرت قواعد ملكه ، رحل إلى جزيرة الأندلس (٢) لكشف مصالح دولته ، وتفقد أحوالها (٣) ، وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة ، وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحّدين والعرب ، فنزل بحضرة إشبيلية ، وخافه ملك شرق الأندلس مرسية وما انضاف إليها الأمير الشهير أبو عبد الله (٤) محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ، وحمل على قلب ابن مردنيش ، فمرض مرضا شديدا ومات ، وقيل : إنه سم ، ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية ، فدخلوا تحت حكمه ، وسلّموا لأحكامه البلاد ، فصاهرهم ، وأحسن إليهم ، وأصبحوا عنده في أعز مكان ، ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج ، فاتسعت مملكته بالأندلس ، وصارت سراياه تعبر (٥) إلى باب طليطلة ، وقيل : إنه حاصرها ، فاجتمع الفرنج كافة عليه ، واشتد الغلاء في عسكره ، فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه ، ثم ذهب إلى إفريقية ، فمهّدها ، ثم رجع إلى حضرته مراكش ، ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين خمسمائة ومعه جمع كثيف ، وقصد غربي بلادها ، فحاصر مدينة شنترين ، وهي من أعظم بلاد العدو ، وبقي محاصرا لها شهرا ، فأصابه المرض ، فمات في السنة المذكورة ، وحمل في تابوت إلى إشبيلية ، وقيل : أصابه سهم من قبل الإفرنج ، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال.

وفي ابنه السيد [أبي] إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى : [السريع]

سعد كما شاء العلا والفخار

تصرّف الليل به والنّهار

ما دانت الأرض لكم عنوة

وإنّما دانت لأمر كبار (٦)

__________________

(١) في المعجب ٢٩٨ : «سار عبد المؤمن إلى المهدية سنة ٥٤٣».

(٢) في ب «دخل إلى جزيرة الأندلس».

(٣) انظر تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري ٣ : ٨٨ ط المغرب.

(٤) في بعض النسخ «أبو عبيد الله».

(٥) في ب «تغير».

(٦) عنوة : رغما. وأمر كبار : كبير.

٢٨٢

مهدتموها فصفا عيشها

واتّصل الأمن ، فنعم القرار (١)

ومنها :

فالشّاة لا يختلها ذئبها

وإن أقامت معه في وجار (٢)

ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن ، فقام بالأمر أحسن قيام ، ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر (٣) بقصيدة طويلة أجاد فيها ، وأولها : [الكامل]

جلّ الأسى فأسل دم الأجفان

ماء الشؤون لغير هذا الشّان

ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين ، ورفع راية الجهاد ، ونصب ميزان العدل ، وبسط الأحكام الشرعية ، وأظهر الدين ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وأقام الحدود على القريب والبعيد ، وله في ذلك أخبار ، وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكاتمي (٤) الأسود الشاعر المشهور : [الوافر]

أزال حجابه عنّي وعيني

تراه من المهابة في حجاب

وقرّبني تفضّله ولكن

بعدت مهابة عند اقترابي

وكثرت الفتوحات في أيامه ، وأول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس ، فنظر في شأنها ، ورتب مصالحها ، وقرر المقاتلين في مراكزهم ، ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة ، وفي سنة ٥٨٦ بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس ، فتوجه إليها بنفسه ، وحاصرها ، وأخذها ، وأنفذ في الوقت جيشا من الموحّدين والعرب ، ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التي كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة ، وخافه صاحب طليطلة ، وسأله الهدنة والصلح ، فهادنه خمس سنين ، وعاد إلى مراكش ، وأنشد القائد (٥) أبو عبد الله بن وزير الشّلبي وهو من أمراء كتائب (٦) إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنج كان الشّلبي المذكور مقدما فيها : [الطويل]

__________________

(١) في ج ، ه «واتصل الابن فنعم القرار».

(٢) الوجار : حجر الضبع وغيرها.

(٣) في أ«ابن جحر».

(٤) في ب «الكانمي».

(٥) في ب «وأنشد القائد أبو بكر بن عبد الله بن وزير الشلبي ...».

(٦) في أ«من أمراء كتاب إشبيلية» وقد أثبتنا ما في ب.

٢٨٣

ولما تلاقينا جرى الطّعن بيننا

فمنّا ومنهم طائحون عديد (١)

وجال غرار الهند فينا وفيهم

فمنّا ومنهم قائم وحصيد

فلا صدر إلّا فيه صدر مثقّف

وحول الوريد للحسام ورود

صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا

كلانا على حرّ الجلاد جليد

ولكن شددنا شدّة فتبلدوا

ومن يتبلّد لا يزال يحيد

فولّوا وللسّمر الطوال بهامهم

ركوع وللبيض الرّقاق سجود (٢)

رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج : ولما انقضت مدة الهدنة ، ولم يبق منها إلا القليل ، خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين ، فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثا فظيعا ، فانتهى الخبر إليه ، فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتّبة (٣) ، واحتفل في ذلك ، وجاز إلى الأندلس سنة ٥٩١ ، فعلم به الإفرنج ، فجمعوا جمعا كثيرا من أقاصي بلادهم وأدانيها ، وأقبلوا نحوه ، وقيل : إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضا شديدا ، ويئس منه أطباؤه ، فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس ، وانتهز الفرصة ، وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان ، فأرسل الأذفونش يتهدد ويتوعد ، ويرعد ويبرق ، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس ، وخلاصة الأمر أن المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى ، وتزاحف الفريقان ، فكان المصافّ شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة ٥٩١ ، فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين.

وحكي أن يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى بن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذي ملك بعد ذلك إفريقية ، وخطب له ببعض الأندلس ، فقصد الإفرنج الأعلام ظنا أن السلطان تحتها ، فأثروا في المسلمين أثرا قبيحا ، فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم ، فهزمهم شر (٤) هزيمة ، وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة ، وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر.

وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفا ، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد ، ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه ، وربما (٥) صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة.

__________________

(١) طائحون : هالكون.

(٢) السمر : الرماح. والبيض : السيوف.

(٣) في ه «مكتتبه».

(٤) في أصل ه «أشر هزيمة».

(٥) في ه «وإنما صرح بعض المؤرخين».

٢٨٤

وقيل : إن فل (١) الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح ، فتحصنوا بها ، فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها ، وكانت قبل للمسلمين ، فأخذها العدو ، فردت في هذه المرة ، ثم حاصر طليطلة ، وقاتلها أشد قتال ، وقطع أشجارها ، وشنّ الغارات على أرجائها ، وأخذ من أعمالها حصونا ، وقتل رجالها ، وسبى حريمها ، وخرب منازلها ، وهدم أسوارها ، وترك الإفرنج في أسوأ حال ، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة ، ثم رجع إلى إشبيلية ، وأقام إلى سنة ٥٩٣ ، فعاد إلى بلاد الفرنج ، وفعل فيها الأفاعيل ، فلم يقدر العدو على لقائه ، وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت ، فطلبوا الصلح ، فأجابهم إليه ، لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام.

ثم توفي السلطان يعقوب سنة ٥٩٥.

وما يقال «إنه ساح في الأرض ، وتخلى عن الملك ، ووصل إلى الشام ، ودفن بالبقاع» لا أصل له ، وإن حكى ابن خلكان بعضه.

وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم ، وقال : إن ذلك في هذيان العامة ، لولوعهم بالسلطان المذكور.

وولي بعده ولده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين ، وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص ، فإنه جمع جموعا اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب «الذخيرة السنية ، في تاريخ الدولة المرينية» (٢) ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش ، فصافّ الإفرنج ، فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التي خلا بسببها أكثر المغرب ، واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها ، ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جدا لم يبلغ الألف فيما قيل ، وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس ، بل والمغرب جميعا ، وما ذاك إلا لسوء التدبير ، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخفّ بهم الناصر ووزيره ، فشنق (٣) بعضهم ، ففسدت النيات ، فكان ذلك من بخت الإفرنج (٤) ، والله غالب على أمره ، وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة ٦٠٩ ، ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد.

ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر ، وكان مولعا بالراحة ، فضعفت الدولة في أيامه ، وتوفي سنة ٦٢٠.

__________________

(١) فل القوم : بقاياهم بعد هزيمتهم.

(٢) انظر الذخيرة السنية ص ٤١.

(٣) في ه «وشنق بعضهم».

(٤) من بختهم : من حظهم.

٢٨٥

فتولى عم أبيه عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن ، فلم يحسن التدبير ، وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور ، فرأى أنه أحق بالأمر ، فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة ، ولما خلع عبد الواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس ، وتصافّ معهم ، فانهزم ومن معه من المسلمين هزيمة شنعاء ، فكانت الأندلس قرحا على قرح ، فهرب العادل ، وركب البحر يروم مراكش ، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلاء إدريس ، ودخل العادل مراكش بعد خطوب (١) ، ثم قبض عليه الموحّدون ، وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور ، فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية ، وبايعه أهل الأندلس ، ثم بايعة أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس ، فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي ، ودعا إلى بني العباس ، فمال الناس إليه ، ورجعوا عن أبي العلاء ، فخرج عن الأندلس ـ أعني أبا العلاء ـ وترك ما وراء البحر لابن هود ، ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى بن الناصر إلى أن قتل يحيى ، وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب ، دون الأندلس ، ثم مات سنة ٦٣٠.

وبويع ابنه الرشيد ، وبايعه بعض أهل الأندلس ، ثم توفي سنة ٦٤٠.

وولي بعده أخوه السعيد ، وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة ٦٤٦.

وولى بعده المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن ، وفي سنة ٦٦٥ دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس (٢) ، ففر ، ثم قبض ، وسيق إلى الواثق ، فقلته ، ثم قتل الواثق بنو مرين سنة ٦٦٨ ، وبه انقرضت دولة بني عبد المؤمن ، وكانت من أعظم الدولة الإسلامية ، فاستولى بنو مرين على المغرب ، وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس ، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ، وقتله غدرا وزيره ابن الرميمي بالمرية ، واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق الكلمة ، فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون.

ثم آل الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر ، وخطب ببعض (٣) الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفريقية ، وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا ، وأعدناه لتناسق الحديث ، ولما في بعضه من زيادة الفائدة على البعض الآخر ، وذلك لا يخفى على المتأمل ، وقد بسطنا في الباب الثالث أحوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما ، رحم الله تعالى الجميع!.

__________________

(١) بعد خطوب : بعد مصائب.

(٢) في بعض النسخ «بأبي دبوش».

(٣) في ب «وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي».

٢٨٦

ثم استفحل (١) ملك يعقوب بن عبد الحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس ، فانتصر به أهل الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم ، فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة ، حتى قال بعضهم : ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه (٢) ، ويقال : إنه قتل من جيشه أربعين ألفا ، وهزمهم أشد هزيمة ، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد ، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك ، وأعز الله تعالى به الدين ، بعد تمرد الفرنج المعتدين.

ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب ، ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذا به (٣) ، وقبّل يده ، ورهن عنده تاجه ، فأعانه على استرجاع ملكه.

ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال ، وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة ، فكانت لهم وقائع في العدو (٤) مذكورة ، ومواقف مشكورة ، وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة ، وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة.

ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني ، وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس واهتم بذلك غاية الاهتمام ، فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء ، وكان الإفرنج جمعوا جموعا كثيرة برسم الاستيلاء على ما بقي للمسلمين بالأندلس ، فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور ، فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز (٥) ومحل أساطيل المسلمين ، فإذا بالإفرنج جاؤوا بالسفن التي لا تحصى ، ومنعوه العبور ، وأغاثه أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء ، وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية ، ولله الأمر.

وقد أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي ، رحم الله تعالى الجميع!.

__________________

(١) استفحل : عظم.

(٢) في ج «ذونند».

(٣) لائذا به : ملتجئا إليه.

(٤) في ج «وقائع في العدوة».

(٥) في بعض النسخ «فرصة المجتاز».

٢٨٧

وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسلمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح بن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون ، ووصل إلى مصر في النصف ـ وقيل : في العشر الأواخر ـ من شعبان المكرم سنة ٧٤٥ بعد البسملة والصلاة : من عند أمير المسلمين (١) ، المجاهد في سبيل الله رب العالمين ، المنصور بفضل الله المتوكل عليه ، المعتمد في جميع أموره لديه ، سلطان البرين ، حامي العدوتين ، مؤثر المرابطة والمثاغرة (٢) ، موازر حزب الإسلام حقّ الموازرة ، ناصر الإسلام ، مظاهر دين الملك العلّام ، ابن مولانا أمير المسلمين ، المجاهد في سبيل رب العالمين ، فخر السلاطين ، حامي حوزة الدين ، ملك البرين ، إمام العدوتين ، ممهد البلاد ، مبدّد شمل الأعاد ، مجند الجنود ، المنصور الرايات والبنود (٣) ، محط الرحال ، مبلغ الآمال ، أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين ، المجاهد في سبيل رب العالمين ، حسنة الأيام ، حسام الإسلام ، أبي الأملاك ، مشجي أهل (٤) العناد والإشراك ، مانع البلاد ، رافع علم الجهاد ، مدوّخ أقطار الكفار ، مصرخ (٥) من ناداه للانتصار ، القائم لله بإعلاء دين الحق ، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، أخلص الله لوجهه جهاده! ويسر في قهر عداة الدين مراده!.

إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدرا تمّا ، وصدع بأنواع الفخار فجلا ظلاما وظلما ، وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علما وأحياها رسما ، حائط الحرمين ، القائم بحفظ القبلتين ، باسط الأمان ، قابض كف العدوان ، الجزيل النوال ، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والأموال ، قطب المجد وسماكه ، حبّ الحمد وملاكه (٦) ، السلطان الجليل الرفيع الأصيل ، الحافل العادل ، الفاضل الكامل ، الشهير الخطير ، الأضخم الأفخم ، المعان المؤزر ، المؤيد المظفر ، الملك الصالح أبو الوليد إسماعيل ، ابن محل أخينا الشهير علاؤه ، المستطير في الآفاق ثناؤه ، زين الأيام والليال ، كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال ، وارث الدول ، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل ، حامي القبلتين بعدله وحسامه ، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه ، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها ، هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها ، السلطان الأجل ، الهمام الأحفل ، الأفخم الأضخم ، الفاضل العادل ، الشهير الكبير ، الرفيع الخطير ، المجاهد المرابط ، المقسط عدله في الجائر والقاسط ، المؤيد المظفر ، المنعم المقدس المطهر ، زين السلاطين ، ناصر الدنيا والدين ، أبي

__________________

(١) في ب «من عند عبد الله أمير المسلمين».

(٢) المثاغرة : المرابطة في الثغور لقتال العدو.

(٣) البنود : جمع بند ، وهو العلم هنا.

(٤) في ب «شجا أهل العناد».

(٥) مصرخ : مجيب أو مغيث.

(٦) في ج «حسب الحمد وملاكه».

٢٨٨

المعالي محمد ، ابن الملك الأرضى ، الهمام الأمضى ، والد السلاطين الأخيار ، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار (١) ومحيي رسوم الجهاد ، معلي كلمة الإسلام في البلاد ، جمال الأيام ، ثمال الأعلام ، فاتح الأقالم (٢) ، صالح ملوك عصره المتقادم ، الإمام المؤيد ، المنصور المسدد ، قسيم أمير المؤمين فيما تقلد ، الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون ، مكن الله له تمكين أوليائه ، ونمّى دولته التي أطلعها [له](٣) السعد شمسا في سمائه ، وأحسن إيزاعه للشكر أن جعله وارث آبائه!.

سلام كريم يفاوح زهر الربا مسراه ، وينافح نسيم الصبا مجراه ، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته ، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله مالك الملك ، جاعل العاقبة للتقوى صدعا باليقين ودفعا للشك ، وخاذل من أسرّ في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك (٤) ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك ، ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السّلك ، ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة (٥) محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك ، والرضا عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السّلك ، وملكوا أعنّة هواهم فلزموا من محجّة الصواب أنجح السلك ، وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصا على السّبك ، والدعاء لأولياء الإسلام ، وحماته الأعلام ، بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك ، ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك ، فكتبناه إليكم ، كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم! من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة ، وصنع الله سبحانه يعرّف مذاهب الألطاف ، ويكيف مواهب تلهج الألسنة (٦) في القصور عن شكرها بالاعتراف ، ويصرف من أمره العظيم ، وقضائه المتلقّى بالتسليم ، ما يتكوّن بين النون والكاف ، ومكانكم العتيد سلطانه ، وسلطانكم المجيد مكانه ، وولاؤكم الصحيح برهانه ، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه ، وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكينا ، وأفاد مقامكم تحصينا وتحسينا ، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلا مبينا.

__________________

(١) في ه «والنظار» تحريف.

(٢) الأقالم : الأقاليم.

(٣) ما بين حاصرتين غير موجود في ب.

(٤) الدخن : الفساد ، والحقد. والإفك : الافتراء والكذب.

(٥) مادت : ارتجت.

(٦) تلهج الألسنة بالاعتراف : تولع به وتثابر عليه.

٢٨٩

فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى ، بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدّسه ، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه ، من مواخاة أحكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة ، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوّذتاها المحبة والنية الصالحة ، فانعقدت على التقوى والرضوان ، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان (١) ، حتى استحكمت وصلة الولاء ، والتأمت كلحمة النسب لحمة الإخاء ، فما كان إلا وشيكا من الزمان ، ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ، ورد وارد أورد رنق المشارب (٢) ، وحقق قول ومن «يسأل الركبان عن كل غائب» أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية ، وإكنان درته السنية ، وانقلابه إلى ما أعدّ له من المنازل الرضوانية ، بجليل ما وقر لفقده في الصدور ، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور ، حنانا للإسلام بتلك الأقطار ، وإشفاقا من أن يعتور (٣) قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار ، ومساهمة في مصاب الملك الكريم ، والولي الحميم ، ثم عميت الأخبار ، وطويت طي السجل الآثار ، فلم نر مخبرا صدقا ، ولا معلما بمن استقر له ذلكم الملك حقا ، وفي أثناء ذلك حفزنا (٤) للحركة عن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها ، وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها ، ونحن أثناء ذلكم الشأن ، نستخبر الوراد من تلكم البلدان ، عما أجلي عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان ، فبعد لأي وقعنا منها على الخبير ، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير ، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه ، وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه ، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها ، وأبرأ من أدواء (٥) النفاق ما أعل البلاد وأفسدها ، فقام سبيل الحج سابلا ، وتعبّد (٦) طريقه لمن جاء قاصدا وقافلا ، ولما احتفّت بهذا الخبر القرائن ، وتواتر بنقل الحاضر [له و] المعاين ، أثار حفظ الاعتقاد البواعث ، والود الصحيح تجره حقا الموارث ، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار ، الجامعة بين الخبر والاستخبار ، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار ، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه ، وتحل عرا الاصطبار بموته ولات حين أوانه ، لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين ، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين ، ومثلكم من لا يخفّ وقاره ، ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره ، ومن خلفكم فما مات ذكره ، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره ، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب ، وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئا بما من الأجر اكتسب ،

__________________

(١) تنازح الأبدان : تباعدها وتنائيها.

(٢) في ب «ورد وارد رنق المشارب».

(٣) يعتور : هنا يصيب بشكل متواصل.

(٤) في ب «أخفرنا للحركة».

(٥) الأدواء : الأمراض.

(٦) تعبد : تمهد.

٢٩٠

وصار حميدا إلى خير المنقلب ، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقنا ووهب ، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدّسة ، وحماية زوّار بيته مقيلة أو معرسة (١).

ونحن بعد بسط هذه التعزية ، نهنيكم بما خوّلكم الله أجمل التهنية ، وفي ذات الله الإيراد والإصدار ، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار ، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه ، وعقد الظهور عليها نطاقه ، وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه ، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثّقة ، وموالاة محقّقة ، وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غبّ القطر مفتّقه ، ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين ، وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين ، وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه ، وأورده موارد إحسانه ، في ذلكم من الفعل الجميل ، والصنع الجليل ، ما ناسب مكانه الرفيع ، وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع ، حتى طبّق فعله الآفاق ذكرا ، وطوّق أعناق الورّاد والقصّاد برا ، وكان من أجمل ما به تحفّى وأتحف ، وأعظم ما بعرفه إلى رضا الملك العلام في ذلك تعرف ، إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين ، ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين (٢) ، فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستفاد ، ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد ، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة ، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصّلة ، وقد أمرنا مؤدّي هذا لكما لكم ، وموفده على جلالكم ، كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل ، الأحظي (٣) الأكمل ، أبا المجد ، ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى ، الأرضي الأفضل ، الأحظى الأكمل ، المرحوم أبي عبد الله بن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته ، ويسر في قصد البيت الحرام بغيته ، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف ، ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف ، وأن يتخير لها من يرتضي لذلك ، ويحمد تصرفه فيما هنالك ، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن ، جريا على الود الثابت الأركان ، وإعلاما بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان ، وكمالكم يقتضي تخليد ذلكم البر الجميل ، وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل ، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر (٤) الأصيل ، والأجر الجزيل ، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب ، على ما يتوخاه في ذلك

__________________

(١) عرس المسافرون : نزلوا للاستراحة.

(٢) الجديدان : الليل والنهار.

(٣) الأحظى : الأكثر حظوة ومكانة. اسم تفضيل من الفعل حظي.

(٤) في ج «من الشراء الأصيل» وليس بشيء.

٢٩١

الشان من طرق الصواب ، وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الرّبا ، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا ، وبحسب المصافاه ، ومقتضى الموالاة ، نشرح لكم المتزايدات ، بهذه الجهات ، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب ، وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصّريخ ، ونادى مناد للجهاد عزما لمثل ندائه يصيخ (١) ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب ، وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب ، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها ، وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها ، ليمحوا كلمة الإسلام منها ، ويقلّصوا ظلّ الإيمان عنها ، فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القوّاد ، وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد ، فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور ، وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور ، وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عددا ، وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا ، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد ، واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد ، لكنا مع انسداد تلك السبيل ، وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل ، حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد ، وأصرخناهم (٢) بمن أمكن من الجند ، وجهزنا أجفانا مختلسين فرصة الإجازة ، تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه ، وأمرنا لصاحب الأندلس من المال ، بما يجهز به حركته لمداناة محلة حزب الضلال ، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة ، وأرضخنا (٣) لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة ، وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل ، وتلج أبواب الخوف العاجل ، لإحراز الأمن الآجل ، مشحونة بالعدد الموفورة ، والأبطال المشهورة ، والخيل المسوّمة ، والأقوات المقوّمة ، فمن ناج حارب دونه الأجل ، وشهيد مضى لما عند الله عز وجل ، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر ؛ حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدّخر ، ثم لم نقنع بهذا العمل في الأمداد ، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد ، فلقي من هول البحر وارتجاجه ، وإلحاح العدو ولجاجه (٤) ، ما به الأمثال تضرب ، وبمثله يتحدث ويستغرب ، ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد ، نزل بإزاء الكافر الجاحد ، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى ، وقد ضرب بطعن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى (٥).

__________________

(١) يصيخ : يسمع.

(٢) أصرخناهم : نصرناهم ، أغثناهم.

(٣) أرضخنا لهم : أعطيناهم.

(٤) اللجاج واللجاجة : العناد في الخصومة والتمادي فيها.

(٥) يمنى بالحرب : يبتلى بها.

٢٩٢

وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته (١) ، وقويت في الحرب إدارته ، يبلون البلاء الأصدق ، ولا يبالون بالعدو وهم منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق (٢) ، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف ، ومنازلتها في البر نحو عامين معقودا عليها الصف بالصف ، أدّى إلى فناء الأقوات في البلد ، حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر (٣) مع انقطاع المدد ، وبه من الخلق ما يربي (٤) على عشرة آلاف دون الحرم والولد ، فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح ، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح ، فأذنّا له فيه الإذن العام ، إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخّينا ذلك المرام ، هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا ، وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا ، فتم الصلح إلى عشر سنين ، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين ، ولم يرزؤوا (٥) مالا ولا عدّة ، ولا لقوا في خروجهم غير النزوح (٦) عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة ، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم (٧) العطاء ، وأسليناهم عما جرى بالحباء ، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها ، وخلع تربى على عشرة آلاف أطواقها ، وأموال عمت الغنيّ والفقير ، ورعاية شملت الجميع بالعيش النّضير ، وكف الله ضر الطواغيت عما عداها ، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها.

وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر ، أن قدّر (٨) لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر ، وهو المطلّ على هذه المدرة ، والفرصة (٩) منها إن شاء الله متيسّرة ، حتى (١٠) يفرق عقد الكفار ، ويفرج بهذه الجهة منهم مجاور وهذه الأقطار ، فلولا إجلابهم من كل جانب ، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب ، لما بالينا بإصعاقهم ، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم ، ولكن للموانع أحكام ، ولا راد لما جرت به الأقلام ، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد ، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد ، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر (١١) ، وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر ، وتكون على أهبة الجهاد ، وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد ،

__________________

(١) شربت شرارته : انتشرت وعظمت.

(٢) الأورق : ما كان لونه لون الرماد.

(٣) في ج «قوت شهر».

(٤) يربي : يزيد.

(٥) لم يرزؤوا مالا ولا عدة : أراد لم يفقدو مالا ولا عدة.

(٦) في ب «النزوع».

(٧) في أ«فاجزلناهم العطاء».

(٨) في ه «أن قدر ولينا».

(٩) في ه «والفرضة».

(١٠) في ه «حين يفرق».

(١١) وعثاء السفر : مشقته وتعبه.

٢٩٣

وعند عودنا من تلك المحاولة ، تيسر الركب الحجازي موجّها إلى هنا لكم رواحله ، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب ، إصدار الود الخالص والحب اللّباب ، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء (١) ، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء ، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء ، فموفّى قصده على أكمل الأهواء ، موالي تتميمه على أجمل الآراء ، والبلاد باتحاد الود متحدة ، والقلوب والأيدي على ما فيه مرضاة الله عز وجل منعقدة (٢) ، جعل الله ذلكم خالصا لرب العباد ، مدخورا ليوم التّناد (٣) ، مسطورا في الأعمال الصالحة يوم المعاد ، بمنه وفضله ، وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعدا تتفاخر به سعود الكواكب ، وتتضافر (٤) على الانقياد له صدور المواكب ، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب ، والسلام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا ورحمة الله وبركاته ، وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة ، وصورة العلامة ، وكتب في التاريخ المؤرخ.

ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح «لامية العجم» في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، بعد البسملة ، في قطع النصف بقلم الثلث (٥) : عبد الله ووليه ، صورة العلامة ، ولده إسماعيل بن محمد السلطان الملك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين ، سلطان الإسلام والمسلمين ، محيي العدل في العالمين ، منصف المظلومين من الظالمين ، وارث الملك ، ملك العرب والعجم والترك ، فاتح الأقطار ، واهب الممالك والأمصار ، إسكندر الزمان ، مملك أصحاب المنابر والأسرّة والتخوت والتيجان ، ظلّ الله في أرضه ، القائم بسنته وفرضه ، مالك البحرين ، خادم الحرمين الشريفين ، سيد الملوك والسلاطين ، جامع كلمة الموحّدين ، ولي أمير المؤمنين ، أبو الفداء إسماعيل بن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد بن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون ، خلد الله تعالى سلطانه! وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه! يخصّ المقام العالي الملك الأجلّ الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر (٦) المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد ، السني السري المنصور أبا الحسن علي بن أمير المسلمين أبي سعيد بن أمير

__________________

(١) أحنى الآباء : أكثرهم وأشدهم حنوا وعطفا.

(٢) في أصل ه «معتضدة».

(٣) يوم التناد : يوم القيامة.

(٤) في ه «وتتضفر».

(٥) في نسخة عند ه «بعلم النسخ» ولعله محرف عن «بقلم النسخ».

(٦) المثاغر : المرابط بالثغر للقاء العدو وجهاده.

٢٩٤

المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، أمدّه الله بالظفر ، وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر (١)!.

سلام وشّت البروق وشائعه (٢) ، وادّخرت الكواكب ودائعه ، استوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه ، وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه ، ونبه للتغريد في الروض سواجعه ، وجلّى في كاسه من الشفق المحمر مدامه من النجوم فواقعه.

[أما](٣) بعد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة ، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيّها بين النجوم مبثوثة (٤) ، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة ، وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله ، وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله ورسوله ، صلاة تحط بالرضوان سيولها ، وتجر بالغفران ذيولها ، ما تراسل أصحاب ، وتواصل أحباب ، ويوضح للعلم الكريم ، وورد كتابكم العظيم ، وخطابكم الفائق على الدر النظيم ، تفاخر الخمائل سطوره ، ويصبغ خدّ الورد بالخجل منثوره ، ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عليها طيوره ، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطّرس صباحه والنّقس ديجوره (٥) ، لفظه يطرب ، ومعناه يعرب فيغرب ، وبلاغته تدلّ على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت من المغرب ، فاتخذنا سطوره ريحانا ، ورجّعنا ألفاظه ألحانا ، ورجعنا إلى الجدّ فشبهنا ألفاته بظلال الرماح ، وورقه بصقال الصّفّاح ، وحروفه المفرقة بأفواه الجراح ، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح ، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع ، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع ، والبلاغة التي فضح المتطبع بيانها المطبوع.

فأما العزاء بأخيكم الوالد قدّس الله روحه وسقى عهده ، وأحسن لسلفه خلفنا بعده ، فلنا برسول الله أسوة حسنة ، ولو لا الوثوق بأنه في عدّة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا الطرف وسنه (٦) ، عاش سعيدا يملك الأرض ، ومات شهيدا يفوز بالجنة يوم العرض (٧) ، قد خلد الله

__________________

(١) الآصال : جمع الأصيل ، وهو الوقت بين العصر والمغرب. والبكر : جمع بكرة ، الغدوة وقت الصباح.

(٢) وشائع : جمع وشيعه ، وأراد نسيجه.

(٣) «أما» ساقط من ب.

(٤) الزرابي : ضرب من الثياب ، وفي التنزيل الحكيم (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ).

(٥) النقس ، بكسر النون : المداد الذي يكتب به ، والطرس : الورق ، والديجور : الظلام الشديد.

(٦) الوسن ، بفتح الواو والسين : النوم.

(٧) يوم العرض : يوم القيامة.

٢٩٥

ذكره يسير مسير الشمس (١) في الآفاق ، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق ، وورثنا منه حسن الإخاء لكم ، والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم ، وأما الهناء بوراثة ملكه ، والانخراط مع الملوك في سلكه ، قد شكرنا لكم منحى هذه المنحة ، وقابلناها بثناء يعطّر النسيم في كل نفحه ، ووقفنا عليها حمدا جعل الود علينا إيراده (٢) وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه ، وتحققنا به حسن ودكم الجميل ، وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل (٣).

وأما ما ذكرتموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين ، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجلّ الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مدين أعزه الله تعالى لتفقد أحوالهما ، والنظر في أمر أوقافهما ، فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم ، وسهلنا بالترحيب سبلهم ، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم ، وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه ، وسمعنا كلامه وخاطبناه ، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم ، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم ، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها ، وأثبت قاعدة عرفها ، مرعيّ الجوانب ، محمي المنازل والمضارب ، آمن من إزالة رسمه ، أو إزالة حكمه ، بدره أبدا في مطالع تمه ، وزهره دائما يرقص على (٤) كمه ، لا يزداد إلا تخليدا ، ولا إطلاق ثبوته إلا تقييدا ، ولا عنق اجتهاده إلا تقليدا (٥) ، جريا على قاعدة (٦) أوقاف ممالكنا ، وعادة (٧) تصرفاتنا في مسالكنا ، وله مزيد الرعاية ، وإفادة الحماية ، ووفادة العناية.

وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها ، ومني به من الكفار حزنها وسهلها (٨) ، فإنه شقّ علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان ، وعدّد به نوب الزمان (٩) ، كل قلب بأنامل الخفقان ، وطالما فزتم بالظفر ، ورزقتم النصر على عدوّكم فجر ذيل الهزيمة وفرّ ، ولكن الحروب سجال ، وكل زمان لدوائه دولة ولرجائه رجال ، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسوّمة ، وسالت على عدوّكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقوّمة ، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح (١٠) ، وجعلنا ليل العجاج (١١) ممزقا ببروق الصفاح ،

__________________

(١) في ه «يسير سير الشمس».

(٢) في نسخة عند ه «أبراده».

(٣) ماد : تحرك واضطرب. والطود : الجبل.

(٤) في ب «يرقص في كمه».

(٥) التقليد : وضع القلادة.

(٦) في ب ، ه «جريا على عادة».

(٧) في ب ، ه «وقاعدة تصرفاتنا».

(٨) الحزن من الأرض : الصعب الوعر.

(٩) في ب ، ه «ذنوب الزمان».

(١٠) مراود : جمع مرود ، وهو الميل الذي يكتحل به.

(١١) العجاج : الغبار.

٢٩٦

واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات ، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرّات ، وعطفنا عليهم (١) الأعنّة ، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنّة ، وفلقنا الصخرات بالصرخات ، وأسلنا العبرات بالرعبات ، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول؟ وأين الثريا من يد المتناول؟ وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا ، والتوجّه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا.

وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف ، وأمّ حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف ، فقد روّع هذا الخبر قلب الإسلام ، ونوّع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام ، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر ، وطالما أنامت بالأمن أوّل الليل وخاطبت بالخطب في السّحر (٢) ، ولكن في بقائكم ما يسلي من خطب العطب ، ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب.

وأما ما رأيتموه من الصلح فرأى عقده مبارك ، وأمر ما فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك ، والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب ، والحروب يزورها نصرها تارة ويغب (٣) ، ومع اليوم غدا ، وقد يردّ الله الردى ، ويعيد الظفر بالعدا.

وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عندكم من الجنود ، وتجهيزا لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود ، فهذا أمر ضروري التدبير ، سروري التثمير ، لأن النفوس تمل وثير المهاد ، فكيف ملازمة صهوات الجياد ، وتسأم من مجالسة الشّرب (٤) ، فكيف بممارسة الحرب ، وتعرض عن دوام اللذة ، فكيف بمباشرة المنايا الفذّة (٥) ، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم ، وساق هدى هديته إليكم ، لعله يكون سببا إلى ارتجاع ما شرد ، وحسما لهذا الطاغية الذي مرد ، وردّا لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد ، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة ، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة ، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق ، وجبل يعصم من سهم يمر من قسيّ الكفار ويمرق.

وأما ما منحتموه من الخيل العتاق ، والملابس التي تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق ، والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق ، فعلى الله عز وجل خلفها ،

__________________

(١) في ب ، ه «وعطفنا إليهم الأعنة».

(٢) الخطب : المصيبة. والسحر : آخر الليل قبيل الفجر.

(٣) يغب : يزور مرة ويترك مرة. ومنه الحديث «زر غبا تزدد حبا».

(٤) الشّرب : الجماعة الشاربون.

(٥) الفذ : الفرد وأراد بالمنايا الفذة : التي لا مثيل لها ، لقساوتها.

٢٩٧

ولكم في منازل الدنيا والآخرة [سرفها](١) وشرفها ، وإليكم تساق هدايا أثنيتها (٢) وتحفكم تحفها ، وإذا وصل وفدكم الحاج ، وأثار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج (٣) ، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا ، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا ، يتخوّلون تحفا أنتم سببها ، ويتناولون طرفا في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها ، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق ، وسهلنا لهم الرفيق ، وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى ، وسؤلهم (٤) ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا ، وفازوا بالغنى ، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدّرب ، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب ، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم ، وأمرناهم بما ينهونه (٥) شفاها لديكم ، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم ، وتوفر لأخذ الثار حماتكم ، وتخصكم بتأييد تنزلون روضه الأنضر ، وتجنون به ثمر النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر ، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه ، وعز لا يمحو شبابه مشيبه ، وتحيته المباركة تغاديكم وتراوحكم ، وتفاوحكم (٦) أنفاسها المعنبرة وتنافحكم ، بمنه وكرمه ، انتهى.

ورأيت بخط منشئ هذا الجواب الصلاح الصّفدي رحمه الله تعالى أثر (٧) ذكره ما نصه : أما بعد حمد الله تعالى على نعمائه ، وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم أنبيائه ، فقد قرأ الشيخ الإمام العالم العامل العلامة المفيد القدوة عز الدين أبو يعلى حمزة بن الرئيس الكبير الفاضل القاضي قطب الدين موسى بن أحمد بن شيخ السلامية الأحمدي (٨) أمتع الله بفوائده! ـ الكتاب الوارد من سلطان المغرب الملك المجاهد المرابط أبي الحسن المريني صاحب مراكش تغمده الله تعالى برحمته والجواب عنه عن السلطان الشهيد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد قدس الله تعالى روحهما من إنشائي ، وأنا أسمع ذلك جميعا من أولهما إلى آخرهما ، قراءة أطربت السمع لفصاحتها (٩) ، وأمالت العطف لرجاحتها. [السريع]

وأخجلت ورق الحمى باللّوى

إن صدحت في ذروة الغصن (١٠)

تكاد من لطف ومن رقّة

تدخل في الأذن بلا إذن

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من ب ، ه ،.

(٢) أثنية : جمع ثناء.

(٣) ليلهم الداجي : المظلم الشديد الظلمة.

(٤) في ب «وسولهم».

(٥) ينهونه : يبلغونه ويوصلونه.

(٦) في ه «وتناوحكم أنفاسها المعتبرة».

(٧) في ب «إثر ذكره».

(٨) في أصل ه «الحنبلي».

(٩) في ه «لفصاحتهما .. لرجاحتهما».

(١٠) الورق : جمع ورقاء ، وهي الحمامة.

٢٩٨

وذلك في مجلس واحد في (١) ذي القعدة سنة ٧٥٦ ، بالجامع الأموي بدمشق المحروسة فإن رأى رواية ذلك عني فله علو الرأي في تشريفي بذلك ، وكتبه خليل بن أيبك الصفدي الشافعي عفا الله عنه! انتهى.

وكان السلطان أبو الحسن المريني المذكور كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه ، وأرسلها إلى المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال (٢) ، ووقف (٣) عليها أوقافا جليلة كتب توقيعه سلطان مصر والشام بمسامحتها من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين بن نباتة المصري ، ونص ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله : وهو الذي مدّ يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها ، وسطر الختمات الشريفة فأيّد الله حزبه بما سطر من أحزابها ، واتصلت (٤) ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح ، وكثرت فتوحه لأملياء الغرب (٥) فقالت أوقاف الشرق : لابد للفقراء من فتوح ، ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي ، وخطّ سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي (٦) ، ورتب عليها أوقافا تجري أقلام الحساب (٧) في إطلاقها وطلقها ، وحبس أملاكا شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها ، والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف ، وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف ، انتهى.

قلت : وقد رأيت أحد المصاحف المذكورة ، وهو الذي ببيت المقدس ، وربعته في غاية الصنعة.

وقال بعض المشارقة في حق السلطان أبي الحسن ، ما صورته : ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله ، وجرت إلى المشرق أنواء نواله ، وطابت نسماته ، واشتهرت عزماته ، كان حسن الكتابة ، كثير الإنابة ، ذا بلاغة وبراعة ، وشهامة وشجاعة ، كتب بخطه ثلاثة مصاحف ووقفها على المساجد الثلاثة ، أقام في الملك عشر سنين وسبعة أيام ، ثم صرف بولده أبي عنان بعد حروب يطول شرحها ، انتهى من كتاب نزوهة الأنام.

ولما ذكر الإمام الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق في كتابه «المسند الصحيح الحسن ، من

__________________

(١) في ه «في مجلس في واحد من ذي القعدة».

(٢) هي المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، والمسجد الأقصى.

(٣) في ب «وأوقف عليها».

(٤) في ب ، ه «واتصلت أخبار ملائكة النصر».

(٥) أملياء : جمع ملى.

(٦) الهندي : السيف المصنوع في الهند.

(٧) في ب ، ه «أقلام الحسنات».

٢٩٩

أخبار السلطان أبي الحسن» أمر الربعة التي أرسلها السلطان أبو الحسن بخطه قال ما ملخصه : وأرسل معها للسلطان الملك الناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من أحجار الياقوت العظيم القدر والثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين ، ومن الزمرد مائة وثمانية وعشرين ، ومن الزبرجد مائة وثمانية وعشرين ، ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين ، وأرسل حللا كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر ، ومن الإناق عشرين مذهبة ، ومن الخلادي ستة وأربعين ، ومن القنوع ستة وعشرين مذهبة ، ومن المحررات المختمة ثمانمائة ، ومن الرصان عشرين شقة ، والأكسية المحررة أربعة وعشرين ، والبرانس المحررة ثمانية عشر ، والمشففات (١) مائة وخمسين ، وأحارم الصوف المحررة عشرين ، ومن شقق الملف الرفيع ستة عشر ، ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة ، وأوجه اللحف المذهبة عشرين ، وحائطان حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير ، وفرش جلد مخروز بالذهب والفضة ، ومن السيوف المحلاة بالذهب المنظم بالجوهر عشرة ، والسروج عشرة بركب ذهب ومهاميز ذهب كذلك (٢) ، وثلاث ركب فضة ، وستة مزججة ومذهبة ، ومضمتان من ذهب مما يليق بالملوك ، وشاشية حرير مطوقة (٣) بذهب مكلل بالجوهر ، ومن لزمات الفضة عشرة ، وسرج مخروزة بالفضة عشرة ، وعشر علامات (٤) معششة مذهبة ، وعشر رايات مذهبة ، وعشر براقع مذهبة ، وعشر أمثلة مرقومة ، وثلاثين جلدا شرك (٥) ، وأربعة آلاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانية عشر بنهود الفضة ، وخباء قبة كبيرة من مائة بنيقة لها أربعة أبواب ، وقبة أخرى مضربة من ست وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبة ، وهي حرير أبيض ومرابطها حرير ملوّن وعمودها عاج وآبنوس ، وأكبارها من فضة مذهبة ، ومن البزاة الأحرار المنتقاة أربعة وثلاثين ، ومن عتاق الخيل العراب ثلاثمائة وخمسا وثلاثين (٦) ، ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين ، ومن الجمال سبعمائة ، وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الرّبعة المكرمة ، وأعطى الحرة أم أخته أم ولد أبيه مريم ثلاثة آلاف وخمسمائة ذهبا ، ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة ، ولقائد الركب أربعمائة وكساوي متعددة وبغلات ، وللرسول المعين للهدية ألفا ، ولشيخ الركب أحمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة ، ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة ، وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة ، ولشراء ريع (٧) ستة عشر ألفا وخمسمائة ذهبا ، انتهى.

__________________

(١) في ج «المشققات».

(٢) في ج «والمهاميز الذهب كذلك».

(٣) في ج «وشاشية حديد بذهب».

(٤) كذا في الأصول. ولعله «ملاءات».

(٥) في ب «جلد أشرك».

(٦) في ب ، ه «وخمسة وثلاثين».

(٧) في ب ، ه «ولشراء ربع».

٣٠٠