نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

يا أهل أندلس حثّوا مطيكم

فما المقام بها إلا من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى

ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

ونحن بين عدوّ لا يفارقنا

كيف الحياة مع الحيّات في سفط (١)

ويروى صدر البيت الثالث هكذا : [البسيط]

من جاور الشّرّ لا يأمن بوائقه

كيف الحياة مع الحيات في سفط

وتروى الأبيات هكذا :

حثوا رواحلكم يا أهل أندلس

فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه ، وأرى

سلك الجزيرة منثورا من الوسط

من جاور الشر لا يأمن عواقبه

كيف الحياة مع الحيّات في سفط

وقال آخر : [البسيط]

يا أهل أندلس ردّوا المعار فما

في العرف عارية إلّا مردات

ألم تروا بيدق الكفار فرزنه

وشاهنا آخر الأبيات شهمات (٢)

وقال بعض المؤرخين : أخذ الأذفونش (٣) طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين ، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة ٤٧٨ ، انتهى.

وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها ، وسيأتي قريبا بعض ما يؤيده.

قال : وهي مدينة حصينة ، قديمة أزلية ، من بناء العمالقة ، على ضفة النهر الكبير ، ولها قصبة حصينة في غاية المنعة ، ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد ، والماء يدخل تحته بعنف وشدة جري ، ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعا ، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة ، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة ، وطليطلة هذه دار مملكة الروم ، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب ، انتهى.

__________________

(١) سفط : وعاء.

(٢) البيرق ، والفرز ، والشاه : قطع من قطع الشطرنج. «وشهمات» كلمة في مصطلح اللاعبين يعبرون بها عن انتهاء الدور وأصله «شاه مات» أي : مات الشاه ، يقولها الغالب.

(٣) في ب «الأذفونش».

٢٦١

وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب.

وقد حكى ابن بدرون (١) في شرح العبدونية أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصرا تأنق في بنائه ، وأنفق فيه مالا كثيرا ، وصنع فيه بحيرة ، وبنى في وسطها قبة ، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون ، فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطا بها متصلا بعضه ببعض ، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب (٢) لا يفتر ، والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء ، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل ، فبينما هو فيها إذ سمع منشدا ينشد : [الطويل]

أتبني بناء الخالدين ، وإنما

بقاؤك فيها ، لو علمت ، قليل

لقد كان في ظل الأراك كفاية

لمن كلّ يوم يعتريه رحيل

فلم يلبث بعد هذا إلا يسيرا حتى قضى نحبه ، انتهى.

وقال ابن خلكان (٣) إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة ٤٧٨ بعد حصار شديد ، انتهى.

وقال ابن علقمة : إن طليطلة أخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة ٤٧٨ ، وكانت وقعة الزلّاقة في السنة بعدها (٤) ، انتهى.

وقد رأيت (٥) أن أذكر هنا وقعة الزلاقة التي نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب «الروض المعطار» (٦) وغيره فنقول : إنه لما ملك يوسف بن تاشفين اللمتوني المغرب ، وبنى مدينتي مراكش وتلمسان الجديدة ، وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة ، وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة ، تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس ، فهمّ بذلك ، وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها ، فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم ، وأعدوا له العدّة والعدد ، وصعبت عليهم مدافعته ، وكرهوا أن يكونوا بين عدوّين الفرنج عن شمالهم والمسلمين عن جنوبهم (٧) ، وكانت الفرنج تشتد وطأتها عليهم ، وتغير

__________________

(١) في ه «ابن بذرون».

(٢) سكب : أي ساكب.

(٣) وفيات الأعيان ٤ / ١١٨.

(٤) في ج «وكانت وقعة الزلاقة التي نشأت في السنة بعدها».

(٥) في ب «ورأيت أن أذكر».

(٦) انظر ابن خلكان ٦ : ١١٢ ، وأكثر النص منقول منه.

(٧) في ب ، ه «الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم».

٢٦٢

وتنهب ، وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين ، والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين ، إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم ، لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب ، وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت ، مع ما ظهر لأبطال الملثّمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف التي تقدّ الفارس ، والطعنات التي تنظم الكلى ، فكان له بسبب ذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله ، وكان ملوك الأندلس يفيؤون إلى ظله ، ويحذرونه خوفا على ملكهم ، مهما عبر إليهم وعاين بلادهم ، فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك ، راسل بعضهم بعضا يستنجدون آراءهم في أمره ، وكان مفزعهم (١) في ذلك إلى المعتمد ابن عباد ، لأنه أشجع القوم ، وأكبر هم مملكة ، فوقع اتفاقهم على مكاتبته لما تحققوا أنه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم ، وأنهم تحت طاعته ، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتابا ، وهو : أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ، ولم تنسب إلى عجز ، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ، ولم ننسب إلى وهن (٢) ، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا ، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك ، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة ، وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت ، والسلام ، فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا ، وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي ، لكنه ذكي الطبع ، يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية ، فقال له : أيها الملك ، هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ، ويعرفونك أنهم أهل دعوتك ، وتحت طاعتك ، ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي ، فإنهم مسلمون وذوو بيوتات ، فلا تغير بهم ، وكفى بهم من وراءهم من الأعادي الكفار ، وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر ، فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل المغرب (٣) ، فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه : فما ترى أنت؟ فقال : أيها الملك أعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد ، فإنه خلق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفى (٤) ، وأن يهب إذا استوهب ، وكلما وهب جليلا جزيلا كان لقدره أعظم ، فإذا عظم قدره تأصل ملكه ، وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته ، وإذا كانت طاعته شرفا جاءه الناس ، ولم يتجشم المشقة إليهم (٥) ، وكان وارث الملك من غير

__________________

(١) مفزعهم إليه : أي فزعهم ورجوعهم إليه.

(٢) الوهن : الضعف.

(٣) في ب ، ه «من أهل الغرب».

(٤) استعفى : طلب منه العفو.

(٥) تجشم المشقة : تكلفها.

٢٦٣

إهلاك لآخرته ، وأعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال : من جاد ساد ، ومن ساد قاد ، ومن قاد ملك البلاد ، فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته ، فقال للكاتب : أجب القوم ، واكتب بما يجب في ذلك ، واقرأ على كتابك ، فكتب الكاتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من يوسف بن تاشفين ، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، تحية من سالمكم وسلّم عليكم ، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة ، مخصوصين منا بأكرم إيثار وسماحة ، فاستديموا وفاءنا بوفائكم ، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم ، والله ولي التوفيق لنا ولكم ، والسلام ، فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه ، فاستحسنه (١) ، وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللّمط التي لا توجد إلا ببلاده ، وأنفذ ذلك إليهم ، فلما وصلهم ذلك وقرؤوا كتابه فرحوا به ، وعظموه ، وسرّوا بولايته ، وتقوّت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم ، وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم (٢) ، أو يمدّهم بإعانة منه.

وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف ، وكان كل من حاز بلدا وتقوّى فيه ملكه وادعى الملك وصاروا (٣) مثل ملوك الطوائف ، فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك ، وأخذ كثيرا من ثغورهم ، فقوي شأنه ، وعظم سلطانه ، وكثرت عساكره ، وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين ، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، فزاد لعنه الله تعالى بملكه طليطلة قوّة إلى قوّته ، وأخذ يجوس خلال الديار ، ويستفتح المعاقل والحصون.

قال ابن الأثير في «الكامل (٤)» : وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ، ومتملك (٥) أكثر بلادها ، مثل قرطبة وإشبيلية ، وكان ـ مع ذلك ـ يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة ، فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة ، فلم يقبلها منه ، وأرسل إليه يهدّده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها ، إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة (٦) ، ويبقي السهل للمسلمين ، وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس ، فأنزله المعتمد ، وفرق

__________________

(١) في ه «فاستحسن».

(٢) في ج «يعبر إليهم».

(٣) في ب ، ه «وصار مثل ملوك الطوائف».

(٤) الكامل في التاريخ.

(٥) في الكامل «وكان يملك أكثر البلاد».

(٦) في الكامل «الحصون التي بالجبل».

٢٦٤

أصحابه على قواد عسكره ، ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة ، وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه ، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر ، فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر ، وكان متوجها إلى قرطبة ليحاصرها ، فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ، ويكثر العدد والعدّة ، انتهى.

وقال الفقيه أبو عبد الله عبد الله (١) بن عبد المنعم الحميري في كتابه «الروض المعطار ، في ذكر المدن والأقطار» إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المريّة حين تأخر (٢) الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك استشاط الطاغية غضبا ، وتشطط ، وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة ، وأمعن في التّجنّي ، وسأل في دخول امرأته القمجيطة (٣) إلى جامع قرطبة لتلد فيه ، إذ كانت حاملا ، لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم ، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة ، وهي التي أنشأ بناءها الناصر لدين الله ، وأمعن في بنائها ، وأغرب في حسنها ، وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار ، وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل ، وأنفق فيها الأموال العظيمة ، واشتغل بها ، وكان يباشر الصناع بنفسه ، حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات ، وحضر في الرابعة ، وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلّوطي ، فعرض به في الخطبة ، ووبخه على رؤوس الملأ ، وقصته في ذلك مشهورة ، وبناء الزاهر أيضا من أعظم (٤) مباني الإسلام ، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان.

ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس (٥) لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء ، وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور ، وكان السفير في ذلك يهوديا كان وزير الأذفونش ، فامتنع ابن عبّاد من ذلك ، فراجعه ، فأباه وأيأسه من ذلك ، فراجعه اليهودي في ذلك ، وأغلظ له في

__________________

(١) في ب «أبو عبد الله محمد بن عبد الله».

(٢) في ب ، ه «حتى تأخر الوقت».

(٣) في الروض المعطار «القمطيجة».

(٤) في ب «وبناء الزهراء أيضا أغرب مباني الإسلام» وفي ه «وبناء الزهراء من أغرب ما بني في الإسلام».

(٥) القسوس : جمع قس : رجل دين عند النصارى.

٢٦٥

القول ، وواجهه بما لم يحتمله ابن عباد ، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي ، فأنزل دماغه في حلقه ، وأمر به فصلب منكوسا بقرطبة ، واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي ، فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل ، إذ ليس له ذلك ، وقال للفقهاء : إنما بادرت بالفتوى خوفا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدوّ ، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجا ، وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد ، فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية ، وليحاصرنه (١) في قصره ، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلبا من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات ، ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية ، وجعل موعده أمام (٢) طريانة للاجتماع معه ، ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم (٣) ، فسلك طريقا غير الطريق التي سلكها الآخر ، وكلاهما عاث في البلاد وخرّب ودمر ، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد ، وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زاريا عليه (٤) : كثر بطول مقامي في مجلسي الذباب (٥) ، واشتد على الحر ، فأتحفني من قصرك بمروحة أروّح بها على نفسي ، وأطرد بها الذباب (٦) عن وجهي ، فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة : قرأت كتابك ، وفهمت خيلاءك وإعجابك ، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروّح منك لا تروح عليك ، إن شاء الله تعالى ، فلما وصلت الأذفونش رسالة ابن عباد ، وقرئت عليه ، وعلم مقتضاها ، طرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال ، وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد ، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين ، والاستظهار به على العدو ، فاستبشر الناس ، وفرحوا بذلك ، وفتحت لهم أبواب الآمال ، وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك ، اهتموا منه ، ومنهم من كاتبه ، ومنهم من كلمه مواجهة ، وحذّروه عاقبة ذلك ، وقالوا له : الملك عقيم ، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد ، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلا : رعي الجمال خير من رعي الخنازير ، ومعناه أن كونه مأكولا ليوسف بن تاشفين أسيرا يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقا للأذفونش أسيرا له يرعى خنازيره في قشتالة ، وقال لعذاله ولوّامه : يا قوم إني من أمري على حالين : حالة يقين ، وحالة شك ، ولابد لي من إحداهما ، أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي له ويبقى على وفائه ، ويمكن أن

__________________

(١) في ب ، ه «ويحاصره في قصره».

(٢) في ب ، ه «وجعل موعده إياه طريانة».

(٣) الجيش العرموم : الكثير العدد ، القوي.

(٤) زاريا عليه : ساخطا عائبا له.

(٥) في ب «الذبان».

(٦) في ب «الذبان».

٢٦٦

لا يفعل ، فهذه حالة الشك (١) ، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فإني أرضي الله (٢) ، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى ، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة ، فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟ فحينئذ قصّر أصحابه عن لومه.

ولما عزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبّوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ، ففعلا ، واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم ، وكان أعقل أهل زمانه ، فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون ، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين ، وأسنه إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد ، وأسند إلى وزيره ما لابد منه في تلك السّفارة من إبرام العقود السلطانية ، وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين ، مجهشين بالبكاء (٣) ، ناشدين بالله والإسلام ، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته ، فيسمع إليهم ، ويصغي لقولهم ، وترقّ نفسه لهم.

فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد ، ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم ، وأكرم مثواهم (٤) ، واتصل ذلك بابن عباد ، فوجه من إشبيلية أسطولا نحو صاحب سبتة ، فانتظمت في سلك يوسف ، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ، ثم انصرفت إلى مرسلها ، ثم عبر يوسف البحر عبورا سهلا ، حتى أتى الجزيرة الخضراء ، ففتحوا له ، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات ، وأقاموا له سوقا جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق ، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيها ، فامتلأت المساجد والرحبات بالمطّوّعين (٥) ، وتواصوا بهم خيرا ، هذا مساق صاحب «الروض المعطار».

وأما ابن الأثير فإنه لما ذكر وقعة الزلّاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم (٦) ، وتخوف أكابر الأندلس من الأذفونش ، وأنه اجتمع منهم رؤساء ، وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد (٧) ، وقالوا : ألا تنظر [إلى] ما فيه المسلمون من الصّغار والذلة وإعطائهم الجزية ، بعد أن كانوا يأخذونها ، وقالوا : قد غلب على البلاد الفرنج ، ولم يبق إلا القليل ، وإن دام (٨) هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولا ، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك ،

__________________

(١) في ب ، ج «فهذه حالة شك».

(٢) في ب ، ه «فأنا أرضي الله».

(٣) أجهش بالبكاء : بكى بصوت مرتفع ونحيب.

(٤) مثواهم : إقامتهم.

(٥) المطّوعين ، بتشديد الطاء ، أصله : «المتطوعين» قلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء.

(٦) انظر الكافي في التاريخ.

(٧) في ب «عبد الله بن محمد بن أدهم».

(٨) في ب ، ه «وإن طال هذا الأمر».

٢٦٧

قال : وما هو؟ قالوا : نكتب إلى عرب إفريقية ، ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر أموالنا ، ونخر معهم مجاهدين في سبيل الله ، فقال لهم : إنا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية ، ويتركوا الإفرنج ويبدؤوا بنا ، والمرابطون أصلح منهم ، وأقرب إلينا ، فقالوا له : فكاتب أمير المسلمين ، واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند ، فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد قرطبة ، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه ، فقال له المعتمد ابن عباد : أنت رسولي إليه في ذلك ، فامتنع ، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من ذلك ، فألح عليه المعتمد ، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، فوجده بسبتة ، وأبلغه الرسالة ، وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش ، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس ، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر ، فأقبلت إليه يتلو بعضها (١) بعضا ، فلما تكاملت عنده عبر البحر ، واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية ، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضا ، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير ، وقصده المطّوّعة من سائر بلاد الأندلس ، ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره ، وحشد جنوده ، وسار من طليطلة ، وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتابا كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول ، ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد ، وبالغ في ذلك ، فلما وصله (٢) وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه ، وكان كاتبا مفلقا ، فكتب وأجاد ، فلما قرأه على أمير المسلمين قال : هذا كتاب طويل ، وأحضر كتاب الأذفونش (٣) وكتب في ظهره : الذي يكون ستراه ، وأرسله إليه ، فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له ، وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به.

وذكر ابن خلكان (٤) أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغصّ الجزيرة ، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء ، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملا قط ولا خيلهم ، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها ، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب ، فكان يحدق بها عسكره ، ويحضرها للحرب ، فكانت خيل الفرنج تجمح منها ، وقدم يوسف بين يديه كتابا للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب ، كما هي السنة ، ومن جملة ما في الكتاب : بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا ، وتمنيت أن تكون لك

__________________

(١) في ه «نتلو بعضها بعضا».

(٢) في ج «فلما وصل وقرأه».

(٣) في ب ، ه «أحضر كتاب الأذفونش وأكتب في ظهره».

(٤) وفيات الأعيان ٦ / ١١٥.

٢٦٨

سفن تعبر فيها البحر إلينا ، فقد عبرنا إليك ، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك ، وسترى عاقبة دعائك (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠] انتهى بمعناه ، وأكثره بلفظه.

ولنرجع إلى كلام صاحب «الروض المعطار» (١) فإنه أقعد بتاريخ الأندلس ، إذ هو منهم ، وصاحب البيت أدرى [بالذي فيه](٢) ، قال رحمه الله تعالى : فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات ، جيشا بعد جيش ، وأميرا بعد أمير ، وقبيلا بعد قبيل ، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف ، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات ، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه ، وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية ، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه ، فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم ، وركضوا نحوه ، فبرز إليه يوسف وحده ، والتقيا منفردين ، وتصافحا ، وتعانقا ، وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص ، وشكرا نعم الله تعالى ، وتواصيا بالصبر والرحمة ، وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر ، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصا لوجهه ، مقربا إليه ، وافترقا ، فعاد يوسف لمحلته ، وابن عباد إلى جهته ، وألحق ابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين ، وباتوا تلك الليلة ، فلما أصبحوا وصلّوا الصبح ركب الجميع ، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية ، ففعل ، ورأى الناس من عزة سلطانهم (٣) ما سرهم ، ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج ، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف كل صقع من أصقاعه رابطوا وكابدوا (٤) ، وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ، ونشروا أناجيلهم ، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده ، وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع ، وبعث الأذفونش إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده ، وخاض البحور (٥) وأنا أكفيه العناء فيما بقي ، ولا أكلفكم تعبا ، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم وتوفيرا عليكم ، وقال لخاصته وأهل مشورته : إني (٦) رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي ، فناجزوني فيها وبين جدرها (٧) ، وربما كانت الدائرة علي ،

__________________

(١) انظر الروض المعطار ٨٧.

(٢) كلمة «بالذي فيه» لا توجد في أصل ه.

(٣) في ب ، ه «من عزة سلطانه ما سرّه».

(٤) في ب «رابطوا وصابروا» وفي ه «رابطوا وكابروا».

(٥) كذا في ب ، ه والروض المعطار ، وفي أ«وخاض البحار».

(٦) في الروض «إني رأيت إن أمكنتهم».

(٧) في الروض «فناجزوني بين جدرها».

٢٦٩

يستحكمون البلاد ، ويحصدون من فيها غداة واحدة ، ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم ، فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه ، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي ، وجبر لمكاسري ، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون فيّ وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها ، ثم برز بالمختار من جنوده ، وأنجاد جموعه على باب دربه ، وترك بقية جموعه خلفه ، وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم : بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء ، فالمقلل يقول : المختارون أربعون ألف دراع ، ولكل واحد أتباع.

أما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك ، ويرون أنهم أكثر من ذلك كله ، واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة ، ورأى الأذفونش في نومه كأنه راكب فيل يضرب نقيرة طبل ، فهالته الرؤيا ، وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد ، فدسّ يهوديا عمن يعلم تأويلها من المسلمين ، فدل (١) على معبّر ، فقصّهما عليه ، ونسبها لنفسه ، فقال له المعبر : كذبت ، ما هذه الرؤيا لك ، ولا أعبرها لك إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا ، فقال له : اكتم علي ، الرؤيا للأذفونش ، فقال المعبّر : صدقت ولا يراها غيره ، والرؤيا تدل على بلاء عظيم ، ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره ، وتفسيرها قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل :

١] وأما ضربه النقيرة فتأويلها (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) [المدثر : ٨ ـ ٩] الآية ، فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش ما وافق خاطره ، ثم خرج [الأذفونش ووقف على الدروب ، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية](٢) من بلاد الأندلس ، وتقدم السلطان يوسف فقصده ، وتأخر ابن عباد لبعض مهماته ، ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ، ورؤساء الأندلس ، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته ، وسار وهو ينشد لنفسه متفائلا مكملا البيت المشهور : [مجزوء الكامل]

لابدّ من فرج قريب

يأتيك بالعجب العجيب

غزو عليك مبارك

سيعود بالفتح القريب

لله سعدك إنّه

نكس على دين الصليب

__________________

(١) في الروض «فدل على عابر» ومعبر وعابر بمعنى ، وهو الذي يعبر الرؤيا ويفسرها ويؤولها. وفي القرآن الكريم (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

(٢) ما بين حاصرتين ساقط من ج ، وموجود في بقية النسخ وفي الروض.

٢٧٠

لابدّ من يوم يكو

ن له أخا يوم القليب (١)

ووافت الجيوش كلها بطليوس ، فأناخوا بظاهرها ، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس ، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود ، وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش ، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفا عليهم من مكايد الأذفونش ، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد ، وجعل يتولى ذلك بنفسه ، حتى قيل : إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفا بالمحلة ، بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات ، وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعا ، فامتلأ الكافر غيظا ، وعتا ، وطغا ، وراجعه بما يدل على شقائه ، وقامت الأساقفة والرهبان ورفعوا (٢) ، صلبانهم ، ونشروا أناجيلهم ، وتبايعوا على الموت ، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما ، وقام الفقهاء (٣) والصالحون مقام الوعظ ، وحضوهم على الصبر والثبات ، وحذروهم من الفشل والفرار ، وجاءت الطلائع تخبر أن العدوّ مشرف عليهم صبيحة يومهم ، وهو يوم الأربعاء ، فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافّهم ، فكعّ الأذفونش (٤) ، ورجع إلى إعمال المكر والخديعة ، فعاد الناس إلى محلاتهم ، وباتوا ليلتهم ، ثم أصبح يوم الخميس ، فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول : غدا يوم الجمعة ، وهو عيدكم ، والأحد عيدنا ، فليكن لقاؤنا بينهما ، وهو يوم السبت ، فعرّف المعتمد بذلك السلطان يوسف ، وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة ، وإنما قصده الفتك بنا يوم الجمعة ، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كلّ النهار ، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس ، وبعد مضيّ جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي ـ وكان في محلة ابن عباد ـ فرحا مسرورا يقول : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة ، فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب ، وانتهى ذلك إلى ابن عباد ، فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقا لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى ، ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ، ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش ، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول :

__________________

(١) القليب : البئر ، وأراد بيوم القليب يوم بدر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة ، وانتصر فيه الرسول الكريم.

(٢) في الروض «فرفعوا».

(٣) في ه «وأقام الفقهاء».

(٤) كعّ الأذفونش : جبن وخار.

٢٧١

استزقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه : ابن عباد مسعر هذه الحروب (١) ، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد ، وإنما قادهم ابن عباد ، فاقصدوه واهجموا عليه ، واصبروا ، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده ، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة ، فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر بن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش ، ويستحث نصرته ، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين ، فعرفه بجليّة الأمر ، فقال له : قل له : إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى ، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا ما دام الأذفونش مشتغلا مع ابن عباد ، وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد ، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية ، فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله ، ومال الأذفونش عليه بجموعه ، وأحاطوا به من كل جهة ، فهاجت الحرب ، وحمي الوطيس (٢) ، واستحرّ (٣) القتل في أصحاب ابن عباد ، وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد ، واستبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه ، وعضته الحروب (٤) ، واشتد عليه وعلى من معه البلاء ، وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون ، وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبد الله ، وأثخن ابن عباد جراحات ، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه ، وطعن في أحد جانبيه ، وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدّم له آخر ، وهو يقاسي حياض الموت ، ويضرب يمينا وشمالا ، وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه في إشبيلية عليلا ، وكنيته أبو هاشم فقال : [المتقارب]

أبا هاشم هشّمتني الشّفار

فلله صبري لذاك الأوار (٥)

ذكرت شخيصك تحت العجاج

فلم يثنني ذكره للفرار

ثم كان أوّل من وافى ابن عباد من قوّاد ابن تاشفين داود بن عائشة ، وكان بطلا شجاعا شهما ، فنفّس بمجيئه عن ابن عباد ، ثم أقبل يوسف بعد ذلك ، وطبوله تصعد أصواتها إلى الجوّ ، فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه ، وقصده بمعظم جنوده ، فبادر إليهم السلطان

__________________

(١) مسعر الحروب : مؤججها ومقوي نارها.

(٢) حمي الوطيس : اشتدت الحرب وأول من استعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(٣) استحرّ القتل : أي كثر واشتد.

(٤) في ب ، والروض «وعضته الحرب».

(٥) هشمتني : حطمتني ، كسرتني. والشفار : جمع شفرة ، وأراد بها هنا السيوف. والأوار : حرّ النار.

٢٧٢

يوسف ، وصدمهم بجمعه ، فردهم إلى مركزهم ، وانتظم به شمل ابن عباد ، واستنشق ريح الظفر ، وتباشر بالنصر ، ثم صدقوا جميعا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم ، وأظلم النهار بالعجاج والغبار ، وخاضت الخيل في الدماء ، وصبر الفريقان صبرا عظيما ، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف ، وحمل معه حملة جاء معها النصر ، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام (١) الفئتين ، وصدقوا الحملة ، فانكشف الطاغية ، ومرّ هاربا منهزما وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع (٢) بها بقية عمره.

وعلى سياق ابن خلكان (٣) أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء ، وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت ، فغدر الأذفونش ومكر ، فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد ، والروم على أثرها (٤) ، والناس على طمأنينة ، فبادر ابن عباد للركوب ، وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها ، ووقع البهت ، ورجفت الأرض ، وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا أهبة ، ودهمتهم خيل العدو ، فأحاطت بابن عباد ، وحطّمت ما تعرض لها ، وتركت الأرض حصيدا خلفها ، وجرح ابن عباد جرحا أساءه ، وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتم وأسلموها ، وظنوا أنه وهي (٥) لا يرقع ، ونازلة لا تدفع ، وظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ، ولم يعلم أن العاقبة للمتقين ، فركب أمير المسلمين ، وأحدق به جياد خيله (٦) ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل ، وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها ، وفتكوا فيها ، وقتلوا ، وضربت الطبول ، وزعقت البوقات ، فاهتزت الأرض ، وتجاوبت الجبال والآفاق ، وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها ، فصدموا أمير المسلمين ، فخرج لهم عنها ، ثم كر عليهم فأخرجهم منها ، ثم كروا عليه فخرج لهم عنها ، ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف (٧) ، ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الزان (٨) ، فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها ، وأحجمت (٩) أعن أقرانها ، وتلاحق الأذفونش بأسود نفذت مزاريقه ، فأهوى ليضربه بالسيف ، فلصق به الأسود ، وقبض على عنانه ، وانتضى خنجرا كان متمنطقا به ، فأثبته في فخذه ، فهتك حلق درعه ، ونفذ من

__________________

(١) في ج «بالتحاق الفئتين».

(٢) في أ«يخنع» ويخمع : يعرج.

(٣) ابن خلكان ٦ / ١١٦.

(٤) في ب ، ه «في أثرها».

(٥) الوهي : الشقّ ، التمزّق.

(٦) في ب «وأحدق به أنجاد خيله».

(٧) زهاء أربعة آلاف : أي ما يقارب أربعة آلاف.

(٨) في وفيات الأعيان ، وفي ب «مزاريق الران».

وقد أثبتنا ما في أصول النفح.

(٩) كذا في أ، ووفيات الأعيان. وفي ب «وأجحمت».

٢٧٣

فخذه مع بداد سرجه (١) ، وكان وقت الزوال ، وهبت ريح النصر ، فأنزل الله سكينته على المسلمين ، ونصر دينه القويم ، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه ، فأخرجوهم عن محلتهم ، فولوا ظهورهم ، وأعطوا أعناقهم ، والسيوف تصفعهم ، والرماح تطعنهم ، إلى أن لحقوا ربوة لجؤوا إليها واعتصموا بها ، وأحدقت بهم الخيل ، فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة ، وأفتلوا بعد ما تشبثت (٢) بهم أظفار المنية ، واستولى المسلمون على ما كان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك ، وأمر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين ، فاجتمع من ذلك تل عظيم ، انتهى ، وبعضه بالمعنى.

رجع إلى كلام صاحب «الروض المعطار» قال (٣) : ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم ، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم ، وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن يؤذنون عليها (٤) ، والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالا محيطا به وبأصحابه ، وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه ، وهنأه ، وشكره ، وأثنى عليه ، وشكر يوسف صبر ابن عباد ، ومقامه ، وحسن بلائه ، وجميل صبره ، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه ، فقال له : هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك.

وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية كتابا مضمونه : كتابي هذا من المحلة المنصورية يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب ، وقد أعز الله الدين ، ونصر المسلمين ، وفتح لهم الفتح المبين ، وهزم الكفرة المشركين (٥) ، وأذاقهم العذاب الأليم ، والخطب الجسيم ، فالحمد لله على ما يسره وسنّاه من هذه المسرة العظيمة ، والنعمة الجسيمة ، في تشتيت شمل الأذفونش ، والاحتواء على جميع عساكره ، أصلاه الله نكال الجحيم! ولا أعدمه الوبال العظيم المليم! بعد إتيان النّهب على محلاته ، واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته ، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها ، فلله الحمد على جميل صنعه (٦) ، ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة ألمت لكنها فرجت بعد ذلك ، فلله الحمد والمنة ، والسلام.

واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس ، مثل ابن رميلة صاحب الرؤيا المذكورة ، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي ، وغير هما ، رحمهم الله تعالى!.

__________________

(١) في ه «ونفذ فخدّه مع بداد سرجه».

(٢) وفي وفيات الأعيان «نشبت فيهم».

(٣) الروض المعطار ص ٩٣.

(٤) في الروض «صوامع يؤذنون عليها».

(٥) في ب ، ه «وهزم الكفرة والمشركين».

(٦) في أ، ج «جميع صنعه».

٢٧٤

وحكي أن موضع المعترك كان على اتساعه ما كان فيه موضع قدم إلا على ميت أو دم ، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام ، حتى جمعت الغنائم ، واستؤذن في ذلك السلطان يوسف ، فعفّ عنها ، وآثر بها ملوك الأندلس ، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم ، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم ، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه ، وأحبوه وشكروا له ذلك.

ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابه ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثّكلى عليهم ، اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك غما وهما ، وراح إلى أمه الهاوية (١) ، ولم يخلف إلا بنتا واحدة جعل الأمر إليها ، فتحصنت بطليطلة.

ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين ، فأقام السلطان يوسف بن تاشفين بظاهر إشبيلية ثلاثة أيام ، ووردت عليه من المغرب أخبار تقتضي العزم ، فسافر ، وذهب معه ابن عباد يوما وليلة ، فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع ، وكانت جراحاته تورّمت عليه ، فسير معه ولده عبد الله إلى أن وصل البحر ، وعبر إلى المغرب.

ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس ، وهنّئ بالفتح ، وقرأت القراء ، وقامت (٢) على رأسه الشعراء ، فأنشدوه ، قال عبد الجليل بن وهبون : حضرت ذلك اليوم ، وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه ، فقرأ القارئ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) [التوبة : ٤٠] فقلت : بعدا لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به.

ولما عزم السلطان يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير (٣) بن أبي بكر أحد قوّاده المشاهير ، وترك معه جيشا برسم غزو الفرنج ، فاستراح الأمير المذكور أياما قلائل ، ودخل بلاد الأذفونش ، وأطلق الغارة ، ونهب وسبى ، وفتح الحصون المنيعة ، والمعاقل الصعبة العويصة ، وتوغل في البلاد ، وحصل أموالا وذخائر عظيمة ، ورتب رجالا وفرسانا في جميع ما أخذه ، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله ، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدوّ وملازمة الحرب والقتال في أضيق العيش وأنكده ، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد عيش وأطيبه (٤) ، وسأله مرسومه ، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى

__________________

(١) راح إلى أمه الهاويه : أي هلك وراح إلى جهنم.

(٢) في ب ، ه «وقام على رأسه الشعراء».

(٣) في ج «سيري بن أبي بكر».

(٤) في ب ، ه «في أرغد العيش وأطيبه».

٢٧٥

أرض العدوة ، فمن فعل فذاك ، ومن أبى فحاصره وقاتله ، ولا تنفس عليه ، ولتبدأ بمن والى الثغور ، ولا تتعرض للمعتمد بن عباد ، إلا بعد استيلائك على البلاد ، وكل بلد أخذته فولّ فيه أميرا من عساكرك ، فأوّل من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود ، وكانوا بروطة ـ بضم الراء المهملة ، وبعدها واو ساكنة ، وطاء مهملة مفتوحة ، وبعدها هاء ساكنة ـ وهي قلعة منيعة من عاصمات الذرى ، وماؤها ينبع من أعلاها ، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان ، فحاصرها فلم يقدر عليها ، ورحل عنها ، وجنّد أجنادا على هيئة الفرنج وزيهم ، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها ، وكمن (١) هو وأصحابه بقرب منها ، فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم ، فنزلوا إليهم ، ومعهم صاحب القلعة ، فخرج عليه سير (٢) المذكور ، وقبضه باليد ، وتسلم الحصن ، ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس ، فأسلموا له البلاد ، ولحقوا ببر العدوة ، ثم نازل بني صمادح بالمريّة ، ولها قلعة حصينة ، فحاصرهم ، وضيق بهم ، ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبنا ، فأخذ القلعة ، واستولى على المرية وجميع أعمالها ، ثم قصد بطليوس ، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدّم ذكره ، فحاصره ، وأخذه (٣) ، واستولى على جميع أعماله وماله ، ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد ، فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل ، ويسأله مرسومه في ابن عباد ، فكتب إليه يأمره أنه يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة ، فإن رضي ، وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه ، فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف ، وسأله الجواب ، فلم يجب بنفي ولا إثبات ، ثم إنه نازل إشبيلية ، وحاصره بها ، وألح عليه ، فأقام الحصار شهرا ، ودخل البلد قهرا ، واستخرجه من قصره ، فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات ، وأقام بها إلى أن مات ، رحمه الله تعالى وعفا عنه!.

وأما ابن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر.

وأخبار المعتمد بن عباد ، وما رآه من الملك والعز في كل حاضر وباد (٤) ، وما قاساه في الأسر ، من الضيق والعسر ، وسوء العيش أمر عجيب ، يتعظ به العاقل الأريب (٥) ، وأما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسره ، وملكه وأسره ، وطيه ونشره ، وتجهّمه وبشره ، فهو كثير ، وفي كتب التواريخ منه نظيم ونثير ، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث

__________________

(١) كمن : استتر وتخفى.

(٢) في ج «سيري المذكور». كما مرّ في.

(٣) في ب «وخذه وأرسل ..».

(٤) في ب «على كل حاضر بالأندلس وباد».

والحاضر : المقيم بالحاضرة. والباد : المقيم بالبادية.

(٥) الأريب : الذكي ، المتبصر.

٢٧٦

الاعتبار ويثير ، وخصوصا في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير (١) ، وفي المعتمد وأبيه المعتضد يقول بعض الشعراء (٢) [الخفيف] :

من بني منذر وذاك انتساب

زاد في فخرهم بنو عبّاد

فتية لم تلد سواها المعالي

والمعالي قليلة الأولاد

وقال ابن القطاع في كتابه «لمح الملح» في حق المعتمد : إنه أندى ملوك الأندلس راحة (٣) ، وأرحبهم ساحة ، وأعظمهم ثمادا ، وأرفعهم عمادا ، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال (٤) ، وموسم الشعراء ، وقبلة الآمال ، ومألف الفضلاء ، حتى أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء ، وأفاضل الأدباء ، ما كان يجتمع ببابه ، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.

وقال ابن بسام في «الذخيرة» : للمعتمد شعر ، كما انشق الكمام عن الزّهر ، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة ، واتخذه بضاعة ، لكان رائقا معجبا ، ونادرا مستغربا ، فمنه قوله(٥): [الكامل]

أكثرت هجرك غير أنّك ربّما

عطفتك أحيانا عليّ أمور

فكأنّما زمن التّهاجر بيننا

ليل ، وساعات الوصال بدور

قال : وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات : [السريع]

أسفر ضوء الصبح عن وجهه

فقام ذاك الخال فيه بلال

كأنّما الخال على خدّه

ساعات هجر في زمان الوصال

وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فساير هنّ من أول الليل إلى الصبح ، فودعهن ورجع ، وأنشد أبياتا منها : [الكامل]

سايرتهم والليل عقّد ثوبه

حتّى تبدّى للنّواظر معلما

فوقفت ثمّ مودّعا وتسلّمت

منّي يد الإصباح تلك الأنجما (٦)

وهذا المعنى في نهاية الحسن ، ثم ذكر من كلامه جملة.

عود وانعطاف ـ ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة ، ـ بعد ما

__________________

(١) أثير : مفضل.

(٢) انظر وفيات الأعيان ٤ / ١١٢.

(٣) أنداهم راحة : أي أكرمهم.

(٤) في أصل ه «ملقى الرجال».

(٥) في ب «فمن ذلك قوله».

(٦) ثمّ ، بفتح الثاء : هناك.

٢٧٧

حصر بعض حصون الفرنج ، فلم يقدر عليه ـ خرج إلى لقائه (١) صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين ، فسلم عليه ، ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم ، فغدر به ، ودخل البلد ، وأخرج عبد الله ، ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لا يحد ولا يحصى ، ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها ، وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التي لا توجد في [سائر](٢) بلاد العدوة ، إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان ، فجعل خواصّ يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ، ويحسنون له أخذها ، ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه ، فتغير على المعتمد ، وقصد مشارفة الأندلس. (٣)

وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف ، وبقتالهم إن امتنعوا ، فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس ، وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد ، فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم ، ثم أخذ أسيرا ، وصار طرف الملك بعده حسيرا.

وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام (٤) : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت (٥) ، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات ، بعد ما ضاق عنهم القصر ، وراق منهم المصر ، والناس قد حشروا بضفتي الوادي ، يبكون بدموع كالغوادي (٦) ، فساروا والنوح يحدوهم ، والبوح باللوعة لا يعدوهم ، انتهى.

ولما فرغ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من أمر غزوة الزلّاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرّم له ابن عباد ، وسأله أن ينزل عنده ، فعرج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب ، فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد ـ وهي من أجل (٧) المدن وأحسنها منظرا ـ وأمعن يوسف النظر فيها وفي محلها ، وهي على نهر عظيم متبحر (٨) تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه ، وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخا يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون ، وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية ، وتمتار (٩) بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه ، وفي جانب المدينة المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء ، وفيها

__________________

(١) في ه «خرج إلى لقاء صاحب غرناطة».

(٢) ما بين حاصرتين غير موجود في ب.

(٣) في ه «وقصد مشارقة الأندلس».

(٤) القلائد ٢٣.

(٥) الجواري المنشآت : السفن.

(٦) الغوادي : السحائب.

(٧) في ب ، ه «من أحسن المدن وأجلها منظرا».

(٨) في ب ، ه «مستبحر».

(٩) تمتار : تجلب الميرة.

٢٧٨

أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك ، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها ، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له ، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها ، وما هي عليه من النعمة والإتراف ، ويغرونه باتخاذ مثلها ، ويقولون له : إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة ، كما هو المعتمد وأصحابه ، وكان ابن تاشفين [داهية](١) عاقلا مقتصدا في أموره ، غير متطاول ولا مبذر ، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم ، إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش (٢) ، فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف ، وقال له : الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل ـ يعني المعتمد ـ أنه مضيّع لما في يده من الملك ، لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا ، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه التّرّهات من أفحش الاستهتار ، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى يستجدّ همة (٣) في ضبط بلاده وحفظها؟ وصون رعيته والتوفير لمصالحها (٤) ، ولعمري لقد صدق في كل ذلك.

ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته : هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات؟ فقيل له : بل كل زمانه على هذا ، فقال : أفكلّ أصحابه وأنصاره على عدوّه ومنجديه على الملك ينال حظا من ذلك؟ فقالوا : لا ، قال : فكيف ترون رضاهم عنه؟ فقالوا : لا رضا لهم عنه ، فأطرق وسكت ، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياما.

وفي أثنائها استأذن رجل على المعتمد فدخل وهو ذو هيئة رثّة ، وكان من أهل البصائر ، فلما مثل بين يديه قال : أصلحك الله أيها السلطان! وإن من أوجب الواجبات شكر النعمة ، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح ، وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الاختلال ، أقرب منها إلى الاعتدال ، ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته ، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدلّ على أنهم يرون أنفسهم وملكهم أحقّ بهذه النعمة منك ، وقد رأيت رأيا ، فإن آثرت الإصغاء إليه قلته ، فقال المعتمد له : قله ، فقال له : رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك ، قد حكم على رفقائه (٥) ببر العدوة ، وأخذ الملك من أيديهم ، ولم يبق على واحد منهم ، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع (٦) في ملكك ، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها ، لما قد

__________________

(١) «داهية» سقطت من بعض النسخ.

(٢) شظف العيش : خشونته.

(٣) في ب «تستنجد همته في ...».

(٤) في ب «والتوقير لمصالحها».

(٥) في ب ، ه «قد حطم على زناته ببر العدوة».

(٦) في ج «إلى المطمع».

٢٧٩

عاينه من هناءة عيشك ، وإني لمتخيل (١) مثل ذلك لسائر ملوك الأندلس ، وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يودّ له الحلول بما أنت فيه من خصب الجناب ، وقد أردى الأذفونش وجيشه ، واستأصل شأفتهم ، وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه ، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجنّ (٢) ، وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم ، فقال له المعتمد : وما هو الحزم اليوم؟ فقال : أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا ، واعتقاله في قصرك ، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء ، حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه ، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له ، ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألّا يضمر في نفسه عودا إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه ، وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء ، فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه ، فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له ، وتكون قد استرحت منه بعد ما استرحت من الأذفونش ، وتقيم في موضعك على خير حال ، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ، ويتسع ملكك ، وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم ، وتهابك الملوك ، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة ، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصول مثله ، فلما سمع المعتمد كلام الرجل استصوبه ، وجعل يفكر في انتهاز الفرصة.

وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات ، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح : ما كان المعتمد على الله ـ وهو إمام أهل المكرمات ـ ممن يعامل بالحيف (٣) ، ويغدر بالضّيف ، فقال الرجل : إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه ، لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به ، فقال ذلك النديم : ضيم مع وفاء ، خير من حزم مع جفاء.

ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر ، وتلافاه ، فشكر له المعتمد ، ووصله بصلة.

واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غاديا ، فقدّم له المعتمد الهدايا السنية والتّحف الفاخرة ، فقبلها ثم رحل ، انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصا من كتب التاريخ.

__________________

(١) في ب «لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس» وفي ه «لمتخيل في مثل ذلك لسائر ملوك الأندلس».

(٢) المجنّ : الدرع.

(٣) الحيف : الظلم.

٢٨٠