نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

وإنّي على رسمي مقيم فإن أمت

سأجعل للباكين رسمي موسما

بكاك الحيا والريح شقّت جيوبها

عليك وناح الرّعد باسمك معلما (١)

ومزّق ثوب البرق واكتست الضّحى

حدادا وقامت أنجم الجوّ أفحما (٢)

وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى

وغار أخوك البحر غيضا فما طمى

وما حلّ بدر التمّ بعدك دارة

ولا أظهرت شمس الظّهيرة مبسما

قضى الله أن حطّوك عن ظهر أشقر

بشمّ وأن أمطوك أشأم أدهما (٣)

وكان قد انفكت عنه القيود ، فأشار إلى ذلك بقوله فيها :

قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت

قيودك منهم بالمكارم أرحما

عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا

لقد كان منهم بالسّريرة أعلما

سينجيك من نجّى من السّجن يوسفا

ويؤويك من آوى المسيح بن مريما

ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم ، وانتثار نظامهم ، عدة مقطعات (٤) وقصائد ، هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد ، وقد اشتمل عليها جزء لطيف ، صدر عنه في هيئة تصنيف ، سماه «السلوك ، في وعظ الملوك» ووفد على المعتمد وهو بأغمات ، عدّة وفادات ، لم يخل في جميعها من إفادات ، وقال في إحداها : هذه وفادة وفاء ، لا وفادة اجتداء.

قال غير واحد : من النادر الغريب أنه نودي على جنازته (٥) «الصلاة على الغريب» بعد عظم سلطانه ، وسعة أوطانه ، وكثرة صقالبته وحبشانه ، وعظم أمره وشأنه ، فتبارك من له العزة والبقاء والدوام ، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام ، الذين لهم في الأدب حصة ، ولقضية المعتمد في صدورهم غصّة ، منهم البالغ في البلاغة الأمد ، شاعره أبو بحر عبد الصمد ، وكان به خصيصا ، وكم ألبسه من بره حلة وقميصا ، فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ماشا ، وجلب بها إلى أنفس الحاضرين بعد الأنس إيحاشا ، مطلعها : [الكامل]

ملك الملوك أسامع فأنادي

أم قد عدتك عن السّماع عوادي

__________________

(١) في ه «وباح الرعد».

(٢) في ه «واكتست الدجى» وفيها «وقامت أنجم الليل مأتما».

(٣) أمطوك : جعلوك تمتطي.

(٤) في ب ، ه «عدة مقطوعات».

(٥) في ب ، ه «نودي في جنازته».

١٨١

ومنها :

لمّا خلت منك القصور ولم تكن

فيها كما قد كنت في الأعياد

قبّلت في هذا الثّرى لك خاضعا

وجعلت قبرك موضع الإنشاد (١)

فلما بلغ من إنشاده ، إلى مراده ، قبل الثرى ومرّغ جسمه وعفر خده ، فبكى كل من حضر وحذفه ذلك عن سرور العيد وصدّه ، إذ كانت هذه القصة يوم عيد ، فسبحان المبدىء المعيد.

ويحكى أن رجلا رأى في منامه أثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلا صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلا : [الرمل]

ربّ ركب قد أناخوا عيسهم

في ذرا مجدهم حين بسق (٢)

سكت الدّهر زمانا عنهم

ثم أبكاهم دما حين نطق

وعاش أبو بكر بن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفا بعد المعتمد ، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة ٤٨٩ ، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها : [الكامل]

ملك يروعك في حلى ريعانه

راقت برونقه صفات زمانه

وأين هذا من أمداحه في المعتمد؟!.

وتذكرت هنا من أهوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس ، فأراد أن يندر به وقال له : اجلس يا داني ، بغير ألف ، فقال له : نعم يا ابن عمار ، بغير ميم ، وهذا (٣) هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح.

ونظيره ـ وإن كان من باب آخر ـ أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط ، فكشفت وجهها ، وتكلمت بكلام لا يقتضيه الحياء ، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس والجيارين الصانعين للجير (٤) بإشبيلية ، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين ، وقال : يا ابن عمار الجيارين ، ففهم مراده ، وقال في الحال : يا مولاي والجباسين ، فلم يفهم الحاضرون المراد ، وتحيروا ، فسألوا ابن عمار ، فقال له المعتمد : لاتبعها منهم إلّا غالية ، وتفسيرها أن ابن عباد صحف «الحيا زين» بقوله الجيارين ، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت ، فقال له والجباسين وتصحيفه «والخنا شين» أي : هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها ، وهذا شأو لا يلحق.

__________________

(١) في ب «قبلت من هذا الثرى».

(٢) بسق : سما وارتفع. والعيس : النوق.

(٣) في ه «وهو الغاية في سرعة الجواب».

(٤) في ه «الصانعين للجيار».

١٨٢

ومن أخبار المعتمد أنه جلس يوما والبزاة تعرض عليه ، فاستحث الشعراء في وصفها ، فصنع ابن وهبون بديها : [الكامل]

للصّيد قبلك سنّة مأثورة

لكنّها بك أبدع الأشياء

تمضي البزاة وكلّما أمضيتها

عاطيتها بخواطر الشّعراء

فاستحسنهما ، وأسنى جائزته.

وذكر ابن بسّام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوما وقد حمل إليه حمول وافرة من قراريط الفضة ، فأمر له بكيسين منها ، وكان بين يديه تماثيل عنبر من جملتها جمل مرصّع بالذهب واللآلئ ، فقال له أبو العرب معرّضا : ما يحمل هذين الكيسين إلا جمل ، فتبسم المعتمد وأمر له به ، فقال أبو العرب بديها : [البسيط]

أهديتني جملا جونا شفعت به

حملا من الفضّة البيضاء لو حملا (١)

نتاج جودك في أعطان مكرمة

لا قد تصرف من منع ولا عقلا (٢)

فاعجب لشأني فشأني كلّه عجب

رفّهتني فحملت الحمل والجملا

وذكر الحجاري هذه القصة فقال : قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده ، وإحضار الطرائف الملوكية ، وكان في الجملة تمثال جمل من بلور ، وله عينان من ياقوتتين ، وقد حلى بنفائس الدر ، فأنشده أبو العرب قصيدة ، فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة ، فقال معرضا بذلك الجمل : ما يحمل هذه الصلة إلا جمل! فقال : خذ هذا الجمل ، فإنه حمال أثقال ، فارتجل شعرا منه :

رفّهتني فحملت الحمل والجملا

وذكر أن ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال ، فسارت بهذا الخبر الركائب ، وتهادته المشارق والمغارب.

وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره : [البسيط]

أزورهم وسواد اللّيل يشفع لي

وأنثني وبياض الصّبح يغري بي

فقال : ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقدا خفيا ، ففكروا فيه ، فلما فكروا

__________________

(١) في ج «أجديتني جملا».

(٢) كذا في أ، ب ، ج ، ه.

١٨٣

قالوا له : ما وقفنا على شيء ، فقال : الليل لا يطابق إلا بالنهار [ولا يطابق بالصبح](١) لأن الليل كلي والصبح جزئي ، فتعجب الحاضرون ، وأثنوا على تدقيق انتقاده.

قال الصفدي : قلت : ليس هذا بنقد صحيح ، والصواب مع أبي الطيب ، لأنه قال : «أزورهم وسواد الليل يشفع لي» فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفا ممن يشي به ، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة ، ودل عليه أهل النميمة والصبح أول ما يغري به قبل النهار ، وعادة الزائر المريب أن يزور ليلا ، وينصرف عند انفجار الصبح خوفا من الرقباء ، ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار ، ويمتلئ الأفق نورا ، فذكر الصبح هنا أولى من ذكر النهار ، والله أعلم ، انتهى.

قلت : كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي ، حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي (٢) ، ومن خطه نقلت ما صورته : هو ما انتقد عليه المعنى ، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح ، فإن ذلك فاسد ، انتهى ، فحمدت الله على الموافقة ، انتهى.

وقال في بدائع البداءة (٣) : جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهرا ، وحلّى جيد كل غصن من الزهر جوهرا ، وبين يديه (٤) جارية تسقيه. وهي تقابل وجهها بنجم الكاس في راحة كالثريا ، تخجل (٥) الزهر بطيب العرف والريّا ، فاتفق أن لعب البرق بحسامه ، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه ، فارتاعت لخطفته ، وذعرت من خيفته ، فقال المعتمد بديها : [السريع]

روّعها البرق وفي كفّها

برق من القهوة لمّاع

عجبت منها وهي شمس الضّحى

كيف من الأنوار ترتاع

واستدعى (٦) عبد الجليل بن وهبون المرسي ، وأنشده البيت الأول مستجيزا ، فقال عبد الجليل : [السريع]

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من ب ، ه.

(٢) في نسخة عند ه «البدر السبكي».

(٣) انظر البدائع ١ / ١٠٠.

(٤) الذي في بدائع البداءة «وبين يديه جارية تخجل الزهر بطيب العرف والريا ، وتقابل بدر وجهها بشهاب الكأس في راحة الثريا ، فاتفق أن لعب البرق بحسامه ، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركاب ركامه» وهو أدق مما هنا.

(٥) في ب «وتخجل».

(٦) في ب ، ه «فاستدعى».

١٨٤

ولن أرى أعجب من آنس

من مثل ما يمسك يرتاع (١)

فاستحسنه ، وأمر له بجائزة.

قال ابن ظافر : وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد ، انتهى.

وقال ابن بسام (٢) : كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطىء بركة يقذف الماء ، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل بن وهبون من بعض قصيدة : [الوافر]

ويفرغ فيه مثل النّصل بدع

من الأفيال لا يشكو ملالا

رعى رطب اللّجين فجاء صلدا

تراه قلّما يخشى هزالا

فجلس المعتمد يوما على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل ، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه ، والوزير أبو بكر بن الملح عنده ، فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديها منها : [البسيط]

ومشعلين من الأضواء قد قرنا

بالماء والماء بالدّولاب منزوف

لاحا لعيني كالنّجمين بينهما

خطّ المجرّة ممدود ومعطوف

وقال أيضا : [البسيط]

كأنّما النّار فوق الشّمعتين سنا

والماء من منفذ الأنبوب منسكب (٣)

غمامة تحت جنح اللّيل هامعة

في جانبيها خفاق البرق يضطرب (٤)

وقال أيضا : [الطويل]

وأنبوب ماء بين نارين ضمّنا

هدى لكؤوس الراح تحت الغياهب (٥)

كأنّ اندفاع الماء بالماء حيّة

يحرّكها في الماء لمع الحباحب (٦)

وقال أيضا : [الطويل]

كأنّ سراجي شربهم في التظائها

وأنبوب ماء الفيل في سيلانه

كريم تولّى كبره من كليهما

لئيمان في إنفاقه يعذلانه (٧)

__________________

(١) في ب ، ه «ولن ترى أعجب من آنس».

(٢) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٣٧.

(٣) في ب ، ه «والماء من نفذ الأنبوب منسكب».

(٤) الهامعة : التي تسكب المطر.

(٥) في ب «هوى الكؤوس ...».

(٦) في نسخة «كأن اندفاع الماء بالنار».

(٧) يعذلانه : يلومانه.

١٨٥

ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أوّلها (١). [الطويل]

هو الدهر فاصبر للّذي أحدث الدّهر

فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر

ستصبر صبر اليأس أو صبر وحشة

فلا تؤثر الوجه الذي معه الوزر (٢)

وإنّ متاتي لم يضعه محمد

خليفتك العدل الرّضي وابنك البرّ

هو الظّافر الأعلى المؤيّد بالّذي

له في الّذي وفّاه من صنعه سرّ (٣)

له في اختصاصي ما رأيت وزداني

مزية زلفى من نتائجها الفخر

وأرغم في بري أنوف عصابة

لقاؤهم جهم ولحظهم شزر

إذا ما استوى في الدّست عاقد حبوة

وقام سماطا حفله فلي الصّدر

وفي نفسه العلياء لي متبوّأ

يساجلني فيه السّماكان والنّسر

ومنها :

لك الخير إنّ الرّزء كان غيابة

طلعت لنا فيها كما طلع البدر (٤)

فقرّت عيون كان أسخنها البكا

وقرّت قلوب كان زلزلها الذّعر

ومنها :

ولمّا قدمت الجيش بالأمر أشرقت

إليك من الآمال آفاقها الغبر

فقضّيت من فرض الصلاة لبانة

فشيّعها نسك وقارنها طهر

ومن قبل ما قدّمت مثنى نوافل

يلاقي بها من صام من غيره فطر (٥)

ورحت إلى القصر الذي غضّ طرفه

بعيد التّسامي أن غدا غيره القصر

وأجمل عن التّاوي العزاء فإن توى

فإنّك لا الواني ولا الضّرع الغمر (٦)

وما أعطت السّبعون قبل أولي الحجا

من اللّبّ ما أعطاك عشروك والعمر

__________________

(١) ديوان ابن زيدون ص ٥٦٢. مع التنبيه إلى أن هناك اختلاف في ترتيب الأبيات مع ب.

(٢) في ب «أو صبر حسبة».

(٣) في ه «له بالذي وافاه».

(٤) في ب «كان غياية».

(٥) في ب «يلاقي بها من صان من عوز فطر».

(٦) في ب «وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى».

١٨٦

ألست الّذي إن ضاق ذرع بحادث

تبلّج منه الوجه واتّسع الصّدر

فلا تهض الدّنيا جناحك بعده

فمنك لمن هاضت نوائبها جبر

ولا زلت موفور العديد بقرّة

لعينك مشدودا بها ذلك الأزر

حذارك من أن يعقب الرّزء فتنة

يضيق بها عن مثل إيمانك العذر

إذا أسف الثّكل اللّبيب فشفّه

رأى أفدح الثّكلين أن يذهب الأجر (١)

مصاب الّذي يأسى بموت ثوابه

هو البرح لا الميت الّذي أحرز القبر

حياة الورى نهج إلى الموت مهيع

لهم فيه إيضاع كما يوضع السّفر (٢)

ومنها :

إذا الموت أضحى قصد كلّ معمّر

فإنّ سواء طال أو قصر العمر

ألم تر أنّ الدّين ضيم ذماره

فلم يغن أنصار عديدهم دثر

بحيث استقلّ الملك ثاني عطفه

وجرّر من أذياله العسكر المجر

هو الضيم لو غير القضاء يرومه

ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر

إذا عثرت جرد العناجيج في القنا

بليل عجاج ليس يصدعه فجر

ومنها :

أعبّاد يا أوفى الملوك لقد عدا

عليك زمان من سجيّته الغدر

إلى أن قال بعد أبيات كثيرة :

ألا أيها المولى الوصول عبيده

لقد رابنا أن يتلو الصّلة الهجر

يغاديك داعينا السلام كعهده

فما يسمع الداعي ولا يرفع السّتر

أعتب علينا ذا وعن ذلك الرضا

فتسمع أم بالمسمع المعتلي وقر (٣)

ومنها :

وكيف بنسيان وقد ملأت يدي

جسام أياد منك أيسرها الوفر

__________________

(١) في ب «إذ آسف ...».

(٢) النهج : الطريق. والمهيع : الطريق الواسع البين. والإيضاع : الإسراع.

(٣) في ب ، ه «أعتب علينا زاد عن ذلك الرضا».

١٨٧

وإن كنت لم أشكر لك المنن التي

تملّيتها تترى فلا بقي الكفر (١)

فهل علم الشلو المقدّس أنّني

مسوّغ حال حار في كنهها الدّهر (٢)

فإنّك شمس في سماء رياسة

تطلّع منها حولنا أنجم زهر (٣)

شككنا فلم نثبت لأيام دهرنا

بها وسن أم هزّ أعطافها سكر (٤)

وما إن تغشّتها مغازلة الكرى

وما إن تمشّت في معاطفها الخمر (٥)

سوى نشوات من سجايا مملّك

يصدّق في عليائها الخبر الخبر (٦)

أرى الدهر إن يبطش فأنت يمينه

وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر

وكم سائل بالغيب عنك أجبته

هناك الأيادي الشّفع والسودد الوتر (٧)

هناك التّقى والعلم والحلم والنهى

وبذل اللها والبأس والنظم والنثر (٨)

همام إذا لاقى المناجز ردّه

وإقباله خطر وإدباره حصر (٩)

محاسن ما للروض سامره الندى

رواء إذا نصت حلاها ولا نشر

متى انتشقت لم تدر دارين مسكها

حياء ولم يفخر بعنبره الشّحر (١٠)

عطاء ولا منّ ، وحكم ولا هوى

وحلم ، ولا عجز ، وعز ولا كبر

قد استوفت النعماء فيك تمامها

علينا فمنا الحمد لله والشّكر

__________________

(١) في ب «تترى فأوبقني الكفر».

(٢) في ب «مسوّغ حال حار في كنهها الفكر». وفي ه «مسوغ حال ضلّ في كنهها الفكر».

(٣) في ب «تطلّع منهم حولنا ...» وزهر : جمع أزهر وزهراء وهو المنير المشرق ، الصافي اللون والأزهران الشمس والقمر.

(٤) أعطافها : جمع عطف ، وهو الجانب والطرف وعطفا كل شيء : جانباه وفي ب «أأيام دهرنا».

(٥) في الديوان «مفاصلها الخمر». ومعاطفها : جمع معطف وهو الرداء. والكرى : النوم.

(٦) الخبر : بفتحتين : وهو ما ينقل ويتحدث به ، والخبر ـ بضم فسكون : هو التجربة والاختبار ، ويقال : صدق الخبر الخبر ، أي أن الاختبار بالمشاهدة أثبت الخبر المسموع. ومن قولهم : ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري.

(٧) الشفع والوتر : الزوج والآحاد. وشفع الشيء : صيّره شفيعا ، أو زوجا ، وكان وترا فشفعه بآخر أي قرنه به.

والسودد : كرم المنصب والقدر الرفيع والسيادة ، وهنا أراد بالشفع العطاء بكلتي يديه ، والسودد : الوتر ، أي السيد صاحب السيادة الأوحد.

(٨) اللها : العطايا. وفي عجز بيت للشاعر ابن وهبون في حضرة المعتمد : تجيد العطايا واللها تفتح اللها.

(٩) المناجز : من فعل ناجز : أي قاتل وبارز. ومن قولهم «المحاجزة قبل المناجزة ، أي المسالمة وطلب الصلح قبل المعالجة في القتال.

(١٠) في ب ، ه «ولم تفخر بعنبرها الشحر».

١٨٨

وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا ، في قصوره البديعة التي منها المبارك والثريا (١) : [الكامل]

فز بالنجاح وأحرز الإقبالا

وحز المنى وتنجّز الآمالا (٢)

وليهنك التأييد والظفر اللّذا

صدقاك في السمة العلية فالا

يا أيها الملك الذي لولاه لم

تجد العقول الناشدات كمالا

أما الثريا فالثريا نسبة

وإفادة وإنافة وجمالا

قد شاقها الإغباب حتى إنها

لو تستطيع سرت إليك خيالا (٣)

رفّه ورودكها لتغنم راحة

وأطل مزاركها لتنعم بالا

وتأمل القصر المبارك وجنة

قد وسطت فيها الثريا خالا

وأدر هناك من المدام كؤوسها

وأتمها وأشفها جريالا (٤)

قصر يقرّ العين منه مصنع

بهج الجوانب لو مشى لاختلالا

لا زلت تفترش السرور حدائقا

فيه وتلتحف النعيم ضلالا

وأهدى إليه تفاحا ، واعتقد أن يكتب معه قطعة ، فبدأ بها ، ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ (٥) : [مجزوء الخفيف]

دونك الراح جامده

وفدت خير وافده

وجدت سوق ذو بها

عندك اليوم كاسده

فاستحالت إلى الجمو

د وجاءت مكايده

وكتب إلى المعتمد (٦) : [السريع]

يا أيها الظافر نلت المنى

ولا أتانا فيك محذور

إن الخلال الزهر قد ضمها

ثوب عليك الدهر مزرور

__________________

(١) انظر ديوان ابن زيدون ص ٥٢٠.

(٢) في ج ، ه «وأحرز الآمالا وخذ المنى» وفي ب «وخذ المنى».

(٣) الإغباب : مصدر أغبّ ، أي شرب أو زار يوما وترك يوما ، ومنه الحديث الشريف : «زر غبّا تزدد حبّا».

(٤) الجريال : حمرة الخمرة.

(٥) الديوان ص ٢٢٤.

(٦) الديوان ص ٦١٦.

١٨٩

لا زال للمجد الذي شدته

ربع بتعميرك معمور

وافاك نظم لي في طيّه

معنى معمّى اللفظ مستور

مرامه يصعب ما لم يبح

بالسر قمريّ وشحرور

وذكر أبياتا فيها أسماء طيور عمّى بها عن بيت طيره فيها ، والبيت المطير فيه : [مجزوء الخفيف]

أنت إن تغز ظافر

فليطع من ينافر

ففكه المعتمد وجاوبه : [السريع]

يا خير من يلحظه ناظري

شهادة ما شانها زور

ومن إذا خطب دجا ليله

لاح به من رأيه نور

جاءتني الطير التي سرها

نظم به قلبي مسرور

شعر هو السحر فلا تنكروا

أنّي به ما عشت مسحور

اللفظ والقرطاس إن شبّها

قيل هما مسك وكافور

هوى لحسن الطير من فكرتي

صقر فولّى وهو مقهور

ولاح لي بيت فؤادي له

دأبا على ودك مقصور

حظك من شكري يا سيدي

حظ نما لي منك موفور (١)

قصرت في نظمي فاعذر فمن

ضاهاك في التقصير معذور

فأنت إن تنظم وتنثر فقد

أعوز منظوم ومنثور

لا يعدكم روض من الح

ظ في الإكرام والترفيع ممطور

فكتب إليه ابن زيدون (٢) : [السريع]

حظّي من نعماك موفور

وذنب دهري بك مغفور

وجانبي إن رامه أزمة

حجر لدى ظلك محجور

يا ابن الذي سرب الهدى آمن

منذ انبرى يحميه مخفور

وآمر الدهر الذي لم يزل

يصغي إليه منه مأمور

__________________

(١) في ب ، ه «حظ تمالا».

(٢) ديوان ابن زيدون ص ٦٢٠.

١٩٠

ألبس منك الدهر أسنى الحلى

بظافر منحاه منصور

قام وفي المأثور يا من له

مجد مع الأيام مأثور (١)

عبدك إن أكثر من شكره

فهو بما توليه مكثور

إن تعف عن تقصيره منعما

فاليسر أن يقبل معسور

إن حلال السحر إن صغته

في صحف الأنفس مسطور

نظم زهاني منه إذ جاءني

علق عظيم القدر مذخور (٢)

لا غرو أن أفتن إذ لا حظت

فكري منه أعين حور

تنم عن معناه ألفاظه

كما وشى بالراح بلّور

جهلت إذ عارضته غير أن

لا بد أن ينفث مصدور

يا آل عباد موالاتكم

زاك من الأعمال مبرور (٣)

إن الذي يرجو موازاتكم

من المناوين لمغرور

مكانه منكم كما انحطّ عن

منزلة المرفوع مجرور

لا زلتم في غبطة ما انجلى

عن فلق الإصباح ديجور (٤)

ولا يزل يجري بما شئتم

أعماركم لله مقدور (٥)

وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فكّ معمى كتب (٦) به إليه ابن زيدون ما صورته : [المجتث]

العين بعدك تقذى

بكلّ شيء تراه

فليجل شخصك عنها

ما بالغيب جناه

وقد قدمنا من كلام أبي الوليد بن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية.

رجع إلى بني عباد :

__________________

(١) في ب «يا مروي المأثور يا من له مجد ...».

(٢) العلق : الشيء الثمين الذي تعلقه النفس.

(٣) في ج ، ه «ذاك من الأعمال».

(٤) الديجور : الظلمة.

(٥) أعماركم : منصوبة على الظرفية.

(٦) في ه «بعد أن فك المعمى الذي كتب به إليه ابن زيدون».

١٩١

قال ابن حمديس : لما قدمت وافدا على المعتمد بن عباد استدعاني وقال : افتح الطاق ، فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه ، وواقده يفتحهما تارة ويسدّهما أخرى ، ثم أدام سد أحدهما ، وفتح آخر ، فحين تأملتهما قال لي : أجز : [المنسرح]

انظر هما في الظلام قد نجما

فقلت : كما رنا في الدّجنّة الأسد

فقال : يفتح عينيه ثمّ يطبقها

فقلت : فعل امرئ في جفونه رمد

فقال : فابتزّه الدهر نور واحدة

فقلت : وهل نجا من صروفه أحد

فاستحسن ذلك وأطربه ، وأمر لي بجائزة ، وألزمني الخدمة.

وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله : [الوافر]

أراك ركبت في الأهوال بحرا

عظيما ليس يؤمن من خطوبه

تسيّر فلكه شرقا وغربا

وتدفع من صباه إلى جنوبه

وأصعب من ركوب البحر عندي

أمور ألجأتك إلى ركوبه

ولغيره : [المجتث]

إنّ ابن آدم طين

والبحر ماء يذيبه

لو لا الّذي فيه يتلى

ما جاز عندي ركوبه (١)

وقال ابن حمديس في هذا المعنى : [المجتث]

لا أركب البحر ، أخشى

عليّ منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

والطّين في الماء ذائب

__________________

(١) في ه «لو لا الذي جاء يتلى».

١٩٢

رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى :

قال ابن بسام (١) : أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر بن الإشبيلي ، قال : حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر بن عمار (٢) ، فلما دارت الكأس ، وتمكن الأنس ، وغنيت أصواتا ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب ، فارتجل يخاطب الرشيد : [البسيط]

ما ضرّ أن قيل إسحاق وموصله

ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق

أنت الرشيد فدع من قد سمعت به

وإن تشابه أخلاق وأعراق

لله درّك داركها مشعشعة

واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق

وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجبا ، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا ، وكذلك إخوته ، وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم ، وأمهم اعتماد الملقبة بالرّميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع ، واقتضت المناسبة ذكر أمر (٣) بني عباد ، فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى ، فنقول :

قال ابن سعيد في بعض مصنفاته : كان المعتمد كثيرا ما يأنس بها ، ويستظرف نوادرها ، ولم تكن لها معرفة بالغناء ، وإنما كانت مليحة الوجه ، حسنة الحديث ، حلوة النادر ، كثيرة الفكاهة ، لها في كل ذلك نوادر محكية ، وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن ، وهي أبدع منها ملحا ، وأحسن افتنانا ، وأجل منصبا ، وكان أبوها أمير قرطبة ، ويلقب بالمستكفي بالله ، وأخبار أبي الوليد بن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة ، انتهى ملخصا.

ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها «ولا يوم الطين» وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين ، فاشتهت المشي في الطين ، فأمر المعتمد ، فسحقت أشياء من الطيب ، وذرّت في ساحة القصر حتى عمته ، ثم نصبت الغرابيل ، وصبّ فيها ماء الورد على أخلاط الطيب ، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين ، وخاضتها مع جواريها ، وغاضبها في بعض

__________________

(١) بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٩.

(٢) في ب «أبو بكر بن عمار».

(٣) في ه «واقتضت المناسبة بعض ما ذكرناه من أمر بني عباد».

١٩٣

الأيام ، فأقسمت أنها لم تر منه خيرا قط ، فقال : ولا يوم الطين؟ فاستحيت واعتذرت ، وهذا مصداق قول نبينا صلى الله عليه وسلم في حق النساء «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط».

قلت : ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته : [البسيط]

يطأن في الطّين والأقدام حافية

كأنّها لم تطأ مسكا وكافورا

ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما جرت به عادة الملوك من ذرّ الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم ، زيادة في التنعم.

وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال (١) : وأول عيد أخذه ـ يعني المعتمد ـ بأغمات وهو سارح ، وما غير الشجون له مسارح (٢) ، ولازي إلّا حالة الخمول ، واستحالة المأمول ، فدخل إليه ، من يسليه ويسلم عليه (٣) ، وفيهم بناته وعليهن أطمار (٤) ، كأنها كسوف وهن أقمار ، يبكين عند التساؤل ، ويبدين الخشوع بعد التخايل ، والضياع قد غير صورهن ، وحير نظرهن ، وأقدامهن حافية ، وآثار نعيمهن عافية ، فقال : [البسيط]

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة

يغزلن للنّاس ما يملكن قطميرا (٥)

برزن نحوك للتّسليم خاشعة

أبصارهنّ حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية

كأنّها لم تطأ مسكا وكافورا

لا خدّ إلا تشكّى الجدب ظاهره

وليس إلّا مع الأنفاس ممطورا

أفطرت في العيد لا عادت مساءته

فكان فطرك للأكباد تفطيرا (٦)

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا

فردّك الدهر منهيّا ومأمورا

من بات بعدك في ملك يسرّ به

فإنّما بات بالأحلام مغرورا

__________________

(١) القلائد ص ٢٥.

(٢) في ب ، ج «وما غير الشجون له مبارح».

(٣) في ب ، ه «فدخل عليه من بنيه ، من يسلم عليه ويهنيه».

(٤) الأطمار : جمع طمر ، وهو الثوب البالي.

(٥) القطمير : الشيء الهين القليل الحقير.

(٦) في أ«لا عادت إساءته» وهي جملة دعائية. وتفطيرا : مصدر فطّر ، أي شقّ.

١٩٤

وقال الفتح أيضا (١) : ولما نقل المعتمد من بلاده ، وأعرى من طارفه وتلاده ، وحمل في السفين ، وأحلّ في العدوة محلّ الدفين ، تندبه منابره وأعواده ، ولا يدنو منه زوّاره ولا عوّاده ، بقي أسفا تتصعد زفراته ، وتطرد اطراد المذانب (٢) عبراته ، لا يخلو بمؤانس ، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس (٣) ، ولما لم يجد سلوا ، ولم يؤمّل دنوا ، ولم ير وجه مسرة مجلوّا ، تذكر منازله فشاقته ، وتصور بهجتها فراقته ، وتخيل استيحاش أوطانه ، وإجهاش قصره إلى قطّانه ، وإظلام جوه من أقماره ، وخلوه من حرّاسه وسمّاره ، فقال : [البسيط]

بكى المبارك في إثر ابن عباّد

بكى على إثر غزلان وآساد

بكت ثرياه لاغمّت كواكبها

بمثل نوء الثريّا الرّائح الغادي

بكى الوحيد ، بكى الزاهي وقبته

والنهر والتاج ، كل ذله بادي

ماء السماء على أفيائه درر

يا لجّة البحر دومي ذات إزباد (٤)

وفي ذلك يقول ابن اللبانة : [البسيط]

أستودع الله أرضا عندما وضحت

بشائر الصّبح فيها بدّلت حلكا (٥)

كان المؤيّد بستانا بساحتها

يجني النعيم وفي عليائها فلكا

في أمره لملوك الدّهر معتبر

فليس يغترّ ذو ملك بما ملكا

نبكيه من جبل خرّت قواعده

فكلّ من كان في بطحائه هلكا

وكان القصر (٦) الزاهي من أجمل المواضع لديه وأبهاها ، وأحبها إليه وأشهاها ، لإطلاله على النهر ، وإشرافه على القصر ، وجماله في العيون ، واشتماله بالزهر والزيتون (٧) ، وكان له به من الطرب ، والعيش المزري بحلاوة الضّرب (٨) ، ما لم يكن بحلب لبني حمدان ، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وكان كثيرا ما يدير به راحه ، ويجعل فيه انشراحه ، فلما

__________________

(١) القلائد ص ٣.

(٢) المذانب : الدلاء.

(٣) العرين : مأوى السباع. والمكانس : مأوى الظباء.

(٤) في ه «ماء السماء على أبنائه درر».

(٥) الحلك : الظلمة.

(٦) في ه «الحصن الزاهي» وفي القلائد «الحصن الزاهر».

(٧) في القلائد «بالشجر والزيتون».

(٨) الضّرب ـ بالتحريك : العسل الأبيض الغليظ.

١٩٥

امتد الزمان إليه بعدوانه ، وسد عليه أبواب سلوانه ، لم يحنّ إلا إليه ، ولم يتمن غير الحلول لديه (١) ، فقال : [الطويل]

غريب بأرض المغربين أسير

سيبكي عليه منبر وسرير

وتندبه البيض الصوارم والقنا

وينهلّ دمع بينهنّ غزير

مضى زمن والملك مستأنس به

وأصبح منه اليوم وهو نفور

برأي من الدهر المضلّل فاسد

متى صلحت للصّالحين دهور

أذلّ بني ماء السّماء زمانهم

وذلّ بني ماء السّماء كبير

فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

أمامي وخلفي روضة وغدير

بمنبتة الزيتون مورثة العلا

تغنّي حمام أو ترنّ طيور

بزاهرها السّامي الّذي جاده الحيا

تشير الثريّا نحونا ونشير

ويلحظنا الزّاهي وسعد سعوده

غيورين والصّبّ المحبّ غيور

تراه عسيرا لا يسيرا مناله

ألا كلّ ما شاء الإله يسير

وقال الحجاري في «المسهب» إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة ، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس ، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثّمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم ، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك ، فخرج بها إلى قصر الزهراء (٢) على نهر إشبيلية ، وقعد على الراح ، فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات : [الكامل]

حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم

ولووا عمائمهم على الأقمار

وتقلّدوا يوم الوغى هندية

أمضى إذا انتضيت من الأقدار (٣)

إن خوّفوك لقيت كل كريهة

أو أمّنوك حللت دار قرار

فوقع في قلبه أنها عرّضت بساداتها ، فلم يملك غضبه ، ورمى بها في النهر ، فهلكت ، انتهى ، فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقا للجارية في قولها :

إن خوّفوك لقيت كلّ كريهة

__________________

(١) في ه «ولم يتمن الحلول إلا لديه».

(٢) في ب ، ه «إلى قصر الزاهر».

(٣) الوغى : الحرب ، وانتضيت : سلت. والهندية : السيوف.

١٩٦

وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهرا ، وسيق إلى أمير المسلمين ، والقصة (١) مشهورة.

وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته (٢) : ولما تم في الملك أمده ، وأراد الله تعالى أن تخر عمده ، وتنقرض أيامه ، وتتقوض عن عراص الملك خيامه (٣) ، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته ، وظاهرته فساطيطه ومظلاته ، وبعد ما نثرت حصونه وقلاعه ، وسعّرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه ، وأخذت عليه الفروج والمضايق ، وانثنت (٤) إليه الموانع والعوائق ، وطرقته طوارقها بالإضرار ، وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار (٥) ، وهو ساه بروض ونسيم ، لاه براح ومحيا وسيم ، زاه بفتاة تنادمه ، ناه عن هدم أنس هو هادمه ، لا يصيخ إلى نبأة سمعه ، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه ، وقد ولى المدامة ملامه ، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه ، وتلك الجيوش تجوس خلاله ، وتقلص ظلاله ، وحين اشتد حصاره ، وعجز عن المدافعة أنصاره ، ودلّس (٦) عليه ولاته ، وكثرت أدواؤه وعلّاته ، فتح باب الفرج ، وقد لفح شواظ الهرج ، فدخلت عليه من المرابطين زمره ، واشتعلت من التغلب جمره ، تأجج اضطرامها ، وسهل بها إيقاد الفتنة (٧) وإضرامها ، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا عن مفاضته (٨) ، جامحا كالمهر قبل رياضته ، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته ، وظهروا على البلد من أكثر جهاته ، وسيفه في يده يتلمّظ للطّلى والهام ، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام ، فرماه أحد الداخلين برمح تخطّاه ، وجاوز مطاه (٩) ، فبادره بضربة أذهبت نفسه ، وأغربت شمسه ، ولقي ثانيا فضربه وقسمه ، وخاض حشا ذلك الداء وحسمه ، فاجلوا عنه ، وولوا فرارا منه ، فأمر بالباب فسد ، وبنى منه ما هد ، ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها ، وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها ، وفي ذلك يقول عندما خلع ، وأودع من المكروه ما أودع : [مجزوء الكامل]

إن يسلب القوم العدى

ملكي وتسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه

لم تسلم القلب الضّلوع

قد رمت يوم نزالهم

أن لا تحصّنني الدّروع

__________________

(١) في ه «والقضية مشهورة».

(٢) انظر القلائد ص ٢١.

(٣) العراص : جمع عرصة ، وهي ساحة الدار.

(٤) في ب ، ه «وثنت».

(٥) الديمة ، السحابة الممطرة. والمدرار : الغزيرة الماء.

(٦) دلّس عليه : أتاه بغير الصحيح.

(٧) في القلائد «إيقاد البقية وإخدامها».

(٨) في ب ، ه «حاسرا من مفاضته» والمفاضة : الدرع.

(٩) جاوز مطاه : جاوز مطيته.

١٩٧

وبرزت ليس سوى القمي

ص على الحشا شيء دفوع

أجلي تأخّر لم يكن

بهواي ذلي والخشوع (١)

ما سرت قط إلى القتا

ل وكان من أملي الرجوع

شيم الألى أنا منهم

والأصل تتبعه الفروع

وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب ، ثم ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات.

ومن حكايات مجالس أنسه أيام ملكه ، قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه ، ما حكاه الفتح (٢) عن ذخر الدولة أنه دخل عليه في دار المزينية والزهر يحسد إشراق مجلسه ، والدر يحكي اتّساق تأنسه ، وقد رددت الطير شدوها ، وجودت (٣) طربها ولهوها ، وجدّدت كلفها وشجوها ، والغصون قد التحفت بسندسها ، والأزهار تحيي بطيب تنفسها ، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها ، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها (٤) ، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب ، ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب ، وقد توشح وكأن الثريا وشاحه ، وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه ، فكلما (٥) ناوله الكأس خامرته سوره ، وتخيل أن الشمس تهديه نوره ، فقال المعتمد [المنسرح] :

لله ساق مهفهف غنج

قد قام يسقي فجاء بالعجب

أهدى لنا من لطيف حكمته

في جامد الماء ذائب الذّهب

ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن بن اليسع (٦) ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب ، ولم يبد فيه غير نجم ثاقب ، فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول ، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول ، بعد أن وصى بما خلف ، وودع من تخلف ، فلما مثل بين يديه آنسه ، وأزال توجّسه ، وقال له : خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي ، وكفكفت (٧) فيه غرب دموعي ، بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها ، لا يجول قلبها ولا خلخالها (٨) ، وقد قلت في يوم وداعها ، عند تفطر كبدي وانصداعها [الطويل] :

__________________

(١) في ج «يهواه ذلي والخضوع». وفي ب «بهواي ذلي والخضوع».

(٢) القلائد ص ٩.

(٣) في ب «وجددت».

(٤) آذار ونيسان : من الشهور الرومية.

(٥) في ج «فلما».

(٦) في ب «أبا الحسن بن أليسع».

(٧) في ب ، ه «وكففت فيه غرب دموعي».

(٨) القلب : السوار.

١٩٨

ولمّا التقينا للوداع غديّة

وقد خفقت في ساحة القصر رايات

بكينا دما حتّى كأنّ عيوننا

لجري الدّموع الحمر منها جراحات (١)

وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي وأبرأتني من توجّعي ومكنتني من رضابها ، وفتنتني بدلالها وخضابها ، فقلت : [الطويل]

أباح لطيفي طيفها الخدّ والنّهدا

فعضّ بها تفّاحة واجتنى وردا (٢)

ولو قدرت زارت على حال يقظة

ولكن حجاب البين ما بيننا مدّا

أما وجدت عنّا الشّجون معرّجا

ولا وجدت منّا خطوب النّوى بدّا

سقى الله صوب القطر أمّ عبيدة

كما قد سقت قلبي على حرّه بردا

هي الظّبي جيدا ، والغزالة مقلة ،

وروض الربا عرفا ، وغصن النّقا قدّا

فكرر استجادته ، وأكثر استعادته ، فأمر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه.

قال الفتح (٣) : وأخبرني ابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه ، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه ، فسقاه الساقي وحيّاه ، وسفر له الأنس عن مونق محيّاه ، فقام للمعتمد مادحا ، وعلى دوحة تلك النعماء صادحا ، فاستجاد قوله ، وأفاض عليه طوله ، فصدر وقد امتلأت يداه ، وغمره جوده ونداه ، فلما حل بمنزله وافاه رسوله بقطيع وكاس من بلار ، قد أترعا بصرف العقار ، ومعهما : [الكامل]

جاءتك ليلا في ثياب نهار

من نورها وغلالة البلّار

كالمشتري قد لفّ من مرّيخه

إذ لفّه في الماء جذوة نار

لطف الجمود لذا وذا فتألّفا

لم يلق ضد ضده بنفار

يتحيّر الراءون في نعتيهما

أصفاء ماء أم صفاء دراري

وقال الفتح أيضا : وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه ، وأوقد فيها أضواءه ، وهو على البحيرة (٤) الكبرى ، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا ، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا ، وقد أرجت نوافج الند (٥) ، وماست معاطف الرّند ، وحسد النسيم

__________________

(١) في ه «تجري الدموع الحمر منها جراحات».

(٢) في ه «فعض به تفاحة».

(٣) القلائد ص ٦.

(٤) في ج «الحيرة الكبرى».

(٥) في ج «نوافح» بالمهملة. والنوافج : جمع نافجة ، وهي وعاء المسك.

١٩٩

الروض فوشى بأسراره ، وأفشى حديث (١) آسه وعراره ، ومشى مختالا بين لبّات النّور وأزراره (٢) ، وهو وجم ، ودمعه منسجم ، وزفراته تترجم عن غرامه ، وتجمجم عن تعذر مرامه (٣) ، فلما نظر إليه استدناه وقربه ، وشكا إليه من الهجران ما استغربه ، وأنشده : [المتقارب]

أيا نفس لا تجزعي واصبري

وإلا فإنّ الهوى متلف

حبيب جفاك وقلب عصاك

ولاح لحاك ولا منصف

شجون منعن الجفون الكرى

وعوّضنها أدمعا تنزف

فانصرف ولم يعلمه بقصته ، ولا كشف له عن غصّته ، انتهى.

وقال الفتح أيضا : أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة قد ثنى (٤) السرور منامها ، وامتطى الحبور غاربها وسنامها (٥) ، وراع الأنس فؤادها ، وستر بياض الأماني سوادها ، وغازل نسيم الروض زوارها وعوّادها ، ونور السراج (٦) قد قلّص أذيالها ، ومحا من لجين الأرض نيالها ، والمجلس مكتس بالمعالي ، وصوت المثاني والمثالث عالي ، والبدر قد كمل ، والتحف بضوئه القصر واشتمل ، وتزين بسناه وتجمل ، فقال المعتمد : [الكامل]

ولقد شربت الرّاح يسطع نورها

والليل قد مدّ الظلام رداء

حتى تبدّى البدر في جوزائه

ملكا تناهى بهجة وبهاء

وتناهضت زهر النجوم يحفّه

لألاؤها فاستكمل اللألاء

لما أراد تنزها في غربه

جعل المظلة فوقه الجوزاء (٧)

وترى الكواكب كالمواكب حوله

رفعت ثريّاها عليه لواء

وحكيته في الأرض بين كواكب

وكواعب جمعت سنا وسناء (٨)

إن نشرت تلك الدروع حنادسا

ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء

وإذا تغنت هذه في مزهر

لم تأل تلك على التّريك غناء

__________________

(١) في ه «أحاديث آسه وعراره».

(٢) النّور : الزهر الابيض.

(٣) في ه «عن غرام» و «تعذر مرام».

(٤) في ج «قد امتنى السرور منامها».

(٥) الحبور : السرور. والغارب : الكاهل.

(٦) في ب ، ه «ونور السّرج» وهو جمع سراج.

(٧) في ج «لما أراد تنزها في غربة».

(٨) السنا : الضوء الشديد. والسناء : العلوّ والرفعة.

٢٠٠