نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

كأنّ الهواء غدير جمد

بحيث البروق تذيب البرد

خيوط وقد عقدت في الهواء

وراحة ريح تحلّ العقد

وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه إساءة ، وليل نسخ نور أنسه مساءه ، ومعهم جملة من الشعراء ، وجماعة من الوزراء ، منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال ، وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال ، آل به إلى تجريد السيف ، وتكدير ما صفا بذلك الخيف ، فسكنوه بالاستنزال ، وثنوه عن ذلك النزال.

وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة : كان نبيل السيرة والنظام ، كثير الارتباط في سلكه والانتظام ، أحرز خصالا ، وطرّز بمحاسنه بكرا وآصالا ، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد أمد وبنى من المعارف أثبت عمد ، إلا أن الأيام حرمته ، وقطعت حبل رعايته وصرمته ، فلم تتم له وطرا ، ولم تسجم عليه الحظوة مطرا ، ولا سوغت من الحرمة نصيبا ، ولا أنزلته مرعى خصيبا ، فصار راكب صهوات ، وقاطع فلوات ، لا يستقر يوما ، ولا يستحسن نوما ، مع توهم لا يظفره بأمان ، وتقلب ذهن كالزمان ، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش ، وأقطعه جانبا من العيش ، ورقاه (١) إلى سمائه ، وسقاه صيّب نعمائه ، وفيأه ظلاله ، وبوّأه أثر النعمة يجوس خلاله (٢) ، فصرف به أقواله ، وشرف بعواقبه فعاله ، وأفرده منها بأنفس در ، وقصده منها بقصائد غر ، انتهى المقصود جلبه من ترجمته في المطمح.

وقال في حقه في القلائد : رافع راية القريض ، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض ، أقام شرائعه ، وأظهر روائعه ، وصار عصيّه طائعه ، إذا نظم أزرى (٣) بنظم العقود ، وأتى بأحسن من رقم البرود ، وطغى (٤) عليه حرمانه ، فما صفا له زمانه ، انتهى.

وابن بقي المذكور هو القائل :

بأبي غزال غازلته مقلتي

بين العذيب وبين شطّي بارق

الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع.

ومن موشحاته قوله :

__________________

(١) في ب ، ه «وأرقاه».

(٢) في ه «تجوس خلاله».

(٣) في ب «زرى بنظم العقود».

(٤) في ب ، ه «وطفا عليه حرمانه ، وما صفا له زمانه».

١٦١

عبث الشّوق بقلبي فاشتكى

ألم الوجد فلبّت أدمعي (١)

أيها الناس فؤادي شغف

هو من بغي الهوى لا ينصف

كم أداريه ودمعي يكف

أيّها الشادن من علّمكا

بسهام اللّحظ قتل السّبع

بدر تمّ تحت ليل أغطش (٢)

طالع في غصن بان منتشي

أهيف القدّ بخدّ أرقش

ساحر الطّرف وكم ذا فتكا

بقلوب الأسد بين الأضلع

أيّ ريم رمته فاجتنبا

وانثنى يهتزّ من سكر الصّبا

كقضيب هزّه ريح الصّبا

 

قلت هب لي يا حبيبي وصلكا

واطّرح أسباب هجري ودع

قال خدّي زهره مذ فوّفا (٣)

جرّدت عيناي سيفا مرهفا

حذرا منه بأن لا يقطفا

إنّ من رام جناه هلكا

فأزل عنك علال الطّمع (٤)

ذاب قلبي في هوى ظبي غرير

وجهه في الدّجن صبح مستنير (٥)

وفؤادي بين كفّيه أسير

لم أجد للصّبر عنه مسلكا

فانتصاري بانسكاب الأدمع

__________________

(١) في ب ، ه «غلب الشوق بقلبي فاشتكى».

(٢) الليل الأغطش : المظلم.

(٣) فوّف الزهر : أراد أزهر.

(٤) في نسخة عند ه «فأزل عنك هلال الطمع».

(٥) الدّجن : أراد الظلمة.

١٦٢

وقال رحمه الله تعالى :

خذ حديث الشّوق عن نفسي

وعن الدّمع الّذي همعا (١)

ما ترى شوقي قد اتّقدا (٢)

وهمى بالدّمع واطّردا (٣)

واغتدى قلبي عليك سدى

آه من ماء ومن قبس

بين طرفي والحشا جمعا

بأبي ريم إذا سفرا

أطلعت أزراره قمرا

فاحذروه كلّما نظرا

فبألحاظ الجفون قسي

أنا منها بعض من صرعا

أرتضيه جار أو عدلا

قد خلعت العذر والعذلا

إنّما شوقي إليه جلا

كم وكم أشكو إلى اللّعس

ظمئي لو أنّه نفعا (٤)

صال عبد الله بالحور

وبطرف فاتر النّظر

حكمه في أنفس البشر

مثل حكم الصّبح في الغلس

إن تجلّى نوره صدعا

شبّهته بالرّشا الأمم

فلعمري إنّهم ظلموا

فتغنّى من به السّقم

__________________

(١) همع : سال.

(٢) في ب «ما ترى شوقي وقد وقدا» وفي ه. وعليه تفتح ياء المتكلم في «شوقي».

(٣) في ب ، ه «وهمي دمعي واطراد».

(٤) كذا في أ، ب. وفي أصل ه «كم وكم أشكو إلى الألعس».

١٦٣

أين ظبي القفر والكنس

من غزال في الحشا رتعا (١)

انتهى ، وله أيضا :

ما ردّني لابس

ثوب الضّنا الدّارس إلا قمر

في غصن مائس

شعاعه عاكس ضوء البصر

أسير كالسّيل

إليه لا باع إلّا وداد

والطيف في خيل

لهنّ إسراع مع الرّقاد

يا كوكب اللّيل

إن كنت ترتاع فلم فؤادي

كالأسد العابس

لكنّه خانس من الحور

ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها ، منها في المديح قوله : [الكامل]

نوران ليسا يحجبان عن الورى

كرم الطّباع ولا جمال المنظر

وكلاهما جمعا ليحيى فليدع

كتمان نور علائه المتشهّر

في كلّ أفق من جمال ثنائه

عرف يزيد على دخان المجمر (٢)

رد في شمائله ورد في جوده

بين الحديقة والغمام الممطر

بدر عليه من الوقار سكينة

فيها لقيطة كلّ ليث مخدر (٣)

مثل الحسام إذا انطوى في غمده

ألقى المهابة في نفوس الحضّر

أربى على المزن الملثّ لأنّه

أعطى كما أعطى ولم يستعبر

ومنها :

أقبلت مرتادا لجودك إنّه

صوب الغمامة بل زلال الكوثر (٤)

ورأيت وجه النّجح عندك أبيضا

فركبت نحوك كلّ لجّ أخضر

__________________

(١) الكنس : مخبأ الغزال بين الأشجار.

(٢) العرف ، بفتح فسكون : الرائحة الطيبة.

(٣) الليث : الأسد. والمخدّر : الأسد في عرينه.

(٤) مرتادا : قاصدا ، طالبا. وصوب الغمامة : المطر الذي لا يؤذي.

١٦٤

وهي طويلة.

وقوله : «أربى على المزن الملث ـ البيت» هو معنى تلاعب الشعراء بكرته ، وأورده كل منهم على حسب مقدرته ، فقال بعض : [المنسرح]

من قاس جدواك بالغمام فما

أنصف في الحكم بين شيئين

أنت إذا جدت ضاحك أبدا

وهو إذا جاد دامع العين

وقال آخر : [الخفيف]

ما نوال الغمام يوم ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء

وهما من شواهد البديع.

وقال أبو عبد الله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبد الله الزياني: [الخفيف]

أصبح المزن من عطائك يحكي

يوم الاثنين للأنام عطاء

كيف يدعى لك الغمام شبيها

ولقد فقته سنا وسناء

أنت تعطي إذا تقصّر مالا

وهو يعطي إذا تطوّل ماء

رجع ـ وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور ، وأورد له جملة من المقطعات ، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى ، وبقي على وزن علي.

رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى.

وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه : بماذا أصفهم وأحليهم ، وأي منقبة من الجلالة أوليهم (١) ، فهم القوم الذي تجل مناقبهم عن العد والإحصاء ، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء ، ملوك بهم زينت الدنيا (٢) وتحلت ، وترقّت حيث شاءت وحلت ، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين ، أو عدّت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين ،

__________________

(١) المنقبة ـ بفتح الميم والقاف بينهما نون ساكنة : المأثرة والمحمدة. وأوليهم : أراد أنحلهم وأذكرها لهم ، وأصل معنى أوليهم : أعطيهم.

(٢) في ب ، ه «ملوك زينت بهم الدنيا».

١٦٥

أصبح الملك بهم مشرق القسام (١) ، والأيام ذات بهجة وابتسام ، حتى أناخ بهم الحمام ، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام ، فنقل إلى العدم وجودهم ، ولم يرع بأسهم وجودهم ، وكل ملك آدمي فمفقود ، وما نؤخره إلا لأجل معدود ، فأول ناشئة ملكهم ، ومحصل الأمر تحت ملكهم ، عظيمهم الأكبر ، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر ، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر ، محمد بن عباد ، ويكنى أبا القاسم ، واسم والده إسماعيل ، ومن شعره قوله : [السريع]

يا حبّذا الياسمين إذ يزهر

فوق غصون رطيبة نضّر

قد امتطى للجبال ذروتها

فوق بساط من سندس أخضر (٢)

كأنّه والعيون ترمقه

زمرّد في خلاله جوهر (٣)

ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول : وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته : المعتضد أبو عمرو عبّاد رحمه الله تعالى ، لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم ، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم ، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوسا ، ولا تنبت إلا رئيسا ومرءوسا ، فكان نظره إليها أشهى مقترحاته ، وفي التلفت إليها استعمل جلّ بكره وروحاته ، فبكى وأرق ، وشتت وفرق ، ولقد حكى عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع ، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع ، ومن نظمه عفا الله عنه [مجزوء الرجز] :

تتك أمّ الحسن

تشدو بصوت حسن

تمدّ في ألحانها

من الغناء المدني (٤)

تقود منّي ساكنا

كأنّني في رسن (٥)

أوراقها أستارها

إذا شدت في فنن

وقوله : [الطويل]

شربنا وجفن اللّيل يغسل كحله

بماء صباح والنّسيم رقيق

__________________

(١) القسام ـ بفتح القاف : الجمال.

(٢) السندس : نوع من رقيق الحرير.

(٣) في ب «في حلاله جوهر».

(٤) كذا في ب ، ج ، عن ه ، وفي أصل ه «مدّ الغناء المدني».

(٥) في أصل ه «تقود مني سلسلا».

١٦٦

معتّقة كالتّبر أمّا بخارها

فضخم وأمّا جسمها فرقيق (١)

وقوله : [المتقارب]

قد وجدنا الحبيب يصفي وداده

وحمدنا ضميره واعتقاده

قرّب الحبّ من فؤاد محبّ

لا يرى هجره ولا إبعاده

وقال عند حصول رندة في ملكه : [مجزوء الكامل]

لقد حصّنت يا رنده

فصرت لملكنا عدّة (٢)

أفادتناك أرماح

وأسياف لها حدّه

وقال رحمه الله تعالى : [مجزوء الكامل]

اشرب على وجه الصّباح

وانظر إلى نور الأقاح

واعلم بأنّك جاهل

ما لم تقل بالاصطباح (٣)

فالدّهر شيء بارد

ما لم تسخّنه براح (٤)

ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد أن ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته ، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء ، فسألوه ، فقال : إني شاعر ، فقالوا : أنشدنا من شعرك ، فقال : [الكامل]

إنّي قصدت إليك يا عبّادي

قصد القليق بالجري للوادي

فضحكوا منه وازدروه ، فقال بعض عقلائهم : دعوه فإن هذا شاعر ، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم ، فلم يبالوا بكلام الرجل ، وتنادروا على المذكور ، فبقي معهم ، وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص لا يدخل فيه على الملك غيرهم ، وربما كان يوم الاثنين ، فقال بعض لبعض : هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا ، ويجترئ على الدخول معنا ، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان ، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم ، ويكون ذلك حسما لعلة إقدام مثله عليهم ، فلما كان اليوم المذكور ، وقعد السلطان في مجلسه ، ونصب الكرسي لهم

__________________

(١) في ه «وأما جسمها فدقيق». وفي ب «أما نجارها».

(٢) في ب «لقد حصلت يا رنده».

(٣) الاصطباح : الشرب صباحا.

(٤) الراح : الخمر.

١٦٧

ـ رغبوا منه أن يكون هذا القادم أول متكلم في ذلك اليوم ، فأمر بذلك ، فصعد الكرسي ، وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم ، فقال : [الكامل]

قطّعت يا يوم النّوى أكبادي

وحرمت عن عيني لذيذ رقادي

وتركتني أرعى النّجوم مسهّدا

والنّار تضرم في صميم فؤادي

فكأنّما آلى الظّلام أليّة

لا ينجلي إلّا إلى ميعاد (١)

لي بين بين أين تقتاد النّوى

إبل الّذين تحمّلوا بسعاد (٢)

ولربّ خرق قد قطعت نياطه

واللّيل يرفل في ثياب حداد (٣)

بشملّة حرف كأنّ ذميلها

سرح الرّياح وكلّ برق غادي (٤)

والنجم يحدوها وقد ناديتها

يا ناقتي عوجي على عبّاد

ملك إذا ما أضرمت نار الوغى

وتلاقت الأجناد بالأجناد

فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني

وترى الرّءوس لقى بلا أجساد

يا أيّها الملك المؤمّل والّذي

قدما سما شرفا على الأنداد

إنّ القريض لكاسد في أرضنا

وله هنا سوق بغير كساد

فجلبت من شعري إليك قوافيا

يفنى الزّمان وذكرها متمادي (٥)

من شاعر لم يضطلع أدبا ولا

خطّت يداه صحيفة بمداد

فقال له الملك : أنت ابن جاخ؟ فقال : نعم ، فقال : اجلس فقد وليتك رياسة (٦) الشعراء ، وأحسن إليه ، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده. انتهى.

رجع إلى أخبار بقية بني عباد :

المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى : ملك مجيد ، وأديب على الحقيقة مجيد ، وهمام تحلّى به للملك لبّة

__________________

(١) آلى : أقسم. والآلية ـ بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء مفتوحة : الحلف والقسم.

(٢) في ب «ما يا بين بين».

(٣) النياط : «عرق غليظ متصل بالقلب ، فإذا قطع مات صاحبه.

(٤) الشملة : من النوق : السريعة الخفيفة. والذميل : السير السريع اللين.

(٥) في نسخة عند ه : «فجليت من شعري إليك قوافيا».

(٦) في ب «رئاسة الشعراء».

١٦٨

وللنظم جيد ، أفنى الطغاة بسيفه وأباد ، وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد ، فأطلع أيامه في الزمان حجولا وغررا ، ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودررا ، وشيد في كل معلوة فناءه ، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة (١) أوقاته وآناءه ، فنفقت به للمحامد سوق ، وبسقت ثمرات إحسانه أيّ بسوق ، منع وقرى ، وراش (٢) وبرى ، ووصل وفرى ، وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم الملك ، وزين بهم سماء ذلك السلك ، فكانوا معاقل بلاده ، وحماة طارفه وتلاده ، إلى أن استدار الزمان كهيئته ، وأخذ البؤس في فيئته ، واعتز (٣) الخلاف وظهر ، وسلّ الشتات سيفه وشهر ، والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثّبات ، بين تلك الثّبات ، والمقام ، في ذلك المقام ، إلى أن بدل القطب بالواقع ، واتسع الخرق على الراقع ، فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه كتابه (٤) يشعر بالوفاء ، فثاب إليه فكر خاطره وفاء (٥) ، وثبت خلال تلك المدة للنّزال ، ودعا من رام حربه نزال (٦) ، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته ، والأيام تسترجع منه ما وهبته ، فثل ذلك العرش ، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش (٧) فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان ، وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان ، فما أغنت تلك المملكة وما دفعت ، وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت ، وكل يلقى معجله ومؤجله ، ويبلغ الكتاب أجله.

وقال الفقيه القاضي أبو بكر بن خميس رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد : وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه ، ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه ، وأنا الآن أذكر نبذا من أخباره ، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات أشعاره ، فإنه رحمه الله تعالى حمّ الأدب (٨) رائقه ، عالي النظم فائقه ، كان يسمى بمحمد ، ويكنى بأبي القاسم ، على كنية جده القاضي ، استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد ، وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى : [مجزوء الرمل]

مات عبّاد ولكن

بقي الفرع الكريم

فكأنّ الميت حيّ

غير أنّ الضّاد ميم (٩)

__________________

(١) في أصل ه «مستطرفة».

(٢) في أصل ه «رواس وبرى».

(٣) في أصل ه «واغتر الخلاف».

(٤) في ب «فورد عليه خطابه ...».

(٥) فاء هنا بمعنى رجع ، وكذلك ثاب.

(٦) نزال : اسم فعل أمر قياسي بمعنى انزل.

(٧) الأرش : الدية.

(٨) في ب «جمّ الأدب».

(٩) أراد أن ضاد «المعتضد» صارت ميما فصار الملك للمعتمد.

١٦٩

قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى : ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة ، ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى ، وحلّوا بباب من أبواب إشبيلية ، فوجه لهم المعتمد المال ، مع جماعة من وجوه دولته ، فقال اليهودي : والله لا أخذت هذا العيار ، ولا آخذه منه إلا مشجرا ، وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد ، ردوه إليه ، فرد المال إلى المعتمد ، وأعلم بالقصة ، فدعا بالجند ، وقال : ائتوني باليهودي وأصحابه ، واقطعوا حبال الخباء ، ففعلوا وجاؤوا بهم ، فقال : اسجنوا النصارى ، واصلبوا اليهودي الملعون ، فقال اليهودي : لا تفعل ، وأنا أفتدي منك بزنتي (١) مالا فقال : والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك (٢) ، فصلب ، فبلغ الخبر النصراني فكتب فيهم ، فوجّه إليه بهم ، فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد شعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق ، وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة ، فجاز المعتمد إليه ، ووعده بنصرته ، فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد ، ثم وصل ابن تاشفين ، فكانت غزوة الزلّافة المشهورة ، ورجع ابن تاشفين إلى المغرب ، ثم جاز بعد ذلك إلى الأندلس ، وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان ، فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس ، ودارت إذ ذاك مكايد جمة ، ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد ، فكتب إليه معتذرا عنها ، فلم يكن إلا كلمح البصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة ، فطير ابنه الحمام إليه ، فأمره بإخلائها ، فظهر عند ذلك ابن تاشفين ، وقيل : إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له ، وكان ذلك بدسيسة بعض أهل الأندلس نصحا لابن تاشفين ، ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم ، وأرسل إلى كل مملكة جماعة من أهل دولته وأجناده يحاصرونها ، وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية ، وشرع في قتالها ، والناس قد ملوا الدولة العبّادية وسئموها ، على ما جرت به العادة من حب الجديد ، لا سيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره ، فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم ، ولما اشتدّ مخنّق المعتمد وجه عن النصارى (٣) ، فأعدّ لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق ، فهزمهم ، وجهز ابن تاشفين

__________________

(١) بزنتي مالا : أي بوزني مالا.

(٢) في ه «قبلتها منك».

(٣) كذلك في أصول النفح ، ولعل فيه تحريفا. وقد يكون الأصل : «وجه إلى النصارى» أو نحو ذلك. لا سيما أن ابن خلكان وكتب التاريخ قد ذكرت أن المعتمد لما أحس ما ينوي ابن تاشفين وجه إلى الأذفونش ملك النصارى يطلب نصرته.

١٧٠

القطائع لإشبيلية ، جدّ في حصارها ، والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته ، وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد ، فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد ، فأفاق من نومه ، وصحا من سكره ، وركب فرسه وحسامه في يده ، وليس عليه إلا ثوب واحد ، فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج ، ووافى هنالك طبالا فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين ، ففر الناس أمامه ، وتراموا من السور ، ووقف حتى بان الباب (١) ، وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي «إن يسلب القوم العدا ـ إلى آخره». فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكا مقتولا ، فاسترحم له ، ودخل القصر ، وزاد الأمر بعد ذلك ، ودخل البلد من كل جهاته ، فطلب الأمان له ولمن معه ، فأمن وجميع من له ، وأعدّت له مراكب ، واجتاز إلى طنجة ، فلقيه الحصري الشاعر ، وكان قد ألف له كتاب «المستحسن من الأشعار» فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة ، فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري : ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته ، فو الله ما أملك غيره ، فوجد تحته جملة مال ، فأخذه ، ثم انتقل حتى وصل أغمات ، ولم يزل بها إلى أن مات ، رحمه الله تعالى!.

وقال الفتح في ترجمته ما نصه (٢) : ملك قمع العدا ، وجمع البأس والندى ، وطلع على الدنيا بدر هدى ، لم يتعطل يوما كفه ولا بنانه ، آونة يراعه وآونة سنانه ، وكانت أيامه مواسم ، وثغوره بواسم (٣) ، ولياليه كلها دررا ، وللزمان حجولا (٤) وغررا ، لم يغفلها من سمات عوارف ، ولم يضحها من ظل إيناس وارف ، ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها باديا ، ولقي معتفيه (٥) منها إلى الفضل هاديا ، وكانت حضرته مطمحا للهمم ، ومسرحا لآمال الأمم ، ومقذفا لكل كميّ ، وموقفا لكل ذي أنف حمي ، لم تخل من وفد ، ولم يصح جوها من انسجام رفد ، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكماه ، ومشاهير الحماه (٦) ، أعداد يغصّ بهم الفضاء (٧) ، وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء ، وطلع في سمائه كل نجم متّقد ، وكل ذي فهم منتقد ، فأصبحت حضرته ميدانا لزهان الأذهان ، ومضمارا لإحراز الخصل ، في كل معنى وفصل ، فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد ، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد ، فأصبح عصره أجمل عصر ، وغدا مصره أكمل مصر (٨) ، تسفح فيه ديم الكرم ، ويفصح فيه لسان سيف وقلم (٩) ،

__________________

(١) في ه «حتى بنى الباب» وليس بشيء.

(٢) انظر القلائد : ٤ وما بعدها.

(٣) في ه والمطمح «وثغور بره بواسم».

(٤) في ه «أحجالا».

(٥) كذا في ب ، ج ، ه. وفي أ«مقتفيه».

(٦) في ب «جماهير الكماة ومشاهير الحماة».

(٧) في نسخة عند ه «يضيق بهم الفضاء».

(٨) في ب «أجمل مصر».

(٩) في ب ، ه «لسانا سيف وحكم».

١٧١

ويفضح الرضا في وصفه أيام ذي سلم ، وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا ، ولتلك الجملة عينا ، إن ركبوا خلت الأرض فلكا يحمل نجوما ، وإن وهبوا رأيت الغمام سجوما (١) ، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي ، وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي (٢) ، ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه ، وأذوت يانع إيراقه ، فلم يدفع الرمح ولا الحسام ، ولم تنقع تلك المنن الجسام ، فتملك بعد الملك ، وحط من فلكه إلى الفلك ، فأصبح خائضا تحدوه الرياح ، وناهضا يزجيه البكاء والصياح ، قد ضجت عليه أياديه ، وارتجت جوانب ناديه ، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور ، وألوت ببهجتها الصّبا والدّبور. فبكت العيون عليه دما ، وعاد موجود الحياة عدما ، وصار أحرار الدهر فيه خدما ، فسحقا لدنيا ما رعت حقوقه ، ولا أبقت شروقه ، فكم أحياها لبنيها ، وأبداها رائقة لمجتنيها (٣) ، وهي الأيام لا يتقي من تجنيها (٤) ، ولا تبقي على مواليها ومدانيها ، أدثرت آثار جلق ، وأخمدت نار المحلق ، وذللت عزة ابن شداد (٥) ، وهدت القصر ذا الشّرفات من سنداد ، ونعمت ببؤس النعمان ، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان ، انتهى.

ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس أنسه وغير ذلك من أمره نبذا ذكرنا بعضها في هذا الكتاب.

وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد ما نصه (٦) : ملك تفرع من دوحة سناء ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وتحدّر من سلالة أكابر ، ورقاة أسرّة ومنابر ، وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف ، وإفاضة عوارف ، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه ، وروضة أجفانه ، لا يستريح منه إلا إلى فرس سائل الغرّة (٧) ، ميمون الأسرّة ، يسابق به الرياح ، ويحاسن بغرّته البدر الليّاح ، عريق في السناء ، عتيق الاقتناء ، سريع الوخد والإرقال ، من آل أعوج أو ولد لذي العقال (٨) ، إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء ، وضم إليها رندة الغراء ، فانتقل من متن الجواد ، إلى ذروة الأعواد ، وأقلع عن الدراسة ، إلى تدبير الرياسة ، وما

__________________

(١) في ب ، ه «رأيت الغمائم سجوما».

(٢) في ه «أقصر عرابة الأوسي» وعرابة هو ممدوح الشماخ بن ضرار.

(٣) في أصل ه «لمجتليها».

(٤) في أصل ه «لا تقي من تجنيها».

(٥) في أصل ه «وذللت عزة عاد بن شداد».

(٦) انظر القلائد ص ٣١.

(٧) في ب ، ه «إلا إلى متن سائل الغرّة».

(٨) في ب «أو لذي العقال».

١٧٢

زال يدبّرها بجوده ونهاه ، ويورد الآمل فيها مناه (١) ، حتى غدت عراقا ، وامتلأت إشراقا ، إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق ، وخاب فيها الرجاء وأخفق ، واستحالت بهجتها ، وأحالت عليها من الحال (٢) لجتها ، فانتقل إلى رندة معقل أشب ، ومنزل للسّماك منتسب ، وأقام فيها رهين حصار ، ومهين حماة وأنصار ، ولقيت ريحه كل إعصار ، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيّها ، وأمكنت منه يدي مسيّها ، فحواه رمسه ، وطواه عن غده أمسه ، حسبما بسطنا القول فيه ، فيما مر من أخبار أبيه ، انتهى.

والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقه (٣) أخبار ذلك ما نصه (٤) : ثم انتقلوا إلى رندة أحد (٥) معاقل الأندلس الممتنعة ، وقواعدها السامية المرتفعة ، تطرد منها على بعد مرتقاها ، ودنوّ النجوم من ذراها ، عيون لانصبابها دويّ كالرعد القاصف ، والرياح العواصف ، ثم تتكوّن واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع (٦) ، ويزيدها في التوعر والامتناع ، وقد تجوّنت نواحيها وأقطارها ، وتكوّنت فيها لباناتها وأوطارها ، لا يتعذر لها مطلب ، ولا يتصوّر فيها عدوّ إلا عقله (٧) ناب أو مخلب ، فلما أناخوا (٨) منها على بعد ، وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد ، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بإناحتهم بإزائه ، ولا عدّها من أرزائه ، لامتناعه من منازلتهم ، وارتفاعه عن مطاولتهم ، إلى أن انقضى في [أمر] إشبيلية ما انقضى ، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى ، فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه ، ويمكنهم من نواصيه ، فنزل برا بأبيه ، وإبقاء على أرماق ذويه ، بعد أن عاقدهم مستوثقا ، وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا ، فلما وصل إليهم ، وحصل في يديهم ، مالوا به عن الحصن (٩) وجرعوه الردى ، وأقطعوه الثرى حين أودى ، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما ، وقد رأى قمرية بائحة بشجنها ، نائحة بفننها على سكنها ، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغما ، ويغردان ترحة وترنما : [الطويل]

بكت أن رأت إلفين ضمّهما وكر

مساء وقد أخنى على إلفها الدّهر

وناحت فباحت واستراحت بسرّها

وما نطقت حرفا يباح به سرّ (١٠)

__________________

(١) في ه «ويورد الأمل فيها منتهاه».

(٢) في ه «من الحوادث لجتها».

(٣) في ب «وسياقة أخبار ...».

(٤) القلائد ص ٢٠.

(٥) في أ«إحدى معاقل الأندلس».

(٦) الشجاع : الثعبان.

(٧) في ب ، ه «علقه».

(٨) في ه «فأناخوا».

(٩) في ه «مالوا به إلى ناحية من الحصن».

(١٠) في ب ، ه «يبوح به سر».

١٧٣

فما لي لا أبكي أم القلب صخرة

وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر

بكت واحدا لم يشجها غير فقده

وأبكى لألّاف عديدهم كثر

بنيّ صغير أو خليل موافق

يمزّق ذا قفر ويغرق ذا بحر

ونجمان زين للزّمان احتواهما

بقرطبة النّكداء أو رندة القبر (١)

غدرت إذن إن ضنّ جفني بقطرة

وإن لوّمت نفسي فصاحبها الصّبر

فقل للنّجوم الزّهر تبكيهما معي

لمثلهما فلتحزن الأنجم الزّهر

وقال في ترجمة الراضي ما صورته (٢). وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيرا ما يرميه بملامه ، ويصميه بسهامه ، فربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون ، وأملح من روض الحزون (٣) ، فإنه كان ينظم من بديع القول (٤) لآلىء وعقودا ، تسلّ من النفوس سخائم وحقودا (٥) ، وقد أثبت من كلامه في بث آلامه ، واستجارة عذله وملامه ، ما تستبدعه ، وتحلّه النفوس وتودعه ، فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من أخوته وأقعده ، وأدناهم وأبعده : [الوافر]

أعيذك أن يكون بنا خمول

ويطلع غيرنا ولنا أفول

حنانك إن يكن جرمي قبيحا

فإنّ الصّفح عن جرمي جميل

ألست بفرعك الزّاكي وما ذا

يرجّى الفرع خانته الأصول

ثم قال الفتح بعد كلام (٦) : ومرت عليه ـ يعني الراضي ـ هوادج وقباب ، فيها حبائب كن له وأحباب ، ألفهن أيام خلائه من دوله ، وجال معهن في ميدان المنى أعظم جوله ، ثم انتزعوا منه ببعده ، وأودعوا الهوادج من بعده ، ووجّهوا هدايا إلى العدوة ، وألموا (٧) بها إلمام قريش بدار الندوة ، فقال : [البسيط]

مرّوا بنا أصلا من غير ميعاد

فأوقدوا نار قلبي أيّ إيقاد (٨)

وأذكروني أيّاما لهوت بهم

فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي

__________________

(١) في أصل ه «بقرطبة النكراء».

(٢) القلائد ص ٣٢.

(٣) في أصل ه «رياض الحزون».

(٤) في أصل ه «بدائع القول».

(٥) سخائم : جمع سخيمة وهي الأحقاد.

(٦) القلائد ص ٣٢.

(٧) دار الندوة : مكان في مكة كانت قريش تجتمع فيه للمشاورة فيما يعرض لهم من الأمور الجسام.

(٨) في ب ، ه «فأوقدوا نار شوقي».

١٧٤

لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم

فرؤية الماء تذكي غلّة الصّادي

ولما وصل المعتمد (١) لورقة أعلم أن العدو قد جيش لها واحتشد ، ونهد نحوها وقصد ، ليتركها خاوية على عروشها ، طاوية الجوانح على وحوشها ، فتعرض له المعتمد دون بغيته ، وطلع عليه من ثنيّته ، وأمر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرّده لمحاربته ، وأعده لمصادمته ، ومضاربته ، فأظهر التمرض والتشكي (٢) ، وأضمر التقاعس والتلكي ، فرارا من المصادمة ، وإحجاما عن المساومة (٣) ، وجزعا من منازلة الأقران ، ومقابلة ذوابل المرّان ، ومقاساة الطعان ، وملاقاة أبطال كالرّعان ، ورأى أن المطالعة ، أرجح من المقارعة ، ومعاناة العلوم ، أربح من مداواة الكلوم (٤) ، فقد كان عاكفا على تلاوة ديوان ، عارفا بإجادة صدر وعنوان ، فعلم المعتمد ما نواه ، وتحقق ما لواه ، فأعرض عنه ، ونفض يده منه ، ووجه المعتدّ (٥) مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده ، ولا نصرت جنوده ، فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار ، وعاذوا بإعطاء الغرة بدلا من الغرار ، وتفرقوا في تلك الأماريت (٦) ، وفرقوا من تخطف أولئك العفاريت ، فتحيف العدوّ من بقي مع المعتد واهتضمه ، وخضم ما في العسكر وقضمه ، وغدت مضاربه مجرّ عواليه ، ومجرى مذاكيه ، وآب أخسر من بائع السّدانة (٧) ، ومضيع الأمانة ، فانطبقت سماء المعتمد على أرضه ، وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه ، فكتب إليه الراضي : [البسيط]

لا يكر ثنّك خطب الحادث الجاري

فما عليك بذاك الخطب من عار

ما ذا على ضيغم أمضى عزيمته

إن خانه حدّ أنياب وأظفار (٨)

لئن أتوك فمن جبن ومن خور

قد ينهض العير نحو الضّيغم الضّاري (٩)

عليك للنّاس أن تبقى لنصرتهم

وما عليك لهم إسعاد أقدار

لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم

بكوا لأنّك من ثوب الصّبا عاري

__________________

(١) في ب ، ه «ولما وصل العدو» محرفا.

(٢) في ب ، ه «فأظهر التمارض والتشكي».

(٣) في ه «فرارا من المصادرة ، وإحجاما عن المساورة».

(٤) الكلوم : الجروح.

(٥) في ج «وتوجه المعتد».

(٦) الأماريت : الأراضي المنبسطة.

(٧) بائع السدانة : هو أبو غبشان الذي باع سدانة الكعبة لقصي بن كلاب.

(٨) الضيغم : الأسد.

(٩) الخور : الضعف ، والعير : الحمار.

١٧٥

ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم

لم يتحفوك بشيء غير أعمار

فحجب عنه وجه رضاه ، ولم يستنزله بذلك (١) ولا استرضاه ، وتمادى على إعراضه ، وقعد عن إظهاره وإنهاضه ، حتى بسطته سوانح السّلوّ ، وعطفته عليه جوانح الحنو ، فكتب إليه بهزل ، غلب فيه كل منزع جزل ، وهو : [مجزوء الكامل]

الملك في طيّ الدّفاتر

فتخلّ عن قود العساكر

طف بالسّرير مسلّما

وارجع لتوديع المنابر

وازحف إلى جيش المعا

رف تقهر الحبر المقامر

واطعن بأطراف اليرا

ع نصرت في ثغر المحابر (٢)

واضرب بسكّين الدّوا

ة مكان ماضي الحدّ باتر

أولست رسطاليس إن

ذكر الفلاسفة الأكابر

وأبو حنيفة ساقط

في الرّأي حين تكون حاضر

وكذاك إن ذكر الخل

يل فأنت نحويّ وشاعر (٣)

من هرمس من سيبوي

ه من ابن فورك إذ تناظر

هذي المكارم قد حوي

ت فكن لمن حاباك شاكر

واقعد فإنّك طاعم

كاس وقل : هل من مفاخر (٤)

لحجبت وجه رضاي عن

ك وكنت قد تلقاه سافر

أولست تذكر وقت لو

رقة وقلبك ثمّ طائر (٥)

لا يستقر مكانه

وأبوك كالضّرغام خادر (٦)

هلّا اقتديت بفعله

وأطعته إذ ذاك آمر

__________________

(١) في القلائد «ولم يستمله».

(٢) اليراع : القلم.

(٣) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض.

(٤) أخذ هذا البيت من قول الحطيئة ، وقيل إنه أهجى بيت قالته العرب :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

(٥) في أصل ه «يوم لورقة حين قلبك ثم طائر».

(٦) الضرغام : الأسد. والخادر : الأسد في عرينه.

١٧٦

قد كان أبصر بالعوا

قب والموارد والمصادر

فكتب إليه الراضي مراجعا بقطعة منها : [مجزوء الكامل]

مولاي قد أصبحت كافر

بجميع ما تحوي الدّفاتر

وفللت سكّين الدّوا

ة وظلت للأقلام كاسر

وعلمت أنّ الملك ما

بين الأسنّة والبواتر

والمجد والعلياء في

ضرب العساكر بالعساكر

لا ضرب أقوال بأق

وال ضعيفات مناكر

قد كنت أحسب من سفا

ه أنّها أصل المفاخر

فإذا بها فرع لها

والجهل للإنسان عاذر

لا يدرك الشّرف الفتى

إلا بعسّال وباتر (١)

وهجرت من سمّيتهم

وجحدت أنّهم أكابر

لو كنت تهوى ميتتي

لو جدتني للعيش هاجر

ضحك الموالي بالعبي

د إذا تؤمّل غير ضائر (٢)

إن كان لي فضل فمن

ك وهل لذاك النّور ساتر

أو كان بي نقص فمن

يّ غير أنّ الفضل غامر

ذكّرت عبدك ساعة

يبقى لها ما عاش ذاكر

يا ليته قد غيّبت

ه عندها إحدى المقابر

أتريد منّي أن أكو

ن كمن غدا في الدّهر غادر (٣)

هيهات ذلك مطمع

يعيي الأوائل والأواخر

لا تنس يا مولاي قو

لة ضارع لا قول فاخر

ضبط الجزيرة عندما

نزلت بعقوتها العساكر

أيّام ظلت بها فري

دا ليس غير الله ناصر

__________________

(١) العسال : الرمح الذي اشتد اهتزازه للينه ، والباتر : السيف القاطع.

(٢) غير ضائر : غير مضرّ.

(٣) في ب «كمن غدا في الدهر نادر».

١٧٧

إذ كان يعشي ناظري

لمع الأسنّة والبواتر (١)

ويصمّ أسماعي بها

قرع الحجارة بالحوافر

وهي الحضيض سهولة

لكن ثبتّ بها مخاطر

هبني أسأت كما أسأ

ت أما لهذا العتب آخر

هب زلّتي لبنوّتي

واغفر فإنّ الله غافر

فقربه وأدناه ، وصفح عما كان جناه ، ولم تزل الحال آخذة في البوار (٢) ، والأمور معتلة اعتلال حبّ الفرزدق للنّوار (٣) ، حتى مضوا لغير طيّة ، وقضوا بين الصوارم والرماح الخطّيّة ، حسبما سردناه ، وعلى ما أوردناه ، وإذا أراد الله سبحانه إنفاد أمر سبق في علمه ، فلا مرد له ولا معقّب لحكمه ، ولا إله إلا هو رب العالمين ، انتهى كلام الفتح.

وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب ، حتى قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى : إن الدولة العبّادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد ، سعة مكارم ، وجمع فضائل ، ولذلك ألف فيها كتابا مستقلا سماه «الاعتماد ، في أخبار بني عباد» ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله : [البسيط]

ممّا يزهّدني في أرض أندلس

أسماء معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد

لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم ، ومثل ذلك في حقهم لا يقدح ، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح.

وللمعتمد أولاد ملوك منهم المأمون والرشيد والراضي والمعتمد وغيرهم ، وقد سردنا خبر بعضهم.

وكان الداني المذكور مائلا إلى بني عباد بطبعه ، إذ كان المعتمد هو الذي جذب بضبعه ، وله فيه المدائح الأنيقة ، التي هي أذكى من زهر الحديقة ، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر أولاده الأربعة ، الذين عمروا من المجد أربعه (٤) ، وهم الرشيد عبيد الله والراضي يزيد

__________________

(١) يعشي ناظري : يضعفه.

(٢) البوار : الهلاك ، الكساد.

(٣) الفرزدق : هو الشاعر الأموي المعروف. والنوار زوجته. طلقها وبقي يذكرها في شعره دون جدوى.

(٤) أربعه : جمع ربع وهو الدار وما حولها.

١٧٨

والمأمون والمؤتمن ، وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن ، ولقد أجاد في ذلك كل الإجادة ، وأطال لمجدهم نجاده : [الطويل]

يغيثك في محل ، يعينك في ردي

يروعك في درع ، يروقك في برد (١)

جمال وإجمال وسبق وصولة

كشمس الضّحى كالمزن كالبرق كالرّعد (٢)

بمهجته شاد العلا ثمّ زادها

بناء بأبناء جحاجحة لدّ (٣)

بأربعة مثل الطّباع تركّبوا

لتعديل ذكر المجد والشّرف العدّ

والمأمون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة ، والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفا ، وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبد الجبار بن حمديس الصقلي : [الطويل]

ولمّا رحلتم بالنّدى في أكفّكم

وقلقل رضوى منكم وثبير (٤)

رفعت لساني بالقيامة قد دنت

فهذي الجبال الرّاسيات تسير

وفي قضية المعتمد (٥) يقول الداني المذكور : [البسيط]

لكلّ شيء من الأشياء ميقات

وللمنى في مناياهنّ غايات

والدهر في صفة الحرباء منغمس

ألوان حالاته فيها استحالات (٦)

ونحن من لعب الشّطرنج في يده

وطالما قمرت بالبيدق الشّاة (٧)

انفض يديك من الدنيا وزينتها

فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا

وقل لعالمها الأرضيّ قد كتمت

سريرة العالم العلويّ أغمات

وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره.

وللداني أيضا قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة ٤٨٦ : [الطويل]

__________________

(١) يروقك : يعجبك.

(٢) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.

(٣) الجحاجحة : جمع جحجاح ، وهو السيد السمح الكريم. واللدّ : جمع ألدّ وهو الخصم الشديد الخصومة.

(٤) رضوى وثبير : جبلان ، وقلقل : حرك.

(٥) في ب ، ه «وفي قصة المعتمد».

(٦) في ه «والدهر في صبغة الحرباء».

(٧) قمرت : ربحت في القمار.

١٧٩

تنشّق بريحان السّلام فإنّما

أفضّ به مسكا عليك مختّما (١)

وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة

لعلّك في نعمى فقد كنت منعما

أفكّر في عصر مضى بك مشرقا

فيرجع ضوء الصّبح عندي مظلما

وأعجب من أفق المجرّة إذ رأى

كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما

لئن عظمت فيك الرّزيّة إنّنا

وجدناك منها في الرّزيّة أعظما

قناة سعت للطّعن حتى تقسّمت

وسيف أطال الضّرب حتّى تثلّما (٢)

ومنها :

بكى آل عبّاد ولا كمحمّد

وأولاده صوب الغمامة إذ همى

حبيب إلى قلبي حبيب لقوله

عسى طلل يدنو بهم ولعلّما

صباحهم كنّا به نحمد السّرى

فلمّا عدمناهم سرينا على عمى (٣)

وكنّا رعينا العزّ حول حماهم

فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى

وقد ألبست أيدي اللّيالي قلوبهم

مناسج سدّى الغيث فيها وألحما

قصور خلت من ساكنيها فما بها

سوى الأدم تمشي حول واقفة الدّمى

تجيب بها الهام الصّدى ولطالما

أجاب القيان الطائر المترنّما

كأن لم يكن فيها أنيس ، ولا التقى

بها الوفد جمعا والخميس عرمرما (٤)

ومنها :

حكيت وقد فارقت ملكك مالكا

ومن ولهي أحكي عليك متمّما (٥)

مصاب هوى بالنّيّرات من العلا

ولم يبق في أرض المكارم معلما

تضيق عليّ الأرض حتى كأنما

خلقت وإياها سوارا ومعصما

ندبتك حتى لم يخلّ لي الأسى

دموعا بها أبكي عليك ولا دما

__________________

(١) في ه «تنشّق رياحين السلام».

(٢) في ه «حتى تقصدت» أي تكسرت. وتثلّم السيف : تفلّل.

(٣) السرى : السير ليلا. وسرينا : سرنا ليلا.

(٤) الخميس : الجيش الكبير الجرار يقسم مرتبا خمسة أقسام ، والعرمرم : الجيش الكثير.

(٥) مالك ، وهو مالك بن نويرة. قتله خالد بن الوليد في حروب الردة. وأما متمم فهو أخوه متمم بن نويرة وقد بكاه أحرّ بكاء بقصائد عديدة.

١٨٠