نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

الأبيات ، وما ذا (١) تفيدك من العلم وصدرك ينبوعه ، وبخاطرك لا يزال غروبه وطلوعه ، وإنما هي عادة تبعناها أدبا ، وقضينا بها ما في النفس من الإعلام بالتوجّع والتفجّع أربا ، ولعلّ الله تعالى يتبع هذه التسلية بتهنئة ، ويعقب بالنعمة هذه المرزئة. قال : فأمر الملك بتسريحه أثر ذلك ، فلمّا اجتمع وجهه بوجهه جعل يحمد الله تعالى جهرا ويغرّد بهذه الأبيات ، وكان سراحه بكرة : [الطويل]

طلعت علينا كالغزالة بالضحى

وعزّك طمّاح ووجهك مشرق (٢)

فغفرا لذنب الدهر أجمع إنه

أتى اليوم من حسناه ما هو أليق

فلح في سماء العزّ بالسعد طالعا

وقدرك سام أفقه ليس يلحق

فقد سرحت لمّا غدوت مسرّحا

قلوب وأفكار وسمع ومنطق

فاهتزّ أبوه من شدّة الطرب ، وقال له : والله إنك لتملأ الدلو إلى عقد الكرب (٣).

وله يعتذر ، وقد دعي إلى مجلس أنس : سيدي ، ساعدك سولك ، لمّا وصل إلى أخيك المعتدّ بك رسولك ، قابله بما يجب من القبول ، وأبدي له من الشغل ما منع من الوصول : [الطويل]

ومن ذا الذي يدعى لعدن فلا يرى

على الرأس إجلالا إليها يبادر

ولكن الاضطرار ، لا يكون معه اختيار ، وإني لأشوق الناس إلى مشاهدة تلك المكارم ، وأحبّهم في محاضرة تلك الآداب المترادفة ترادف الغمائم (٤) ، ولكن شغلني عارض قاطع ، وبرغمي أني لدعوتك عاص وله طائع ، وإني بعد ذلك لحامل على تلك السجية الكريمة في الغفران ، مستجير بالخلاص الذي أعهد من خرق فلان ومكر فلان ، فإني متى غبت لا أعدم مترصدا قرحة يقع عليها ذبابه (٥) ، ومستجمعا إذا أبصر فرصة سلّ عليها ذبابه (٦) : [الطويل]

ولكنني أدري بأني نازح

ودان سواء عند من يحفط العهدا

وإني لأقول وقد غبت عن تلك الحضرة العليّة ، وجانبت ذلك الجناب السامي والمثابة السنيّة : [الطويل]

__________________

(١) في ب : «ما ذا» بدون واو.

(٢) العز الطماح : العالي ، الطويل.

(٣) أخذ هذا المعنى من قول اللهبي :

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو إلى عقد الكرب

(٤) الغمائم : السحب ، جمع غمامة.

(٥) الذباب الأول : الحشرة المعروفة. والثاني : ذباب السيف وهو حده الذي يضرب به.

(٦) الذباب الأول : الحشرة المعروفة. والثاني : ذباب السيف وهو حده الذي يضرب به.

١٢١

لئن غبت عمّن نوره نور ناظري

فحسبي لديه أن أغيب عقابا

وسوف أوافيه مقرّا بزلّتي

وفي حلمه أن لا يطيل حسابا

وله في قصر النهار ، ولو لم يكن له غيره لكفاه : [مجزوء الكامل]

لله يوم مسرّة

أضوا وأقصر من ذباله

لمّا نصبنا للمنى

فيه بأوتار حباله

طار النهار به كمر

تاع وأجفلت الغزاله (١)

وهذا المعنى لم يسبق إليه ، ولم يقدر أحد أن ينزعه من يديه.

ولمّا وصل صحبة والده إلى إشبيلية افتتن بواديها ، واعتكف على الخلاعة فيها ، مصعدا ومنحدرا بين بساتينه ومنازهه ، فمرّ ليلة بطريانة فمال نحو منزه فيه طرب سمعه ، فاستوقفه هنالك ، وهو في الزورق متكئ وأصحابه وأصحاب أبيه مظهرون انحطاطهم عنه في المرتبة ، فأخرج رأسه أحد الأنذال المعتادين بالنادر من شرجب ، والشرجب : هو الدرابزين من خشب فيه طاقات ؛ وطريانة مقابلة إشبيلية ، وبها المنازه والأبنية الحسنة ـ فضرط له ذلك النذل بغاية ما قدر ، فرفع رأسه وقد أخذ منه السكر ، ولم يعتد مثل ذلك في بلده ، وقال : يا سفلة ، أتقدم عليّ بهذا قبل معرفتي؟ فثنى عليه واحدة أخرى ، ثم رفع ثوبه عن ذكره وهو منعظ ، وقال : يا وزير ، اجعل هذا عندك وديعة حتى أعرف من تكون ، ثم رفع ما على استه من ثيابه وقال : واعمل من هذا غلافا للحيتك فإذا عرفناك ذهّبناه لك ؛ فغلبه الضحك على الحرج ، وجعل أصحابه يقولون له : ما سمعت أن من دخل هذا الوادي يعول على هذا وأمثاله ، فمال عن ذلك المنزه قليلا ، وأطرق ساعة وقال : [مجزوء الرمل]

نهر حمص لا عدمنا

ك فما مثلك نهر

فيك يلتذّ ارتياح

أبد الدّهر وسكر

كلّ عمر قد خلا من

ك فما ذلك عمر

خصّه الله بمعنى

فيه للألباب سرّ

يلعن الإنسان فيه

وهو يصغي ويسرّ

ثم سأل بعد ذلك عن ربّ المنزه ، فسمّي له ، وأعلم أنّ ابن سيد الشاعر المشهور باللصّ

__________________

(١) أجفلت الغزالة : فزعت وفرّت.

١٢٢

كان حاضرا وأنه أملى على السفلة ما قال وصنع ، فكتب له أبو جعفر : [الخفيف]

يا سميي ، وإن أفاد اشتراك

غير ما يرتضيه فضل وودّ

أكذا يزدرى الخليل بأفق

أنت فيه ولم يكن منك ردّ

لا أرى من سلّطت وغدا ولكن

ليس يخفى عليك من هو وغد

فلمّا وقف على هذه الأبيات كتب له : يا مولاي وسيدي ، وأجلّ ذخري للزمان وعضدي ، الذي أفخر بمشاركة اسمه ، وتتيه هذه الصناعة بذكره ورسمه (١) : [الوافر]

وخير الشعر أشرفه رجالا

وشرّ الشّعر ما قال العبيد

سلام كتسنيم (٢) ، على ذلك المقام الكريم ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، وإن كان مولاي لم يفاتحني بالسلام ، ولا رآني أهلا لمقاومة الكرام ، لكن حطّ قدري عنده ما نسب لي من الذنب المختلق ، ولا والله ما نطقت بلسان ولا كنت ممّن رمق (٣) ، بل الذي زوّر لسيدي في هذه الوشاية كان المعين (٤) عليها ، والملمّ إليها ، فبادر إليكم قبل أن أسبقه فاتّسم بأسقط خطّتين : النذالة الأولى والوشاية الأخرى ، ولو لا أنّ المجالس بالأمانات ، وأنّ الخلاعة بساط يطوى على ما كان فيه ، لكنت أسبق منه ، لكني يأبى ذلك خلقي ، وما تأدّبت به ، ومع ذلك فإني أقول : [الطويل]

فإن كنت ذا ذنب فقد جئت تائبا

ومثلك غفّار ومثلك قابل

ولولا ما أخشى من التثقيل ، وما أتوقّع من الخجل إذا التقى الوجهان ، لأتيت حتى بلغت (٥) في الاعتذار بالمشافهة ما لا يسع القرطاس ، لكنني متّكل على حلم سيدي وإغضائه ، متوسّل إليه في الغفران بعلائه ، وكتب تحت ذلك شعرا طويلا منه : [الطويل]

ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا

تعوّد عفوا عن كبار الجرائم

لكم ، آل عمّار ، بيوت رفيعة

تشيّد من كسب الثنا بدعائم

إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم

ولم نقتنع بالعفو دون المكارم

وإنك فرع من أصول كريمة

ولا تلد الأزهار غير الكمائم

وإني مظلوم لزور سمعته

وقد جئت أرجو العفو في زيّ ظالم

__________________

(١) في ه : «بذكره ووسمه».

(٢) تسنيم : عين في الجنة.

(٣) رمق : نظر.

(٤) في ه : «كان العين عليها».

(٥) في ب ، ه : «حتى أبلغت ..».

١٢٣

فأجابه أبو جعفر بما نصّه : سيدي الذي أكبر قدره ، وأجلّ ذكره (١) ، وأجزل شكره ، وصل جوابك الذي لو كان لك من الذنب ما تحمّله ابن ملجم (٢) ، لأضربت لك عنه صفحا ، ونسيت بما تأخّر ما تقدّم ، ومعاذ الله أن أنسب لفضلك عيبا ، فأذمّ لك حضورا أو غيبا ، وإنما قصدت بالمعاتبة ، ما تحتها من المطارحة والمداعبة ، على أنّ سيدي لو تيقّنت أنه ظالم لأنشدت : [السريع]

منذ غدا طرفك لي ظالما

آليت لا أدعو على ظالم (٣)

لكنني أتيقّن خلاف ذلك ، وأعلم حتى كأني حاضر ما كان هنالك ، وقد أطلت عليك ، وبعد هذا فلتعتمد على أن تصل إلي أو أصل إليك ، فهذا يوم كما قال البستي (٤) : [الكامل]

يوم له فضل على الأيام

مزج السحاب ضياءه بظلام

فالبرق يخفق مثل قلب هائم

والغيم يبكي مثل جفن هام

فاختر لنفسك أربعا هنّ المنى

وبهنّ تصفو لذة الأيام

وجه الحبيب ومنزلا مستشرفا

ومغنّيا غردا وكأس مدام (٥)

وقد حضرت عند محبك الثلاثة فكن رابعها ، ونادت بك همم الأماني فكن بفضلك سامعها ، ومركز أفلاك هذه المسرّة حيت كتب هذه الرقعة إلى مجدك منزه مطلّ على جزيرة شنتبوس لا أزال أترنّم فيه بقول ابن وكيع : [المنسرح]

قم فاسقني والخليج مضطرب

والريح تثني ذوائب القضب

كأنها والرياح تعطفها

صفّ قنا سندسيّة العذب

والجوّ في حلّة ممسّكة

قد طرّزتها البروق بالذهب

فإن كان سيدي في مثل هذا المكان ، جرينا إليه جري الحلبة لخصل الرهان ، وإن كان في كسر بيته فليبادر إلى محل تقصر عنه همّة قيصر وكسرى ، وإن أبطأ فإنّ الرقاع بالاستدعاء لا تزال عليه تترى ، وإن كان لا يجدي هذا الكلام ، فما نقنع من العقوبة المؤلمة بالملام ، وعلى المودّة المرعية الداعية أكمل ما يكون من السلام.

__________________

(١) في ه : «وأجمل ذكره».

(٢) ابن ملجم : هو عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٣) آليت : حلفت.

(٤) انظر اليتيمة ج ٤ ص ٣٠٤.

(٥) في ب : «ومنظرا مستشرقا».

١٢٤

فعندما قرأ الرقعة ركب إليه زورقا وصنع هذه الأبيات في طريقه ، فعند وصوله ينشده إيّاها : [الطويل]

ركبت إليك النهر يا بحر فالقنا

بما يتلقّى جوده كلّ قادم

بفيض ولكن من مدام ، وهزّة

ولكن إلى بذل الندى والمكارم

وكنّا نسمّي قبل كونك حاتما

ومذ لحت فينا لم نعد ذكر حاتم

بآل سعيد يفخر السعد والعلا

فأيديهم تلغي أيادي الغمائم

فامتلأ أبو جعفر سرورا ، وخلع عليه ما كان عنده هنالك ، ووعده بغير ذلك ، فأطرق لينظم شيئا في شكره ، فأقسم عليه أن لا يشغل خاطره في ذلك الوقت عن الارتياح ، وحثّ أكؤس الراح ، فأقبلوا على شأنهم ، وكان ابن سيد في ذلك الحين متسترا بشرب الراح ، وكان عند أبي جعفر خديم كثير النادر والالتفات ، يخاف أهل التستّر من مثله ، فقال ابن سيد : هات دواة وقرطاسا ، فأعطاه ذلك ، فكتب : [مخلع البسيط]

يا سيدي ، قد علمت أني

بهذه الحال لا أظاهر

أخشى أناسا لهم عيون

نواظر منّي المعاير (١)

أحذرهم طاقتي وإني

وثقت بالله فهو غافر

ولا تقس حالتي بحال

منك اعتذار فالفرق ظاهر

فأنت إن كنت ذا جهار

غير مبال فالجاه ساتر

لا تخش من قول ذي اعتراض

ولا حسود عليك قادر

وإنني قد رأيت ممّن

يكثّر القول وهو ساخر

ما قد أراب العفيف منه

ضحكك وظنّ به يجاهر

أخشى إذا قيل كيف كنتم

قال بحال تسرّ ناظر

واللصّ ما بيننا صريعا

بكلّ كأس عليه دائر

مطرحا للصلاة يصغي

لصولة الدف والمزمار

فأغتدي سيدي مشارا

إليّ مهما مررت خاطر

وإن أتيت الملوك أبغي

نوالهم قيل أيّ شاعر

__________________

(١) أراد أنهم يترصّدون سقطاته ومعايبه.

١٢٥

يذكر في شعره خلافا

وهو لزور المحال ذاكر (١)

بالأمس قد كان ذا انتهاك

فما له بعد ذاك عاذر

إن كان هذا فإنّ حظي

وافى لربح فآب خاسر (٢)

فقال له أبو جعفر : يا أبا العباس ، اشرب هنيئا غير مقدر ما قدرت ، فلو كان هذا المضحك على الصفة التي ذكرت كان الذنب منسوبا إليّ في كوني أحضر في مجلسي (٣) من يهتك ستر المستورين ، ومهما تره هنا بهذه الخفة والطيش والتسرّع للكلام فإنه إذا فارقنا أثقل من جبل ، وأصمت من سمكة ، متزيّ بزيّ خطيب في نهاية من السكون والوقار : [الطويل] :

وتحت الثياب العار لو كان باديا (٤)

فكن في أمن ما شربت معي ، فإني والله لا أسمع أحدا من أصحابنا تكلّم في شأنك بأمر إلّا عاقبته أشدّ العقاب ، والذنب في ذلك راجع إليّ. فسكن ابن سيد وجعل يحثّ الأقداح ، ويمرح أشدّ المراح ، على ما كان يظهره من الانقباض ، تقيّة لما يخشاه من الاعتراض ، إلى أن قاربت الشمس الغروب ، ومدّ لها في النهر معصم مخضوب ، فقال أبو جعفر : [المجتث]

انظر إلى الشمس قد أل

صقت على الأرض خدّا

فقال ابن سيد :

هي المراة ولكن

من بعدها الأفق يصدا (٥)

فقال أبو جعفر :

مدّت طرازا على النه

ر عندما لاح بردا

فقال ابن سيد :

أهدت لطرفك منه

ما للأكارم يهدى

فقال أبو جعفر :

__________________

(١) في ه : «يذكر في شعره غلافا».

(٢) آب : عاد.

(٣) في ه : «أحضر مجلسي».

(٤) هذا عجز بيت ينسب لذي الرمة ، وينسب لامرأة اسمها كنزة تقوله في مية :

على وجه ميّ مسحة من ملاحة

وتحت الثياب العار لو كان باديا

(٥) المراة : أراد المرآة.

١٢٦

درع اللّجين عليه

سيف من التّبر مدّا (١)

فقال ابن سيد :

فاشرب عليه هنيئا

وزد سرورا وسعدا

ثم لمّا أظلم الليل نظروا إلى منارة شنتبوس قد عكست مصابيحها في النهر ، وإلى النجوم قد طلعت فيه ، فقال ابن سيد : [المجتث]

اخلع على النهر ثوب ال

كرى فذلك واجب (٢)

فقال أبو جعفر :

وانظر إلى السّرج فيه

كالزّهر ذات الذوائب

وحين صفّق للأف

ق نقّطته الكواكب

فقبّل ابن سيد رأسه ، وقال : ما تركت بعد هذا مقالا لقائل ، ثم جعلوا يشربون.

فقال أبو جعفر : [مجزوء الرمل].

سقّني والأفق برد

بنجوم الليل معلم

فقال ابن سيد :

وبساط النهر منها

وهو فضّيّ مدرهم

فقال أبو جعفر :

ورواق الليل مرخى

والشّذا بالروض قد نم

فقال ابن سيد :

والنّدى في الزهر منثو

ر على عقد منظّم

فقال أبو جعفر :

والصّبا جرّت على مي

ت الطّلى كفّ ابن مريم (٣)

فقال ابن سيد :

__________________

(١) اللجين : الفضة. والتبر : الذهب.

(٢) الكرى : النوم.

(٣) ابن مريم : هو المسيح عليه السلام ومن معجزاته إحياء الميت.

١٢٧

كان مبهوتا فلمّا

نفخت فيه تكلّم

فقال أبو جعفر :

وكأنّ الكأس والقه

وة دينار ودرهم (١)

فقال ابن سيد :

وبدا الدّفّ يناغي ال

عود والمزمار هيّم

فقال أبو جعفر :

فأذاع الأنس منّا

كلّ ما كان مكتّم (٢)

فقال ابن سيد :

أيّ عيش يهتك المس

تور لو كان ابن أدهم (٣)

فقال أبو جعفر :

هكذا العيش ودعني

من زمان قد تقدّم

فقال ابن سيد :

حين لا خمر سوى ما

بكؤوس البيض من دم

فقال أبو جعفر : والله ما تعديت ما جال الساعة في خاطري ، فإني ذكرت أيام الفتنة وما كابدنا فيها من المحن ، وأنا لم نزل في مصادمة ومقارعة ، ثم رأيت ما نحن الآن فيه بهذه الدولة السعيدة التي أمنت وسكنت ، فشكرت الله تعالى ، ودعوت بدوامها.

ثم لمّا طلع الفجر قال أبو جعفر : [مجزوء الرمل]

نثر الطّلّ عقوده

ونضا الليل بروده (٤)

فقال ابن سيد :

وبدا الصبح بوجه

مطلع فينا سعوده

فقال أبو جعفر :

__________________

(١) القهوة : اسم من أسماء الخمر. شبهها بالدينار وشبه الكأس بالدرهم.

(٢) في ب ، ه : «كل ما قد كان مكتم».

(٣) ابن أدهم : هو إبراهيم بن أدهم ، أحد كبار الصوفية.

(٤) نضا : خلع. والبرود : جمع برد ، وهو الثوب المخطط يلتحف به.

١٢٨

وغدا ينشر لمّا

فتر الليل بنوده

فقال ابن سيد :

فهلمّ اشرب وقبّل

من غدا ينطق عوده

فقال أبو جعفر :

ثم صافحه على رغ

م النوى وافرك نهوده

فقال ابن سيد :

واجعل الشكر على ما

نلته منه جحوده (١)

فقال أبو جعفر : يا أبا العباس ، إنك أغرت على التهامي في هذا البيت في قوله :

وشكر أيادي الغانيات جحودها

قال : فلم لقّبت باللّص؟ لو لا هذا وأمثاله ما كان ذلك.

واللص المذكور اسمه أحمد بن سيد ، يكنى أبا العباس ، وهو من مشهوري شعراء الأندلس.

ولمّا أنشد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح قوله : [البسيط]

غمّض عن الشمس واستقصر مدى زحل

وانظر إلى الجبل الراسي على جبل

قال له : أنت شاعر هذه الجزيرة ، لو لا أنك بدأتنا بغمّض وزحل والجبل.

ومن بديع نظم اللص قوله ؛ [المجتث]

سلبت قلبي بلحظ

أبا الحسين خلوب (٢)

فلم أسمّى بلصّ

وأنت لصّ القلوب

ولمّا اجتمع أبو جعفر بن سعيد المترجم به باللصّ أبي العباس المذكور في جبل الفتح عندما وفد فضلاء الأندلس على عبد المؤمن ، واستنشده ، فجعل ينشده ما استجفاه به لخروجه عن حلاوة منزع أبي جعفر ، إلى أن أنشده قوله : [الوافر]

وما أفنى السؤال لكم نوالا

ولكن جودكم أفنى السؤالا

__________________

(١) في ه : «واجعل الفكر» محرفا.

(٢) الخلوب : الخداع الماكر.

١٢٩

فقال له أبو جعفر : لا جعلك الله في حلّ من نفسك ، يكون في شعرك مثل هذا وتنشدني ما كان يحملني على أن أسأت معك الأدب؟ والله لو لم يكن لك غير هذا البيت لكنت به أشعر أهل الأندلس.

وكتب إلى أبي جعفر أبو الحكم بن هرودس (١) في يوم بارد بغرناطة : [الخفيف]

يا سميّي ، في علم مجدك ما يح

تاج فيه هذا النهار المطير

ندف الثلج فيه قطنا علينا

ففررنا بعدلكم نستجير

والذي أبتغيه في اللحظ منه

ورضاب الذي هويت نظير

يوم قرّ يودّ من حلّ فيه

لو تبدّى لمقلتيه سعير

فوجّه بما طلب ، وجاوبه بما كتب : [الخفيف]

أيها السيد الأجلّ الوزير

الذي قدره معلّى خطير

قد بعثنا بما أشرت إليه

دمت للأنس والسرور تشير

كان لغزا فككته دون فكر

إنّ فهمي بما تريد خبير

ومن نظم أبي الحكم : [الوافر]

إذا ضاقت عليك فولّ عنها

وسر في الأرض واختبر العبادا (٢)

ولا تمسك رحالك في بلاد

غدوت بأهلها خبرا معادا

ولمّا مدح أبو القاسم أخيل بن إدريس الرندي عبد المؤمن في جبل الفتح بقصيدة أوّلها : [الكامل]

ما الفخر إلّا فخر عبد المؤمن

أثنى عليه كلّ عبد مؤمن

قال أبو جعفر بن سعيد : دعاه التجنيس إلى الضعف والخروج عن المقصود ، والأولى أن لو قال «شاد الخلافة وهو أوّل مبتني».

ومن هذه القصيدة :

أمّا ابن سعد فهو أول مارق

يا ليته بأبيه سعد يكتني

__________________

(١) في أ: «بن هرورس» وهو أبو الحكم أحمد بن هرودس كاتب عثمان بن عبد المؤمن ملك غرناطة. انظر المغرب ج ٢ ص ٢١٠.

(٢) فول : أمر من ولّى. أي أعرض.

١٣٠

ما قدر مرسية وحكمك نافذ

إن شئت من عدن لأرض المعدن

فلمّا أكملها قال له عبد المؤمن : أجدت ، فقال ارتجالا : [الكامل]

من لي ، أمير المؤمنين ، بموقفي

هذا وقولك لي أجدت ولم تن

فلقد مدحتك خائفا أن لا يفي

لسني بما يعيي جميع الألسن (١)

ولابن إدريس المذكور : [الخفيف]

أيها البدر ، هل علمت بأني

لم أبت راعيا محيّاك ودّا

أنا لو بات من حكيت بجنبي

لم يكن عنه ناظري يتعدّى (٢)

وله : [الكامل]

شتان ما بيني وبينك في الهوى

أنا أبتغيك وأنت عنّي تصدف

وإذا عتبتك وارعويت يبين لي

في الحين منك بأنّ ذاك تكلّف

يا ليت شعري كيف يقضى وصلنا

والعمر يفنى والمواعد تخلف

وقيل له لمّا هجره عبد المؤمن : اكتب له واعتذر ، وبرهن عن نفسك ، فقال : ما يكون أمير المؤمنين هجرني إلّا وقد صحّ عنده ، ولا أنسبه في أمري لقلّة التثبّت والجور (٣) ، وإنما أرغب في عفوه ورحمته ، فكأنّ هذا الكلام ألان عليه قلب عبد المؤمن لما بلغه ، وكان قد نقل عنه حسّاده أنه قال : كيف تصحّ له الخلافة ، وليس بقرشي؟

ولا بأس أن نزيد من أخبار اللصّ الذي جرى ذكرنا له مع أبي جعفر بن سعيد فنقول : هو النحوي المبرز في الشعر أبو العباس أحمد بن سيد ، الإشبيلي (٤) ؛ ذكره ابن دحية في المطرب ، وأخبر أنه شيخه ، وختم كتاب سيبويه مرتين على النحوي أبي القاسم بن الرماك ، واجتمع به أبو جعفر بن سعيد بجبل الفتح كما سبق ، ولقّب اللص لإغارته على أشعار الناس.

وله : [البسيط]

شاموا الردى فأشمّوا الترب أنفهم

ولم يبالوا بما فيها من الشّمم (٥)

__________________

(١) اللّسن ، بفتح اللام والسين : الفصاحة.

(٢) حكيت : هنا شابهت.

(٣) في ه : «وللجور».

(٤) انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٢٥٢ ، وبغية الوعاة.

(٥) الشمم : الارتفاع. ارتفاع قصبة الأنف في استواء ، الكبرياء.

١٣١

ثم جعل يقول : قطع الله لساني إن كان اليوم على وجه الأرض من يعرف أن يسمعه ، فضلا عن أن يقوله.

وله القصيدة الشهيرة : [الوافر]

نداك الغيث إن محل توالى

وأنت الليث إن شاؤوا القتالا

سلبت الليث شدّة ساعديه

نعم ، وسلبت عينيه الغزالا

وما أفنى السؤال لكم نوالا

ولكن جودكم أفنى السؤالا

وقد تقدم هذا البيت في حكايته مع ابن سعيد.

وقال في حلقة خياط ، وهو من محاسنه : [البسيط]

كأنها بيضة وخز الرماح بها

باد وقونسها بالسيف قد قطعا

وقال : [البسيط]

فالليل إن واصلت كالليل إن هجرت

أشكو من الطول ما أشكو من القصر

رجع إلى أخبار أبي جعفر بن سعيد :

قال في «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» ما نصّه : لمّا قبض على الوزير أبي جعفر ابن عبد الملك بن سعيد العنسي ، وثقف بمالقة ، دخل إليه (١) ابن عمّه ، ووصل إلى الاجتماع به ريثما استؤذن السيد أبو سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن في أمره ، قال : فدمعت عيناي حين رأيته مكبولا (٢) ، فقال لي : أعليّ تبكي بعد ما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها ، فأكلت صدور الدجاج ، وشربت في الزجاج ، ولبست الديباج ، وتمتّعت بالسراري والأزواج ، واستعملت من الشمع السراج الوهّاج ، وركبت كل هملاج (٣) ، وها أنا في يد الحجاج ، منتظر محنة الحلّاج (٤) ، قادم على غافر لا يحتاج إلى اعتذار ولا إلى (٥) احتجاج؟ قال : فقلت : أفلا يؤسف على من ينطق بهذا الكلام ، ثم يفقد؟ وقمت عنه فكان آخر العهد به ، انتهى.

__________________

(١) في ه : «دخل عليه ابن عمه».

(٢) مكبولا : مقيدا بالكبول وهي جمع كبل : القيد.

(٣) الهملاج : الفرس الشديد العدو ، السريع.

(٤) الحجاج : هو الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق لبني أمية ، وقد اشتهر بسفكه للدماء. أما الحلاج فهو الصوفي الشهير الذي شهد عليه أهل زمانه بالكفر والإلحاد ، فقتل لذلك ، وقد شبه الشاعر نفسه بالحلاج وآسره بالحجاج.

(٥) في ب : «ولا احتجاج».

١٣٢

رجع إلى أخبار النساء.

ومن أشهر هنّ بالأندلس ولّادة (١) بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله ، وكانت واحدة زمانها ، المشار إليها في أوانها حسنة المحاضرة ، مشكورة المذاكرة ، كتبت بالذهب على الطراز الأيمن (٢) : [الوافر]

أنا والله أصلح للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيه تيها

وكتبت على الطراز الأيسر :

وأمكن عاشقي من صحن خدّي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

وكانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف ، وفيها خلع ابن زيدون عذاره ، وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات ، وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى ، فظهر لولّادة أنّ ابن زيدون مال إليها ، فكتبت إليه : [الكامل]

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي ولم تتخيّر

وتركت غصنا مثمرا بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر السما

لكن ولعت ، لشقوتي ، بالمشتري

ولقّبت ابن زيدون بالمسدس ، وفيه تقول : [الوافر]

ولقّبت المسدّس وهو نعت

تفارقك الحياة ولا يفارق

فلوطيّ ومأبون وزان

وديّوث وقرنان وسارق (٣)

وقالت فيه (٤) : [السريع]

إنّ ابن زيدون على فضله

يعشق قضبان السراويل

لو أبصر الأير على نخلة

صار من الطير الأبابيل

وقالت فيه أيضا : [السريع]

إنّ ابن زيدون على فضله

يغتابني ظلما ولا ذنب لي

__________________

(١) انظر ترجمة ولادة في الذخيرة ١ / ١ : ٣٧٦. والمطرب ص ٧.

(٢) في ب ، ه : «على طرازها الأيمن».

(٣) المأبون : المتهم. الديوث ، من الرجال : القواد على أهله. القرنان : الرجل لا غيرة له على أهله.

(٤) في ب ، ه «يتأخر هذان البيتان عن البيتين بعدهما.

١٣٣

يلحظني شزرا إذا جئته

كأنني جئت لأخصي علي

وقالت ولادة تهجو الأصبحي : [السريع]

يا أصبحيّ اهنأ فكم نعمة

جاءتك من ذي العرش ربّ المنن

قد نلت باست ابنك ما لم ينل

بفرج بوران أبوها الحسن (١)

وكتبت إليه لما أولع بها بعد طول تمنّع : [الطويل]

ترقّب ، إذا جنّ الظلام ، زيارتي

فإني رأيت الليل أكتم للسّرّ

وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

ووفت بما وعدت ، ولمّا أرادت الانصراف ودعته بهذه الأبيات : [الرمل]

ودّع الصّبر محبّ ودّعك

ذائع من سرّه ما استودعك

يقرع السّنّ على أن لم يكن

زاد في تلك الخطا إذ شيّعك (٢)

يا أخا البدر سناء وسنا

حفظ الله زمانا أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم

بتّ أشكو قصر الليل معك

وكتبت إليه : [الطويل]

ألا هل لنا من بعد هذا التفرّق

سبيل فيشكو كلّ صبّ بما لقي

وقد كنت أوقات التزاور في الشتا

أبيت على جمر من الشوق محرق

فكيف وقد أمسيت في حال قطعة

لقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي

تمرّ الليالي لا أرى البين ينقضي

ولا الصّبر من رقّ التشوّق معتقي

سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا

بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدق (٣)

فأجابها بقوله : [الطويل]

لحى الله يوما لست فيه بملتق

محيّاك من أجل النوى والتفرّق

وكيف يطيب العيش دون مسرّة

وأيّ سرور للكئيب المؤرّق

__________________

(١) الحسن : هو الحسن بن سهل ، تزوج المأمون العباسي ابنته بوران ، وكانت مكانة الحسن بن سهل في الدولة عالية جدا.

(٢) شيعك : ودعك.

(٣) الوبل : المطر الشديد. ومغدق : كثير الانصباب.

١٣٤

وكتب في أثناء الكلام بعد (١) الشعر : وكنت ربما حثثتني على أن أنبّهك على ما أجد فيه عليك نقدا ، وإني انتقدت عليك قولك :

سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا

فإنّ ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة : [الطويل]

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (٢)

إذ هو (٣) أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له ، وأمّا المستحسن فقول الآخر : [الكامل]

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي (٤)

وبسببها خاطب ابن عبدوس بالرسالة المشهورة التي شرحها غير واحد من أدباء المشارقة كالجمال بن نباتة والصفدي (٥) وغيرهما ، وفيها من التلميحات والتنديرات ما لا مزيد عليه.

وقد ذكر ولّادة ابن بشكوال في «الصّلة» فقال : كانت أديبة ، شاعرة ، جزلة القول ، حسنة الشعر ، وكانت تناضل الشعراء ، وتساجل الأدباء ، وتفوق البرعاء. وعمرت عمرا طويلا ، ولم تتزوّج قطّ ، وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين ، وقيل : أربع وثمانين وأربعمائة ، رحمها الله تعالى.

وكان أبوها المستكفي بايعه أهل قرطبة لمّا خلعوا المستظهر ، كما ألمعنا به في غير هذا الموضع ، وكان خاملا (٦) ساقطا ، وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف : حضور شاهد ، وحرارة أوابد ، وحسن منظر ومخبر ، وحلاوة مورد ومصدر ، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر ، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر ، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرّتها ، ويتهالك أفراد الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها ، وعلى سهولة حجابها ، وكثرة منتابها ، تخلط ذلك بعلو نصاب ، وكرم أنساب ، وطهارة أثواب ، على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلّة مبالاتها ،

__________________

(١) في ه : «في أثناء كلام بعد الشعر».

(٢) القطر : المطر.

(٣) في ه : «إذ هذا».

(٤) الديمة : مطر يتساقط بلا رعد ولا برق.

(٥) في الكلام هنا خطأ. إذ إن ابن نباتة هو الذي شرح الرسالة الموجهة إلى ابن عبدوس وهي المعروفة بالرسالة الهزلية. أما الصفدي فقد شرح الرسالة الجدية.

(٦) في ب ، ه : «وكان جاهلا ساقطا ، وخرجت هي على نهاية في الأدب».

١٣٥

ومجاهرتها بلذاتها ، ولمّا مرّت بالوزير أبي عامر بن عبدوس وأمام داره بركة تتولّد عن كثرة الأمطار ، وربما استمدّت بشيء ممّا هنالك من الأقذار ، وقد نشر أبو عامر كمّيه ، ونظر في عطفيه ، وحشر أعوانه إليه ، فقالت له : [الكامل]

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفّقا فكلا كما بحر

فتركته لا يحير حرفا ، ولا يردّ طرفا.

وقال في «المغرب» بعد ذكره : إنها بالغرب كعلية بالشرق (١) : إلّا أنّ هذه تزيد بمزية الحسن الفائق ، وأمّا الأدب والشعر والنادر وخفّة الروح فلم تكن تقصر عنها ، وكان لها صنعة في الغناء ، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها فيمرّ فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما أقتضاه عصرها من مثل ذلك ، وفيها يقول ابن زيدون : [البسيط]

بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا

شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا

وقال أيضا يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها : [المتقارب]

أثرت هزبر الشّرى إذ ربض

ونبّهته إذ هدا فاغتمض (٢)

وما زلت تبسط مسترسلا

إليه يد البغي لمّا انقبض

حذار حذار ، فإنّ الكريم

إذا سيم خسفا أبى فامتعض

وإنّ سكون الشجاع النّهو

س ليس بمانعه أن يعض (٣)

عمدت لشعري ولم تتّئد

تعارض جوهره بالعرض

أضاقت أساليب هذا القري

ض أم قد عفا رسمه فانقرض

لعمري ، فوقت سهم النضال

وأرسلته ، لو أصبت الغرض

ومنها :

وغرّك من عهد ولّادة

سراب تراءى وبرق ومض

هي الما يعزّ على قابض

ويمنع زبدته من مخض (٤)

__________________

(١) علية : هي بنت المهدي العباسي.

(٢) الهزبر : الأسد. وهدا : هدأ.

(٣) في ج : «الشجاع النهوض». والشجاع : نوع من الحيات ، ونهسته الحية : نهشته.

والنهوس صيغة مبالغة من اسم الفاعل ناهس.

(٤) هي الما : هي الماء.

١٣٦

ومن أخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد (١) : إنّ ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ، ويستضيء بنور محيّاها في الليل البهيم ، وكانت من الأدب والظرف ، وتتميم السمع والطرف ، بحيث تختلس القلوب والألباب ، وتعيد الشّيب إلى أخلاق الشباب ، فلمّا حل بذلك الغرب ، وانحلّ عقد صبره بيد الكرب ، فرّ إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها ، ويتسلّى برؤية موافيها ، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده ، ونشر سوسنه وورده ، وأترع جداولها ، وأنطق بلابلها ، فارتاح ارتياح جميل (٢) بوادي القرى ، وراح بين روض يانع وريح طيّبة السّرى ، فتشوّق إلى لقاء ولادة وحنّ ، وخاف تلك النوائب والمحن ، فكتب إليها يصف فرط قلقه ، وضيق أمده إليها وطلقه ، [ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر](٣) ، ويعاتبها على إغفال تعهّده ، ويصف حسن محشره بها ومشهده : [البسيط]

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا

والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا

وللنسيم اعتلال في أصائله

كأنما رقّ لي فاعتلّ إشفاقا (٤)

والروض عن مائه الفضّيّ مبتسم

كما حللت عن اللبّات أطواقا (٥)

يوم كأيام لذّات لنا انصرمت

بتنا لها حين نام الدهر سرّاقا

نلهو بما يستميل العين من زهر

جال الندى فيه حتى مال أعناقا

كأنّ أعينه إذ عاينت أرقي

بكت لما بي فجال الدمع رقراقا

ورد تألّق في ضاحي منابته

فازداد منه الضّحى في العين إشراقا

سرى ينافحه نيلوفر عبق

وسنان نبّه منه الصبح أحداقا (٦)

كلّ يهيج لنا ذكرى تشوّقنا

إليك ، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا

لو كان وفّى المنى في جمعنا بكم

لكان من أكرم الأيام أخلاقا

لا سكّن الله قلبا عنّ ذكركم

فلم يطر بجناح الشوق خفاقا

لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا

وافاكم بفتى أضناه ما لاقى

__________________

(١) القلائد ص ٧٣.

(٢) جميل : هو جميل بثينة الشاعر الغزل المعروف.

(٣) في ب ، ه : «ملتهب جمر».

(٤) اعتلّ : أصبح عليلا ، أي طريا.

(٥) اللبات : جمع لبة ، وهي موضع القلادة من الصدر.

(٦) النيلوفر : زهر يطفو على وجه الماء.

١٣٧

يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى

نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا (١)

كان التّجازي بمحض الودّ مذ زمن

ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا

فالآن أحمد ما كنّا لعهدكم

سلوتم وبقينا نحن عشّاقا (٢)

وقال أيضا : إن ابن زيدون لم يزل يروم دنوّ ولادة فيتعذّر ، ويباح دمه بها ويهدر ، لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها ، وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها (٣) ، أحدقت بني جهور عليه ، وسدّدت أسهمهم إليه ، فلمّا يئس من لقياها ، وحجب عنه محيّاها ، كتب إليها يستديم عهدها ، ويؤكّد ودّها ، ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه ، والامتحان الذي خشيه ، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر ، وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم ، وطلعت في كل خاطر ووهم ، ونزعت منزعا قصر عنه ابن الجهم ، وأولها : [البسيط]

بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا

شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا

تكاد حين تناجيكم ضمائرنا

يقضي علينا الأسى لو لا تأسّينا

وأخبار ولادة كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية.

ومن المشهورات بالأندلس «اعتماد» (٤) جارية المعتمد بن عباد ، وأم أولاده ، وتشتهر بالرّميكية ، وفي المسهب والمغرب أنه ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار ووزيره ، وقد زردت الريح النهر ، فقال ابن عباد لابن عمار : أجز : [الرمل]

صنع الريح من الماء زرد

فأطال ابن عمار الفكرة (٥) ، فقالت امرأة من الغسالات :

أيّ درع لقتال لو جمد

فتعجّب ابن عباد من حسن ما أتت به ، مع عجز ابن عمار ، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة ، فأعجبته فسألها : أذات زوج هي؟ فقالت : لا ، فتزوّجها ، وولدت له أولاده الملوك النجباء ، رحمهم الله تعالى!

وحكى البعض منهم صاحب «البداءة» (٦) بسنده إلى بعض أدباء الأندلس ، وسمّاه ولم يحضرني الآن ، أنه هو الذي قال للمعتمد :

أيّ درع لقتال لو جمد

__________________

(١) العلق : النفيس من كل شيء.

(٢) سلوتم : نسيتم ، وتسليتم عنه.

(٣) في ه : «ينسبها إليه مواليها».

(٤) انظر القلائد ص ٢٢.

(٥) في ه : «فأطال ابن عمار الفكر».

(٦) في ج : «صاحب الهداية» تحريف.

١٣٨

قال : فاستحسنه المعتمد ، وكنت رابعا في الإنشاد فجعلني ثانيا ، وأجازني بجائزة سنيّة.

قال ابن ظافر : وقد أخذت هذا المعنى ، فقلت أصف روضا : [الطويل]

فلو دام ذاك النبت كان زبرجدا

ولو جمدت أنهاره كان بلّورا

ولما قال ابن ظافر : [الرجز]

قد أذكت الشمس على الما لهبا (١)

قال القاضي الأعز :

فكست الفضّة منه ذهبا

رجع ـ ولمّا خلع المعتمد وسجن بأغمات قلت له (٢) : يا سيدي ، لقد هنّا هنا ، فقال :

[مجزوء الرجز]

قالت لقد هنّا هنا

مولاي ، أين جاهنا

قلت لها إلهنا

صيّرنا إلى هنا

وحكي أنها قالت له وقد مرض : يا سيدي ، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك (٣).

ولمّا قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرميكية أغرت المعتمد به حتى قتله ، وضربه بالطبرزين ففلق رأسه (٤) ، وترك الطبرزين في رأسه ، فقالت الرميكية : قد بقي ابن عمار هدهدا ، والقصيدة أوّلها : [المتقارب]

ألا حيّ بالغرب حيّا حلالا

أنا خوا جمالا وحازوا جمالا

وعرّج بيومين أمّ القرى

ونم فعسى أن تراها خيالا

ويومين : قرية بإشبيلية كانت منها أوّلية بني عباد.

وفي هذه القصيدة يقول معرضا بالرميكية :

تخيّرتها من بنات الهجان

رميكية ما تساوي عقالا

فجاءت بكلّ قصير العذار

لئيم النّجارين عمّا وخالا

__________________

(١) الما : الماء.

(٢) في ب : «قالت له».

(٣) مرضاتك الأولى بمعنى رضاك. والثانية جمع مرضة ، المرة من المرض.

(٤) في ه : «حتى تغلق رأسه».

١٣٩

قصار القدود ولكنهم

أقاموا عليها قرونا طوالا

أتذكر أيامنا بالصّبا

وأنت إذا لحت كنت الهلالا

أعانق منك القضيب الرطيب

وأرشف من فيك ماء زلالا

وأقنع منك بدون الحرام

فتقسم جهدك أن لا حلالا

سأهتك عرضك شيئا فشيئا

وأكشف سترك حالا فحالا

ومنها :

فيا عامر الخيل يا زيدها

منعت القرى وأبحت العيالا

وسبب قول ابن عمار هذه القصيدة أنّ المعتمد ندّر به (١) وذيّل على قصيدته الرائية المذكورة في القلائد بعد قوله : [الكامل]

كيف التفلت بالخديعة من يدي

رجل الحقيقة من بني عمار

وسخر به في أبيات مشهورة.

قال الفتح في حق المعتمد بعد كلام : وما زالت عقارب تلك الداخلة تدبّ ، وريحها العاصفة تهبّ ، ونارها تقد ، وضلوعها تحنق وتحقد ، وتضمر الغدر وتعتقد ، حتى دخل البلد من واديه ، وبدت من المكروه بواديه ، وكرّ عليه الدهر بعوائده (٢) وعواديه ، وهو مستمسك بعرى لذاته ، منغمس فيها بذاته ، ملقى بين جواريه ، مغتر بودائع ملكه وعواريه ، التي استرجعت منه في يومه ، ونبّهه فواتها من نومه ، ولمّا انتشر الداخلون في البلد ، وأوهنوا القوى والجلد ، خرج والموت يتسعّر في ألحاظه ، ويتصوّر من ألفاظه ، وحسامه يعد بمضائه ، ويتوقّد عند انتضائه ، فلقيهم برحبة القصر ، وقد ضاق بهم فضاؤها ، وتضعضعت من رجّتهم أعضاؤها ، فحمل فيهم حملة صيّرتهم فرقا ، وملأتهم فرقا (٣) ، وما زال يوالي عليهم الكر المعاد ، حتى أوردهم النهر وما بهم جواد ، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد ، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله ، وذهاب ملكه وارتحاله ، وعاد إلى قصره واستمسك فيه يومه وليلته مانعا لحوزته ، دافعا للذلّ عن عزّته ، وقد عزم على أفظع أمر ، وقال : بيدي لا بيد عمرو (٤) ، ثم صرفه تقاه ، عمّا

__________________

(١) في ه : «نذر به» محرفا.

(٢) في ه : «وكرّ عليه الدهر بعواديه».

(٣) الفرق ، بفتح الفاء والراء : الخوف.

(٤) هذا القول للزباء ملكة الجزيرة حين رأت عمرو بن عدي اللخمي قاصدا قتلها أخذا بثأر خاله جذيمة الأبرش ، وذهب مثلا.

١٤٠