نفح الطّيب - ج ٥

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

أنت الإمام الذي انقاد الأنام له

وملّكته مقاليد النّهى الأمم

لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفا

آوي إليه ولا يعروني العدم

لا زلت بالعزّة القعساء مرتديا

حتى تذلّ إليك العرب والعجم (١)

فلمّا وقف الحكم على شعرها استحسنه ، وأمر لها بإجراء مرتب ، وكتب إلى عامله على إلبيرة فجهّزها بجهاز حسن.

ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرحمن بشكية من عامله جابر بن لبيد والي إلبيرة ، وكان الحكم قد وقّع لها بخطّ يده تحرير أملاكها ، وحملها في ذلك على البرّ والإكرام ، فتوسّلت إلى جابر بخطّ الحكم ، فلم يفدها ، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن ، فأقامت بفنائه ، وتلطّفت مع بعض نسائه ، حتى أوصلتها إليه ، وهو في حال طرب وسرور ، فانتسبت إليه (٢) ، فعرفها وعرف أباها ثم أنشدته : [الطويل]

إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي

على شحط تصلى بنار الهواجر (٣)

ليجبر صدعي إنه خير جابر

ويمنعني من ذي الظلامة جابر

فإني وأيتامي بقبضة كفّه

كذي ريش اضحى في مخالب كاسر

جدير لمثلي أن يقال مروعة

لموت أبي العاصي الذي كان ناصري

سقاه الحيا لو كان حيّا لما اعتدى

عليّ زمان باطش بطش قادر

أيمحو الذي خطّته يمناه جابر

لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر

ولما فرغت رفعت (٤) إليه خطّ والده ، وحكت جميع أمرها ، فرقّ لها ، وأخذ خطّ أبيه فقبّله ووضعه على عينيه ، وقال : تعدّى ابن لبيد (٥) طوره ، حتى رام (٦) نقض رأي الحكم ، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ، ونحفظ بعد موته عهده ، انصرفي يا حسّانة ، فقد عزلته لك ، ووقّع لها توقيع أبيه الحكم ، فقبّلت يده ، وأمر لها بجائزة ، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها : [البسيط]

ابن الهشامين خير الناس مأثرة

وخير منتجع يوما لروّاد

__________________

(١) العزة القعساء : الثابتة الراسخة.

(٢) في ه : «فانتسب له».

(٣) الشحط : داء يصيب صدر الناقة فينذر بموتها.

وتصلى : تحترق.

(٤) في ه : «دفعت إليه».

(٥) في ه : «تعدى ابن لبيب» محرفا.

(٦) في ب ، ه : «حين رام».

١٠١

إن هزّ يوم الوغى أثناء صعدته

روّى أنابيبها من صرف فرصاد

قل للإمام أيا خير الورى نسبا

مقابلا بين آباء وأجداد

جوّدت طبعي ولم ترض الظلامة لي

فهاك فضل ثناء رائح غاد (١)

فإن أقمت ففي نعماك عاطفة

وإن رحلت فقد زوّدتني زادي

ومنهنّ أم العلاء بنت يوسف الحجارية (٢).

ذكرها صاحب «المغرب» وقال : إنها من أهل المائة الخامسة ، ومن شعرها : [الرمل]

كلّ ما يصدر منكم حسن

وبعلياكم تحلّى الزمن

تعطف العين على منظركم

وبذكراكم تلذّ الأذن

من يعش دونكم في عمره

فهو في نيل الأماني يغبن (٣)

وعشقها رجل أشيب ، فكتبت إليه : [السريع]

الشيب لا يخدع فيه الصّبا

بحيلة فاسمع إلى نصحي

فلا تكن أجهل من في الورى

يبيت في الجهل كما يضحي

ولها أيضا : [البسيط]

افهم مطارح أحوالي وما حكمت

به الشواهد واعذرني ولا تلم

ولا تكلني إلى عذر أبيّنه

شرّ المعاذير ما يحتاج للكلم (٤)

وكلّ ما جئته من زلّة فبما

أصبحت في ثقة من ذلك الكرم

والحجارية ـ بالراء المهملة ـ نسبة إلى وادي الحجارة.

ومنهن أمة العزيز.

قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب «المطرب ، من أشعار المغرب (٥)» : أنشدتني أخت جدّي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الشريفة الحسينية لنفسها : [السريع]

لحاظكم تجرحنا في الحشا

ولحظنا يجرحكم في الخدود (٦)

__________________

(١) في ه : «فهاك فصل ثناء».

(٢) انظر ترجمتها في المغرب ج ٢ ص ٣٨.

(٣) يغبن ـ بالبناء للمجهول ـ ينتقص حقه.

(٤) في ه : «ولا تلكني إلى أنبئه».

(٥) المطرب ص ٦.

١٠٢

جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا

فما الذي أوجب جرح الصّدود

قلت : هذا السؤال يحتاج إلى جواب ، وقد رأيت لبلدينا القاضي الإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني رحمه الله تعالى جوابه ؛ والغالب أنه من نظمه ، وهو قوله : [السريع]

أوجبه منّي يا سيدي

جرح بخدّ ليس فيه الجحود

وأنت فيما قلته مدّع

فأين ما قلت وأين الشهود

ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المريّة (١).

قال ابن سعيد في «المغرب» : كانت تنظم الشعر ، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار ، وعملت فيه الموشحات ، ومن شعرها فيه : [السريع]

يا معشر الناس ألا فاعجبوا

ممّا جنته لوعة الحبّ

لولاه لم ينزل ببدر الدّجى

من أفقه العلويّ للتّرب

حسبي بمن أهواه لو أنه

فارقني تابعه قلبي

ومنهن الشاعرة الغسانية البجانية (٢)

ـ بالنون ـ نسبة إلى بجانة ، وهي كورة عظيمة ، وتشتهر بإقليم المرية ، وهي من أهل المائة الرابعة ، فمن نظمها من أبيات : [الطويل]

عهدتهم والعيش في ظلّ وصلهم

أنيق وروض الوصل أخضر فينان

ليالي سعد لا يخاف على الهوى

عتاب ولا يخشى على الوصل هجران

ومنهنّ (٣) العروضية مولاة أبي المطرّف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب.

سكنت بلنسية ، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة ، لكنها فاقته في ذلك ، وبرعت في العروض ، وكانت تحفظ «الكامل» للمبرد و «النوادر» للقالي وتشرحهما ؛ قال أبو داود سليمان بن نجاح : قرأت عليها الكتابين ، وأخذت عنها العروض ، وتوفيت بدانية بعد سيّدها في حدود الخمسين والأربعمائة ، رحمها الله تعالى!

__________________

(٦) ورد هذا البيت في ه هكذا :

ألحاظنا تجرحكم في الحشا

ولحظكم يجرحنا في الخدود

(١) انظر ترجمتها في المغرب ج ٢ ص ٢٠٢.

(٢) انظر ترجمتها في الجذوة ص ٣٧٩.

(٣) في ب : «ومنهن».

١٠٣

ومنهنّ حفصة بنت الحاج الركونية (١) الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال ، والحسب والمال.

ذكرها الملاحي في تاريخه ، وأنشد لها ممّا قالته في أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ارتجالا بين يديه : [المجتث]

يا سيّد الناس يا من

يؤمّل الناس رفده

امنن عليّ بطرس

يكون للدهر عدّه (٢)

تخطّ يمناك فيه :

الحمد لله وحده

وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحّدين ، فإنه كانت أن يكتب السلطان بيده بخطّ غليظ في رأس المنشور «الحمد لله وحده».

وتذكّرت بذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، أنه لمّا قفل السلطان الناصر أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب والأندلس من إفريقية سنة ثلاث وستمائة بعد فتح المهدية هنّأته الشعراء بذلك ، ثم اجتمع أبو عبد الله بن مرج الكحل بالشعراء والكتّاب ، فتذكّروا الفتح وعظمه ، فأنشدهم ابن مرج الكحل في الوقت لنفسه : [الطويل]

ولمّا توالى الفتح من كلّ وجهة

ولم تبلغ الأوهام في الوصف حدّه

تركنا أمير المؤمنين لشكره

بما أودع السّرّ الإلهيّ عنده

فلا نعمة إلّا تؤدي حقوقها

علامته بالحمد لله وحده

فاستحسن الكتّاب له ذلك ، ووقع أحسن موقع.

وحكى صاحب كتاب «روح الشعر ، وروح السحر» (٣) وهو الكاتب أبو عبد الله محمد بن الجلاب الفهري أنّ أمير المؤمنين يعقوب المنصور لمّا قفل من غزوة الأراكة المشهورة ، وكانت يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، ورد عليه الشعراء من كل قطر

__________________

(١) انظر ترجمتها في الإحاطة ج ١ ص ٤٩٩.

والمغرب ج ٢ ص ١٣٨.

(٢) الطرس : الصحيفة.

(٣) في ب : «روح الشعر ، وروح الشحر».

والشحر مجرى الماء.

١٠٤

يهنّئونه ، فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كلّ إنسان قصيدته ، بل كان يختصّ منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة ، فدخل أحد الشعراء فأنشده : [البسيط]

ما أنت في أمراء الناس كلّهم

إلّا كصاحب هذا الدّين في الرّسل

أحييت بالسيف دين الهاشميّ كما

أحياه جدّك عبد المؤمن بن علي

فأمر له بألفي دينار ، ولم يصل أحدا غيره لكثرة الشعراء ، وأخذ بالمثل «منع الجميع ، أرضى للجميع» قال : وانتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها ، انتهى.

رجع إلى أخبار حفصة :

وأنشد لها أبو الخطاب في «المطرب» قولها : [الطويل]

ثنائي على تلك الثّنايا لأنني

أقول على علم وأنطق عن خبر

وأنصفها ، لا أكذب الله ، إنني

رشفت بها ريقا أرقّ من الخمر

وتولّع بها السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن ملك غرناطة ، وتغيّر بسببها على أبي جعفر بن سعيد ، حتى أدّى تغيّره عليه أن قتله. وطلب أبو جعفر منها الاجتماع ، فمطلته قدر شهرين ، فكتب لها : [المجتث]

يا من أجانب ذكر اسمه وحبّي علامه (١)

ما إن أرى الوعد يقضى

والعمر أخشى انصرامه

اليوم أرجوك لا أن

تكون لي في القيامه

لو قد بصرت بحالي

والليل أرخى ظلامه

أنوح شوقا ووجدا

إذ تستريح الحمامه (٢)

صبّ أطال هواه

على الحبيب غرامه

لمن يتيه عليه

ولا يردّ سلامه

إن لم تنيلي أريحي

فاليأس يثني زمامه

فأجابته : [المجتث]

__________________

(١) في ب ، ه : «وحسبي علامه».

(٢) في ب ، ه : «أنوح وجدا وشوقا».

١٠٥

يا مدّعي في هوى الحس

ن والغرام الإمامه

أتى قريضك ، لكن

لم أرض منه نظامه (١)

أمدّعي الحبّ يثني

يأس الحبيب زمامه

ضللت كلّ ضلال

ولم تفدك الزعامه

ما زلت تصحب مذكن

ت في السباق السلامه

حتى عثرت وأخجل

ت بافتضاح السآمه

بالله في كلّ وقت

يبدي السحاب انسجامه

والزهر في كلّ حين

يشق عنه كمامه

لو كنت تعرف عذري

كففت غرب الملامه

ووجّهت هذه الأبيات مع موصل أبياته ، بعد ما لعنته وسبّته ، وقالت له : لعن الله المرسل والمرسل! فما في جميعكما خير ، ولا لي برؤيتكما حاجة ، وانصرف بغاية من الخزي ، ولمّا أطلّ على أبي جعفر وهو في قلق لانتظاره قال له : ما وراءك يا عصام؟ قال : ما يكون وراء من وجهه خلف إلى فاعلة تاركة ، اقرأ الأبيات تعلم ، فلمّا قرأ الأبيات قال للرسول : ما أسخف عقلك وأجهلك! إنها وعدتني للقبّة التي في جنّتي المعروفة بالكمامة ، سر بنا ، فبادروا إلى الكمامة (٢) ، فما كان إلّا قليلا ، وإذا بها قد وصلت ، وأراد عتبها ، فأنشدت : [الوافر]

دعي عدّ الذنوب إذا التقينا

تعالي لا نعدّ ولا تعدّي

وجلسا على أحسن حالة ، وإذا برقعة الكتندي الشاعر لأبي جعفر ، وفيها : [الطويل]

أبا جعفر ، يا ابن الكرام الأماجد

خلوت بمن تهواه رغما لحاسد

فهل لك في خلّ قنوع مهذّب

كتوم عليم باختفاء المراصد

يبيت إذا يخلو المحبّ بحبّه

ممتّع لذات بخمس ولائد

فقرأها على حفصة ، فقالت : لعنة الله! قد سمعنا بالوارش (٣) على الطعام والواغل على الشراب ، ولم نسمع اسما لمن يعلم باجتماع محبّين فيروم الدخول عليهما ، فقال لها : بالله سمّيه لنكتب له بذلك ، فقالت : أسمّيه الحائل ؛ لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه ،

__________________

(١) القريض : الشعر.

(٢) في ب ، ه : «فبادروا للكمامة».

(٣) الوارش على الطعام : الداخل على قوم يأكلون ولا يدعى للأكل.

١٠٦

فكتب له في ظهر رقعته : [المجتث]

يا من إذا ما أتاني

جعلته نصب عيني

تراك ترضى جلوسا

بين الحبيب وبيني

إن كان ذاك فماذا

تبغي سوى قرب حيني (١)

والآن قد حصلت لي

بعد المطال بديني

فإن أتيت فدفعا

منها بكلتا اليدين

أو ليس تبغي وحاشا

ك أن ترى طير بين (٢)

وفي مبيتك بالخم

س كلّ قبح وشين

فليس حقّك إلّا ال

خلوّ بالقمرين

وكتب له تحت ذلك ما كان منها من الكلام ، وذيّل ذلك بقوله : [مجزوء الكامل]

سمّاك من أهواه حائل

إن كنت بعد العتب واصل

مع أنّ لونك مزعج

لو كنت تحبس بالسلاسل

فلمّا رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمطمورة نجاسة ، وصار هتكة ، فلمّا قرأ الأبيات قال للرسول : أعلمها بحالي ، فرجع الرسول ، وأخبرهما بذلك ، فكاد أن يغشى عليهما من الضحك ، وكتب إليه ارتجالا (٣) كلّ واحد بيتا بيتا (٤) ، وابتدأ أبو جعفر فقال : [مجزوء الرجز]

قل للذي خلّصنا

منه الوقوع في الخرا

ارجع كما شاء الخرا

يا ابن الخرا إلى ورا

وإن تعد يوما إلى

وصالنا سوف ترى

يا أسقط الناس ويا

أنذلهم بلا مرا

هذا مدى الدهر تلا

قي لو أتيت في الكرا

يا لحية تشغف في ال

خرء وتشنا العنبرا (٥)

__________________

(١) الحين ـ بفتح فسكون : الهلاك والموت.

(٢) البين : البعد ، الفراق. ويقال : غراب البين ، أي الموت.

(٣) كلمة «ارتجالا» ساقطة من ب.

(٤) في ب : «كل واحد بيتا» وفي ه «كل واحد منهما بيتا».

(٥) تشنا : تكره وتبغض. وأصله تشنأ فسهل الهمزة بقلبها ألفا.

١٠٧

لا قرّب الله اجتما

عا بك حتى تقبرا

ومن شعرها : [المتقارب]

سلام يفتّح في زهره ال

كمام وينطق ورق الغصون

على نازح قد ثوى في الحشا

وإن كان تحرم منه الجفون

فلا تحسبوا العبد ينساكم

فذلك والله ما لا يكون (١)

وقولها من أبيات : [الطويل]

ولو لم يكن نجما لما كان ناظري

وقد غبت عنه مظلما بعد نوره

سلام على تلك المحاسن من شج

تناءت بنعماه وطيب سروره

وقولها : [الطويل]

سلوا البارق الخفّاق والليل ساكن

أظلّ بأحبابي يذكّرني وهنا

لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة

وأمطرني منهلّ عارضه الجفنا

ونسب بعض إليها البيتين المشهورين (٢) : [الوافر]

أغار عليك من عيني رقيبي

ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أني خبأتك في عيوني

إلى يوم القيامة ما كفاني

والله تعالى أعلم.

وكتبت إلى أبي جعفر : [الطويل]

رأست فما زال العداة بظلمهم

وعلمهم النامي يقولون ما رأس (٣)

وهل منكر أن ساد أهل زمانه

جموح إلى العليا حرون عن الدنس

وقال ابن دحية : حفصة من أشراف غرناطة ، رخيمة الشعر ، رقيقة النظم والنثر ، انتهى.

ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئة (٤) بيوم عيد ، وكتبت بذلك إليه:[الكامل المجزوء]

__________________

(١) في ب ، ه : «فلا تحسبوا البعد ينسيكم».

(٢) في ب ، ه : «البيتين الشهيرين».

(٣) في ج : «يقولون لم رأس».

(٤) في ب : «تهنئه».

١٠٨

يا ذا العلا وابن الخلي

فة والإمام المرتضى

يهنيك عيد قد جرى

فيه بما تهوى القضا

وأتاك من تهواه في

قيد الإنابة والرضا

ليعيد من لذّاته

ما قد تصرّم وانقضى (١)

وذكر الملاحي في تاريخه أنها سألتها امرأة من أعيان أهل غرناطة أن تكتب لها شيئا بخطّها ، فكتبت إليها : [البسيط]

يا ربّة الحسن ، بل يا ربّة الكرم

غضّي جفونك عمّا خطّه قلمي

تصفّحيه بلحظ الودّ منعمة

لا تحفلي برديء الخطّ والكلم

واتّفق أن بات أبو جعفر بن سعيد معها في بستان بحور مؤمّل ، على ما يبيت به الروض والنسيم ، من طيب النفحة ونضارة النعيم ، فلمّا حان الانفصال ، قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق : [الطويل]

رعى الله ليلا لم يرح بمذمّم

عشيّة وارانا بحوز مؤمّل

وقد خفقت من نحو نجد أريجة

إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل

وغرّد قمريّ على الدّوح وانثنى

قضيب من الريحان من فوق جدول

يرى الروض مسرورا بما قد بدا له :

عناق وضمّ وارتشاف مقبّل

وكتب بها إليها بعد الافتراق ، لتجيبه على عادتها في مثل ذلك ، فكتبت إليه بقولها : [الطويل]

لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا

ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسد

ولا صفّق النهر ارتياحا لقربنا

ولا غرّد القمريّ إلّا لما وجد (٢)

فلا تحسن الظّنّ الذي أنت أهله

فما هو في كلّ المواطن بالرّشد

فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه

لأمر سوى كيما تكون لنا رصد

وقال ابن سعيد في «الطالع السعيد» : كتبت حفصة الركونية إلى بعض أصحابها : [الوافر]

أزورك أم تزور؟ فإنّ قلبي

إلى ما تشتهي أبدا يميل

__________________

(١) ما تصرّم : ما تقطّع.

(٢) في ه : «ولا صدح القمري». والقمري : نوع من الحمام حسن الصوت.

١٠٩

فثغري مورد عذب زلال

وفرع ذؤابتي ظلّ ظليل

وقد أمّلت أن تظما وتضحى

إذا وافى إليك بي المقيل

فعجّل بالجواب فما جميل

إباؤك عن بثينة يا جميل

قال التجاني : تشبه أبيات حفصة هذه أبيات أنشدها ابن أبي الحصين في تاريخه لسلمى بنت القراطيسي من أهل بغداد ، وكانت مشهورة بالجمال ، وهي : [الوافر]

عيون مها الصريم فداء عيني

وأجياد الظباء فداء جيدي

أزيّن بالعقود وإنّ نحري

لأزين للعقود من العقود

ولا أشكو من الأوصاب ثقلا

وتشكو قامتي ثقل النهود (١)

وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال : اسألوا هل تصدق صفتها قولها؟ فقالوا : ما يكون أجمل منها ، فقال : اسألوا عن عفافها ، فقالوا له : هي أعفّ الناس ، فأرسل إليها مالا جزيلا ، وقال : تستعين به على صيانة جمالها ، ورونق بهجتها ، انتهى.

رجع إلى حفصة ـ وقال أبو جعفر بن سعيد : أقسم ما رأيت ولا سمعت بمثل حفصة ، ومن بعض ما أجعله دليلا على تصديق عزمي ، وبرّ قسمي ، أني كنت يوما في منزلي مع من يحبّ أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام ، فلم نشعر إلّا بالباب يضرب ، فخرجت جارية تنظر من الضارب ، فوجدت امرأة ، فقالت لها : ما تريدين؟ ادفعي لسيدك هذه الرقعة ، فجاءت برقعة فيها : [الخفيف]

زائر قد أتى بجيد الغزال

مطلع تحت جنحه للهلال

بلحاظ من سحر بابل صيغت

ورضاب يفوق بنت الدّوالي (٢)

يفضح الورد ما حوى منه خدّ

وكذا الثغر فاضح للآلي

ما ترى في دخوله بعد إذن

أو تراه لعارض في انفصال

قال : فعلمت أنها حفصة ، وقمت مبادرا للباب ، وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به وتفضّله بالزيارة دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به ، انتهى.

قلت : وإذ قد جرى ذكر أبي جعفر بن سعيد سابق الحلبة فلنلمّ ببعض أحواله فنقول : هو

__________________

(١) الأوصاب : جمع وصب ، وهو المرض.

(٢) الرضاب : الريق. وبنت الدوالي : الخمر.

١١٠

أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي ، قال قريبه أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في «المغرب» (١) : سمعت أبي يقول : لا أعلم في بني سعيد أشعر منه ، بل لا أعلم في بلده ، وعشق حفصة شاعرة الأندلس ، وكانا يتجاوبان تجاوب الحمام ، ولمّا استبدّ والده بأمر القلعة حين ثار أهل الأندلس بسبب صولة بني عبد المؤمن على الملثّمين اتخذه وزيرا ، واستنابه في أموره ، فلم يصبر على ذلك ، واستعفى ، فلم يعفه ، وقال : أفي مثل هذا الوقت الشديد تركن إلى الراحة؟ فكتب إليه : [المجتث]

مولاي ، في أي وقت

أنال في العيش راحه

إن لم أنلها وعمري

ما إن أنار صباحه

وللملاح عيون

تميل نحو الملاحه

وكأس راحي ما إن

تملّ منّي راحه

والخطب عنّي أعمى

لم يقترب لي ساحه

وأنت دوني سور

من العلا والرجاحه

فأعفني وأقلني

ممّا رأيت صلاحه

ما في الوزارة حظّ

لمن يريد ارتياحه

كلّ وقال وقيل

مما يطيل نباحه (٢)

أنسي أتى مستغيثا

فاترك فديت سراحه

فلمّا قرأ الأبيات قال : لا ينفع الله بما لا يكون مركّبا في الطبع مائلة له النفس ، ثم وقّع على ظهر ورقته : قد تركنا سراح أنسك ، وألحقنا يومك بأمسك. ولمّا رجع ثوار الأندلس إلى عبد المؤمن وبايعه عبد الملك بن سعيد فغمره إحسانا وبراّ ، وولي السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن غرناطة طلب كاتبا من أهلها ، فوصف له فضل أبي جعفر وحسبه وأدبه ، فاستكتبه ، فطلب أن يعفيه ، فأبى إلى أن شرب أبو جعفر يوما مع بعض (٣) خواصّه ، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد ، ولمّا اشتدّ البرد مالوا إلى خيمة ناطور (٤) ، وجعلوا يصطلون ويشربون على ما اصطادوا ، فحمل أبا جعفر بقيّة السكر على أن قال يصف يومه ، ويستطرد بما في نفسه : [الطويل]

ويوم تجلّى الأفق فيه بعنبر

من الغيم لذنا فيه باللهو والقنص

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٤.

(٢) في ب ، ه : «ممن يطيل بناحه».

(٣) كلمة «بعض» ساقطة من ب.

(٤) الناطور : حارس البستان والقيم عليه.

١١١

وقد بقيت فينا من الأمس فضلة

من السكر تغرينا بمنتهب الفرص

ركبنا له صبحا وليلا وبعضنا

أصيلا وكلّ إن شدا جلجل رقص

وشهب بزاة قد رجمنا بشهبها

طيورا يساغ اللهو إن شكت الغصص (١)

وعن شفق تغري الصباح أو الدّجى

إذا أوثقت ما قد تحرّك أو قمص (٢)

وملنا وقد نلنا من الصيد سؤلنا

على قنص اللّذّات والبرد قد قرص

بخيمة ناطور توسّط عذبها

جحيم به من كان عذّب قد خلص

أدرنا عليه مثله ذهبيّة

دعته إلى الكبرى فلم يجب الرخص

فقل لحريص أن يراني مقيّدا

بخدمته : لا يجعل الباز في القفص

وما كنت إلّا طوع نفسي فهل أرى

مطيعا لمن عن شأو فخري قد نقص (٣)

فكان من (٤) أصحابه من حفظ هذين البيتين ، ووشى بهما للسيد ، فعزله أسوأ عزل ، ثم بلغه بعد ذلك أنه قال لحفصة الشاعرة : ما تحبّين في ذلك الأسود وأنا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرة خيرا منه؟ وكان لونه مائلا إلى السواد ، فأسرّها في نفسه إلى أن فرّ عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد إلى ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش ، فوجد له بذلك سببا ، فقتله صبرا بمالقة.

وكان عبد الملك بن سعيد يذكر ابنه أبا جعفر لعبد المؤمن ، وينشده من شعره رغبة في تشريفه بالحضور بين يديه وإنشاده في مجلسه ، فأمره بحضوره ، فعندما دخل عليه قبّل يده وأنشد قصيدة منها قوله : [الوافر]

عليك أحالني داعي النجاح

ونحوك حثّني حادي الفلاح

وكنت كساهر ليلا طويلا

ترنّح حين بشّر بالصباح

وذي جهل تغلغل في قفار

شكا ظمأ فدلّ على القراح (٥)

دعانا نحو وجهك طيب ذكر

ويذكر للرياض شذا الرياح

__________________

(١) الباز : الصقر. والأشهب من فيه سواد وبياض.

(٢) قمص ـ قمصت الدابة : رفعت يديها معا وطرحتهما معا واعتمدت برجليها على الأرض.

وقمّص : نفر وأعرق قلقا.

(٣) الشأو : الغاية.

(٤) في ب ، ه : «فكان في أصحابه».

(٥) القراح : من الماء أو غيره : الصافي الخالص.

١١٢

وله في غلام أسود ساق ، ارتجالا : [الطويل]

أدار علينا الكأس ظبي مهفهف

غدا نشره واللون للعنبر الشحري

وزاد لنا حسنا بزهر كؤوسه

وحسن ظلام الليل بالأنجم الزّهر

وقوله فيه وقد لبس أبيض : [المتقارب]

وغصن من الآبنوس ارتدى

بعاج كليل علاه فلق (١)

يحاكي لنا الكأس في كفّه

صباح بجنح علاه شفق (٢)

وقوله ممّا كتب به إلى أخيه محمد وقد ورد منه كتاب بإنعام : [المجتث]

وافى كتابك ينبي

عن سابغ الإنعام

فقلت درّ ودرّ

من زاخر وغمام

وقوله يذم حمّاما : [السريع]

يا ربّ حمّام لعنّا بما

أبدى إلينا كلّ حمّام

أفق له قطر حميم كما

أصمت سهام من يدي رامي (٣)

يخرق سحبا للدخان الذي

لاح كغيم العارض الهامي (٤)

وقيّم يجذبني جذبة

وتارة يكسر إبهامي

ويجمع الأوساخ من لؤمه

في عضدي قصدا لإعلامي

وازدحم الأنذال فيه وقد

ضجّوا ضجيجا دون إفهام

وجملة الأمر دخلنا بني

سام وعدنا كبني حام

وله في ضدّ ذلك ، والنصف الأخير لابن بقي : [البسيط]

لا أنس ما عشت حمّاما ظفرت به

وكان عندي أحلى من جنى الظّفر

نعّمت جسمي في ضدين مغتنما

تنعّم الغصن بين الشمس والمطر

وقال له السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن ، صاحب غرناطة : ما أنت إلّا حسن الفراسة ، وافر العقل ، فقال : [الطويل]

__________________

(١) الفلق : الصبح.

(٢) في ه : «تحاكي لنا الكأس في كفه صباحا».

(٣) أصمّ السهم : أصاب فقتل.

(٤) في ب ، ه : «لالغيم العارض الهامي».

١١٣

نسبتم لمن هذّبتموه فراسة

وعقلا ولولاكم للازمه الجهل

وما هو أهل للثناء وإنما

علاكم لتقليد الأيادي له أهل

وما أنا إلّا منكم وإليكم

وما فيّ من خير فأنتم له أصل

وقال : [الطويل]

ولمّا رأيت السّعد في صفح وجهه

منيرا دعاني ما رأيت إلى الشكر

وأقبل يبدي لي غرائب نطقه

وما كنت أدري قبله منزع السحر

فأصغيت إصغاء الجديب إلى الحيا

وكان ثنائي كالرياض على القطر (١)

وله : [المجتث]

لا تكثرنّ عتابي

إن طال عنك فراقي

فما يضرّ بعاد

يطول والودّ باقي

وله : [الخفيف]

ما خدمناكم لأن تشفعوا في

نا بدار الجزاء يوم الحساب

ذاك يوم أنا وأنت سواء

فيه ، كلّ يخاف سوء العقاب

إنما الشأن الذبّ في هذه الدن

يا بسلطانكم عن الأصحاب

وإذا ما خذلتموهم بشكوى

وبخلتم عنهم بردّ الجواب

فاعذروهم أن يطلبوا من سواكم

نصرة وارفعوا حجال العتاب

وإذا أرض مجدب لفظته

فله العذر في اتّباع السحاب

وله وقد تقدّم أمامه في ليلة مظلمة أحد أصحابه ، فطفىء السراج في يده ، وفقال لوقته : [المجتث]

لي من جبينك هادي

في الليل نحو مرادي

فما أريد سراجا

يدلّني لرشاد

أنّى وكفّك سحب

يبدو بها ذا اتّقاد

وله في قوّادة (٢) : [السريع]

__________________

(١) الجديب : من الأمكنة : الماحل اليابس. والحيا والقطر : المطر.

(٢) القوّادة : سمسارة النساء البغايا اللواتي يتعاطين الدعارة.

١١٤

قوّادة تفخر بالعار

أقود من ليل على سار

ولّاجة في كلّ دار وما

يدري بها من حذقها داري (١)

ظريفة مقبولة الملتقى

خفيفة الوطء على الجار

لحافها لا ينطوي دائما

أقلق من راية بيكار (٢)

قد ربيت مذ عرفت نفعها

ما بين فتّاك وشطّار

جاهلة حيث ثوى مسجد

عارفة حانة خمّار

بسّامة مكثرة برّها

ذات فكاهات وأخبار

علم الرياضات حوته وسا

سته بتقويم وأسحار (٣)

منّاعة للنعل من كيسها

موسرة في حال إعسار (٤)

تكاد من لطف أحاديثها

تجمع بين الماء والنار

وما سمعنا في هذا الباب أحسن من هذا ، والبيت السائر : [الوافر]

تقود من السياسة ألف بغل

إذا حزنت بخيط العنكبوت

وشرب ليلة مع أصحاب له وفيهم وسيم ، فأعرض بجانبه وقطّب ، فتكدّر المجلس ، فقال أبو جعفر : [السريع]

يا من نأى عنّا إلى جانب

صدّا كميل الشمس عند الغروب

لا تزو عنّا وجهك المجتلى

فالشمس لا يعهد منها قطوب (٥)

إن دام هذا الحال ما بيننا

فإننا عمّا قليل نتوب (٦)

ما نشتكي الدهر ولا خطبه

لولاك ما دارت علينا خطوب

وله أيضا : [الطويل]

أيا لائمي في حمل صحبة جاهل

قطوب المحيّا سييء اللحظ والسّمع

لمنفعة ترجى لديه صحبته

وإن كان ذا طبع يخالفه طبعي

كما احتمل الإنسان شرب مرارة ال

دواء لما يرجو لديه من النفع

__________________

(١) ولّاجة : كثيرة الولوج ـ أي الدخول.

(٢) في ب : «من راية بيطار».

(٣) في ه : «وساسان بتقويم وأسحار» محرفا.

(٤) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «مبتاعة للنعل».

(٥) قطوب : عبوس.

(٦) في ب ، ه : «فإننا عما قريب نتوب».

١١٥

وله ، وقد أحسن ما شاء : [الطويل]

تركتكم لا كارها في جنابكم

ولكن أبى ردّي إلى بابكم دهري

وما باختيار فارق الخلد آدم

تنقّلني من كلّ سهل إلى وعر

وما باختيار فارق الخلد آدم

وما عن مراد لاذ أيوب بالصبر

ولكنها الأيام ليست مقيمة

على ما اشتهاه مشته أمد العمر

وإنك إن فكّرت فيما أتيته

تيقّنت أنّ التّرك لم يك عن غدر

ولكن لجاج في النفوس إذا انقضى

رجعت كما قد عاد طير إلى وكر (١)

وإني لمنسوب إليكم وإن نأت

بي الدار عنكم والغدير إلى القطر

وإني لمثن بالذي نلت منكم

مقيم على ما تعلمون من البرّ

وإن خنتكم يوما فخانني المنى

وساء لديكم بعد إحماده ذكري

على أنني أقررت أني مذنب

وذو المجد من يغني المقرّ عن العذر

وله يصف نارا : [الطويل]

نظرت إلى نار تصول على الدّجى

إذا ما حسبناها تدانت تبعّد

ترفّعها أيدي الرياح ، وتارة

تخفّضها مثل المكبر يسجد

وإلّا فمن لا يملك الصبر قلبه

يقوم به غيظ هناك ويقعد

لها ألسن تشكو بها ما أصابها

وقد جعلت من شدّة القرّ ترعد

وله على لسان إنسان أخلقت (٢) بردته : [السريع]

مولاي ، هذي بردتي أخلقت

وليس شيء دونها أملك

وصرت من بأس ومن فاقة

أبكي إذا أبصرتها تضحك

وله يستدعي أحد أبناء الرؤساء إلى يوم اجتماع : [الوافر]

تداركنا فإنّا في سرور

وما بسواك يكتمل السرور

أهلّة أنسنا بك في تمام

أليس تتمّ بالشمس البدور

وله ، وقد خطر على منزله من إليه له ميل ، وقال : لو لا أخاف التثقيل لدخلت ،

__________________

(١) اللجاج : الإلحاح.

(٢) أخلقت : بليت.

١١٦

وانصرف ، فلمّا علم (١) أبو جعفر كتب إليه : [السريع]

مولاي ، لم تقصد تعذيب من

يهوى وما قصدك مجهول

طلبت تخفيفا ببعد وفي

تخفيف من نهواه تثقيل (٢)

غيرك إن زار جنى ضجرة

ولجّ منه القال والقيل

وأنت إن زرت حياة وما ال

عيش إذا ما طال مملول (٣)

وله ، وقد جلس إلى جانبه رجل تكلّم فأنبأ عن علوّ قدر ، فسأله عن بلده ، فقال : إشبيلة ، ففكر ثم قال : [البسيط]

يا سيدا لم أكن من قبل أعرفه

حتى تكلّم مثل الروض بالعبق (٤)

وزادني أن غدا في حمص منشؤه

لقد تشاكل بين البدر والأفق

وله ، وقد حضر مجلسا مع إخوان له في انبساط ومزاح ، فدخل عليهم أحد ظرفاء الغرب(٥)بوجه طلق وبشاشة ، فاهتزّ لما سمع بينهم ، وجعل يصل ما يحتاج من مزاحهم إلى صلة بأحسن منزع وأنبل مقصد ، فأنشده أبو جعفر ارتجالا : [السريع]

يا سيّدا قد ضمّه مجلس

حلّ به للمزح إخوان

لم نلق من فجأته خجلة

ولا ثنانا عنه كتمان

كأنه من جمعنا واحد

لم ينب منّا عنه إنسان

ولم نكن ندريه لكن بدا

في وجهه للظّرف عنوان

وله ، وقد لقي أحد إخوانه ، وكان قد أطال الغيبة عنه ، فدار بينهما ما أوجب أن قال : [الكامل]

إن لحت لم تلمح سواك الأعين

أو غبت لم تذكر سواك الألسن

أنت الذي ما إن يملّ حضوره

ومغيبه السلوان عنه يؤمن

وله ، وهو من آياته : [الكامل]

__________________

(١) في ب ، ه : «فلما أعلم أبو جعفر».

(٢) في ب ، ه : «وفي تخفيف من تهواه تثقيل».

(٣) في أصل ه : «وما العيش إذا ما طال ممطول».

(٤) العبق : المطر.

(٥) في ب : «أحد ظرفاء الغرباء» وفي ج : «أحد الظرفاء الغرباء».

١١٧

إني لأحمد طيفها وألومها

والفرق بينهما لديّ كبير

هي إن بدت لي شيبة في جفوة

والطيف في حين المشيب يزور

وإذا توالى صدّها أو بينها

وافى على أنّ المزار عسير

وله ، وقد سافر (١) بعض الأراذل بماله ، فنكب في سفره ، وعاد فقيرا بأسوإ أحواله : [البسيط]

اغد ولا يغن عنك القيل والقال

فالجود مبتسم والفضل يختال (٢)

قالوا فلان رماه الله في سفر

رآه رأيا بما حالت به الحال (٣)

فآب منه سليبا مثل مولده

عليه ذلّ وتفجيع وإقلال (٤)

فقلت لا خفّف الرحمن عنه ، فلم

يكن لديه على القصّاد إقبال

فقل له دام في ذلّ ومسغبة

ولا أعيدت له في المآل آمال (٥)

قد كان حمقك حسن المال يستره

فاليوم أصبحت لا عقل ولا مال

وله ، وقد سافر أحد الرؤساء من أصحابه : [المتقارب]

أيا غائبا لم يغب ذكره

ولا حال عن ودّه حائل

لئن مال دهري بي عنكم

فقلبي نحوكم مائل

فإني شاهدت منكم علا

من العجز قسّ بها باقل (٦)

لئن طال بي البعد عن لحظكم

فما في حياتي إذن طائل

وله ، وهو من حسناته : [السريع]

شقّت جيوب فرحا عندما

آبت ، وفي البعد تشقّ القلوب

فقلت هذا موقف ما يشق

ق الجيب فيه غير صبّ طروب

فابتسمت زهوا وقالت كذا ال

أفق لعود الشمس شقّ الجيوب

__________________

(١) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «وقد سار».

(٢) في ه : «أعد ولا يغن عنك ..».

(٣) حالت الحال : تبدلت وتغيرت.

(٤) آب : رجع.

(٥) السغبة : المجاعة.

(٦) قس : مضرب المثل في الفصاحة وباقل : مضرب المثل في العي والفهاهة.

١١٨

وله ، وقد أجمع (١) رأيه على أن يفد على أمير المؤمنين عبد المؤمن ، فأخذ في ذلك مع أصحاب له فجعلوا يثنونه عن ذلك ، وظهر عليهم الحسد له ، فقال : [السريع]

سر نحو ما تختار لا تسمعن

ما قاله زيد ولا عمرو

كلّهم يحسد ما رمته

مهما يساعد رأيك الدهر (٢)

عجبت ممّن رام صدر العلا

يروم أن يصفو له دهر

فقالوا له : اتهمتنا في الودّ ، فقال : لو لم أتّهمكم كنت أتّهم عقلي ، والعياذ بالله تعالى من ذلك ، وكيف لا أتهمكم وقد غدوتم تثنونني عن زيارة خليفة لوالدي عنده مكان ، وله علينا إحسان ، ولي شافع عنده مقرب لمجلسه عقلي ولساني ، ولكني أنا المخطئ الذي عدلت عن العمل بقول القائل : [الطويل]

ولم يستشر في أمره غير نفسه

ولم يرض إلّا قائم السيف صاحبا (٣)

وله في شعاع الشمس والقمر (٤) على النهر : [الطويل]

ألا حبّذا نهر إذا ما لحظته

أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس

ترى القمرين الدهر قد عنيا به

يفضّضه بدر وتذهبه شمس

وله في والده وقد شن (٥) عليه درعا : [الطويل]

أيا قائد الأبطال في كلّ وجهة

تطير قلوب الأسد فيها من الذّعر

لقد قلت لمّا أن رأيتك دارعا

أيا حسن ما لاح الحباب على البحر (٦)

وأنشدت والأبطال حولك هالة

أيا حسن ما دار النجوم على البدر

وقوله ، وقد بلغه أنّ حاسدا شكره : [المجتث]

متى سمعت ثناء

عمّن غدا لك حاسد

__________________

(١) في أصل ه : «اجتمع رأيه».

(٢) في ب ، ه : «كلهم يحمد ما رمته».

(٣) في ج ، ه : «ولم يرض إلا قائم النفس صاحبا» تحريف. والبيت من قصيدة لسعد بن ناشب المزني. انظر شرح التبريزي. تحقيق محيي الدين عبد الحميد ج ١ ص ٧٤.

(٤) في ب ، ه : «وله في شعاع القمر والشمس».

(٥) في ب ، ه : «وقد سن عليه درعا».

(٦) دارعا : لابسا الدرع.

١١٩

فكان منك انخداع

به فرأيك فاسد

بصدره منك نار

لهيبها غير خامد

وغلّه لك ما زد

ت في السعادة زائد (١)

وإنما ذاك منه

كالحبّ في فخّ صائد

وله : [مخلع البسيط]

أبصره من يلوم فيه

فقال ذا في الجمال فائق

أما ترى ما دهيت منه

كان عذولا فصار عاشق

وله في أبيه ، وقد سجنه عبد المؤمن : [الكامل]

مولاي ، إن يحبسك خير خليفة

فبذاك فخرك واعتلاء الشان

فالجفن يحبس نوره من غبطة

والمرهفات تصان في الأجفان (٢)

فابشر فنزع الدّر من أصدافه

يعليه للأسلاك والتيجان

ولئن غدا من ظلّ دونك مطلقا

إنّ القذى ملقى عن الأجفان

والعين تحبس دائما أجفانها

وهداية الإنسان بالإنسان

والطّرس يختم ما حواه نفاسة

ويهان ما يبدو من العنوان

فاهنأ به لكن مليّا مكثه

سجنا لغير مذلّة وهوان

فلتعلون رغم الأعادي بعده

بذرى الخليفة في ذرى كيوان (٣)

مولاي غيرك يعزّى بما لم يزل يجري على الكرام ، ويذكّر تأنيسا له في الوحشة بما يطرأ من الكسوف والخسوف على الشمس المنيرة والبدر التمام : [الوافر]

وأنت تعلّم الناس التّعزّي

وخوض الموت في الحرب السجال (٤)

وقد كان مولاي أنشدني لعلي بن الجهم قائلا : إنّ أحدا لم يسلّ نفسه عمّا ناله من السجن بمثله : [الكامل]

قالوا سجنت فقلت ليس بضائر

سجني ، وأيّ مهنّد لا يغمد (٥)

__________________

(١) في ب : «وعلّه لك».

(٢) المرهفات : السيوف الحادة.

(٣) كيوان : نجم في السماء.

(٤) البيت للمتنبي يرثي أم سيف الدولة.

(٥) في أ: «بضائري» وانظر البيت في ديوان ابن الجهم ص ٤١.

١٢٠