نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

ثم قال بعدهما : وإنما هدم (١) صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين اللغوي : [بحر السريع]

كأنّ ريح الروض لمّا أتت

فتّت علينا مسك عطّار

كأنما إبريقنا طائر

يحمل ياقوتا بمنقار

انتهى.

ومن نظم صاعد : [بحر المنسرح]

قلت له والرقيب يعجله

مودعا للفراق : أين أنا

فمدّ كفّا إلى ترائبه

وقال : سر وادعا فأنت هنا

وقال صاعد ، لمّا أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس : [بحر مجزوء الكامل]

إنّي لأستحيي علا

ك من ارتجال القول فيه

من ليس يدرك بالروي

ية كيف يدرك بالبديه

وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي ، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول : ما هجيت بشيء أشدّ عليّ منهما : [بحر الكامل]

إقبل هديت أبا العلاء نصيحتي

بقبولها وبواجب الشكر

لا تهجونّ أسنّ منك فربما

تهجو أباك وأنت لا تدري

نعوذ بالله من لسان الشعراء ، وأنواع البلاء ، بجاه نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن نظم صاعد قوله : [بحر الوافر]

بعثت إليك من خيري روض

مخرّمة كأوراق العقيق (٢)

توكّل بالغروب عن التصابي

وتصطاد الخليع من الطريق

وروى صاعد عن القاضي أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي ، وأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي ، وأبي بكر بن مالك القطيعي ، وأبي سليمان الخطابي ، وغيرهم.

__________________

(١) في ب : «وإنما اهتدم».

(٢) في ب : «محرّمة».

٣٦١

قال الحميدي : خرج من الأندلس في الفتنة ، فمات بها قريبا من سنة عشر وأربعمائة.

وقال ابن حزم : توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.

وقال ابن بشكوال في حقه : «إنه يتّهم بالكذب وقلّة الصدق فيما يورده ، عفا الله تعالى عنه»! وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة ٣٨٠ ، فأكرمه المنصور ، وزاد في الإحسان إليه ، والإفضال عليه ، وكان عالما باللغة والآداب والأخبار ، سريع الجواب ، حسن الشعر ، طيّب المعاشرة ، فكه المجالسة.

وقال بعضهم (١) : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه ميدمان (٢) بن يزيد يذكر فيه القلب والتربيل (٣) ، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها ، فقال له : يا أبا العلاء ، قال : لبيك يا مولانا ، فقال : هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والروالبة لميدمان بن يزيد (٤)؟ ، قال : إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخطّه ككراع النمل ، في جوانبها ، فقال له : أما تستحيي أبا العلاء من هذا الكذب؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا ، فجعل يحلف له أنه ما كذب ، ولكنه أمر وافق. ومات عن سنّ عالية ، رحمه الله تعالى!.

٦٠ ـ ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي(٥).

ولد سنة ٥٧٣ (٦) ، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم ، فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري ، قال : سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئا من تصانيف المغاربة ، وروي لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول ، وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة ، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهيلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب الفقيه ابن أبي تميم قال : وأنشدني : [بحر مجزوء الكامل]

__________________

(١) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٢٠.

(٢) في ب : «مبرمان بن يزيد».

(٣) في ب : «والتزبيل».

(٤) في ب : «والزوالبة لمبرلمان بن يزيد».

(٥) انظر شذرات الذهب ج ٥ ص ٢١٤.

(٦) في ب : «ولد سنة ٥٧٢».

٣٦٢

اسمع أخيّ نصيحتي

والنّصح من محض الديانه

لا تقربنّ إلى الشّها

دة والوساطة والأمانه

تسلم من ان تعزى لزو

ر أو فضول أو خيانه (١)

وذكر أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي ، صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة ، قال : أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين ، ومهما حصل عنده مال فرّقه في الحال ، وتركته في سنة ثمان وتسعين حيّا يرزق ، انتهى.

ووليّ الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله ، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين بن الخطيب ، ومحلّه مقصود لقضاء الحاجات ، وقد زرته مرارا عديدة سنة ١٠١٠.

وقال لسان الدين في «نفاضة الجراب» : كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ، ونحن بفاس ، يخاطب الضريح المقصود ، والمنهل المورود ، والمرعى المنتجع ، والخوان الذي يكفي الغرثى (٢) ، ويمرّض المرضى ، ويقوت الزّمنى (٣) ويتعدّاهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى ، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به ، وجبر حالنا ، وأعاد علينا النعم ، ودفع عنّا النقم : [بحر الخفيف]

يا وليّ الإله أنت جواد

وقصدنا إلى حماك المنيع

راعنا الدهر بالخطوب فجئنا

نرتجي من علاك حسن الصّنيع

فمددنا لك الأكفّ نرجّي

عودة العزّ تحت شمل جميع

قد جعلنا وسيلة تربك الزا

كي وزلفى إلى العليم السميع (٤)

كم غريب أسرى إليك فوافى

برضا عاجل وخير سريع (٥)

يا وليّ الله الذي جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات ، ورفع الأزمات ، وتصريفه باقيا بعد الممات ، وصدّق قول الحكايات ظهور الآيات (٦) ، نفعني الله بنيّتي في بركة تربك! وأظهر عليّ

__________________

(١) تعزى : تنسب.

(٢) الخوان : المائدة. والغرثى : جمع غرثان ، وهو الجوعان.

(٣) الزمنى : جمع زمن ، وهو المصاب بمرض مزمن.

(٤) زلفى : قربة ، ومنزلة.

(٥) أسرى : سار ليلا.

(٦) الآيات : هنا الكرامات.

٣٦٣

أثر توسّلي بك إلى الله ربّك! مزّق شملي ، وفرق بيني وبين أهلي ، وتعدّي عليّ ، وصرفت وجوه المكايد إليّ ، حتى أخرجت من وطني وبلدي ، ومالي وولدي ، ومحلّ جهادي ، وحقّي الذي صار لي طوعا عن آبائي وأجدادي ، عن بيعة لم يحلّ عقدتها الدين ، ولا ثبوت جرحة تشين (١) ، وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك ، فالتمس لي قبوله بقبولك ، وردّني إلى وطني على أفضل حال ، وأظهر عليّ كرامتك التي تشدّ إليها ظهور الرّحال ، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحقّ ، إلى جميع الخلق ، والسلام عليك أيها الوليّ الكريم ، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم ، ورحمة الله ، انتهى.

رجع : والسرخسي المذكور قال في حقّه بعض الأئمّة : إنه الشيخ الإمام ، شيخ الشيوخ ، تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه ، له رحلة مغربية ، انتهى.

وهو من بيت كبير ، وقال البدري في (٢) حقّه ما صورته : تاج الدين ، شيخ الشيوخ بدمشق ، أحد الفضلاء المؤرّخين المصنّفين ، له كتاب في ثمان مجلّدات ذكر فيه أصول الأشياء ، وله «السياسة الملوكية» صنّفها للملك الكامل محمد ، وغير ذلك ، وسمع الحديث ، وحفظ القرآن ، وكان قد بلغ الثمانين ، وقيل : لم يبلغها ، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين ، واتّصل بمراكش ، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ، فأقام هنالك إلى سنة ستمائة ، وقدم مصر ، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه ، انتهى.

وقال غيره : إنه كان فاضلا متواضعا نزها حسن الاعتقاد ، قال أبو المظفر : كان يحضر مجالسي ، وأنشدني يوما : [بحر البسيط]

لم ألق مستكبرا إلّا تحوّل لي

عند اللقاء له الكبر الذي فيه

ولا حلا لي من الدنيا ولذّتها

إلّا مقابلتي للتّيه (٣) بالتّيه

وقال السرخسي المذكور في رحلته : إني وإن كنت خراساني الطينة ، لكنّي شامي المدينة ، وإن كانت العمومة من المشرق ، فإن الخؤولة من المغرب ، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار ، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار ، وذلك في حال ريعان الشباب

__________________

(١) تشين : تعيب.

(٢) في ب : «وقال البدري في تاريخه في حقه ..».

(٣) حلا لي ، هنا : لذّلي. والتيه : الكبر ، والعجب بالنفس. وقد استقى معنى البيت من قولهم : الكبر على أهل الكبر صدقة.

٣٦٤

الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها ، والجوارح بخفّة حركاتها وانبساطها ، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته ، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته ، ثم سرت منه إلى الديار المصرية ، وهي آهلة بكلّ ما تتجمّل به البلاد وتزدهي ، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين أبي يوسف يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فاتّصلت بخدمته ، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ، ويتكلّم في الفقه كلاما بليغا ، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى ، وله فتاوى مجموعة حسبما أدّى إليه اجتهاده ، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر ، وقد شرحت أحوال سيرته ، وما جرى في أيام دولته ، في كتاب التاريخ المسمّى «عطف الذيل». وقد صنّف كتابا جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلّق بها العبادات سمّاه «الترغيب». وتهدّده ملك الإفرنج ألفنش في كتابه فمزّقه ، وقال لرسوله (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)) [النمل : ٣٧] إن شاء الله تعالى ، ثم قال للكاتب : اكتب على هذه القطعة ، يعني من كتابه الذي مزّقه : الجواب ما ترى لا ما تسمع : [بحر الطويل]

فلا كتب إلّا المشرفيّة والقنا

ولا رسل إلّا الخميس العرمرم (١)

ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب ، وهي : [بحر البسيط]

يا أيها الراكب المزجي مطيّته

على عذافرة تشقى بها الأكم (٢)

بلّغ سليمى على بعد الديار بها

بيني وبينكم الرحمن والرّحم (٣)

يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت

واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا

كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم

من القرون فبادت دونها الأمم

حاشى الأعارب أن ترضى بمنقصة

يا ليت شعري هل ترآهم علموا

يقودهم أرمنيّ لا خلاق له

كأنه بينهم من جهلهم علم

يعني بالأرمني قرقوش (٤) مملوك بني أيوب ، الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب الأدنى ،

__________________

(١) الخميس : الجيش المؤلف من خمس فرق. والعروم : الجيش الكثير العدد.

(٢) المزجي مطيته : السائق مطيته. والعذافرة : الناقة الشديدة القوية. والأكم : جمع أكمة ، وهي التل.

(٣) في ب : «بلغ سليما».

(٤) في ب : «قراقوش».

٣٦٥

وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللّمتوني ، وحديثه مشهور ، وتمام الأبيات :

الله يعلم أني ما دعوتكم

دعاء ذي قوة يوما فينتقم

ولا لجأت لأمر يستعان به

من الأمور وهذا الخلق قد علموا

لكن لأجزي رسول الله عن نسب

ينمى إليه وترعى تلكم الذّمم

فإن أتيتم فحبل الوصل متّصل

وإن أبيتم فعند السيف نحتكم

ثم قال السرخسي : وبلغني أنّ قوما من الغرباء قصدوه ، ومعهم حيوانات معلّمة منها أسد وغراب ، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس ، ويربض (١) بين يديه ، وربما أومأ بالسجود ومدّ ذراعيه ، وأمّا الغراب فكان يقول : النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [بحر الرمل]

أنس الشبل ابتهاجا بالأسد

ورأى شبه أبيه فقصد (٢)

أنطق الخالق مخلوقاته

شهدوا والكلّ بالحقّ شهد

أنّك الخيرة من صفوته

بعد ما طال على الناس الأمد

فأعطاهم وكساهم ، وأحسن حباهم.

وبلغني أنّ قوما أتوه بفيل من بلاد السودان هديّة ، فأمر لهم بصلة ، ولم يقبله منهم ، وقال : نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل (٣).

وقال لي يوما : كيف ترى هذه البلاد؟ وأين هي من بلادك الشامية؟ فقلت : يا سيدنا ، بلادكم حسنة أنيقة مجملة مكملة ، وفيها عيب واحد ، فقال : ما هو؟ فقلت : إنها تنسي الأوطان ، فتبسّم وظهر لي إعجابه بالجواب ، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان.

وحدّثني بعض عمّالهم أنه فرّق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز.

__________________

(١) يربض : يجثم ، يبرك.

(٢) الشبل : ولد الأسد. وجمعه : أشبال وأشبل وشبال.

(٣) أراد أنه لا يريد أن يكون ممن تنطبق عليه الآية : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

٣٦٦

ودرج (١) إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة : وكان قد استخلف ولده محمدا وقرّر الأمر له ، انتهى.

قلت : بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أنّ يعقوب المنصور هذا تخلّى عن الملك ، وفرّ زاهدا فيه إلى المشرق ، وأنه دفن بالبقاع ؛ لأن هذه مقالة عامّيّة لا يثبتها علماء المغرب ، وسبب هذه المقالة تولّع العامّة به ، فكذبوا في موته ، وقالوا : إنه ترك الملك ، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع ممّا ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية ، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه (٢) : إن بعض الناس يزعمون أنّ المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق ، وهذا كلام لا يصحّ ، ولا أصل له. انتهى. وقال في «المغرب» : كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته ، وتخرّج بين يديه ، وتمرّس ، وهزم الفرنج الهزيمة الفظيعة ، وتولّع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب ، وقتل على السكر ، انتهى.

وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه «رقم الحلل ، في نظم الدول» أنّ المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما برّا في عمله (٣) ، والآخر بحرا في علمه ، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور ، فلمّا اختبرهما لم يجدهما كما وصف ، فكتب إلى الآتي بهما (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)) [الروم : ٤١] انتهى. وناهيك بهذا دلالة على قوّة فطنته ومعرفته ، رحمه الله تعالى.

رجع إلى أخبار السرخسي :

وقال في رحلته لمّا ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي (٤) ، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها ؛ اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد ، فرأيته شيخا بهيّ المنظر ، حسن المخبر ، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية. ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك

__________________

(١) درج إلى رحمة الله : توفي.

(٢) انظر رفع الحجب ج ٢ ص ١٥٥.

(٣) أراد أنه ثابت ثبوت البر.

(٤) أبو الربيع سليمان بن عبد الله المتوفى سنة ٦٠٤. كان والي بجاية ، وله ديوان شعر. انظر المعجب ص ٣٧٨.

٣٦٧

السودان لغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله : نحن نتجاور بالإحسان ، وإن تخالفنا في الأديان ، ونتّفق على السيرة المرضية ، ونتألّف على الرفق على الرعية ، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة ، والجور لا تعانيه إلّا النفوس الشريرة الجاهلة ، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرّف فيما هم بصدده ، وتردّد الجلّابة إلى البلد مفيد لسكانها ، ومعين على التمكّن من استيطانها ، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية ، لكنّا لا نستصوب فعله ، ولا ينبغي لنا أن ننهي عن خلق ونأتي مثله ، والسلام.

ووقّع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه : قد كثرت فيك الأقوال ، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقّظ فتنصلح الحال ، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شرّ الاختيار وعدم الاختبار ، فاحذر فإنك على شفا جرف هار (١).

ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب : [بحر الكامل]

هبّت بنصركم الرياح الأربع

وجرت بسعدكم النجوم الطّلّع

واستبشر الفلك الأثير تيقّنا

أنّ الأمور إلى مرادك ترجع

وأمدّك الرحمن بالفتح الذي

ملأ البسيطة نوره المتشعشع

لم لا وأنت بذلت في مرضاته

نفسا تفدّيها الخلائق أجمع

ومضيت في نصر الإله مصمّما

بعزيمة كالسيف بل هي أقطع

لله جيشك والصوارم تنتضى

والخيل تجري والأسنّة تلمع (٢)

من كلّ من تقوى الإله سلاحه

ما إن له غير التوكّل مفزع

لا يسلمون إلى النوازل جارهم

يوما إذا أضحى الجوار يضيّع (٣)

ومنها يصف انهزام العدوّ :

إن ظن أنّ فراره منج له

فبجهله قد ظنّ ما لا ينفع

أين المفرّ ولا فرار لهارب

والأرض تنشر في يديك وتجمع

أخليفة الله الرضا هنّيته

فتح يمدّ بما سواه ويشفع (٤)

__________________

(١) انظر الآية ١٠٣ من سورة آل عمران.

(٢) تنتضى : تستلّ.

(٣) النوازل : الكوارث والمصائب.

(٤) في الديوان : «فتح يمد بمثله ويشفع». وشفع العدد : جعله شفعا أي زوجا.

٣٦٨

فلقد كسوت الدّين عزّا شامخا

ولبست منه أنت ما لا يخلع

هيهات سرّ الله أودع فيكم

والله يعطي من يشاء ويمنع

لكم الهدى لا يدّعيه سواكم

ومن ادّعاه يقول ما لا يسمع

إن قيل : من خير الخلائق كلّها

فإليك يا يعقوب تومي الأصبع (١)

إن كنت تتلو السابقين فإنما

أنت المقدّم والخلائق تبّع (٢)

خذها ، أمير المؤمنين ، مديحة

من قلب صدق لم يشنه تصنّع (٣)

واسلم ، أمير المؤمنين ، لأمّة

أنت الملاذ لها وأنت المفزع

فالمدح مني في علاك طبيعة

والمدح من غيري إليك تطبّع

وعليك يا علم الهداة تحيّة

يفنى الزمان وعرفها يتضوّع (٤)

قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني : دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصر سجلماسة ، وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة ، وهو ينكت الأرض بقضيب من الأبنوس ، ويقول : [بحر الطويل]

ولا غرو أن كانت رؤوس عداته

جوابا إذا كان السيوف رسائله

ومات بعد الستمائة ، رحمه الله تعالى! انتهى.

وقال لمّا هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور ، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغزّ (٥) من بلاد المشرق ، ونزلوا بتمرتاسقت (٦) ظاهر مراكش ، واستأذنوا في وقت الدخول ، فكتب إلى المنصور : [بحر الكامل]

يا كعبة الجود التي حجّت لها

عرب الشآم وغزّها والدّيلم

طوبى لمن أمسى يطوف بها غدا

ويحلّ بالبيت الحرام ويحرم

__________________

(١) تومي : تشير وأصلها يومئ بالهمز.

(٢) تبّع : جمع تابع.

(٣) لم يشنه : لم يعبه ، ولم يشوهه.

(٤) العرف : الريح الطيبة ، ويتضوّع : يفوح.

(٥) الغز : جيش كان مع شرف الدين قراقوش ، وفيه عناصر تركية ، جاؤوا إلى المغرب حوالي سنة ٥٨٢ فأكرمهم الخليفة الموحدي.

(٦) في ب : «بتمرتانسقت».

٣٦٩

ومن العجائب أن يفوز بنظرة

من بالشآم ومن بمكة يحرم

فعفا عنه ، وأحسن إليه ، وأمره بالدخول بهم ، والتقدّم عليهم.

وقال في «المغرب» في حقّ السيد أبي الربيع المذكور ، ما ملخصه : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده ، وكان تقدّم على مملكتي سجلماسة وبجاية ، وكان كاتبا شاعرا أديبا ماهرا ، وشعره مدوّن ، وله ألغاز ، وهو القائل في جارية اسمها ألوف : [بحر الطويل]

خليلّي ، قولا أين قلبي ومن به

وكيف بقاء المرء من بعد قلبه

ولو شئتما اسم الذي قد هويته

لصحّفتما أمري لكم بعد قلبه

وله الأبيات المشهورة التي منها : [بحر الطويل]

أقول لركب أدلجوا بسحيرة

قفوا ساعة حتى أزور ركابها (١)

وأملأ عيني من محاسن وجهها

وأشكو إليها أن أطالت عتابها

فإن هي جادت بالوصال وأنعمت

وإلّا فحسبي أن رأيت قبابها

وقال يخاطب ابن عمّه يعقوب المنصور : [بحر الكامل]

فلأملأنّ الخافقين بذكركم

ما دمت حيّا ناظما ومرسّلا

ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا

جهد المقلّ وما عسى أن أفعلا

ولأخلصنّ لك الدعاء ، وما أنا

أهل له ، ولعلّه أن يقبلا

وله مختصر كتاب «الأغاني» انتهى.

رجع : وذكر السرخسي أيضا في رحلته السيّد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن ، وقال في حقّه : إنه كان من أهل الأدب والطرب ، ولي بجاية مدّة ، ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذّه ، أنشدني محمد بن سعيد المهدي كاتبه قال : كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده ، ويطلب منه ما يقضي به ديونه : [بحر المتقارب]

وجوه الأماني بكم مسفره

وضاحكة لي مستبشره

ولي أمل فيكم صادق

قريب عسى الله أن يوسره (٢)

عليّ ديون وتصحيفها

وعندكم الجود والمغفره

__________________

(١) أدلج : سار الليل كله أو آخره.

(٢) في ب : «قريب عسى الله قد يسّره». وما أثبتناه موافق لما في أ.

٣٧٠

يعني ذنوب.

وحدّثني الشيخ أبو الحسن بن فشتال الكاتب وقد أنشدته : [بحر الكامل]

أوحشتني ولو اطّلعت على الذي

لك في ضميري لم تكن لي موحشا

فقال : أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن ، فقال لي ولمن حضر : هل تعرفون لهذا البيت ثانيا؟ فما فينا من عرفه ، فأنشدنا : [بحر الكامل]

أترى رشيت على اطّراح مودّتي

ولقد عهدتك ليس تثنيك الرّشا (١)

أوحشتني ـ البيت ، انتهى.

وقال في «المغرب» في حقّ السيّد المذكور ، ما ملخّصه : كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية ، وله حكايات في الجود برمكية (٢) ، ونفس عالية زكية ، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة : [بحر مجزوء الرجز]

اليوم يوم الجمعه

يوم سرور ودعه

وشملنا مفترق

فهل ترى أن نجمعه

فأجابه بقوله : [بحر مجزوء الرجز]

اليوم يوم الجمعه

وربّنا قد رفعه

والشرب فيه بدعة

فهل ترى أن ندعه (٣)

قال : ولفظة «السيد» في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلّا على بني عبد المؤمن بن علي ، انتهى.

رجع : قال السرخسي ، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس : وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره : [بحر الطويل]

ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم

وترجو نداهم غاديات السحائب (٤)

يخطّون بالخطّيّ في حومة الوغى

سطور المنايا في نحور المقانب (٥)

__________________

(١) الرّشا : جمع رشوة.

(٢) برمكية : نسبة إلى البرامكة ، وقد اشتهروا بالجود والكرم.

(٣) البدعة : الشيء الطارئ المبتدع.

(٤) نداهم : كرمهم.

(٥) الخطّي : الرمح المصنوع من الخط. والوغى : الحرب. والمقانب جمع مقنب وهو الجماعة من الجيش.

٣٧١

كتابا بأطراف العوالي ونقسه

دم القلب مشكولا بنضح الترائب (١)

وما كنت أدري قبلهم أنّ معشرا

أقاموا كتابا من نفوس الكتائب

وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن بكيت قال : أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن : [بحر السريع]

فديت من أصبحت في أسره

وليس لي من حكمه فادي

إن حلّ يوما واديا كان لي

جنّة عدن ذلك الوادي

ثم ذكر ، رحمه الله تعالى ، جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة.

ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى : [بحر السريع]

يا ساهر المقلة لا عن كرى

غفلت عن هجعي وأوصابي (٢)

لو لم يكن وجهك لي قبلة

ما أصبح الحاجب محرابي

وكان متفنّنا في العلوم ، وهو عمّ الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ، ومن مصنّفاته «المسالك والممالك» و «عطف الذيل» في التاريخ ، وله أمال وتخاريج. وقدّمه المنصور صاحب المغرب على جماعة. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ، ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع. وكان عالي الهمة ، شريف النفس ، قليل الطمع ، لا يلتفت إلى أحد رغبة في دنياه ، لا من أهله ولا من غيرهم ، وذكره صاحب «المرآة» وغيره ، وترجمته واسعة ، رحمه الله تعالى!

٦١ ـ ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي.

سكن قرطبة ، وكان من رؤساء الورّاقين المعروفين بالضبط وحسن الخطّ كعباس بن عمر الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما ، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة (٣) ، لما علم من شدّة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها. وقد أشار ابن حيان في كتاب «المقتبس» إلى ظفر هذا ، رحمه الله تعالى!

٦٢ ـ ومنهم الرازي ، وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط ، الكناني ، الرازي.

__________________

(١) العوالي : الرماح. والنقس : الحبر. والترائب : موضع القلادة من الصدر.

(٢) الهجع : النوم. والأوصاب : جمع وصب ، وهو الوجع.

(٣) الوراقة : صناعة النسخ ، والوراقون : الذين كانوا ينسخون الكتب.

٣٧٢

والد أبي بكر محمد صاحب التاريخ ، غلب عليه اسم بلده ، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجرا ، وكان مع ذلك متفننا (١) في العلوم ، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة ، في شهر ربيع الآخر سنة ٢٧٣ ، ذكره ابن حيان في «المقتبس».

٦٣ ـ ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان ، التميمي ، الدارمي ، البغدادي.

سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص وغيره ، وخرج من بغداد رسولا عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي ، رضي الله تعالى عنه ، إلى صاحب إفريقية المعزّ بن باديس ، واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرّة ، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب ، فقبّل عينيه ، وقال له : لله أنت من ناظم! وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب ، وخيّم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة ، وله فيه أمداح كثيرة ، ومن فرائد شعره قوله : [بحر المنسرح]

يا ليل ، ألّا انجليت عن فلق

طلت ولا صبر لي على الأرق (٢)

جفت لحاظي التغميض فيك فما

تطبق أحفانها على الحدق (٣)

كأنني صورة ممثّلة

ناظرها الدّهر غير منطبق

وقال : [بحر السريع]

يزرع وردا ناضرا ناظري

في وجنة كالقمر الطالع

أمنع أن أقطف أزهاره

في سنّة المتبوع والتابع

فلم منعتم شفتي قطفها

والشرع أنّ الزرع للزارع (٤)

هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد وابن كتيلة ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهّاب.

قلت : وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله : [بحر السريع]

سلّمت أنّ الحكم ما قلتم

وهو الذي نصّ عن الشارع

فكيف تبغي شفة قطفه

وغيرها المدعوّ بالزارع

__________________

(١) في ب : «متقنا».

(٢) ألّا : هلّا. والفلق : الصبح. والأرق : القلق والسهر وذهاب النوم ليلا.

(٣) في ب : «جفا لحاظي التغميض».

(٤) في ب : «والحكم أن الزرع للزارع».

٣٧٣

ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله : [بحر السريع]

في ذا الذي قد قلتم مبحث

إذ فيه إيهام على السامع

سلّمتم الحكم له مطلقا

وغير ذا نصّ عن الشارع

يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا ، والشرع خلافه.

وأجاب بعض الحنفية بقوله : [بحر السريع]

لأنّ أهل الحبّ في حكمنا

عبيدنا في شرعنا الواسع

والعبد لا ملك له عندنا

فحقّه للسّيّد المانع

وهو جواب حسن لا بأس به.

ورأيت جوابا لبعض المغاربة على غير رويّه ، وهو : [بحر السريع]

قل لأبي الفضل الوزير الذي

باهى به مغربنا الشرق

غرست ظلما وأردت الجنى

وما لعرق ظالم حقّ

قلت : وهذا ممّا يعيّن أنّ الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة ، لا للقاضي عبد الوهّاب ، والله تعالى أعلم.

ومن شعر الوزير المذكور قوله : [بحر المنسرح]

بين كريمين منزل واسع

والودّ حال تقرّب الشاسع

والبيت إن ضاق عن ثمانية

متّسع بالوداد للتاسع

وولد ، رحمه الله تعالى ، سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، وهو من بيت علم وأدب. قال الحميدي : أخبرني بذلك أبو عمر رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث ، وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وقال ابن حيان : توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة ، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون ، وذكر أنه كان يتّهم بالكذب ، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.

وقال ابن ظافر في كتابه «بدائع البداءة» ما نصّه : حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعزّ بن باديس ، وبالمجلس ساق وسيم قد مسّك عذاره وورّد (١) خديه ، وعجزت

__________________

(١) في ب : «ورد».

٣٧٤

الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه ، فأمره المعزّ بوصفه ، فقال بديها : [بحر الكامل]

ومعذّر نقش الجمال بمسكه

خدّا له بدم القلوب مضرّجا

لمّا تيقّن أنّ سيف جفونه

من نرجس جعل العذار بنفسجا

وقوله في جارية تبخّرت بالندّ (١) : [بحر الطويل]

ومحطوطة المتنين مهضومة الحشى

منعّمة الأرداف تدمى من اللّمس (٢)

إذا ما دخان النّدّ من جيبها علا

على وجهها أبصرت غيما على شمس

وقوله : [بحر الكامل]

لأغرّزنّ بمهجتي في حبّه

غرزا يطيل مع الخطوب خطابي

ولئن تعزّز إنّ عندي ذلّة

تستعطف الأعداء للأحباب

وقوله : [بحر المتقارب]

دعتني عيناك نحو الصبا

دعاء يكرّر في كل ساعه

ولولا وحقّك عذر المشيب

لقلت لعينيك سمعا وطاعه

وقد تمثّل بهذين البيتين لسان الدين بن الخطيب في خطبة تأليفه المسمّى ب «روضة التعريف ، بالحب الشريف».

وقال أبو الفضل الدارمي المذكور أيضا : [بحر البسيط]

سطا الفراق عليهم غفلة فغدوا

من جوره فرقا من شدّة الفرق (٣)

سرت شرقا وأشواقي مغرّبة

يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي (٤)

لو لا تدارك دمعي يوم كاظمة

لأحرق الركب ما أبديت من حرق

يا سارق القلب جهرا غير مكترث

أمنت في الحبّ أن تعدى على السّرق (٥)

لم يبق مني سوى لفظ يبوح بما

ألقى ، فيا عجبا للفظ كيف بقي

__________________

(١) الندّ : عود يتبخّر به.

(٢) محطوطة المتنين : ممدودتهما.

(٣) الفرق : الخوف.

(٤) نزحت : بعدت.

(٥) السّرق : السرقة.

٣٧٥

صلني إذا شئت أو فاهجر علانية

فكلّ ذلك محمول على الحدق

وقال : [بحر الطويل]

تذكّر نجدا والحمى فبكى وجدا

وقال : سقى الله الحمى وسقى نجدا

وحيّته أنفاس الخزامى عشيّة

فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا (١)

فأظهر سلوانا وأضمر لوعة

إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا

ولو أنه أعطى الصبابة حكمها

لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى

وقال أيضا : [بحر مجزوء الرمل]

قلت للملقي على الخدّين من ورد خمارا (٢)

سبل الصّدغ على خدّك من مسك عذارا (٣)

أم أعان الليل حتّى

قهر الليل النهارا

قال : ميدان جرى الحسن عليه فاستدارا

ركضت فيه عيون

فأثارته غبارا

وقال : [بحر السريع]

وكاتب أهديت نفسي له

فهي من السوء فدى نفسه

فلست أدري بعد ما حلّ بي

بمسكه أتلف أم نقسه (٤)

سلّط خدّيه على مهجتي

فاستأصلتها وهي من غرسه (٥)

وقال : [بحر السريع]

وشادن أسرف في صدّه

وزاد في التّيه على عبده (٦)

الحسن قد بثّ على خدّه

بنفسجا يزهو على ورده

رأيته يكتب في طرسه

خطّا يباري الدّرّ من عقده

فخلت ما قد خطّه كفّه

للحسن قد خطّ على خدّه

__________________

(١) في أ : «وخفة» والتصويب عن الذخيرة.

(٢) الخمار : ما تغطي به المرأة وجهها.

(٣) الصدغ : ما بين العين والأذن من جانب الوجه ، أو الشعر الذي فوق الصدغ.

(٤) النقس : الحبر.

(٥) استأصلتها : أراد أتلفتها.

(٦) التيه : الكبر والعجب.

٣٧٦

وقال : [بحر المجتث]

إني عشقت صغيرا

قد دبّ فيه الجمال

وكاد يغشى حديث ال

فضول منه الدّلال

لو مرّ في طرق الهج

ر لاعتراه ضلال

يريك بدرا منيرا

في الحسن وهو هلال

وقال : [بحر السريع]

ظبي إذا حرّك أصداغه

لم يلتفت خلق إلى العطر

غنّى بشعري منشدا ليتني ال

لفظ الذي أودعته شعري

فكلّما كرّر إنشاده

قبّلته فيه ولم يدر

وقال : [بحر الطويل]

أينفع قولي إنني لا أحبّه

ودمعي بما يمليه وجدي يكتب

إذا قلت للواشين لست بعاشق

يقول لهم فيض المدامع يكذب (١)

وقال : [بحر الطويل]

وهبني قد أنكرت حبّك جملة

وآليت أني لا أروم محطّها (٢)

فمن أين لي في الحبّ جرح شهادة

سقامي أملاها ودمعي خطّها

وقال : [بحر الخفيف]

أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ين

شط من حبّه عقال وثاقي

فأريح الفؤاد ممّا اعتراه

وأردّ الهوى على العشّاق

وقال : [بحر الطويل]

كلانا لعمري ذائبان من الهوى

فنارك من جمر وناري من هجر

أنت على ما قد تقاسين من أذى

فصدرك في نار وناري في صدري

وقال : [بحر المتقارب]

__________________

(١) الواشون : الذين لا يكتمون الأسرار.

(٢) لا أروم : لا أقصد.

٣٧٧

ومن عجب العشق أنّ القتيل

يحنّ ويصبو إلى القاتل (١)

وقال : [بحر الوافر]

ألم أجعل مثار النّقع بحرا

على أنّ الجياد له سفين (٢)

وقال : [بحر البسيط]

أصبحت أحلب تيسا لا مدرّ له

والتّيس من ظنّ أنّ التيس محلوب

وأما الحكيم أبو محمد المصري (٣) وهو القائل : [بحر الطويل]

رعى الله دهرا قد نعمنا بطيبه

لياليه من شمس الكؤوس أصائل (٤)

ونرجسنا درّ على التّبر جامد

وخمرتنا تبر على الدّرّ سائل

فقد ترجمه في «الذخيرة» فليراجع ، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية. وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به ، فخلفته هنالك ، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر ، فقيل له «المصري» لذلك ، فليعلم ، والله تعالى أعلم.

٦٤ ـ ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني.

قال ابن سعيد : أنشدنا لمّا وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه : [بحر الكامل]

طاب الصّبوح لنا فهاك وهات

وادعاها ، وفيها :

في روضة غنّا تخال طيورها

وغصونها همزا على ألفات (٥)

ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه ، انتهى.

٦٥ ـ ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك.

وهو مذكور في الذخيرة ، وكان حلو الجواب ، مليح التندر ، يضحك من حضر ، ولا يضحك هو إذا ندّر ، وكان قصيرا دميما.

__________________

(١) في ه : «ومن أعجب» ومعنى هذا البيت متصل بقول الآخر :

خليلي ـ فيما عشتما ـ هل رأيتما

قتيلا بكى من حب قاتله قبلي

(٢) النقع : الغبار.

(٣) هو أبو محمد عبد الله بن خليفة ـ المصري. انظر ترجمته في الذخيرة ٤ / ١ : ٦٩ ـ ١٠٥.

(٤) الأصيل : بعد العصر وقبل المغرب ، وجمعه : أصائل ، وأصل ، وأصلان ، وأصال.

(٥) غنّا : غناء ، قصره لأجل الوزن.

٣٧٨

قال : ورأيته يوما وقد لبس ثوبا (١) أحمر على بياض ، وفي رأسه طرطور أخضر ، عمّم عليه عمّة لازوردية ، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه : [بحر المتقارب]

وأنت سليمان في ملكه

وبين يديك أنا الهدهد

وأنشد له في المعتمد : [بحر الطويل]

أبا القاسم الملك المعظّم قدره

سواك من الأملاك ليس يعظّم

لقد أصبحت حمص بعدلك جنّة

وقد أبعدت عن ساكنيها جهنّم

ولي في محيّاك الربيع وإنني

أزخرف أعلام الثناء وأرقم (٢)

وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما

أؤمّل فالدينار عندي درهم

وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني

لنشر صباها دائما أتنسّم

وقال : [بحر الطويل]

وروّى على ربع العقيق دموعه

عقيقا ففيها توأم وفريد (٣)

شهدت وما تغني شهادة عاشق

بأنّ قتيل الغانيات شهيد

ومنها :

إذا قابلوه قبّلوا ترب أرضه

وهم لعلاه ركّع وسجود

وقد هزّ منه الله للملك صارما

تقام بحدّي شفرتيه حدود

وقال : [بحر الطويل]

لأية حال حال عن سنة الكرى

ولم أصغ يوما في هواه إلى العذل (٤)

ومنها :

كأنّ بقاء الطّلّ فوق جفونها

دموع التصابي حرن في الأعين النّجل (٥)

ومنها :

__________________

(١) في ب ، ه : «لبس طاقا أحمر».

(٢) في ب ، ه ـ صدر هذا البيت «ولي بحياك الريع عاما وأشهرا».

(٣) توأم : أراد به الذي معه مثله ، والفريد : المنفرد ، وفي ب : «وذرى على ربع العقيق».

(٤) حال : تحول من حال إلى حال.

(٥) الطلّ : الندى ، والعيون النجل : الواسعة.

٣٧٩

تملّكت رقّي بالعوارف منعما

وأغنيتني بالجود عن كلّ ذي فضل (١)

وأنسيتني أرض العراق ودجلة

وربعي حتى ما أحنّ إلى أهلي

وقال في المقتدر بن هود : [بحر المتقارب]

لعزّك ذلّت ملوك البشر

وعفّرت تيجانهم في العفر (٢)

وأصبحت أخطرهم بالقنا

وأركبهم لجواد الخطر

سهرت وناموا على المأثرات

فما لهم في المعالي أثر (٣)

وجلّيت في حيث صلّى الملوك

فكلّ بذيل العلا قد عثر (٤)

ومنها :

وأنتم ملوك إذا شاجروا

أظلّتهم من قناهم شجر

وقال فيه من قصيدة (٥) : [بحر البسيط]

غنّى حسامك في أرجاء قرطبة

صوتا أباد العدى والليل معتكر

حيث الدماء مدام والقنا زهر

والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا (٦)

وكان مشهورا بالهجاء ، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدّة : [بحر الكامل]

بلغ الأمانة فهي في حلقومه

لا ترتقي صعدا ولا تتنزّل

وقال في ناصر الدولة بن حمدان : [بحر الكامل]

ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا

جدواك مع علمي بأنّك باخل

الدولة الغرّاء قد غلطت بأن

سمّتك ناصرها وأنت الخاذل

إن تمّ أمرك مع يد لك أصبحت

شلّاء فالأمثال شيء باطل

ومما ينسب إليه ، وقيل لغيره : [بحر الكامل]

__________________

(١) العوارف : جمع عارفة ، وهي المعروف.

(٢) عفّره في التراب : مرّغه وقلّبه فيه والعفر بفتح العين والفاء : التراب.

(٣) المأثرات : المكارم المتوارثة.

(٤) جليت : جليّ الفرس : جاء أولا في السباق. وصلى الفرس : جاء ثانيا في السباق.

(٥) في ب : «وقال الفكيك من قصيدة».

(٦) المدام : الخمرة. الحتف : الموت.

٣٨٠