نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

ويشكوه ، فأجابه على ظهر كتابه : الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد أهل العراق إلينا ، وابن رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط ، فدعه لشأنه ، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته ، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطّه.

وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس ، لا في خلافة أبيه الناصر ، والصواب أن وفادته في أيام الناصر ؛ لما ذكره غير واحد من حصره وعيّه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع.

وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي : [بحر الكامل]

من حاكم بيني وبين عذولي؟

الشجو شجوي والعويل عويلي (١)

في أي جارحة أصون معذّبي

سلمت من التعذيب والتنكيل

إن قلت في بصري فثم مدامعي

أو قلت في قلبي فثمّ غليلي (٢)

لكن جعلت له المسامع موضعا

وحجبتها عن عذل كلّ عذول

ولمّا سمع المتنبي البيت الثاني قال : يصونه في استه.

وكان الرمادي لمّا سمع قول المتنبي : [بحر البسيط]

كفى بجسمي نحولا أنني رجل

لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني

قال : أظنّه ضرطة ، والجزاء من جنس العمل.

وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرّز الشيخ أبو علي القالي كتاب «الأمالي».

وكان الحكم كريما ، معنيّا بالعلم ، وهو الذي وجّه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجّه له نسخة من كتاب الأغاني ، وألّف أبو محمد الفهري كتابا في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس. وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبّة المبنيّة على قبر أبي علي البغدادي عند تهدّمها ، وهما : [بحر الطويل]

__________________

(١) الشجو : الحزن. والعويل : البكاء.

(٢) الغليل : حرقة الباطن من حزن أو عطش.

٣٤١

صلوا لحد قبري بالطريق وودّعوا

فليس لمن وارى التراب حبيب (١)

ولا تدفنوني بالعراء فربما

بكى أن رأى قبر الغريب غريب (٢)

واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان ، وجدّه سليمان مولى عبد الملك بن مروان ، وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين ، وأخذ الأدب عن أبي بكر بن دريد الأزدي وأبي بكر بن الأنباري وابن درستويه وغيرهم ، وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب «مختصر العين». ولأبي علي التصانيف الحسان ك «الأمالي» و «البارع» ، وطاف البلاد ، وسافر إلى بغداد سنة ٣٠٣ ، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي ، ودخل بغداد سنة ٣٠٣. وأقام بها إلى سنة ٣٢٨ ، وكتب بها الحديث ، ثم خرج من بغداد قاصدا الأندلس ، وسمع من البغوي وغيره.

وقال ابن خلّكان : ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة ، انتهى.

وهو ممّا يعين أنه قدم في زمن الناصر ، لا في زمن ابنه الحكم كما تقدّم ، وقد صرّح بذلك الصفدي في الوافي فقال : ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن ، فأكرمه ، وصنّف له ولولده الحكم تصانيف وبثّ علومه هناك ، انتهى.

وقال ابن خلّكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر ، وقيل : جمادى الأولى سنة ٣٥٦ ، ليلة السبت لستّ خلون من الشهر المذكور ، ودفن ظاهر قرطبة ، ومولده بمنازجرد (٣) من ديار بكر سنة ٢٨٨ ، وقيل : سنة ٢٨٠.

وإنما قيل له «القالي» لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا ، وهي من أعمال ديار بكر.

وهو من محاسن الدنيا ، رحمه الله تعالى!

وعيذون : بفتح العين ، وسكون الياء المثناة التحتية ، وضمّ الذال المعجمة.

__________________

(١) صلوا لحد قبري بالطريق : أي اجعلوا قبري متصلا بالطريق ليراه المارّة.

(٢) العراء : الأرض المقفرة.

(٣) جاء في معجم البلدان : «منازجرد ، وأهله يقولون : منازكرد : بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم يعد في أرمينية ، وأهله أرمن وروم ، وإليه ينسب الوزير أبو نصر المنازي ، وكان فاضلا أديبا جيد الشعر ، وكان وزيرا لبعض آل مروان ملوك ديار بكر ، ومات في سنة ٤٣٧» اه .. وابن خلكان ينص على أن «منازجرد» غير «منازكرد» القلعة التي من أعمال خلاط ، فانظره في آخر الترجمة رقم ٥٨ في ١ / ١٢٦ تحقيق محيي الدين عبد الحميد.

٣٤٢

وقال ابن خلّكان في ترجمة ابن القوطية : إن أبا علي القالي لمّا دخل الأندلس اجتمع به ، وكان يبالغ في تعظيمه ، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر : من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال : محمد بن القوطية ، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العبّاد النّسّاك ، وكان جيّد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلّا أنه تركه ورفضه ، وقال الأديب أبو بكر بن هذيل : إنه توجّه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة ، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة (١) ، فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها ، وكانت له أيضا هناك ضيعة ، قال : فلما رآني عرّج عليّ ، واستبشر بلقائي ، فقلت مداعبا له : [بحر البسيط]

من أين أقبلت يا من لا شبيه له

ومن هو الشمس والدنيا له فلك

قال : فتبسّم وأجاب بسرعة : [بحر البسيط]

من منزل تعجب النّسّاك خلوته

وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا (٢)

فما تمالكت أن قبّلت يده ، إذ كان شيخي ، ودعوت له ، انتهى.

وهو صاحب كتاب «الأفعال» الذي فتح فيه هذا الباب ، فتلاه ابن القطّاع وله كتاب «المقصور والممدود» جمع فيه ما لا يحدّ ولا يعد ، وأعجز من بعده به ، وفاق من تقدّمه ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.

وممّن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب «مختصر العين» وغيره ، وكان الزبيدي كثيرا ما ينشد : [بحر السريع]

الفقر في أوطاننا غربة

والمال في الغربة أوطان

والأرض شيء كلّها واحد

والناس إخوان وجيران

وترجمة الزبيدي واسعة ، وكان مؤدّب المؤيّد هشام ، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء ، رحمه الله تعالى!.

وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه ، ودقّق النظر ، وانتصر للبصريين ، وأملى شيئا من حفظه ككتاب «النوادر» و «الأمالي» ، و «المقصور والممدود» ، و «الإبل والخيل» ، و «البارع في اللغة» نحو خمسة آلاف ورقة ، ولم يصنّف (٣) مثله في الإحاطة

__________________

(١) المونقة : المعجبة.

(٢) الفتاك : جمع فاتك ، وأراد به اللاهي المحب للبطالة واللهو.

(٣) في ب : «لم يصنف» الواو ساقطة.

٣٤٣

والجمع ، ولم يتمّ ، ورتّب كتاب «المقصور والممدود» على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذّ منه شيء ، وكتاب «فعلت وأفعلت» وكتاب «مقاتل الفرسان» و «تفسير السبع الطوال».

وكان الزبيدي إماما في الأدب ، ولكنه عرف فضل القالي ، فمال إليه ، واختصّ به ، واستفاد منه ، وأقرّ له.

وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي ، ويعينه على التأليف بواسع العطاء ، ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام ، وكانوا يسمّونه «البغدادي» لوصوله إليها من بغداد ، ويقال : إنّ الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم ، وفيه يقول الرمادي متخلّصا في لاميّته السابق بعضها : [بحر الكامل]

روض تعاهده السحاب كأنه

متعاهد من عهد إسماعيل (١)

قسه إلى الأعراب تعلم أنّه

أولى من الأعراب بالتفضيل

حازت قبائلهم لغات فرّقت

فيهم وحاز لغات كلّ قبيل (٢)

فالشرق خال بعده وكأنما

نزل الخراب بربعه المأهول

فكأنه شمس بدت في غربنا

وتغيّبت عن شرقهم بأفول (٣)

يا سيدي هذا ثنائي لم أقل

زورا ولا عرّضت بالتنويل

من كان يأمل نائلا فأنا امرؤ

لم أرج غير القرب في تأميلي (٤)

وقد تقدّمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا ، فلتراجع ثمّة ، والله تعالى أعلم.

٥٩ ـ ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسن بن عيسى البغدادي ، اللغوي (٥).

__________________

(١) تعاهده السحاب : من «العهدة» وهي المطر بعد المطر ، أي السحاب ملتزم له بالمطر.

(٢) أراد أن كل أعرابي يعرف لغة قبيلته دون غيرها ، أما هو فقد جمع معرفة لغات كل القبائل.

(٣) أفلت الشمس : غربت. والأفول : مصدر أفل.

(٤) نائلا : عطاء.

(٥) ترجمة صاعد : في الذخيرة ٤ / ١ : ٢ ـ ٣٩. وابن خلكان ٢ / ١٨١. وإنباه الرواة ٢ / ٨٥ ، وبغية الوعاة ٢ / ٧. والجذوة ٢٢١.

٣٤٤

وأصله من الموصل ، قال ابن بسام : ولمّا دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يقضي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية ، فما وجد عنده ما يرتضيه ، وأعرض عنه أهل العلم ، وقدحوا في علمه وعقله ودينه ، ولم يأخذوا عنه شيئا لقلّة الثقة به ، وكان ألّف كتابا سمّاه كتاب «الفصوص» فدحضوه (١) ورفضوه ونبذوه في النهر ، ومن شعره قوله : [بحر الكامل]

ومهفهف أبهى من القمر

قهر الفؤاد بفاتن النّظر

خالسته تفّاح وجنته

فأخذتها منه على غرر (٢)

فأخافني قوم فقلت لهم :

لا قطع في ثمر ولا كثر (٣)

والكثر : الجمّار ، وهذا اقتباس من الحديث.

وقال الحميدي : سمعت أبا محمد بن حزم الحافظ يقول : سمعت أبا العلاء صاعدا ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة ٣٩٦ : [بحر الوافر]

حسبت المنعمين على البرايا

فألفيت اسمه صدر الحساب

وما قدّمته إلّا كأني

أقدّم تاليا أمّ الكتاب

وذكر الحميدي أن عبد الله بن ماكان الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر بن شهيد : صفاها ، فأفحما ، ولم يتّجه لهما القول ، فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري صاحب أبي العلاء وتلميذه ، وكان شاعرا أديبا أمّيّا لا يقرأ ، فلمّا استقرّ به المجلس أخبر بما هم فيه ، فجعل يضحك ويقول : [بحر السريع]

ما للأديبين قد اعيتهما

مليحة من ملح الجنّه

نرجسة في وردة ركّبت

كمقلة تطرف في وجنه

انتهى.

ومن غريب ما جرى لصاعد أن المنصور جلس يوما وعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم ، فقال لهم المنصور : هذا الرجل الوافد علينا

__________________

(١) دحضوه : نقضوه وأزالوا حجته.

(٢) خالسته : أخذته خلسة : وأخذتها على غرر ، أراد : أخذتها على غفلة.

(٣) الكثر ، بفتح الكاف والثاء : هو جمار النخل ، والجمار : شحم النخل الذي يكون في وسط النخلة. وقد جاء في الحديث الشريف : «لا قطع في ثمر ولا كثر».

٣٤٥

يزعم أنه متقدّم في هذه العلوم ، وأحب أن يمتحن ، فوجّه إليه ، فلمّا مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محلّه وأقبل عليه ، وسأله عن أبي سعيد السيرافي ، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه ، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب ، فلم يحضره جوابها ، واعتذر بأن النحو ليس جلّ بضاعته ، فقال له الزبيدي : فما تحسن أيّها الشيخ؟ فقال : حفظ الغريب ، قال : فما وزن أولق (١) ، فضحك صاعد ، وقال : أمثلي يسأل عن هذا؟ إنما يسأل عنه صبيان المكتب ، قال الزبيدي : قد سألناك ، ولا نشكّ أنك تجهله ، فتغيّر لونه ، وقال : أفعل وزنه ، فقال الزبيدي : صاحبكم ممخرق (٢) ، فقال له صاعد ، إخال الشيخ صناعته الأبنية ، فقال له : أجل ، فقال صاعد : وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ، ورواية الأخبار ، وفكّ المعمّى ، وعلم الموسيقى ، فقال : فناظره ابن العريف ، فظهر عليه صاعد ، وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلّا أنشد عليها شعرا شاهدا ، وأتى بحكاية تجانسها (٣) ، فأعجب المنصور ، ثم أراه كتاب «النوادر» لأبي علي القالي ، فقال : إن أراد المنصور أمليت على كتّاب دولته كتابا أرفع منه وأجلّ لا أورد فيه خبرا ممّا أورده أبو علي ، فأذن له المنصور في ذلك ، وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي على كتابه المترجم ب «الفصوص» ، فلمّا أكمله تتبعه (٤) أدباء الوقت ، فلم تمرّ فيه كلمة صحيحة عندهم ، ولا خبر ثبت لديهم ، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها ، حتى توهّم القدم ، وترجم عليه كتاب «النكت» تأليف أبي الغوث الصنعاني ، فترامى إليه صاعد حين رآه ، وجعل يقبله ، وقال : إي والله ، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان ، فأخذه المنصور من يده خوفا أن يفتحه ، وقال له : إن كنت قد قرأته كما تزعم ، فعلام يحتوي؟ فقال : وأبيك لقد بعد عهدي به ، ولا أحفظ الآن منه شيئا ، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها (٥) شعر ولا خبر ، فقال له المنصور : أبعد الله مثلك! فما رأيت أكذب منك ، وأمر بإخراجه ، وأن يقذف كتاب «الفصوص» في النهر ، فقال فيه بعض الشعراء : [بحر السريع]

قد غاص في النهر كتاب الفصوص

وهكذا كلّ ثقيل يغوص

فأجابه صاعد : [بحر السريع]

عاد إلى معدنه ، إنما

توجد في قعر البحار الفصوص

__________________

(١) الأولق : بفتح الهمزة وسكون الواو على وزن فوعل : الجنون.

(٢) ممخرق : مموه ، كذاب.

(٣) في ب : يجانسها.

(٤) تتبعوه : أي لا حقوه بالنقد.

(٥) لا يشوبها : لا يخالطها.

٣٤٦

قال ابن بسام (١) : وما أظنّ أحدا يجترئ على مثل هذا ، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلّا بالغريب غير المشهور ، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفّق به (٢) من الكذب.

وحكى ابن خلكان (٣) أن المنصور أثابه على كتاب «الفصوص» بخمسة آلاف دينار! ومن أعجب ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور ، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتمّ فتح ورقها ، فقال فيها صاعد مرتجلا : [بحر المتقارب]

أتتك أبا عامر وردة

يذكرك المسك أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصر

فغطّت بأكمامها راسها

فسرّ بذلك المنصور ، وكان ابن العريف حاضرا ، فحسده ، وجرى إلى مناقضته ، وقال لابن أبي عامر : هذان البيتان لغيره ، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر (٤) ، وهما عندي على ظهر كتاب بخطّه ، فقال له المنصور : أرنيه ، فخرج ابن العريف ، وركب وحرّك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر ، وكان أحسن أهل زمانه بديهة ، فوصف له ما جرى ، فقال هذه الأبيات ودسّ فيها بيتي صاعد : [بحر المتقارب]

عدوت إلى قصر عبّاسة

وقد جدّل النوم حرّاسها (٥)

فألفيتها وهي في خدرها

وقد صرع السكر أناسها (٦)

فقالت : أسار على هجعة؟

فقلت : بلى ، فرمت كاسها

ومدّت يديها إلى وردة

يحاكي لك الطّيب أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصر

فغطّت بأكمامها راسها

وقالت : خف الله لا تفضحن

ن في ابنة عمّك عبّاسها

فولّيت عنها على غفلة

وما خنت ناسي ولا ناسها (٧)

__________________

(١) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٨.

(٢) يتنفق به : يروج به.

(٣) وفيات الأعيان ٢ / ١٨١.

(٤) في ب : بعض البغداديين بمصر لنفسه.

(٥) جدل النوم حراسها : أي ألقاهم نوّما صرعى. وقد ورد في الذخيرة وفي ب : «عشوت إلى قصر عباسة».

(٦) كذا في ب ، وفي الذخيرة. وهي جمع آنس. وفي أ«آناسها» جمع أنس.

(٧) في الذخيرة «فولّيت عنها على عفة».

٣٤٧

فطار ابن العريف بها ، وعلّقها على ظهر كتاب بخطّ مصريّ ومداد أشقر ، ودخل بها على المنصور ، فلمّا رآها اشتدّ غيظه على صاعد ، وقال للحاضرين : غدّا أمتحنه ، فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان ، فلمّا أصبح وجّه إليه فأحضر ، وأحضر جميع الندماء ، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعدّ فيه طبقا عظيما فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير ، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري ، وتحت السقائف بركة ماء ، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء ، وفي البركة حيّة تسبح ، فلمّا دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور : إنّ هذا يوم إمّا أن تسعد فيه معنا ، وإمّا أن تشقى بالضدّ عندنا ؛ لأنه قد زعم قوم أنّ كلّ ما تأتي به دعوى ، وقد وقفت من ذلك على حقيقة ، وهذا طبق ما توهّمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله ، فصفه بجميع ما فيه ، وعبّر بعض عن هذه القصة بقوله : أمر فعبىء له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ ، وكان في البركة حيّة تسبح ، وأحضرها صاعد ، فلمّا شاهد ذلك قال له المنصور : إنّ هؤلاء يذكرون أن كلّ ما تأتي به دعوى لا صحّة لها ، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله ، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحّة ما تذكره ، فقال صاعد بديهة : [بحر الطويل]

أبا عامر ، هل غير جدواك واكف؟

وهل غير من عاداك في الأرض خائف (١)

يسوق إليك الدهر كلّ غريبة

وأعجب ما يلقاه عندك واصف

وشائع نور صاغها هامر الحيا

على حافتيها عبقر ورفارف (٢)

ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت

عليها بأنواع الملاهي الوصائف

كمثل الظّباء المستكنّة كنّسا

تظلّلها بالياسمين السقائف (٣)

وأعجب منها أنهنّ نواظر

إلى بركة ضمّت إليها الطرائف (٤)

حصاها اللآلي سابح في عبابها

من الرّقش مسموم الثعابين زاحف (٥)

ترى ما تراه العين في جنباتها

من الوحش حتى بينهنّ السلاحف

__________________

(١) الجدوى : العطاء. والواكف : الهاطل.

(٢) النور : الزهر ، أو الأبيض منه.

(٣) الكنس : الضباء اللواتي دخلن الكناس ، والكناس مستتر الظبي من الشجر لأنه يكنس في الرمل حتى يصل.

(٤) في الذخيرة «صمّت إليه الظرائف».

(٥) في الذخيرة «مسموم اللعابين راجف».

٣٤٨

فاستغربت له يومئذ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع ، وكتبها المنصور بخطّه ، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوّار تجذف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد ، فقال له المنصور : أحسنت ، إلّا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية ، فقال للوقت :

وأعجب منها غادة في سفينة

مكلّلة تصبو إليها المهاتف (١)

إذا راعها موج من الماء تتّقي

بسكّانها ما أنذرته العواصف

متى كانت الحسناء ربّان مركب

تصرّف في يمنى يديه المجاذف

ولم تر عيني في البلاد حديقة

تنقّلها في الراحتين الوصائف

ولا غرو أن شاقت معاليك روضة

وشتها أزاهير الرّبا والزخارف (٢)

فأنت امرؤ لو رمت نقل متالع

ورضوى ذرتها من سطاك نواسف (٣)

إذا قلت قولا أو بدهت بديهة

فكلني له إني لمجدك واصف (٤)

فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب ، ورتّب له في كل شهر ثلاثين دينارا ، وألحقه بالندماء.

قال : وكان شديد البديهة في ادّعاء الباطل ، قال له المنصور يوما : ما الخنبشار؟ قال : حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [بحر الوافر]

لقد عقدت محبّتها بقلبي

كما عقد الحليب الخنبشار (٥)

وقال له يوما ، وقد قدّم إليه طبق فيه تمر : ما التّمركل في كلام العرب؟ فقال : «يقال تمركل الرجل تمركلا» إذا التفّ في كسائه. وكان مع ذلك عالما.

قال : وكان لابن أبي عامر فتى يسمّى فاتنا أوحد لا نظير له في علم كلام العرب ، فناظر صاعدا هذا فقطعه وظهر عليه وبكّته ، فأعجب المنصور منه ، فتوفي فاتن هذا سنة ٤٠٢ ، وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصحّحة ، وكان منقادا لما نزل به من المثلة فلم يتّخذ النساء كغيره ، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممّن أخذ بأوفر نصيب من الأدب.

__________________

(١) في الذخيرة «المهايف».

(٢) لا غرو : لا عجب.

(٣) متالع ورضوى : جبلان. والنواسف : جمع ناسفة ، وهي اسم فاعل من نسف ، أي قلع.

(٤) كلني : اتركني.

(٥) في ب : «كما عقد الحليب بخنبشار».

٣٤٩

قال : ورأيت تأليفا لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب «الاستظهار والمغالبة ، على من أنكر فضائل الصقالبة» وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم.

وقال ابن بسام وغيره : ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى أيّلا (١) إلى المنصور ، وكتب على يد موصله : [بحر الكامل]

يا حرز كلّ مخوّف وأمان كلّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّل (٢)

يا سلك كلّ فضيلة ونظام كلّ جزيلة وثراء كلّ معيّل

ومنها :

ما إن رأت عيني وعلمك شاهد

جدوى علائك في معمّ مخول (٣)

ومنها :

وأبي مؤانس غربتي وتحفّظي

من صفر أيامي ومن مستعملي (٤)

عبد جذبت بضبعه ورفعت من

مقداره أهدى إليك بأيّل

سمّيته غرسيّة وبعثته

في حبله ليصحّ فيه تفاؤلي

فلئن قبلت فتلك أنفس منّة

أهدى بها ذو منحة وتطول

منحتك غادية السرور بعزّة

وحللت أوجا بالسحاب المخضل (٥)

فقضي في سابق علم الله سبحانه وتعالى أنّ ملك الروم غرسية (٦) أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه بالأيّل ، وسمّاه باسمه على التفاؤل ، انتهى.

وكان غرسية أمنع من النجم ، وسبب أخذه أنه خرج يتصيّد ، فلقيته خيل للمنصور من غير قصد ، فأسرته وجاءته به ، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب.

ولنورد (٧) أخبار صاعد فنقول : حكي أنّ المنصور قال بسبب هذه القضية : إنه لم يتّفق

__________________

(١) الايل : الوعل الذكر.

(٢) الحرز : المأمن.

(٣) في ب : «شروى». الجدوى : العطاء. والمعمم : الكريم العمومة. والمخول : الكريم الخؤولة.

(٤) في ب : «ومستعملي» وزيادة الواو خطأ بيّن.

(٥) في ب ، وفي الجذوة :

صبحتك غادية السرور وجلّلت

أرجاء ربعك بالسحاب المخضل

(٦) هو غرسية بن شابخة ، انظر قصة أسره في الذخيرة ٤ / ١٧١.

(٧) في ب : «ولنرد».

٣٥٠

لصاعد هذا الفأل الغريب إلّا لحسن نيّته وسريرته ، وصفاء باطنه ، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان ، ورجّحه على أعدائه ، وحقّ له ذلك.

وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» حكي أنّ صاعدا قال : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر ، فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصا كالمرقعة ، وبكرت به معي إلى قصر المنصور ، فاحتلت في تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت : يا مولانا لعبدك حاجة ، فقال : أذكرها ، قلت : وصول غلامي كافور إلى هنا ، فقال : وعلى هذه الحال؟ فقلت : لا أقنع بسواه إلّا بحضوره بين يديك ، فقال : أدخلوه ، فمثل قائما بين يديه في مرقعته وهو كالنخلة إشرافا ، فقال : قد حضر ، وإنه لباذل (١) الهيئة ، فمالك أضعته؟ فقلت : يا مولانا ، هنالك الفائدة ، اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالا ، فتهلّل (٢) وقال : لله درّك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر لي بمال واسع وكسوة ، وكسا كافورا أحسن كسوة ، انتهى.

ولمّا دخل صاعد دانية ، وحضر مجلس الموفق مجاهد (٣) العامري أمير البلد ، كان في المجلس أديب يقال له بشار ، فقال للموفّق : دعني أعبث بصاعد ، فقال له : لا تتعرّض إليه ، فإنه سريع الجواب ، فأبى إلّا مساءلته ، وكان بشار المذكور أعمى ، فقال لصاعد : يا أبا العلاء ، ما الجرنفل في كلام العرب؟ فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة ، وليس لها أصل في اللغة ، فقال بعد أن أطرق ساعة : الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهنّ إلى غيرهنّ ، وهو في ذلك كلّه يصرح ولا يكني ، فخجل بشار وانكسر ، وضحك من كان حاضرا ، فقال له الموفّق : قلت لك لا تفعل فلم تقبل ، انتهى.

والجرنفل. بضمّ الجيم والراء ، وسكون النون ، وضمّ الفاء ، وبعدها لام.

ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدّم ، وله مع المنصور بن أبي عامر ، رحمه الله تعالى ، من ذلك كثير ، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب.

ومن حكاياته (٤) أنه خرج معه يوما إلى رياض الزاهرة ، فمدّ المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالتّرنجان ، فعبث به ورماه إلى صاعد ، وأشار إليه أن يقول فيه ، فارتجل: [بحر البسيط]

لم أدر قبل ترنجان عبثت به

__________________

(١) في ب : «وإنه لباذ».

(٢) تهلل : أشرق وجهه واستبشر.

(٣) في ابن خلكان تحقيق محيي الدين عبد الحميد ٢ / ١٨١ «مجاهد بن عبد الله».

(٤) الذخيرة ٤ / ١ : ١٢.

٣٥١

الأبيات الآتية (١).

وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدّمت جملة من أخباره ، ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألّفه صاحبه في الأزهار والأنوار ، حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لمّا قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطّلع على أحوال المسلمين وقوّتهم ، فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر (٢) ، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضّة فسبكت قطعا صغارا على قدر ما تسع النيلوفرة ، ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة ، وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة ، فلمّا قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضّة ومناطق الذهب والفضّة ، وبيد خمسمائة أطباق ذهب ، وبيد خمسمائة أطباق فضة ، فتعجّب الرسول من حسن صورهم وجميل شارتهم ، فلم يدر ما المراد ، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة ، وبادروا (٣) لأخذ الذهب والفضّة من النيلوفر ، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضّة والفضّة في أطباق الذهب ، حتى التقطوا جميع ما فيها ، وجاؤوا به فوضعوه بين يدي المنصور ، حتى صار كوما بين يديه ، فتعجّب النصراني من ذلك ، وأعظمه ، وطلب المهادنة من المسلمين ، وذهب مسرعا إلى مرسله ، وقال له : لا تعاد هؤلاء القوم ، فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها ، انتهى.

وهذه القضية من الغرائب ، وإنّها لحيلة عجيبة في إظهار عزّ الإسلام وأهله.

وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام ، قال ابن بسام نقلا عن ابن حيان (٤) : إنه لمّا انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة ، وكان مع فضله قد استهواه حبّ الولد ، حتى خالف الحزم في توريثه الملك بعده في سنّ الصبا ، دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة ، ومن كان ينهض بالأمر ويستقلّ بالملك. قال ابن بسام : وكان يقال «لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الآباء ، فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم» (٥). ولعلّ الحكم لحظ ذلك ، فلمّا مات الحكم أخفى

__________________

(١) سترد هذه الأبيات في هذا الجزء ص (٧٥).

(٢) النيلوفر ، بكسر النون أو فتحها : نوع من الرياحين ينبت في المياه الراكدة ، له أصل كالجذر وساق أملس يطول بحسب عمق الماء فإذا ساوى سطح الماء أورق وأزهر.

(٣) في ب : «فبادروا».

(٤) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٣٩ وما بعدها. وقد نقل المقري النص هنا بتصرف.

(٥) أدبر : ولّى. وانصرم : انقطع وتمزق.

٣٥٢

جؤذر وفائق فتياه ذلك ، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة ، وكان فائق قد قال له : إن هذا لا يتمّ لنا إلّا بقتل جعفر المصحفي ، فقال له جؤذر : ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا؟ فقال له : هو والله ما أقول لك ، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم ، وعرّفاه رأيهما في المغيرة ، فقال لهما المصحفي : وهل أنا إلّا تبع لكما ، وأنتما صاحبا القصر ، ومدبّرا الأمر؟ ؛ فشرعا في تدبير ما عزما عليه ، وخرج المصحفي وجمع أجناده وقوّاده ونعى إليهم الحكم ، وعرّفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة ، وقال : إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة (١) لنا ، وإن بدلنا استبدلنا (٢) ، فقالوا : الرأي رأيك ، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله ، فوافاه ولا خبر عنده ، فنعى إليه الحكم أخاه ، فجزع ، وعرّفه جلوس ابنه هشام في الخلافة ، فقال : أنا سامع مطيع ، فكتب إلى المصحفي بحاله ، وما هو عليه من الاستجابة ، فأجابه المصحفي بالقبض عليه ، وإلّا وجّه غيره ليقتله ، فقتله خنقا. فلمّا قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطّراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش ، وكان ذلك من أوّل ما استحسن منه ، وتوفّر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان (٣) للأموال ، وعارضه محمد بن أبي عامر ، فتّى ماجد أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جودا وبالاستبداد أثرة ، وتملّك قلوب الرجال إلى أن تحرّكت همّته للمشاركة في التدبير بحقّ الوزارة ، وقوي على أمره بنظره في الوكالة ، وخدمته للسيدة صبح أمّ هشام ، وكانت حاله عند جميع الخدم (٤) أفضل الأحوال بتصدّيه لمواقع الإرادة ، ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة ، فأخرجت (٥) له أم هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي ، وكان غير متخيّل منه سكوتا إلى ثقته ، فامتثل الأمر وأطلعه على سرّه ، وبالغ في برّه ، وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته والنصح له ، فوصل المصحفي يده بيده ، واستراح إلى كفايته ، وابن أبي عامر يمكر به ، ويضرّب عليه ، ويغري به الحرّة (٦) ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس ، ويقضي حوائجهم ، ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحلّ أمر المصحفي ، وهوى نجمه ، وتفرّد محمد بن أبي عامر بالأمر ، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم

__________________

(١) كانت الدولة لنا : كانت الغلبة لنا.

(٢) في ب «استبدل بنا».

(٣) احتجن المال : ضمه واحتواه. واحتجانه : احتواؤه.

(٤) في ب «جميع الحزم».

(٥) في ب «فأخرجن له أم هشام».

(٦) في ب : «الحسدة».

٣٥٣

وأهلكهم وشرّدهم وشتّتهم وصادرهم (١) ، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم ، وصادر الصقالبة ، وأهلكهم ، وأبادهم في أسرع مدّة.

قال ابن حيان : وجاشت (٢) النصرانية بموت الحكم ، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة (٣) ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة ، وكان ممّا أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدّ نهرهم ، لما تخيله من أنّ في ذلك النجاة من العدوّ ، ولم تقع (٤) حيلته لأكثر منه ، مع وفور الجيوش وجموم الأموال ، وكان ذلك من سقطات جعفر ، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدّنيّة ، وأشار على جعفر بتبديد (٥) الجيش بالجهاد ، وخوّفه سوء العاقبة في تركه ، وأجمع الوزراء على ذلك ، إلّا من شذّ منهم ، واختار ابن أبي عامر الرجال ، وتجهّز للغزاة (٦) ، واستصحب مائة ألف دينار ، ونفذ بالجيش ، ودخل على الثغر الجوفي (٧) ، ونازل حصن الحافة ، ودخل الرّبض ، وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوما ، فعظم السرور به ، وخلصت قلوب الأجناد له ، واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه.

ومن أخبار كرمه ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال : دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي ، ولم يبق معي سوى لجام محلّى ، ولمّا ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضّرب حين كان صاحبها ، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة ، فأعلمته ما جئت له ، فابتهج بما سمعه منّي ، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره ، فملأ حجري ، وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه ، وعملت العرس ، وفضلت لي فضلة كثيرة ، وأحبّه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت ، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد ابن أبي عامر الذّروة.

وقال غير واحد : إنه صنع يومئذ قصرا من فضّة لصبح أمّ هشام ، وحمله على رؤوس الرجال ، فجلب حبّها بذلك ، وقامت بأمره عند سيّدها الحكم ، وحدّث الحكم خواصّه بذلك ، وقال : إنّ هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به ، قالوا : وكان الحكم لشدّة نظره في علم الحدثان يتخيّل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان ، ويقول لأصحابه: أما تنظرون

__________________

(١) صادرهم : أراد صادر أموالهم وأملاكهم.

(٢) جاشت النصرانية : ثارت.

(٣) في الذخيرة : «فجاء صراخهم إلى باب قرطبة».

(٤) في ب : «لم تتسع».

(٥) في ب : «بتجريد».

(٦) الغزاة ، بفتح العين : الغزوة.

(٧) في ب : «إلى الثغر الجوفي إلى جليقية».

٣٥٤

إلى صفرة كفّيه؟ ويقول في بعض الأحيان : لو كانت به شجّة (١) لقلت إنه هو بلا شكّ ، فقضى الله أنّ تلك الشّجّة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدّة.

قال ابن حيان (٢) : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة ، ومباينة شديدة ، ومقاطعة مستحكمة ، وأعجز المصحفي أمره ، وضعف عن مباراته ، وشكا ذلك إلى الوزراء ، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه ، وشعر بذلك ابن أبي عامر ، فأقبل على خدمته ، وتجرّد لإتمام إرادته ، ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر ، وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية ، واجتمع به ، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي ، وقفل ابن عامر ظافرا غانما ، وبعد صيته ، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة ، وكانت في يده يومئذ ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي ، وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة ، وأخذ عن (٣) المصحفي وجوه الحيلة ، وخلّاه وليس بيده من الأمر إلّا أقلّه ، وكان ذلك بإعانة غالب له ، وضبط المدينة ضبطا أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة (٤) وتولّى السياسة ، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ، ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه ، فكاتب غالبا يستصلحه ، وخطب أسماء بنته لابنه عثمان ، فأجابه غالب لذلك ، وكادت المصاهرة تتمّ له ، وبلغ ابن أبي عامر الأمر ، فقامت قيامته ، وكاتب غالبا يخوّفه الحيلة ، ويهيج حقوده ، وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك ، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر ، فأنكحه البنت المذكورة ، وتمّ له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة ، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره ، وجهّزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله ، فظهر أمره وعزّ جانبه (٥) ، وكثر رجاله ، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كل شيء ، واستقدم السلطان غالبا ، وقلّده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي ، ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز ، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس ، وأيقن المصحفي بالنكبة وكفّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير ، وابن أبي عامر يسايره ولا يظاهره ، وانفضّ عنه الناس ، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة ويروح وهو وحده ، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها ، وعوقب المصحفي

__________________

(١) الشجة : الجرح في الرأس.

(٢) عن الذخيرة : ٤٥ بإيجاز.

(٣) في ب «وأخذ على المصحفي».

(٤) الكفاة : جمع كاف ، وهو الذي يقوم بالأمر بكفاءة ، ولا يحتاج لمساعدة.

(٥) عز جانبه : قوي.

٣٥٥

بإعانته على ولاية هشام ، وقتل المغيرة. ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه ، وطولبوا بالأموال ، وأخذوا برفع الحساب لما تصرّفوا فيه ، وتوصّل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم ، وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصّل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة ، وغاظه ذلك منه ، فبادره بالقتل في المطبق قبل عمّه جعفر المصحفي ، فما استقصى (١) ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة ، وكانت من أعظم قصور قرطبة ، واستمرّت النكبة عليه سنتين (٢) ، مرّة يحتبس ومرّة يترك ومرة يقرّ بالحضرة ومرّة ينفر عنها ، ولا براح له من المطالبة بالمال ، ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي ، ولم يبق فيه محتمل ، واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك ، وأخرج إلى أهله ميتا ، وذكر أنه سمّه في ماء شربه ، قال محمد بن إسماعيل : سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلّم جسد جعفر بن عثمان إلى أهله بأمر المنصور ، وسرنا إلى منزله فكان مغطّى بخلق كساء (٣) لبعض البوّابين ألقاه على سريره ، وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار ، وأخرج وما حضر أحد جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده ، فعحبت من الزمان ، انتهى.

وما أحسن عبارة المطمح عن هذه القضية إذ قال : قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور : سرت بأمره لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده ، والحضور على إنزاله في ملحده (٤) ، فنظرته ولا أثر فيه ، وليس عليه شيء يواريه ، غير كساء خلق لبعض البوّابين ، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار ، وأنا أعتبر من تصرّف الأقدار ، وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ، وما تجاسر (٥) أحد منّا للنظر إليه ، وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ ، ولا وقع في سمع ولا تصوّر في لحظ ، وقفت له في طريقه من قصره ، أيام نهيه وأمره ، أروم أن أناوله قصّة (٦) ، كانت به مختصّة ، فو الله ما تمكّنت من الدنوّ منه بحيلة لكثافة موكبه ، وكثرة من حفّ به ، وأخذ الناس السّكك عليه وأفواه الطرق داعين ، ومارّين بين يديه وساعين ، حتى ناولت قصّتي بعض كتّابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص ، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من

__________________

(١) كذا في أي. وفي ب ، ج «فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة».

(٢) في ب : «سنين».

(٣) الخلق : البالي.

(٤) ملحده : قبره.

(٥) تجاسر : قوي.

(٦) قصة : ورقة يكتب فيها ظلامة ونحوها.

٣٥٦

الشّرق بحاله والغصص ، فلم تطل المدّة حتى غضب عليه المنصور واعتقله ، ونقله معه في الغزوات واحتمله ، واتّفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدوّ أثره ، ولا ينكشف إليه خبره ، فرأيت والله عثمان ولده يسقيه (١) دقيقا قد خلطه بماء يقيم به أوده ، ويمسك بسببه رمقه ، بضعف حال وعدم زاد ، وهو يقول : [بحر الطويل]

تعاطيت صرف الحادثات فلم أزل

أراها توفّي عند موعدها الحرّا

فلله أيام مضت بسبيلها

فإني لا أنسى لها أبدا ذكرا

تجافت بها عنّا الحوادث برهة

وأبدت لنا منها الطّلاقة والبشرا

ليالي ما يدري الزمان مكانها

ولا نظرت منها حوادثه شزرا (٢)

وما هذه الأيام إلّا سحائب

على كلّ أرض تمطر الخير والشّرّا

انتهى.

وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات ، وصعدا (٣) إلى بعض القلاع ، لينظرا في أمرها ، فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب ، فسبّه غالب وقال له : يا كلب ، أنت الذي أفسدت الدولة ، وخرّبت القلاع ، وتحكّمت في الدولة ، وسلّ سيفه فضربه ، وكان بعض الناس حبس يده ، فلم تتمّ الضربة وشجّه ، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه (٤) ، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهواء (٥) منعه من الهلاك ، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء ، ولحق غالب بالنصارى ، فجيّش بهم (٦) ، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام ، فحكمت الأقدار بهلاك غالب ، وتمّ لابن أبي عامر ما جدّ له ، وتخلّصت دولته من الشوائب.

قالوا : ولمّا وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيّد ، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما ، وعلم أنه ما دهي إلّا من جانب حاشية القصر ، فرّقهم ومزّقهم ، ولم يدع فيه منهم إلّا من وثق به أو عجز عنه ، ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهنّ في الأموال المختزنة بالقصر ،

__________________

(١) في ب : «يسفيه».

(٢) نظر شزرا : نظر بمؤخر عينيه غاضبا. وفي ب : «ما يدري الزمان مكاننا».

(٣) في ب : «وصعد».

(٤) أجهز عليه : فتك به وقتله.

(٥) في ب : «الهويّ».

(٦) جيّش بهم : استكثر بهم.

٣٥٧

وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر ، وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضّة ، وموّهت ذلك كلّه بالمرّي (١) والشهد وغيره والأصباغ المتّخذة بقصر الخلافة ، وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك. ومرّت على صاحب المدينة ، فما شكّ أنه ليس فيها إلّا ما هو عليها ، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار ، فأحضر ابن أبي عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة ، وأنّ في إضاعتها آفة على المسلمين ، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه ، فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار ، وكانت صبح قد دافعت عمّا بالقصر من الأموال ، ولم تمكّن من إخراجها ، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام ، واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة ، فخرست ألسنة العدا (٢) والحسدة ، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له ، إذ كان منهم من لم يره قطّ ، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة ، واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى ، وكانت عليه الطويلة والقضيب في يده زيّ الخلافة ، والمنصور يسايره. ثم خرج المنصور لآخر غزواته ، وقد مرض المرض الذي مات فيه ، وواصل شنّ الغارات ، وقويت عليه العلّة ، فاتّخذ له سرير خشب ووطّئ (٣) عليه ما يقعد عليه ، وجعلت عليه ستارة ، وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحفّ به ، وكان هجر الأطباء في تلك العلّة لاختلافهم فيها ، وأيقن بالموت ، وكان يقول : إنّ زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالة مني. ولعلّه يعني من حضر تلك الغزاة ، وإلّا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد ـ واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم ، فلمّا أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرّر وصايته (٤) ، وكلّما أراد أن ينصرف يردّه ، وعبد الملك يبكي ، وهو ينكر عليه بكاءه ويقول : وهذا من أول العجز ، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر.

وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي أبو ذكوان ، فدخلها أول شوّال ، وسكّن الإرجاف (٥) بموت والده ، وعرّف الخليفة كيف تركه.

__________________

(١) المرّي : مستحضرات تستعمل في الأطعمة.

(٢) في ب : «ألسنة الأعداء».

(٣) وطئ عليه : مهد له.

(٤) في ب : وصاته.

(٥) الإرجاف : كثرة الحديث والخوض في الأخبار.

٣٥٨

ووجد المنصور خفّة فأحضر جماعة بين يديه ، وهو كالخيال لا يبين الكلام (١) ، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلّم المودع ، وخرجوا من عنده ، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان ، وأوصى أن يدفن حيث يقبض ، فدفن في قصره بمدينة سالم.

واضطرب العسكر ، وتلوّم ولده أياما (٢) ، وفارقه بعض العسكر إلى هشام ، وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه ، ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخزّ.

وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر ، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه ، وخلع عليه ، وكتب له السجلّ بولاية الحجابة ، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوّم (٣) المائل ، وأصلح الفاسد ، وجرت الأمور على السداد ، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد ، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.

ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر ، فقد قدّمنا في محلّه جملة من أحواله ، وما ذكرناه هنا وإن كان محلّه ما سبق وبعضه قد تكرّر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد ، والله تعالى ولي التوفيق.

رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي :

وحكي (٤) أنه دخل على المنصور يوم عيد ، وعليه ثياب جدد وخفّ جديد ، فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصف (٥) ، فزلق فسقط في الماء ، فضحك المنصور ، وأمر بإخراجه ، وقد كان البرد أن يأتي عليه ، فخلع عليه ، وأدنى مجلسه ، وقال له : هل حضرك شيء؟ فقال : [بحر الكامل]

شيئان كانا في الزمان عجيبة

ضرط ابن وهب ثم وقعة صاعد

فاستبرد ما أتى به أبو مروان الكاتب الجزيري ، فقال : هلّا قلت : [بحر المتقارب]

سروري بغرّتك المشرقه

وديمة راحتك المغدقه (٦)

__________________

(١) لا يبين الكلام : لا يظهره ، ولا يفهم منه.

(٢) تلوم أياما في الأمر : تمكث وانتظر.

(٣) قوّم المائل : عدله.

(٤) في ب : «حكي» ؛ بإسقاط الواو.

(٥) في ب : «في الصحن».

(٦) الديمة : المطر الدائم الذي لا ينقطع. والراحة هنا : اليد. وقد شبه عطاءه بالمطر الدائم غير المنقطع.

٣٥٩

ثناني نشوان حتى غرق

ت في لجّة البركة المطبقه (١)

لئن ظلّ عبدك فيها الغريق

فجودك من قبلها أغرقه (٢)

فقال له المنصور : لله درّك يا أبا مروان! قسناك بأهل بغداد ففضلتهم (٣) ، فبمن نقيسك بعد؟ انتهى.

وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد (٤) : وفد على المنصور نجما من المشرق غرّب ، ولسانا عن العرب أعرب ، وأراد المنصور أن يقفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاما (٥) ، وسحابه جهاما ، من رجل يتكلّم بملء فيه ، ولا يوثق بكلّ ما يذره ولا ما يأتيه ، انتهى باختصار.

وأصل صاعد من ديار الموصل ، وقال ارتجالا وقد عبث المنصور بترنجان : [بحر البسيط]

لم أدر قبل ترنجان عبثت به

أنّ الزّمرّد أغصان وأوراق

من طيبه سرق الأترجّ نكهته

يا قوم حتى من الأشجار سرّاق

كأنما الحاجب المنصور علّمه

فعل الجميل فطابت منه أخلاق

وقدّمه الحجاري بقوله : [بحر البسيط]

كأن إبريقنا والراح في فمه

طير تناول ياقوتا بمنقار

وقبله : [بحر البسيط]

وقهوة من فم الإبريق صافية

كدمع مفجوعة بالإلف معبار (٦)

وقال في بدائع البداءة : دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب ، فملأ الساقي قدحا من إبريق ، فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكوّنت ولم تقطر ، فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال : [بحر البسيط]

وقهوة من فم الإبريق ساكبة

البيتين.

__________________

(١) في الذخيرة : «ثنائي نشوان حتى هويت». والنشوان : السكران.

(٢) في الذخيرة : «فجودك من قبل ذا أغرقه».

(٣) فضله : كان أفضل منه.

(٤) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٢.

(٥) سيف كهام : غير قاطع. ورجل كهام : عيي كليل. وفرس كهام : بطيء.

(٦) الإلف : الحبيب والصاحب. والمعبار : اكثير العبرات.

٣٦٠