نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدّما الذكر ، ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان ، وكان في عديد من يشاوره أيضا ويفضل أمره وآراءه ، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري ، وقيل : إنه ممّن اتّهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن ، فاتفق أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر.

وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى بن يزيد اليحصبي ، فأقرّه حينّا ، ثم ولّى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي ، ثم عمر بن شراحيل ، ثم عبد الرحمن بن طريف ، وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر.

وكان الداخل يرتاح ، لمّا استقرّ سلطانه بالأندلس ، إلى أن يفد عليه فلّ بيته بني مروان ، حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه ، وتظهر يده عليهم (١) ، فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد بن معاوية وابن عمّه عبد السلام بن يزيد بن هشام. قال ابن حيان : وفي سنة ١٦٣ قتل الداخل عبد السلام بن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي ، وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام المعروف باليزيدي ، وهو ابن أخي الداخل ، وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر ، فوشى بهما مولى لعبيد الله بن أبان ، وكان قد ساعدهما على ما همّا به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة ، فلم ينله ما نالهما.

وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول : أعظم ما أنعم الله تعالى به عليّ بعد تمكّني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إليّ من أقاربي ، والتوسّع في الإحسان إليهم ، وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منّة علي فيه لأحد غيره.

وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية ، فسعى في طلب الأمر لنفسه ، فقتله سنة ١٦٧ ، وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصّميل بن حاتم ، ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة بماله وولده وأهله.

وفي «المسهب» حدّث بعض موالي عبد الرحمن الخاصّين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور ، وهو مطرق شديد الغمّ ، فرفع رأسه إليّ وقال : ما عجبي إلّا من هؤلاء القوم ، سعينا فيما يضجعهم (٢) في مهاد الأمن والنعمة ، وخاطرنا فيه بحياتنا ، حتى

__________________

(١) تظهر يده عليهم : أي يجزل لهم العطاء ، وينعم عليهم.

(٢) سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن : أي مهدنا لهم الأمر ومكناهم من الاستقرار ، وأوصلناهم إلى الراحة والطمأنينة بعد الخوف والجزع والقلق.

٣٢١

إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ، ويسّر الله تعالى أسبابه ، أقبلوا علينا بالسيوف ، ولمّا أويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرّت عليهم أخلاف النعم هزّوا أعطافهم ، وشمخوا بآنافهم ، وسموا إلى العظمى ، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى ، فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم ، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا ، وأدّى ذلك إلى أن ساء ظنّنا في البريء منهم ، وساء أيضا ظنّه فينا ، وصار يتوقّع من تغيرنا عليه ما نتوقّع نحن منه ، وإن أشدّ ما عليّ في ذلك أخي والد هذا المخذول ، فكيف تطيب لي نفس بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه؟! أم كيف يجتمع بصري مع بصره؟ اخرج له الساعة فاعتذر إليه ، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه ، واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من برّ العدوة.

قال : فلمّا وصلت إلى أخيه فوجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء ، فآنسته وعرفته ، ودفعت له المال ، وأبلغته الكلام ، فتأوّه وقال : إن المشؤوم لا يكون بليغا في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه ، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية ، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرّة الزمان وكلّه (١) ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، لا مردّ لما حكم به وقضاه ، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى برّ العدوة.

قال : ورجعت إلى الأمير فأعلمته بقوله ، فقال : إنه نطق بالحق ، ولكن لا يخدعني بهذا القول عمّا في نفسه ، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عفّ عنه لحظة ، فالحمد لله الذي أظهرنا عليهم بما نويناه فيهم ، وأذلّهم بما نووه فينا.

واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين ، وذكر أعقابهم بالأندلس ، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز ، وسيأتي قريبا.

وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم ، وقد سبق ذكر بعضهم ، ومنهم الدعي (٢) الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره ، وطال شرّه سنين متوالية ، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله.

ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية ، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة ، وعمرو بن طالوت رئيس باجة ، اجتمعوا وتوجّهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح ، فقتلوا في هزيمة عظيمة ، وقيل : نجوا بالفرار ، فأمّنهم الداخل.

__________________

(١) معرة الزمان وكلّه : أراد شدته وقساوته.

(٢) في ه : الداعي.

٣٢٢

وفي سنة ١٥٧ ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعد (١) بن عبادة الخزرجي ، وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن ، وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان ، وقتل الداخل الحسين كما مرّ.

وفي سنة ١٦٣ ثار الرحامس (٢) بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء ، فتوجّه له عبد الرحمن الداخل ، ففرّ في البحر إلى المشرق.

قال ابن حيان : كان مولد ، عبد الرحمن الداخل سنة ١١٣ ، وقيل : في التي قبلها ، بالعلياء من تدمر ، وقيل : بدير حنا من دمشق ، وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك ، وكان قد رشّحه للخلافة ـ وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر (٣) هشام دمه ـ وتوفي الداخل لست بقين من ربيع الآخر سنة ١٧١ ، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر ، وقيل : اثنتان وستون سنة ، ودفن بالقصر من قرطبة ، وصلّى عليه ابنه عبد الله.

وكان منصورا مؤيّدا مظفّرا على أعدائه ، وقد سردنا من ذلك جملة ، حتى قال بعضهم: إنّ الراية التي عقدت له بالأندلس حين دخلها لم تهزم قط ، وإنّ الوهن (٤) ما ظهر في ملك بني أمية إلّا بعد ذهاب تلك الراية ، قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثّبت الثقة أبو مروان بن حيّان ، رحمه الله تعالى!

ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرّر بعض ذلك ، فنقول : قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدّمنا ذكره ، ما نصّه : كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل ، راسخ الحلم ، واسع العلم ، كثير الحزم ، نافذ العزم ، لم ترفع له قط راية على عدوّ إلّا هزمه ، ولا بلد إلّا فتحه ، شجاعا ، مقداما ، شديد الحذر ، قليل الطمأنينة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة (٥) ، ولا يكل الأمر إلى غيره ، كثير الكرم ، عظيم السياسة ، يلبس البياض ، ويعتمّ به ، ويعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويصلّي بالناس في الجمع والأعياد ، ويخطب بنفسه ، جنّد الأجناد ، وعقد الرايات ، واتّخذ الحجّاب والكتّاب ، وبلغت جنوده مائة ألف فارس.

__________________

(١) كذا في أ. وفي ب : «الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة». وفي ه : «الحسين بن يحيى بن سعيد بن عبادة».

(٢) في أ : «الدحامس».

(٣) أهدر دمه : أباحه وجعل من أراقه لا عقوبة عليه.

(٤) الوهن : الضعف.

(٥) الدعة : الاستقرار.

٣٢٣

وملخّص دخوله الأندلس أنه لمّا اشتدّ الطلب على فلّ بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستترا إلى مصر ، فاشتدّ الطلب على مثله ، فاحتال حتى وصل برقة ، ثم لم يزل متوغّلا في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى ، ونزل بنفزة (١) وهم أخواله ، فأقام عندهم أياما ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل ، فأرسل مولاه بدرا بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم ، فأجابوه واشتروا مركبا وجهّزوه بما يحتاج إليه ، وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان ، وأركب فيه بدرا ، وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة ، وركب معه علقمة بن تمام (٢) بن علقمة ، وبينما هو يتوضّأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجّة البحر مقبلا حتى أرسى أمامه ، فخرج إليه بدر سابحا ، فبشّره بما تمّ له بالأندلس ، وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي ، ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له : ما اسمك وما كنيتك؟ فقال : اسمي تمام ، وكنيتي أبو غالب ، فقال : تم أمرنا وغلبنا عدوّنا إن شاء الله تعالى ، ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكّب ، وذلك غرة ربيع الأول سنة ١٣٨.

فلمّا اتّصل خبر جوازه (٣) بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقّوه بالإعظام والإكرام ، وكان وقت العصر ، فصلّى بهم العصر ، وركبوا معه إلى قرية طرّش من كور إلبيرة فنزل بها ، وأتاه بها جماعة من وجود الموالي وبعض العرب ، فبايعوه وكان من أمره ما يذكر ، وقيل : إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب ، فخرج من إلبيرة إلى كورة ريّة فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها ، ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مدور ، ثم سار إلى إشبيلية.

وقال بعضهم : لمّا أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشّانة ، فأشاروا عليه أن يعقد له لواء (٤) ، فجاؤوا بعمامة وقناة ، فكرهوا أن يميلوا القناة تطيرا ، فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين ، وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة ، وتبرّك هو وولده بهذا اللواء ، فكان بعد أن بلي لا تحلّ منه العقدة التي عقدت أوّلا ، بل تعقد فوقها الألوية الجدد ، وهي مستكنة تحتها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ، وقيل : إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ، فاجتمع الوزراء على

__________________

(١) في ج : «بنفرة» براءة مهملة.

(٢) في ب : تمام بن علقمة.

(٣) جوازه : أراد : اجتيازه من إفريقية إلى الأندلس.

(٤) اللواء : العلم ، والراية.

٣٢٤

تجديد اللّواء ، فلمّا رأوا تحت اللواء أسمالا خلقة (١) ملفوفة معقدة جهلوها فاسترذلوها ، وأمروا بحلّها ونبذها (٢) ، وجدّدوا غيرها ، وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائبا ، فحضر في اليوم الثاني ، وطولع بالقصّة ، فأنكرها أشدّ إنكار ، وساءه ما فعلوه ، وقال : إن جهلتم شأن تلك الأخلاق (٣) فكان ينبغي أن تتوقّفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكّروا في أمرها ، وخبرهم خبرها ، فتطلّبوا تلك الأخلاق (٤) فلم توجد ، ويقال كما قال ابن حيان : إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم ، وقد كان الذي عقده أوّلا عبد الله بن خالد من موالي بني أمية ، وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جدّ عبد الرحمن الأعلى لمّا اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب (٥) على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط ، فانتصر على الضحاك وقتله ، ولمّا عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشدّ حزن ، وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام ، وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قطّ جيش كان تحته ، على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصّل إليها الأفكار ، وتولّى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري ، ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن.

ولمّا تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا ، فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة ، أظهر عبد الرحمن قبول الصلح ، فبات الناس على ذلك ليلة العيد ، وكان قد أسرّ خلاف ما أظهر ، واستعدّ للحرب ، ولمّا أصبح يوم الأضحى لم ينشب (٦) أن غشيت الخيل ، ووكّل عبد الرحمن بخالد بن زيد ، الكاتب رسول يوسف جماعة ، وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه ، وإلّا فلا ، فكان خالد يقول : ما كان شيء في ذلك الوقت أحبّ إليّ من غلبة عبد الرحمن الداخل عدوّ صاحبي ، وركب عبد الرحمن جوادا ، فقالت اليمانية الذين أعانوه : هذا فتّى حديث السنّ تحته جواد وما نأمن أول ردعة (٧) يردعها أن يطير منهزما على جواده ويدعنا ، فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم ، فدعا أبا الصباح ، وكان له بغل أشهب

__________________

(١) الأسمال : البالية. والخلقة : البالية أيضا.

(٢) نبذها : طرحها ورميها.

(٣) الأخلاق : البالية.

(٤) الأخلاق : البالية.

(٥) دولة بني حرب : أي دولة أبناء أبي سفيان الذين ابتدؤوا بمعاوية وانتهت دولتهم باستيلاء مروان بن الحكم على الخلافة.

(٦) لم ينشب : لم يلبث.

(٧) أول ردعة : أراد أول هجمة تقع بينه وبين عدوّه.

٣٢٥

يسمّيه الكوكب ، فقال له : إنّ فرسي هذا قلق تحتي ، لا يمكنني من الرمي ، فقدّم إلي بغلك المحمود أركبه ، فقدّمه ، فلمّا ركب اطمأنّ أصحابه ، وقال عبد الرحمن لأصحابه : أي يوم هذا؟ قالوا : الخميس يوم عرفة ، فقال : فالأضحى غدا يوم الجمعة ، والمتزاحفان أموي وفهري ، والجندان قيس ويمن ، قد تقابل الأشكال جدا ، وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط (١) ، فأبشروا وجدّوا ، فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جدّه مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري ، وكانت يوم جمعة ويوم أضحى ، فدارت الدائرة لمروان على الضحاك ، فقتل الضحاك ، وقتل معه سبعون ألفا من قبائل قيس وأحلافهم ، وقيل : إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر : عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري ، وابن هبيرة المحاربي ، وصالح الغنوي ، وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم الصّارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة : جابر بن العلاء بن شهاب ، والحصين بن الدجن ، العقيليان ، وهلال بن الطفيل العبدي ، وكان الظفر لعبد الرحمن ، وانهزم يوسف ، وصبر الصّميل بن حاتم بعده معذرا وعشيرته يحفونه ، فلمّا خاف انهزامهم عنه تحوّل على بغله الأشهب معارضة لعبد الرحمن الداخل ، فمرّ به أبو عطاء فقال له : يا أبا جوشن ، احتسب نفسك ، فإنّ للأشباه أشباها : أموي بأموي ، وفهري بفهري ، وكلبي بكلبي ، ويوم أضحى بيوم أضحى ، ويمني بقيسي ، والله إنّي لأحسب هذا اليوم بمثل مرج راهط سواء ، فقال له الصّميل ، كبرت وكبر علمك ، الآن تنجلي الغمّاء ، وسحرك منتفخ (٢) ، فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلبا ، وانهزم الصّميل ، وملك عبد الرحمن قرطبة.

ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ، باني القيروان ، وأمير معاوية على إفريقية والمغرب ، وهو مشهور.

وأما الصّميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ، وقيل : الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن ، كان جدّه شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين ، رضي الله تعالى عنه! ودخل الصّميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازيا ، وساد بها ، وكان شاعرا كثير السكر أمّيّا لا يكتب ، ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس ، وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه ، وكانت ولاية الفهري الأندلس

__________________

(١) معركة مرج راهط : كانت بين مروان بن الحكم والضحاك بن قيس الفهري في الشام ، وانتصر فيها مروان بن الحكم.

(٢) السحر : الرئة. وانتفخ سحره : كناية عن العجب بالنفس.

٣٢٦

سنة تسع وعشرين ومائة ، فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر ، وعنه كما مرّ انتقل سلطانها إلى بني أمية ، واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة ، ثم انتثر سلكهم (١) ، وباد ملكهم ، كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة ، سنّة الله التي قد خلت في عباده.

وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستا وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام ؛ لأن الفتح كان حسبما تقدّم لخمس خلون من شوّال سنة اثنتين وتسعين ، وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة ، والله غالب على أمره.

وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوما على جدّه هشام ، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك ، وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبيّا ، فأمر هشام أن ينحّى عنه ، فقال له مسلمة : دعه يا أمير المؤمنين ، وضمّه إليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، هذا صاحب بني أمية ، ووزرهم (٢) عند زوال ملكهم ، فاستوص به خيرا ، قال : فلم أزل أعرف مزية من جدي من ذلك الوقت.

وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدّته وضبط المملكة ، ووافقه في أن أمّ كلّ منهما بربرية ، وأنّ كلّا منهما قتل ابن أخيه ، إذ قتل المنصور ابن السفاح ، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.

ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته (٣) : [بحر الطويل]

تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة

تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرّب والنّوى

وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة

فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي (٤)

سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي

يصحّ ويستمري السّماكين بالوبل (٥)

وكان نقش خاتمه «بالله يثق عبد الرحمن ، وبه يعتصم». وأشاع سنة ١٦٣ الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس ، وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته ، وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة ، ويذهب بعامة من أطاعه ، ثم أعرض عن ذلك بسبب

__________________

(١) انتثر سلكهم : ضعفوا وباد ملكهم ، واندثرت قوتهم.

(٢) الوزر ، بفتح الواو والزاي : الملجأ والحصن. وفي ب : ووزرهم (بالنصب).

(٣) انظر ابن عذاري ٢ / ٦٢. والحلة السيراء : ٣٧.

(٤) المنتأى : البعد.

(٥) الوبل : المطر الغزير.

٣٢٧

أمر الحسين الأنصاري الذي انتزى (١) عليه بسرقسطة ، فبطل ذلك العزم.

ومن شعر عبد الرحمن أيضا قوله يتشوّق إلى معاهد الشام : [بحر الخفيف]

أيها الراكب الميمّم أرضي

اقر منّي بعض السلام لبعضي

إنّ جسمي كما علمت بأرض

وفؤادي ومالكيه بأرض

قدّر البين بيننا فافترقنا

وطوى البين عن جفوني غمضي (٢)

قد قضى الله بالفراق علينا

فعسى باجتماعنا سوف يقضي

وترجمة الداخل طويلة ، وقد ذكر منها ما فيه مقنع ، انتهى. والله تعالى الموفق للصواب. وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم : [بحر الطويل]

وأبرز في ذات الإله ووجهه

ثمانين ألفا من لجين وعسجد (٣)

وأنفقها في مسجد زانه التّقى

وقرّ به دين النبيّ محمد

ترى الذهب الوهّاج بين سموكه

يلوح كلمح البارق المتوقّد

٣٣ ـ ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي.

دخل الأندلس ، وكان شيخا مسنّا يروي عن أمّه عن عائشة ، رضي الله تعالى عنها! إلّا أنه كان مندرا (٤) صاحب دعابة ، وكان مختصّا بعبد الرحمن بن معاوية ، وله منه مكانة لطيفة يدلّ بها عليه (٥) ، ولمّا توفي حبيب بن عبدالملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وكانت له من عبد الرحمن خاصّة لم تكن لأحد من أهل بيته ، جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب ، وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائما ، وكانت له دالّة عليه ودعابة يحتملها منه ، فأقبل عند استقباره كالمخاطب للمتوفّى علانية يقول : يا أبا سليمان ، لقد نزلت بحفرة قلّما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعده ، فأعرض عنه عبد الرحمن ، وقد كاد التبسّم يغلبه ، هكذا ذكره ابن حيّان ، رحمه الله تعالى في «المقتبس» ، ونقله عنه الحافظ ابن الأبار.

٣٤ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبدالعزيز ، أخو عمر بن عبد العزيز ، رضي الله تعالى عنه!

__________________

(١) انتزى عليه : ثار عليه ووثب.

(٢) البين : بعد المسافة.

(٣) اللجين : الفضة. والعسجد : الذهب.

(٤) مندرا : صاحب نوادر.

(٥) يدلّ عليه : يجترئ عليه ثقة منه بمحبته.

٣٢٨

دخل الأندلس ، ومات في مدّة الداخل ، وكان من أولياء الله تعالى مقتفيا (١) سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز ، رحمهما الله تعالى!.

٣٥ ـ ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة ، الجذامي.

ويكنى أبا ثمامة ، وجدّه صحابي ، وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين ، روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد السّاعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبّان بن سمح الصّدائي ، وقيد اسمه الدارقطني ، رحمه الله تعالى ، حبّان. بكسر الحاء المهملة ، وبباء معجمة بواحدة ـ ونقله الأمير كذلك ، وهو ممّن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد فتح مصر. قال ابن يونس : ويقال فيه حبان بالكسر ، وحبّان بالفتح أصحّ ، انتهى ، وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت.

رجع ـ وممّن روى عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي ، وأبو عميرة المزني ، وروى عن جماعة من التابعين أيضا كسعيد بن المسيّب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم ، منهم ربيعة بن قيس الحملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانىء الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي (٢) وهانىء بن معاوية الصدفي وغيرهم ممّن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس.

وممّن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر بن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم.

قال ابن يونس : توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبدالملك ، وقيل : بل غرق في مجاز الأندلس ، سنة ثمان وعشرين ومائة ، قال : وجدّه ثمامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث.

وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمّى ب «رياض النفوس» وقد ذكر بكرا هذا : إنه كان أحد العشرة التابعين ، يعني الموجّهين إلى إفريقية من قبل

__________________

(١) مقتفيا سبيله : متبعا الطريق الذي كان يسكله.

(٢) انظر ميزان الاعتدال للذهبي ١ / ١٠٧.

٣٢٩

عمر بن عبدالعزيز في خلافته ليفقّهوا أهل إفريقية ويعلّموهم أمر دينهم ، قال : وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر ، لم يروه غيره فيما علمت ، حدّث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ، ولا تنه عن منكر ، وعليك بخاصّة نفسك». وحكى المالكي أيضا عن أبي سعيد بن يونس قال : كان فقيها مفتيا ، سكن القيروان ، وكانت وفاته كما تقدّم ، وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس ، ولم يذكره ابن الفرضي.

٣٦ ـ ومنهم زريق بن حكيم (١) ، أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس ، ذكره أبو الحسن بن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي ، وحكي أنه كتب ذلك من خطّه ، وسمّاه مع جماعة منهم حبّان بن أبي جبلة وعلي بن أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية بن صالح وزيد بن الحباب العكلي ، وانتهى عددهم بزريق هذا سبعة ، ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره ، قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي.

٣٧ ـ ومنهم زيد بن قاصد السّكسكي.

قال ابن الأبار : وهو تابعي ، دخل الأندلس وحضر فتحها ، وأصله من مصر ، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله تعالى عنه! وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، ذكره يعقوب بن سفيان ، وأورد له حديثّا ؛ من كتاب الحميدي ، انتهى.

٣٨ ـ ومنهم زرعة بن روح الشامي.

دخل الأندلس ، وحدّث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل.

٣٩ ـ ومنهم محمد بن أوس بن ثابت ، الأنصاري.

قال ابن الأبار : تابعي ، دخل الأندلس ، يروي عن أبي هريرة ، قرأته بخطّ ابن حبيش ، وقال أبو سعيد بن يونس مؤرّخ مصر : إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ، ويروي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه! وقال الحميدي : إنه كان من أهل الدين والفضل معروفا بالفقه ، ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين ، وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ، فيما حكاه ابن

__________________

(١) انظر المشتبه للذهبي : ٣١٢ وقد ورد فيه الاسم : رزيق.

٣٣٠

يونس صاحب تاريخ مصر ، وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. ولمّا قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه ، فولّوه أمرهم ، وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ، إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية ، وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظلة ، انتهى.

٤٠ ـ ومنهم عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم ، الأموي (١).

فرّ من الشام خوفا من المسوّدة ، فمرّ بمصر ومضى إلى الأندلس ، وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل ، فأكرمه ونوّه به (٢) ، وولّاه إشبيلية لأنه كان قعدد (٣) بني أمية ، ثم إنه لمّا وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة ، وذكّره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية ، فتوقّف عبد الرحمن في ذلك ، فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له ، وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك : إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي ، فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر. ولمّا زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا ، فنهض في معظم الجيش ، وقدّم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر ، فخالطهم أمية ، فوجد فيهم قوّة ، فخاف الفضيحة معهم ، فانحاز منهزما إلى أبيه ، فلما جاءه سقط في يده (٤) ، وقال له : ما حملك على أن استخففت بي وجرّأت الناس علي والعدوّ؟ إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه ، فأمر بضرب عنقه ، وجمع أهل بيته وخاصّته وقال لهم : طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع ، ونحسد على لقمة تبقي الرمق ، اكسروا جفون السيوف ، فالموت أولى أو الظفر ، ففعلوا وحملوا ، وتقدّمهم ، فهزم اليمانية وأهل إشبيلية ، ولم تقم بعدها لليمانية قائمة ، وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفا ، وجرح عبد الملك ، فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما ، وقد لصقت يده بقائم سيفه ، فقبّل بين عينيه ، وجزّاه خيرا (٥) ، وقال له : يا ابن عمّ ، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما ابنتك فلانة ، وأعطيتها كذا وكذا ، وأعطيتك كذا ، ولأولادك كذا ، وأقطعتك وإياهم كذا ، وولّيتكم الوزارة.

ومن شعره لمّا نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذّكر وطنه بالشام ، وقال : [بحر الكامل]

__________________

(١) انظر الحلة السيراء ١ / ٥٦.

(٢) نوّه به : عظمه ورفع شأنه.

(٣) كان قعدد بني أمية : أي كان أقربهم أبا إلى الجد الأعلى.

(٤) سقط في يده : لم يدر ما يفعل.

(٥) جزّاه خيرا : أي قال له : جزاك الله خيرا.

٣٣١

يا نخل ، أنت فريدة مثلي

في الأرض نائية عن الأهل (١)

تبكي وهل تبكي مكمّمة

عجماء لم تجبل على جبل (٢)

ولو أنها عقلت إذا لبكت

ماء الفرات ومنبت النخل

لكنها حرمت وأخرجني

بغضي بني العباس عن أهلي

٤١ ـ ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين! ونزل حين دخوله بلبلة ، وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي ، وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه «أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب».

٤٢ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة ، الكناني ، حليف بني عبد الدار.

سمّاه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين ، حكى ذلك عنه أبو القاسم بن بشكوال في مجموعه المسمّى ب «التنبيه والتعيين» ، قال ابن الأبار : وما أراه يتابع عليه ، وذكره أبو سعيد بن يونس من أهل إفريقية ، انتهى ، وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني.

٤٣ ـ ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان ، وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين.

قال ابن الأبار : روى عنه أبو محمد أسد الجهني ، ذكر ذلك القيسيّ ، وفيه عندي نظر ، انتهى.

٤٤ ـ ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب (٣) ، المهري

روى عن أبي ذر ، وقيل : عن أبي نضرة عن أبي ذر ، وعائشة وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري (٤) وعقبة بن عامر الجهني وعوف بن مالك الأشجعي ، ومعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم ، ذكره ابن يونس في تاريخ مصر،

__________________

(١) يا نخل : يا : أداة نداء. نخل : منادى مرخم ، والأصل : يا نخلة ، ونائية : بعيدة. وقد نسب ابن الأبار هذه الأبيات لعبد الرحمن الداخل.

(٢) النخلة المكمّمة : المغطاة لترطب. والعجماء : التي لا يسمع صوتها.

(٣) في التكملة «ذؤيب». انظر ترجمته رقم ١٥٢٥.

(٤) في التكملة : «أبي بصرة».

٣٣٢

وسمّاه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين ، وروي ذلك عن الحميدي ، قاله ابن الأبار ، وقال ابن يونس : وآخر من حدّث عنه بمصر حرملة بن عمران.

٤٥ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر ، رضي الله تعالى عنه!.

وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه ، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس ، وكان المذكور إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق ، وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمّار وبني أمية من الثأر بسبب قتل عمّار بصفّين ، وكان عمّار ، رضي الله تعالى عنه ، من شيعة علي ، كرّم الله وجهه.

وهذا عبد الله بن سعيد هو جدّ بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدّة رؤساء وأمراء وكتّاب وشعراء ، ومنهم صاحب «المغرب» وغير واحد ممّن عرّفنا به في هذا الكتاب ، ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد ، صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين ، قال : هو القائل يفتخر : [بحر مخلع البسيط]

إن لم أكن للعلاء أهلا

بما تراه فمن يكون

فكلّ ما أبتغيه دوني

ولي على همّتي ديون

ومن يرم ما يقلّ عنه

فذاك من فعله جنون

فرع بأفق السماء سام

وأصله راسخ مكين (١)

وقوله : [بحر المجتث]

الله يعلم أنّي

أحبّ كسب المعالي

وإنّما أتوانى

عنها لسوء المآل

تحتاج للكدّ والبذ

ل واصطناع الرجال

دع كلّ من شاء يسمو

لها بكلّ احتيال

فحالهم في انعكاس

بها وحالي حالي

وتراجمهم واسعة ، وقد بسطت في «المسهب» و «المغرب» وغيرهما ، وقد قدّمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصّدر فليراجع.

__________________

(١) مكين : ثابت.

٣٣٣

٤٦ ـ ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث ، التميمي ، البخاري ، الحافظ ، نزيل مصر (١).

سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد ، وكانا يرويان معا عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند (٢) ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار (٣) ، وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن ، وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق ، وابن أبي كامل بأطرابلس الشام ، وأبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ بمصر ، وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي ، وأبي عبد الله الحاكم ، وأبي بكر بن فورك المتكلّم ، وأبي العباس بن الحاج الإشبيلي ، وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، صاحب الهيثم بن كليب ، وأبي الفضل العباس بن محمد الحدّاد التنيسي ، وأبي الفتح محمد بن إبراهيم بن الجحدري ، وأبي بكر محمد بن داود العسقلاني ، وهلال الحفار وصدقة بن محمد بن مروان الدمشقي ، ولقي بإفريقية العابد وليّ الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه ، وقال : لقد هبته يوم لقيته لا هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس ، ودخل الأندلس وبلاد المغرب ، وكتب بها عن شيوخها ، ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمّن دونه ، وله «رسالة الرحلة وأسبابها وقول لا إله إلّا الله وثوابها» ، فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته ، قال الحافظ ابن الأبار : ومنها نقلت اسمه وتعرّفت دخوله الأندلس ، وحدّث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني. وقال : هو من الرحالين في الآفاق ، أخبرني أنه يحدّث عن مئين من أهل الحديث. وأبو عبد الله الحميدي ، وأبو بكر الطّليطلي (٤) ، وأبو عبد الله بن منصور الحضرمي ، وأبو سعيد الرهاوي ، وأبو محمد جعفر بن محمد السراج ، وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي ، وأبو الحسن بن مشرف الأنماطي ، وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ، وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي ، وأبو بكر بن نعمة العابد ، وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف ، وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي ، وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي ، وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي ، وأبو محمد بن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه

__________________

(١) انظر ترجمته في التكملة رقم الترجمة ١٦٧١.

(٢) بيكند : بلدة بين بخارى وجيحون ، على مرحلة من بخارى ، لها ذكر في الفتوح واشتهرت بكثرة العلماء (انظر معجم البلدان).

(٣) أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار : انظر الأعلام ٦ / ٢٠٥.

(٤) في ب : «[جماهر بن عبد الرحمن] الطليطلي».

٣٣٤

ولم يعرف ذلك في حياته. وسمّاه أبو الوليد بن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمّة المحدّثين من تأليفه ، مع أبي عمر بن عبد البرّ ، وأبي محمد بن حزم ، وأبي بكر بن ثابت الخطيب ، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه ، وقال : سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان ، ثم سكن مصر ، وقدم دمشق قديما وحدّث بها ، وسمّى جماعة كثيرة من الرواة عنه ، وحكي أنه قال : لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها ، قال : وسئل عن مولده ، فقال : في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ، قال : وتوفي بالحوراء (١) سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه! انتهى.

قلت : والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث ، وهو ثقة عدل ليس له مجازفة ، والحقّ أبلج.

٤٧ ـ وممّن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، القرشي ، الزهري.

دخل الأندلس مع موسى بن نصير ، وكان على ميسرة معسكره ، ونزل باجة ثم بطليوس ، ومن نسله الزّهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديما ، هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر بن خير وغيره ، قال ابن بشكوال في مجموعه المسمّى ب «التنبيه والتعيين ، لمن دخل الأندلس من التابعين» : عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من التابعين ، وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن بن مغيث ، انتهى.

قال ابن الأبار : ولم يزد على هذا ، انتهى.

٤٨ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب.

من أهل مصر ، وسكن بغداد ، ويعرف بالطندتائي ، قرية بمصر نسب إليها ، روى عن أبي محمد الشارمساحي ، وتفقّه به ، وقدم الأندلس رسولا بزعمه من عند الخليفة العباسي ، فسكن مرسية ، ودرس بها ، وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملّكها النصارى صلحا ، وأسر بناحية صقلية ، قال ابن الأبار : ثم بلغني أنه تخلّص ولحق ببلده ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) الحوراء ، بفتح الحاء وسكون الواو : كورة من كور مصر القبلية في آخر حدودها من جهة الحجاز ، وهي على البحر في شرق القلزم. وقيل : الحوراء مرفأ سفن مصر إلى المدينة (انظر معجم البلدان لياقوت الحموي).

٣٣٥

٤٩ ـ ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب ، يكنى أبا القاسم.

قال ابن الأبار : لا أعرف موضعه من بلاد المشرق ، وكان أديبا قويّ العارضة ، مطبوع الشعر ، مديد النفس ، ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله : [بحر الطويل]

على الذلّ أو فاحلل عقال الركائب

وللضّيم أو فاحلل صدور الكتائب (١)

فإمّا حياة بعد إدراك منية

وإمّا ممات تحت عزّ القواضب (٢)

فما العيش في ظلّ الهوان بطيّب

وما الموت في سبل العلاء بعائب

٥٠ ـ ومنهم أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله ، الهاشمي ، الصدفي.

من أهل بغداد ، يعرف بالنّرسي ، دخل الأندلس ، وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السّجزي وأبي الفرج بن الجوزي (٣) وغيرهما ، وله تأليف سمّاه بالدّليل في الطريق ، من أقاويل أهل التحقيق» ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعّفه بعد ما سمع منه ، أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما ، وقال : ورد علينا غرناطة قريبا من سنة ثلاث عشرة وستمائة ، وتوفي ـ عفا الله تعالى عنه ـ! بإشبيلية قريبا من هذا التاريخ ، وقال فيه أبو القاسم بن فرقد : عبد اللطيف بن عبد الله (٤) الهاشمي البغدادي النرسي ، منسوب إلى قرية من قرى بغداد ، سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السّجزي ، وروى عن غيره ، وله تآليف. قال ابن الأبار : في التصوّف ، منها تأليف في إباحة السماع ، قرأت عليه أكثره ، وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة.

٥١ ـ ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد ، الخراساني ، الباخرزي ، الماليني.

يكنى أبا بكر ، سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني ، وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني ، وقدم الأندلس ، وحدّث بصحيفتي الأشجّ

__________________

(١) على الذل : أي أقم على الذلّ. وللضيم : أي وتحمل الضيم. واحلل عقال الركائب : أي سافر وانتقل.

(٢) المنية والأمنية : ما يتمناه الإنسان. والقواضب : السيوف القاطعة.

(٣) في ب ، ه «وأبي الفرج الجوزي».

(٤) الذي يترجم له المقري هنا هو عبد اللطيف بن أحمد الهاشمي البغدادي النرسي وليس عبد اللطيف بن عبد الله.

٣٣٦

وجعفر بن نسطور الرومي ، وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس ، وحدّث عنه أبو القاسم الملاحي ، وسمع منه بمالقه أبو جعفر بن عبد الجبار وأبو علي بن هاشم في صفر سنة ٦٠٠ ، ومولده في ربيع الأوّل سنة ٥٦٠ ، انتهى من تكملة ابن الأبّار.

قلت : ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما ، ويرحم الله تعالى السّلفي الحافظ إذ قال : [بحر الطويل]

حديث ابن نسطور وقيس ويعنم

وبعد أشجّ الغرب ثم خراش

ونسخة دينار ونسخة تربه

أبي هدبة القيسيّ شبه فراش

قال ابن عات : كان الحافظ السّلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارة إلى أن هذه الأشياء كالريح ، انتهى.

٥٢ ـ ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن إسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك ، البرمكي ، من أهل بغداد.

قدم الأندلس ، تاجرا سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي ، وتلمذ له ، وسمع منه «الموضح» و «المنجح» من تآليفه في الفقه ، وما تمّ له من أحكام القرآن ، هكذا نقله الحافظ ابن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن ، رحمه الله تعالى!

٥٣ ـ ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد ، أبو العلاء ، النيسابوري.

لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجّا ، وهو يحدّث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي ، قال أبو علي : وأراه دخل الأندلس ، ويغلب على ظنّي أني لقيته بسرقسطة ، ذكر ذلك القاضي عياض في «المعجم» من تآليفه ، والله تعالى أعلم.

٥٤ ـ ومنهم سهل بن علي بن عثمان ، التاجر ، النيسابوري ، يكنى أبا نصر.

سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم ، منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي ، وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني ، وحضر مجلسه ودرسه ، ولقي بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما ، وكان شافعيّ المذهب ، ذكره عياض وقال : حدّثني بحكايات وفوائد ، وأنشدني لأبي طاهر السّلفي ، وأجازني جميع رواياته وحدّثني أنّ وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة ، وقال أبو محمد العثماني : أنشدني أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال : أنشدنا أبو الفتح نصر بن الحسن ، أنشدنا أبو العباس العذري ، قال : أنشدنا أبو محمد بن حزم الحافظ لنفسه : [بحر الطويل]

٣٣٧

ولمّا رأيت الشّيب حلّ مفارقي (١)

نذيرا بترحال الشباب المفارق

رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري

إلى ما أتى ، هذا ابتداء الحقائق

دعي دعوات اللهو قد فات وقتها

كما قد أفات الليل نور المشارق (٢)

دعي منزل اللّذّات ينزل أهله

وجدّي لما ندعى إليه وسابقي

قال عياض : توفي سهل هذا غريقا في البحر متصرفا إلى بلده من المريّة ، رحمه الله تعالى (٣)!.

٥٥ ـ ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين ، المصري.

كان من أهل العلم ، عارفا بالأصول ، حافظا للحديث ، متيقّظا ، حسن الصورة والشّارة ، دخل الأندلس ، وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة.

قال ابن الأبار : وبه صرف أبو القاسم الخولاني ، وأقام بها سنة ، وحضر غزوة شنترين ، وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفا من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر ، ووفد أيضا معه أبو الوفاء المصري ، ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية ، وولّاه حينئذ قضاء تونس ، وكان قد ولي قضاء فاس ، وولي أيضا أبو الوفا صاحبه القضاء ، وتوفي وهو متولي (٤) قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

٥٦ ـ ومنهم يحيى بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن عبد الله ، القيسي ، الدمشقي.

أصله من دمشق ، وبها ولد ، ويعرف بالأصبهاني في مجلس أبي طاهر السّلفي لدخوله إيّاها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات ، ويكنى أبا زكريا ، وسمع بالمشرق أبا بكر بن ماشاذة (٥) السكري ، وأبا الرشيد بن خالد البيع ، وأبا الطاهر السلفي وغيرهم ، وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي ، وأجازه وحضّه على الوعظ والتذكير ، فامتثل ذلك ، ودخل الأندلس ، وتجوّل ببلادها ، واستوطن غرناطة منها ،

__________________

(١) المفارق ـ جمع مفرق ، وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر من الرأس ، والمفارق في آخر البيت اسم فاعل من الفعل فارق.

(٢) فات وقتها : مضى.

(٣) زاد في التكملة «سنة ٥٣١».

(٤) في ب : وهو يتولّى.

(٥) في أ«ما شاده» بالدال المهملة. وفي ب «ما شاذه».

٣٣٨

وكان فقيها على مذهب الشافعي ، عارفا بالأصول والتصوّف ، زاهدا ، ورعا ، كثير المعروف والصدقة ، يعظ الناس ، ويسمع الحديث ، ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار ، قال : وله كتاب «الروضة الأنيقة» من تأليفه ، حدّث عنه جماعة من الجلّة (١) ، منهم أبو جعفر بن عميرة الضبي (٢) ابنا حوط الله أبو محمد وأبو سليمان ، وأبو القاسم الملاحي ، وأبو العباس بن الجيار ، وأبو الربيع بن سالم ، وقال : أنشدني عند توديعي إيّاه بغرناطة قال : سمعت بعض المذكورين ينشد : [بحر السريع]

يا زائرا زار وما زارا

كأنه مقتبس نارا (٣)

مرّ بباب الدار مستعجلا

ما ضرّه لو دخل الدارا

نفسي فداء لك من زائر

ما زار حتى قيل قد سارا

وسمع منه أبو جعفر بن الدلال كتاب «المعالم» للخطّابي في شرح «سنن أبي داود» بقراءة جميعه عليه.

ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوّال سنة ثمان وستمائة ، قال ابن الأبار : وفي هذا اليوم بعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله بن نوح ببلنسية ، رحمهما الله تعالى!.

٥٧ ـ ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي ، القرشي.

من ذرّيّة عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين ، رضي الله تعالى عنها!.

رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث ، فحلّ يومئذ من الحكم المستنصر محلّ الرحب والسعة ، ولمّا ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية ، وأوطنها دارا ، واتّخذها قرارا ، وبها لقيه أبو عمر بن عبدالبر علّامة الأندلس فدرس عليه ، واقتبس ممّا لديه ، وقد ذكره في تاريخ شيوخه ، ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم (٤) منهم أبو الحسين سالم بن محمد بن سالم ، وهو من رجال «الذخيرة» وله نثر ، كما تفتّح الزّهر ، وتدفّق البحر ، ونظم كما اتّسق الدّرّ ، وسفرت عن محاسنها الأنجم الغرّ ، فمن نظمه قوله : [بحر الطويل]

__________________

(١) الجلة : الأجلاء ، والعظماء.

(٢) في أ : «حميرة».

(٣) كأنه مقتبس نارا : كناية عن السرعة.

(٤) نجم : لمع وبرز ، مأخوذ من ظهور النجم.

٣٣٩

خليليّ ، هل ليلى ونجد كعهدنا

فيا حبّذا ليلى ويا حبّذا نجد

عسى الدّهر أن يقضي لنا بالتفاتة

فيا ربّ عهد قد يجدّده بعد

وله أثناء رسالة قوس : [بحر البسيط]

قوس العلا وضعت في كفّ باريها

وأسهم الخطب عادت نحو راميها

وإنما الشمس لاحت في مطالعها

بلى وأجرى جياد الخيل مجريها (١)

ونشأ هذا النجم الثاقب ، والصّيّب الساكب (٢) ، وقد أخذ من العلوم في غير ما فنّ ، وحقّق فيه كلّ ما ظنّ ، وذكره في «المسهب» و «سمط الجمان» وفضله أشهر (٣) ، رحمه الله تعالى!.

٥٨ ـ ومنهم أبو علي القالي ، صاحب الأمالي والنوادر.

وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن ، فأمر ابنه الحكم ـ وكان يتصرّف عن أمر أبيه كالوزير ـ عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة ، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة لأبي علي ، ففعل ، وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل ، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم ، ويتناشدون الأشعار ، إلى أن تحاوروا يوما ، وهم سائرون ، أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب : [بحر البسيط]

ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة

أعرافهنّ لأيدينا مناديل (٤)

وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي ، فأنشد الكلمة في البيت «أعرافها لأيدينا مناديل» فأنكرها ابن رفاعة الألبيري ، وكان من أهل الأدب والمعرفة ، وفي خلقه حرج وزعارة ، فاستعاد أبا علي البيت متثبّتا مرتين في كلتيهما أنشده «أعرافها» فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفا وقال : مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشّم الرحلة لتعظيمه ، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه؟! والله لا تبعته خطوة ، وانصرف عن الجماعة ، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل ، فلم يجد فيه حيلة ، وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة

__________________

(١) في ب قبل البيت الثاني كلمة «ومنها» ، أي البيتان غير متتاليين.

(٢) الصيب الساكب : المطر الغرير ، وفيها كناية.

(٣) في ب : «وفضله شهير».

(٤) انظر المفضليات : المفضلة رقم ٢٦ ، والجرد الخيول القصيرة الشعر ، وهي صفة في الخيول الجياد. ومسومة : معلمة ، وتعلم الفرس بعلامة لكونها من أفضل الخيول. والأعراف : جمع عرف ، وهو شعر عنق الفرس.

٣٤٠