نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

سيوفنا يوم الحرّة ، ثم طالبتنا بتلك التّرة (١) فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضّنك (٢) حتى أمتنا جوعا ، فقتلوه وصلبوه كما تقدّم ، وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا ، وحشدا لطلب الثأر ، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر ، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند ، وكان في أصحاب بلج ، فلمّا صنع بابن عمّه عبدالملك ما صنع فارقه ، فانحاز فيمن يطلب ثأره ، وانضمّ إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة ، وكان فارس الأندلس في وقته ، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون ، وبلج قد استعدّ لهم في مقدار اثني عشر ألفا سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين ، فاقتتلوا ، وصبر أهل الشام صبرا لم يصبر مثله أحد قط ، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي : أروني بلجا ، فو الله لأقتلنّه أو لأموتنّ دونه ، فأشاروا إليه نحوه ، فحمل بأهل الثغر حملة انفرج لها الشاميون ، والراية في يده ، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك بأيام قلائل. ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمة قبيحة ، واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون ، فكان عسكرا منصورا مقتولا أميره ، وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة ، وكانت مدّته أحد عشر شهرا ، وسريره قرطبة ، والعرب الشاميون الداخلون معه الأندلس (٣) يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين ، والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين.

ولمّا هلك بلج قدّم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي ، وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك ، فسار فيهم بأحسن سيرة ، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر همّوا بعد الوقعة لطلب الثأر ، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة ، وهم لا يشكّون في الظّفر ، إلى أن حضر عيد تشاغلوا به ، فأبصر ثعلبة منهم غرّة (٤) وانتشارا وأشرا (٥) بكثرة العدد والاستيلاء ، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون ، فهزمهم هزيمة قبيحة ، وأفشى فيهم القتل ، وأسر منهم ألف رجل ، وسبى ذرّيّتهم وعيالهم ، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون ، حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة.

__________________

(١) الترة : الثأر.

(٢) الضنك : الضيق.

(٣) في ب : الداخلون معه إلى الأندلس.

(٤) غرّة : غفلة.

(٥) الأشر : البطر وكفران النعمة.

٣٠١

وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى ، فإذا بهم قد طلع عليهم لواء فيه موكب ، فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل واليا على الأندلس ، وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. وذكر ابن حيان أنه قدم واليا من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية ، والخليفة حينئذ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة ، بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة ، قال : وكان مع فروسيته شاعرا محسنا ، وكان في أوّل ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس ، إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية ، فهاج الفتنة العمياء ، وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطّار بلغ به التعصّب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج (١) حجّة من ابن عم أبي الخطار ، فمال أبو الخطار مع ابن عمّه ، فأقبل الكناني إلى الصّميل بن حاتم الكلابي أحد سادات مضر ، فشكا له حيف أبي الخطار (٢) ، وكان أبيّا للضيم ، حاميا للعشيرة ، فدخل على أبي الخطار ، وأمضّ عتابه (٣) ، فنجهه (٤) أبو الخطار ، وأغلظ له ، فردّ الصميل عليه ، فأمر به أبو الخطار ، فأقيم ودعّ قفاه (٥) حتى مالت عمامته ، فلمّا خرج قال له بعض من على الباب : أبا جوشن ، ما بال عمامتك مائلة؟ فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها. وأقبل إلى داره ، فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين ، فباتوا عنده ، فلمّا أظلم الليل قال : ما رأيكم فيما حدث عليّ فإنه منوط بكم؟ فقالوا : أخبرنا بما تريد ، فإنّ رأينا تبع رأيك ، فقال : أريد والله إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ما خيّلت ، وأنا خارج لذلك عن قرطبة ، فإنه ما يمكنني ما أريد إلّا بالخروج ، فإلى أين ترون أقصد؟ فقالوا : اذهب حيث شئت ، ولا تأت أبا عطاء القيسي ، فإنه لا يواليك على أمر ينفعك ، وكان أبو عطاء هذا سيّدا مطاعا يسكن بأستجة ، وكان مشاحنا للصّميل ، مساميا له في القدر ، فسكت عند ذكره أبو بكر بن الطفيل العبدي ، وكان من أشرافهم ، إلّا أنه كان حدث (٦) السنّ ، فقال له الصميل : ألا تتكلم؟ قال : أتكلّم بواحدة ما عندي غيرها ، قال : وما هي؟ قال : إن عدوت (٧) إتيان أبي عطاء وشتتّ أمرك به لم يتمّ أمرنا وهلكنا ، وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء ممّا سلف بينكما ، وحركته الحمية لك ، فأجابك إلى ما تريد ، فقال له الصميل : أصبت الرأي ، وخرج من ليلته ، وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدّره العبدي ، وعمد إلى ثوابة بن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم ، وكان ساكنا بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار ،

__________________

(١) أبلج حجة : أظهر وأبين وأقوى.

(٢) الحيف : الظلم ، وانتقاص الحق.

(٣) أمضّ عتابه : اشتد فيه وآلم.

(٤) نجهه : رده ردا قبيحا.

(٥) دعّ قفاه : ضربه.

(٦) في ب : حديث السن.

(٧) عدوت : جاوزت.

٣٠٢

فأجابهما في القيام والتقدّم على المضرية ، فاجتمعوا في شذونة (١) ، وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكّة وحصل أسيرا في أيديهم ، فأرادوا قتله ، ثم أرجئوه ، وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة ، وذلك في رجب سنة ١٢٧ بعد ولاية أبي الخطار بسنتين. ولمّا سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي ، فأقبل إلى قرطبة ليلا في ثلاثين فارسا معهم طائفة من الرّجّالة ، فهجموا على الحبس وأخرجوه منه ، ومضوا به إلى غرب الأندلس ، فعاد في طلب سلطانه ، ودبّ في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة ، فخرج إليه ثوابة ومعه الصّميل ، فقام رجل من المضرية ليلا فصاح بأعلى صوته : يا معشر اليمن ، ما لكم تتعرّضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار؟ أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا ، لكنّنا مننّا وعفونا وجعلنا الأمير منكم ، أفلا تفكرون في أمركم ، فلو أن الأمير من غيركم عذرتم ، ولا والله لا نقول هذا رهبة منكم ولا خوفا لحربكم ، ولكن تحرّجا من الدماء ورغبة في عاقبة (٢) العامّة ، فتسامع الناس به ، وقالوا : صدق ، فتداعوا للرحيل ليلا ، فما أصبحوا إلّا على أميال. قال الرازي : ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة ١٢٥ ، وفي كتاب أبي الوليد بن الفرضي : كان أبو الخطار أعرابيّا عصبيّا ، أفرط في التعصّب لليمانيين ، وتحامل على مضر ، وأسخط قيسا ، فثار به زعيمهم الصّميل ، فخلعه ، ونصب مكانه ثوابة ، وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة ، وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر ، وذلك سنة ١٢٨ ، وآل أمره إلى أن قتله الصّميل.

وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي ؛ قال ابن بشكوال : لمّا اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب ، صاحب القيروان ، فكتب إليه بعهد الأندلس ، وذلك سلخ رجب سنة ١٢٧ ، فضبط البلد ، وقام بأمره كلّه الصّميل واجتمع عليه أهل الأندلس ، وأقام واليا سنة أو نحوها ، ثم هلك ، وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين.

ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ، وجدّه عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة ، ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة. وذكر الرازي أنّ مولده بالقيروان ، ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم ، ثم عاد إلى إفريقية ، وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضبا له ، فهوي الأندلس (٣) ، واستوطنها فساد بها. قال الرازي : كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع

__________________

(١) كذا في أ ، ب ، والروض.

(٢) في ب : عافية العامة.

(٣) هوي الأندلس : أحبها.

٣٠٣

وخمسين سنة ، وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة ، وقد مكثوا بغير وال أربعة أشهر ، فاجتمعوا عليه بإشارة الصّميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان ، فرفعوا الحرب ، ومالوا إلى الطاعة ، فدانت (١) له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر ، وقال ابن حيان : قدّمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة ١٢٩ ، واستبدّ بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس ، وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني : [بحر الطويل]

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف (٢)

قال ابن حيان : لمّا سمع أبو الخطار بتقديمه حرّك يمانيته ، فأجابوا دعوته ، فأدّى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال : إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حرب أصدق منها جلادا ولا أصبر رجالا ، طال صبر بعضهم على بعض ، إلى أن فني السلاح ، وتجاذبوا بالشعور ، وتلاطموا بالأيدي ، وكلّ بعضهم (٣) عن بعض ، وثابت للصميل غرّة (٤) في اليمانية في بعض الأيام ، فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة ، فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من أنجادهم (٥) بما حضرهم من السكاكين والعصيّ ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلّا قليلا ، فرماهم على اليمانية وهم على غفلة ، وما فيهم من يبسط يد القتال (٦) ، ولا ينهض لدفاع ، فانهزمت اليمانية ووضعت المضرية السيف فيهم ، فأبادوا منهم خلقا ، واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى ، فقبض عليه وجيء به إلى الصميل ، فضرب عنقه ، وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل ، وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة ، حتى جاءت الدولة المروانية.

وذكر ابن حيان أنّ القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصّميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي ، وجدّه شمر هو قاتل الحسين ، رضي الله تعالى عنه! وكان شمر قد فرّ من المختار بولده من الكوفة إلى الشام ، فلمّا خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصّميل فيمن خرج معه ، ودخل الأندلس في طالعة بلج ، وكان شجاعا جوادا جسورا على قلب الدول ،

__________________

(١) دانت : حضعت وأطاعت.

(٢) السوقة : الرعية من الناس ، ونتنصّف : نطلب الإنصاف. وفي ب : نتنصّف بالبناء المجهول.

(٣) كلّ : عجز وضعف.

(٤) الغرة : الغفلة.

(٥) الأنجاد : جمع نجد ، وهو الشجاع.

(٦) في ب : يبسط يدا لقتال ..

٣٠٤

فبلغ ما بلغ ، وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقا.

وذكر ابن حيان أنه كان ممّن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس ، ووالي ثغر أربونة ، وكان ذا بأس شديد ووجاهة عظيمة ، فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه وأقبلوا برأسه إليه.

ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمّة وغيرهم ، فملك إشبيلية ، وكثر جمعه ، إلى أن خرج له يوسف فقتله ، وثار عليه بالجزيرة الخضراء عامر العبدري ، فخرج له ، وأنزله على أمان في سكنى قرطبة ، ثم ضرب عنقه بعد ذلك.

وقيل : إنّ أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله ، وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله ، ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه ، فتمّ له ما أراده ، والله تعالى أعلم.

٣٢ ـ ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان ، المعروف بالداخل.

وذلك أنه لمّا أصاب دولتهم ما أصاب ، واستولى بنو العباس على ما كان بأيديهم ، واستقرّ قدمهم في الخلافة ، فرّ عبد الرحمن إلى الأندلس ، فنال بها ملكا أورثه عقبه حقبة (١) من الدهر.

قال ابن حيان في «المقتبس» : إنه لمّا وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم ، فرّ عبد الرحمن ، ولم يزل في فراره منتقلا بأهله وولده إلى أن حلّ بقرية على الفرات ذات شجر وغياض (٢) ، يريد المغرب ، لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة ، فممّا حكي عنه أنه قال : إني لجالس يوما في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمد كان بي ، وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدّامي ، وهو يومئذ ابن أربع سنين أو نحوها ، إذ دخل الصبيّ من باب البيت فازعا باكيا فأهوى إلى حجري ، فجعلت أدفعه لما كان بي ويأبى إلّا التعلق ، وهو دهش يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع ، فخرجت لأنظر ، فإذا بالرّوع (٣) قد نزل بالقرية ، ونظرت فإذا بالرايات

__________________

(١) عقبه : أبناؤه ، وأحفاده ، والحقبة : المدة من الدهر لا وقت لها. وقيل : الحقبة السنة.

(٢) الغياض : جمع غيضة ، وهي مجتمع الشجر في مغيض الماء.

(٣) الروع : الفزع ، الخوف.

٣٠٥

السود (١) عليها منحطة ، وأخ لي حدث (٢) السنّ كان معي يشتدّ (٣) هاربا ويقول لي : النجاء يا أخي ، فهذه رايات المسوّدة ، فضربت بيدي على دنانير تناولتها ، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي ، وأعلمت أخواتي بمتوجّهي (٤) ومكان مقصدي ، وأمرتهنّ أن يلحقنني ومولاي بدر معهنّ ، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية ، فما كان إلّا ساعة حتى أقبلت الخيل ، فأحاطت بالدار ، فلم تجد أثرا ، ومضيت ، ولحقني بدر ، فأتيت رجلا من معارفي بشطّ الفرات ، فأمرته أن يبتاع لي دوابّ وما يصلح لسفري ، فدلّ عليّ عبد سوء له العامل ، فما راعنا إلّا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب ، فسبقناها إلى الفرات ، فرمينا فيه بأنفسنا ، والخيل تنادينا من الشط : ارجعا لا بأس عليكما ، فسبحت حاثّا لنفسي وكنت أحسن السبح ، وسبح الغلام أخي ، فلمّا قطعنا نصف الفرات قصّر أخي ودهش ، فالتفتّ إليه لأقوّي من قلبه ، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه ، فناديته : تقتل يا أخي ، إليّ ، إليّ ، فلم يسمعني ، وإذا هو قد اغتر بأمانهم ، وخشي الغرق ، فاستعجل الانقلاب نحوهم ، وقطعت أنا الفرات ، وبعضهم قد همّ بالتجرّد للسباحة في أثري ، فاستكفّه أصحابه عن ذلك ، فتركوني ، ثم قدّموا الصبيّ أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فاحتملت فيه ثكلا ملأني مخافة ، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساع على قدميّ ، فلجأت إلى غيضة آشبة (٥) ، فتواريت فيها حتى انقطع الطلب ، ثم خرجت أؤمّ المغرب حتى وصلت إلى إفريقية.

قال ابن حيان : وسار حتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أمّ الأصبغ مولاه بدرا ، ومولاه سالما ، ومعهما دنانير للنفقة ، وقطعة من جوهر ، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فلّ (٦) بني أمية ، وكان عند واليها عبد الرحمن بن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة بن عبد الملك (٧) ، وكان يتكهّن له ويخبره بتغلّب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم ، واسمه عبد الرحمن ، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه ، فاتّخذ

__________________

(١) الرايات السود : هي رايات الثورة العباسية ، بينما كانت رايات الأمويين بيضاء.

(٢) في ب : حديث السن.

(٣) يشتد : يسرع في جريه.

(٤) متوجّهي : المكان الذي أتوجه إليه ، وهي اسم مكان من الفعل توجه.

(٥) غيضة آشبة : كثيرة الشجر الملتف.

(٦) الفل : الجماعة المنهزمون.

(٧) قيل إن مسلمة بن عبد الملك كان يخبر بأمور من الحدثان والملاحم ، وكان يرى أن دولة بني أمية قد اقتربت نهايتها وسيذكر المقري في هذا الكتاب شيئا من هذا.

٣٠٦

الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية ، فلمّا جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي : ويحك! هذا هو ، وأنا قاتله ، فقال له اليهودي : إنك إن قتلته فما هو به ، وإن غلبت على تركه إنه لهو وثقل فلّ بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية ، فطرد كثيرا منهم مخافة ، وتجنّى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به ، فقتلهما ، وأخذ مالا كان مع إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان ، وغلبه على أخته فتزوّجها بكرهه ، وطلب عبد الرحمن فاستخفى ، انتهى.

وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفيا خمس سنين ، وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط ، وتقلّب في قبائل البربر إلى أن استقرّ على البحر عند قوم من زنانة ، وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها ، وكانت الموالي المروانية المدوّنة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة ، ولهم جمرة (١) ، وكانت رياستهم إلى شخصين : أبي عثمان عبيد الله بن عثمان ، وعبد الله بن خالد ، وهما من موالي عثمان ، رضي الله تعالى عنه! وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة ، فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكّره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله ، إذ كان الأمر لجدّه هشام فهو حقيق بوراثته ، ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم ، ويتلطّف في إدخاله إلى الأندلس ليبلي عذرا في الظهور عليها ، ويعده بإعلاء الدرجة ، ولطف المنزلة ، ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه ، ويرجو قيامه معه ، ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق (٢) على المضرية لما بين الحيين من التّرات (٣) ، فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه ، وبانت له فيه طماعية ، وكان عند ورود بدر قد تجهّز إلى ثغر سرقسطة لنصرة صاحبها الصّميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور : لو كنّا ذاكرنا الصّميل خبر بدر وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا ، وكانا على ثقة في أنه لا يظهر على سرّهما أحدا لمروءته وأنفته ، فقال له : إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقّع سقوط رياسته فلا يساعدنا ، قال أبو عثمان : فنمسح إذا على أمره ، ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جدّه

__________________

(١) الجمرة : كل قوم انضموا فصاروا يدا واحدة.

(٢) الحنق : شدة الغيظ.

(٣) الترات : جمع ترة وهي الثأر.

٣٠٧

هشام لدينا ليتعيّش بها ، لا يريد غير ذلك ، فاتّفقا على هذا ، فلمّا ودّعا الصّميل خلوا به في ذلك ، وقد ظهر لهما منه حقد على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة ، فقال لهما : أنا معكما فيما تحبّان ، فاكتبا إليه أن يعبر ، فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له ، ويزوّجه بابنته ، فإن فعل وإلّا ضربنا صلعته بأسيافنا ، وصرفنا الأمر عنه إليه ، فشكراه ، وقبّلا يده ، ثم ودّعاه ، وأقام بطليطلة وقد ولّاه يوسف عليها وعزله عن الثغر ، وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة ، وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم ، فطارحاهم أمر ابن معاوية ، ثم دسّا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك ، فدبّ أمره فيهم دبيب النار في الجمر (١) ، وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس.

وفي رواية أنّ الصّميل لان لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبّر ذلك لما انصرفا ، فتراجع فيه ، فردّهما ، وقال : إني روّيت في الأمر الذي أردته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله ، وهذا رجل نتحكّم عليه ، ونميل على جوانبه ، ولا يسعنا بدل منه ، وو الله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصّر حتى ألقاكما لئلّا أغركما من نفسي ، فإني أعلمكما أنّ أوّل سيف يسلّ عليه سيفي ، فبارك الله لكما في رأيكما ، فقالا له : ما لنا رأي إلّا رأيك ، ولا مذهب (٢) لنا عنك. ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان ، وانفصلا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره ، ويئسا من مضر وربيعة ، ورجعا إلى اليمانية ، وأخذا في تهييج (٣) أحقاد أهل اليمن على مضر ، فوجداهم قوما قد وغرت (٤) صدورهم عليهم ، يتمنّون شيئا يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم ، واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر ، وغيبة الصّميل ، فابتاعا مركبا ووجّها فيه أحد عشر رجلا منهم مع بدر الرسول ، وفيهم تمام بن علقمة وغيره ، وكان عبد الرحمن قد وجّه خاتمه إلى مواليه ، فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر ، فبثّوا من ذلك في الجهات ما دبّ به أمرهم ، ولمّا وجّه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشطّ مغيلة من بلاد البربر ، وهو يصلّي ، وكان قد اشتدّ قلقه وانتظاره لبدر رسوله ، فبشّره بدر بتمكّن الأمر ، وخرج إليه تمام مكثرا لتبشيره ، فقال له

__________________

(١) دب : مشى مشيا بطيئا متمهلا.

(٢) لا مذهب لنا عنك : أي لا نحيد عن رأيك ولا نبعد عنه ، ومذهب مصدر ميمي بمعنى ذهاب.

(٣) هيج حقده : أثاره.

(٤) وغر صدره عليه : أي امتلأ صدره حقدا عليه. والوغر : الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ.

٣٠٨

عبدالرحمن : ما اسمك؟ قال : تمام ، قال : وما كنيتك؟ قال : أبو غالب ، فقال : الله أكبر! الآن تمّ أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته ، وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك ، ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن. وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب ، فلمّا همّ بذلك أقبل البربر فتعرّضوا دونه ، ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صلات (١) على أقدارهم ، حتى لم يبق أحد حتى أرضاه ، فلمّا صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عات منهم لم يكن أخذ شيئا فتعلّق بحبل الهودج يعقل المركب ، فحوّل رجل اسمه شاكر يده بالسيف ، فقطع يد البربري ، وأعانتهم الريح على التوجّه بمركبهم ، حتى حلّوا بساحل إلبيرة في جهة المنكّب ، وذلك في ربيع الآخر سنة ١٣٨ ، فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد ، فنقلاه إلى قرية طرش (٢) منزل أبي عثمان ، فجاءه يوسف بن بخت ، وانثالت (٣) عليه الأموية ، وجاءه جدران بن عمرو المذحجي (٤) من أهل مالقة ، فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر ، وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره (٥) ، وانثال عليه الناس انثيالا ، فقوي أمره مع الساعات فضلا عن الأيام ، وأمدّه الله تعالى بقوّة عالية ، فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر. وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر ، وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة ، وعلى عامر العبدري الثائر معه ، فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصّميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقه رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق ، واجتماع الموالي المروانية إليه ، وتشوف (٦) الناس لأمره ، فانتشر الخبر في العسكر لوقته ، وشمت الناس بيوسف لقتله القرشيين عامرا وابنه ، وختره بعهدهما (٧) ، فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل ، وتنادوا بشعارهم ، وقوّضوا عن عسكره.

واتّفق أن جادت السماء بوابل (٨) لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف ، فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصّته وقوم الصّميل قيس وأتباعه ، فأقبل إلى

__________________

(١) صلات : جمع صلة ، وهي الأعطية.

(٢) قرية طرش : هي قرية على الساحل الشرقي وتعد اليوم في مديرية مالقة.

(٣) انثالت : وفدت بكثرة.

(٤) في ب : «جدار بن عمرو المذحجي» وفي ابن عذاري «جدار» وفي أخبار مجموعة «جداد».

(٥) استوزره : جعله وزيرا.

(٦) تشوّف : تطلع.

(٧) ختر بعهده : نقضه.

(٨) الوابل : المطر الشديد القوي الكثير.

٣٠٩

طليطلة وقال للصّميل : ما الرأي؟ فقال : بادره الساعة قبل أن يغلظ أمره ، فإنّي لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا ، فقال له يوسف : أتقول ذلك؟ ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا؟ وقد أنفضنا (١) من المال ، وأنضينا الظهر (٢) ، ونهكتنا (٣) المجاعة في سفرتنا هذه ، ولكن نسير إلى قرطبة ، فنستأنف الاستعداد له ، بعد أن ننظر في أمره ويتبيّن لنا خبره ، فلعلّه دون ما كتب إلينا. فقال الصميل : الرأي ما أشرت به عليك ، وليس غيره ، وسوف تتبيّن غلطك فيما تنكبه ، ومضوا إلى قرطبة. وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية ، وتلقّاه رئيس عربها أبو الصباح بن يحيى اليحصبي ، واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة ، فلمّا نزلوا بطشانة قالوا : كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه؟ فجاؤوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه ، فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيّرا فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين ، فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة ، كما سيأتي ، وحكي أنّ فرقدا العالم صاحب الحدثان مرّ بذلك الموضع ، فنظر إلى الزيتونتين ، فقال : سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلّا كسره ، فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده ، ولمّا أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف ، وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفا ، ولم يكن عيش عامّة الناس بالعسكر ما عدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلّا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم ، وكان الزمان زمان ربيع ، فسمّي ذلك العام عام الخلف ، وكان نهر قرطبة حائلا ، فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على برّ إشبيلية والنهر بينهما ، فلمّا رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذيا له ، فتسايرا والنهر حاجز بينهما ، إلى أن حلّ يوسف بصحراء الصارة غربي قرطبة ، وعبد الرحمن في مقابلته ، وتراسلا في الصلح ، وقد أمر يوسف بذبح الجزر (٤) ، وتقدم بعمل الأطعمة ، وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعدّ للحرب عدّتها ، واستكمل أهبتها ، وسهر الليل كلّه على نظام أمره ، كما سنذكره ، ثم انهزم أهل قرطبة ، وظفر عبد الرحمن الداخل ، ونصر نصرا لا كفاء له (٥) ، وانهزم الصّميل ، وفرّ إلى شوزر من كورة جيّان ، وفرّ يوسف إلى جهة ماردة.

وذكر أن أبا الصّبّاح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف : يا معشر يمن ، هل لكم

__________________

(١) أنفضنا من المال : أي لم يبق معنا منه شيء.

(٢) أنضينا الظهر : أي أتعبنا الدواب التي تحملنا وأنهكناها.

(٣) نهكتنا الجماعة : أجهدتنا وأضنتنا.

(٤) الجزر : جمع جزور وهو البعير ، أو هو الخاص بالجزر فقط ، والجزر الذبح.

(٥) لا كفاء له : لا شبيه له ، لا نظير له.

٣١٠

إلى فتحين في يوم؟ قد فرغنا من يوسف وصميل ، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية ، فيصير الأمر لنا ، نقدم رجلا منّا ، ونحل عنه (١) المضرية ، فلم يجبه أحد لذلك ، وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرّها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام ، فقتله.

ولمّا انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بظاهر قرطبة ثلاثة أيام ، حتى أخرج عيال يوسف من القصر ، وعفّ ، وأحسن السيرة ، ولمّا حصل بدار الإمارة ، وحلّ محلّ يوسف ، لم يستقرّ به قرار من إفلات يوسف والصّميل ، فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان ، واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد ، واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية ، ونهض في طلب يوسف ، فوقع يوسف على خبره ، فخالفه إلى قرطبة ، ودخل القصر ، وتحصّن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان ، ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية ، وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصّميل في صفر سنة ١٣٩ ، وشارطه على أن يخلّي بينه وبين أمواله حيثما كانت ، وأن يسكن بلاط الحر منزلة بشرقي قرطبة ـ على أن يختلف كلّ يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه ، وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف ، زيادة على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة ، ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة.

وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبدالرحمن نكث (٢) سنة ١٤١ ، فهرب من قرطبة ، وسعى بالفساد في الأرض ، وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ، ودسّ له قوم قاموا عليه في أملاكه ، زعموا أنه غصبهم إياها ، فدفع معهم إلى الحكام (٣) ، فأعنتوه ، وحمل عنه في التألم بذلك كلام رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه ، فاشتدّ توحّشه ، فخرج إلى جهة ماردة ، واجتمع إليه عشرون ألفا من أهل الشتات ، فغلظ أمره ، وحدّثته نفسه بلقاء ابن معاوية ، فخرج نحوه من ماردة ، وخرج ابن معاوية من قرطبة ، فبينما ابن معاوية في حصن المدوّر مستعدّا ، إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر بن مروان صاحب إشبيلية ، فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنها يوسف بعد بلاء عظيم منهزما ، واستحرّ القتل (٤) في أصحابه ، فهلك منهم خلق كثير ، وسار يوسف لناحية طليطلة ، فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري ، فلمّا عرفه قال لمن معه : هذا الفهري يفرّ ، قد

__________________

(١) في ب : «ونحل عنه هذه المضرية».

(٢) نكث : نكث العهد ، نقضه.

(٣) في المقتطفات : «إلى أحكام الحكام».

(٤) استحر القتل فيهم : كثر واشتد.

٣١١

ضاقت عليه الأرض ، وقتله الراحة له ، والراحة منه. فقتله ، واحتزّ رأسه ، وقدم به إلى عبد الرحمن ، فلمّا قرب وأوذن (١) عبد الرحمن به أمره أن يتوقّف به دون جسر قرطبة ، وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده ، وضمّ إلى رأسه رأسه ، ووضعا على قناتين مشهّرين إلى باب القصر. وكان عبد الرحمن لمّا فرّ يوسف قد سجن وزيره الصّميل لأنه قال له : أين توجه؟ فقال : لا أعلم ، فقال : ما كان ليخرج حتى يعلمك ، ومع ذلك فإنّ ولدك معه ، وأكّد عليه في أن يحضره ، فقال : لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه ، فاصنع ما شئت ، فحينئذ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمدا المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن ، فتهيّأ لهما الهرب من نقب ، فأمّا أبو الأسود فنجا سالما ، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه (٢) ، وأمّا عبدالرحمن فأثقله اللحم فانبهر (٣) ، فردّ إلى الحبس ، حتى قتل كما تقدّم ، وأنف الصميل من الهرب ، فأقام بمكانه ، فلمّا قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصّميل من خنقه ، فأصبح ميتا ، فدخل عليه مشيخة المضرية في السجن ، فوجدوه ميتا ، وبين يديه كأس ونقل (٤) ، كأنه بغت على شرابه ، فقالوا : والله إنّا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها.

وممّا ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بأحد دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح بن يحيى (٥) ، وكان قد ولّاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به.

ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي ، إذ ثار بباجة ، وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس ، فدخل في ناس قليلين ، فأرسى بناحية باجة ، ودعا أهلها ومن حولهم ، فاستجاب له خلق كثير ، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه ، وجيء به وبأعلام أصحابه ، فقطع يديه ورجليه ، ثم ضرب عنقه وأعناقهم ، وأمر فقرّطت الصّكاك (٦) في آذانهم بأسمائهم ، وأودعت جوالقا محصنا ، ومعها اللواء الأسود ، وأنفذ بالجوالق تاجرا من ثقاته ، وأمره أن يضعه بمكّة أيام الموسم ، ففعل ، ووافق أبا جعفر المنصور قد حجّ ، فوضعه على باب سرادقه ، فلمّا كشفه ونظر إليه سقط في يده ، واستدعى عبد الرحمن

__________________

(١) أوذن به : أعلم به ، أخبر به.

(٢) مات حتف أنفه : أي مات دون معركة ولا قتال.

(٣) انبهر : انقطع نفسه من الإعياء.

(٤) النقل ما يأكله الشارب مع الشراب من بزور وفواكه وغيرها.

(٥) في ب : أي الصباح ويحيى.

(٦) قرطت الصكاك في آذانهم : أي كتب اسم كل واحد منهم في ورقة وعلقت في أذنه وكأنها قرط.

٣١٢

وقال : عرضنا هذا البائس ـ يعني العلاء ـ للحتف (١) ، ما في هذا الشيطان مطمع ، فالحمد لله الذي صيّر هذا البحر بيننا وبينه.

ولمّا أوقع عبد الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم ، استوحش من العرب قاطبة ، وعلم أنهم على دغل (٢) وحقد ، فانحرف عنهم إلى اتّخاذ المماليك ، فوضع يده في الابتياع ، فابتاع موالي الناس بكل ناحية ، واعتضد (٣) أيضا بالبرابر ، ووجّه عنهم إلى برّ العدوة فأحسن لمن وفد عليه إحسانا رغّب من خلفه في المتابعة. قال ابن حيان : واستكثر منهم ومن العبيد ، فاتّخذ أربعين ألف رجل ، صار بهم غالبا على أهل الأندلس من العرب ، فاستقامت مملكته وتوطّدت.

وقال ابن حيان : كان عبدالرحمن راجح الحلم ، فاسح العلم ، ثاقب الفهم ، كثير الحزم ، نافذ العزم ، بريئا من العجز ، سريع النهضة ، متّصل الحركة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة ، ولا يكل الأمور إلى غيره ، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه ، شجاعا ، مقداما ، بعيد الغور ، شديد الحدّة ، قليل الطمأنينة ، بليغّا ، مفوّها ، شاعرا ، محسنا ، سمحا ، سخيّا ، طلق اللسان ، وكان يلبس البياض ويعتمّ به ويؤثره ، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه ، وكان يحضر الجنائز ، ويصلّي عليها ، ويصلّي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد ، ويخطب على المنبر ، ويعود المرضى ، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم ، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدّى له في منصرفه عنها رجل متظلّم عامي وقاح ذو عارضة فقال له : أصلح الله الأمير! إنّ قاضيك ظلمني ، وأنا أستجيرك من الظلم ، فقال له : تنصف إن صدقت ، فمدّ الرجل يده إلى عنانه وقال : أيها الأمير ، أسألك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك ، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه ، فرآهم قليلا ، ودعا بالقاضي ، وأمر بإنصافه ، فلمّا عاد إلى قصره كلّمه بعض رجاله ممّن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى ، فقال له : إنّ هذا الخروج الكثير ـ أبقى الله تعالى الأمير! ـ لا يجمل بالسلطان العزيز ، وإنّ عيون العامّة تخلق تجلته ، ولا تؤمن بوادرهم عليه ، فليس الناس كما عهدوا ، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل ، ووكّل بذلك ولده هشاما.

ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام : [بحر الخفيف]

__________________

(١) الحتف : الموت.

(٢) على دغل : على فساد سريرة وسوء طوية.

(٣) اعتضد : استعان.

٣١٣

أيها الراكب الميمّم أرضي

اقر منّي بعض السلام لبعضي (١)

إنّ جسمي كما تراه بأرض

وفؤادي ومالكيه بأرض

قدّر البين بيننا فافترقنا

وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الدهر بالفراق علينا

فعسى باجتماعنا سوف يقضي

وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه ، واستقلّ ما قابله به وذكّره بحقّه بهذه الأبيات : [بحر مخلع البسيط]

شتّان من قام ذا امتعاض

منتضي الشّفرتين نصلا (٢)

فجاب قفرا وشقّ بحرا

مساميا لجّة ومحلا

دبّر ملكا وشاد عزّا

ومنبرا للخطاب فصلا

وجنّد الجند حين أودى

ومصّر المصر حين أجلى

ثم دعا أهله إليه

حيث انتؤوا أن هلمّ أهلا

فجاء هذا طريد جوع

شديد روع يخاف قتلا (٣)

فنال أمنا ونال شبعا

ونال مالا ونال أهلا

ألم يكن حقّ ذا على ذا

أعظم من منعم ومولى

وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لمّا أذعن له يوسف صاحب الأندلس واستقرّ ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة ، فانثالوا عليه ، ووالى القعود (٤) لهم في قصره عدّة أيام في مجالس يكلّم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلام سرّهم وطيّب نفوسهم ، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم ، فانصرفوا عنه محبورين (٥) مغتبطين ، يتدارسون كلامه ، ويتهافتون بشكره ، ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجل من جند قنسرين يستجديه (٦) فقال له : يا ابن الخلائف (٧) الراشدين ، والسادة الأكرمين ، إليك فررت ، وبك

__________________

(١) يمّم : قصد.

(٢) امتعض من الشيء : غضب منه ، وانتضى السيف : استله من غمده. والشفرة : حد السيف.

(٣) الروع : الخوف والذعر.

(٤) وإلى القعود : تابعه وداوم عليه وكرره.

(٥) محبورين : مسرورين.

(٦) يستجديه : يطلب عطاءه.

(٧) الخلائف : جمع خليفة.

٣١٤

عذت ، من زمن ظلوم ، ودهر غشوم ، قلّل المال ، وكثر العيال ، وشعث الحال ، فصيّر إلى نداك المآل ، وأنت ولي الحمد والمجد ، والمرجوّ للرّفد ، فقال له عبد الرحمن مسرعا : قد سمعنا مقالتك ، وقضينا حاجتك ، وأمرنا بعونك على دهرك ، على كرهنا لسوء مقامك ، فلا تعوذنّ ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطّلبة ، وإذا ألمّ بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك ، كيما نستر عليك خلّتك (١) ، ونكفّ شمات العدوّ عنك ، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عزّ وجهه بإخلاف (٢) الدعاء وصدق النيّة ، وأمر له بجائزة حسنة ، وخرج الناس يتعجّبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه ، وكفّ فيما بعد ذوي الحاجات عن مقابلته بها شفاها في مجلسه.

قال ابن حيان : ووقّع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع : أما بعد ، فدعني من معاريض المعاذير ، والتعسّف عن جادة الطريق ، لتمدّنّ يدا إلى الطاعة ، والاعتصام بحبل الجماعة ، أو لأزوينّ بنانها عن رصف المعصية (٣) ، نكالا بما قدمت يداك ، وما الله بظلّام للعبيد.

وفي «المسهب» أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي ، الذي يرتدّ عنه أكثر بني مروان حسيرا.

وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يجب إهماله ، وذلك أنه لمّا سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنيّة ، فأوّل ما بدأ به أن قال : بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لمّا بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة : إنما تعبنا أوّلا لنستريح آخرا ، وما أرانا إلّا في أشدّ ممّا كنّا ، وأطال أمثال هذه الأقوال ، وأكثر الاستراحة في جانبه ، فهجره وأعرض عنه ، فزاد كلامه ، وكتب له رقعة منها : أما كان جزائي في قطع البحر ، وجوب القفر (٤) ، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر ، الذي أهانني في عيون أكفائي ، وأشمت بي أعدائي ، وأضعف أمري

__________________

(١) الخلّة ـ بفتح الخاء ـ الفقر والحاجة.

(٢) في ب : بإخلاص الدعاء.

(٣) لأزوينّ : زواه زيّا : ذهب به. والبنان : أطراف الأصابع ، وكذلك : الرياض الحالية بالزهر ، وكلا المعنيين يصح لوجود الكناية. ورصف المعصية : الرّصف : مجرى الصريح ، أو هو الماء المنحدر من الجبال على الصخر. والمراد بالمعنى العام : التهديد بالقوة.

(٤) جوب القفر : قطعه ، والقفر : الأرض الموحشة الخالية.

٣١٥

ونهيي عند من يلوذ بي ، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني (١) على الطمع والرجاء ، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. فلمّا وقف عبد الرحمن على رقعته اشتدّ غيظه عليه ، فوقّع عليها : «وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك ، وسوء خطابك ، ودناءة أدبك ، ولئيم معتقدك ، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتا (٢) أتيت بما يهدم كل متات مشيّد ممّا تمن به ، ممّا قد أضجر الأسماع تكراره ، وقدحت في النفوس إعادته ، ممّا استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك ، وزدنا في هجرك وإبعادك ، وهضنا جناح (٣) إدلالك ، فلعلّ ذلك يقمع منك (٤) ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى ، فنحن أولى بتأديبك من كل أحد ، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا ، وخيرك معدود في مناقبنا». فلمّا ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده ، وسلم للقضاء ، وعلم أنه لا ينفع فيه قول ، ووجّه عبد الرحمن من استأصل ماله ، وألزمه داره ، وهتك حرمته ، وقصّ جناح جاهه ، وصيّره أهون من قعيس على عمّته ، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه ، تارة يستلينه ، وتارة يذكره ، وتارة ينفث مصدورا بخطّ قلمه ما يلقيه عليه بلسانه ، غير مفكر فيما يؤول إليه ، إلى أن كتب له : قد طال هجري ، وتضاعف همّي وفكري ، وأشدّ ما عليّ كوني سليبا من مالي ، فعسى أن تأمر لي بإطلاق مالي وأتّحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ، ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت ، فوقّع له : إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته ، ولا سبيل إلى ردّ مالك ، فإنّ تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية (٥) وسعة ذات اليد والتخلّي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة ، فايأس من ذلك ، فإن اليأس مريح. فسكت لمّا وقف على هذه الإجابة مدّة إلى أن أتى عيد فاشتدّ به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس ، فكتب إليه في ذلك رقعة منها : «وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك ، ممّن عفوت عنه ، فتبنّك النعمة (٦) في ذراك ، واقتعد ذروة العزّ ، وأنا على ضدّ من هذا سليبا من النعمة ، مطّرحا حضيض الهوان ، أيأس ممّا يكون ، وأقرع السنّ على ما كان». فلمّا وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر ، وكتب له على ظهر رقعته : «لتعلم

__________________

(١) يحفدني : يخدمني ويخفف في العمل لي.

(٢) المتات : الصلة ، والتوسل بقرابة وغيرها.

(٣) هضنا جناح إدلالك : كسرناه.

(٤) يقمع منك : ينال منك نيلا عظيما ، ويسوءك ويهينك.

(٥) البلهنية : الرفاهية.

(٦) تبنك النعمة : تمكن منها ، وذرى المرء : جانبه.

٣١٦

أنك لم تزل بمقتك ، حتى ثقلت على العين طلعتك ، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك ، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك ، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلّا ما أقصرت ، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق معي الدنيا (١) ، ورأيتك تشكو لفلان وتتألّم من فلان ، وما تقوّلوه عليك ، وما لك عدوّ أكبر من لسانك ، فما طاح بك غيره ، فاقطعه قبل أن يقطعك».

ولمّا فتح الداخل سرقسطة ، وحصل في يده ثائرها الحسين الأنصاري ، وشدخت (٢) رؤوس وجوهها بالعمد ، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله ، أقبل خواصّه يهنّئونه ، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند ، فهنّأه بصوت عال ، فقال : والله لو لا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليّ فيه النعمة من هو فوقي فأوجب عليّ ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال ، من تكون حتى تقبل مهنّئا رافعا صوتك غير متلجلج ولا متهيّب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟ وإنّ جهلك ليحملك على العود لمثلها ، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة ، فقال : ولعلّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتّصال جهلي وذنوبي ، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة ، لا أعدمنيه الله تعالى ، فتهلّل وجه الأمير ، وقال : ليس هذا باعتذار جاهل ، ثم قال : نبّهونا على أنفسكم ، إذا لم تجدوا من ينبّهنا عليها ، ورفع مرتبته ، وزاد في عطائه.

ولمّا أنحى (٣) أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال : لا تستأصلوا شأفة أعداء (٤) ترجون صداقتهم ، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم ، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.

ولمّا اشتدّ الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري ، ورأى شدّة مقاساة أصحابه ، قال : هذا اليوم هو أسّ ما يبنى عليه ، إمّا ذلّ الدهر وإمّا عزّ الدهر ، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقيّة أعماركم فيما تشتهون.

ولمّا خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر ، فقال : إني محتاج لما يزيد

__________________

(١) في ب : إلى أن تضيق بك معي الدنيا.

(٢) شدخت الرءوس : قطعت وكسرت.

(٣) أنحى عليهم بالقتل : أكثر عليهم القتل ، وأنحى له السلاح : ضربه به.

(٤) استأصل شأفتهم : أبادهم وقضى عليهم.

٣١٧

في عقلي ، لا لما ينقصه ، فعرفوا بذلك قدره ، ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال : إن هذه من القلب والعين بمكان ، وإن أنا اشتغلت عنها بهمّتي فيما أطلبه ظلمتها ، وإن اشتغلت بها عمّا أطلبه ظلمت همتي ، ولا حاجة لي بها الآن ، وردّها على صاحبها.

ولمّا استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال : لولا أنا ما توصّل لهذا الملك ، ولكان منه أبعد من العيّوق (١) ، وأن آخر قال : سعده أعانه ، لا عقله وتدبيره ، فحركه ذلك إلى أن قال : [بحر الكامل]

لا يلف ممتنّ علينا قائل

لولاي ما ملك الأنام الداخل

سعدي وحزمي والمهنّد والقنا

ومقادر بلغت وحال حائل (٢)

إنّ الملوك مع الزمان كواكب

نجم يطالعنا ونجم آفل (٣)

والحزم كلّ الحزم أن لا يغفلوا

أيروم تدبير البريّة غافل؟

ويقول قوم سعده لا عقله

خير السعادة ما حماها العاقل

أبني أميّة قد جبرنا صدعكم

بالغرب رغما والسعود قبائل

ما دام من نسلي إمام قائم

فالملك فيكم ثابت متواصل

وحكى ابن حيان أن جماعة من القادمين عليه من قبل الشام حدّثوه يوما في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم ، وكلامه لعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس الساطي بهم ، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسوّدة من دعاة القوم وشيعتهم رادّا على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية ، وسلبهم والبراءة منهم ، فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والردّ عليه بتفضيله لأهل بيته والذبّ عنهم ، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصّه بريقه ، وعاجل الغمر بالحتف ، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام ، وكثر القوم في تعظيم ذلك ، فكأنّ الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوّهم ، والأنف من طاعتهم ، والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه ، وقام عن مجلسه ، فصاغ هذه الأبيات بديهة : [بحر مخلع البسيط]

__________________

(١) العيّوق : نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.

(٢) المهند : السيف. والقنا : الرماح ، مفردها قناة.

(٣) آفل : اسم فاعل من أفل : أي غاب.

٣١٨

شتّان من قام ذا امتعاض

فمرّ ما قال واضمحلا (١)

ومن غدا مصلتا لعزم

مجرّدا للعداة نصلا

فجاب قفرا وشقّ بحرا

ولم يكن في الأنام كلّا (٢)

فشاد ملكا وشاد عزّا

ومنبرا للخطاب فصلا

وجنّد الجند حين أودى

ومصّر المصر حين أجلى

ثم دعا أهله جميعا

حيث انتؤوا أن هلمّ أهلا (٣)

وله غير ذلك من الشعر ، وسيأتي بعضه ممّا يقارب هذه الطبقة.

وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدّم الذكر ، سعى في سلطانه شرقا وغربا وبرّا وبحرا ، فلمّا كمل له الأمر سلبه من كل نعمة ، وسجنه ، ثم أقصاه إلى أقصى الثغر ، حتى مات وحاله أسوأ حال ، والله تعالى أعلم بالسرائر ، فلعلّ له عذرا ويلومه من يسمع مبدأه ومآله (٤).

ورأس الجماعة الذين توجّه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان ، ولمّا توطّدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله ، فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره ، وينظر في شيء يحتاج به إليه ، فجعل ابن (٥) أخيه يثور عليه في حصن من حصون إلبيرة ، فوجّه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه ، ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل ، وزيّن له القيام عليه ، فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتمّ أمره ، فرب عنقه وأعناق الذين دبّروا معه ، وقيل له : إن أبا عثمان كان معه ، وهو الذي ضمن له تمام الأمر ، فقال : هو أبو سلمة (٦) هذه الدولة ، فلا يتحدّث الناس عنه بما تحدّثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة ، لكن سأعتبه عتبا أشدّ من القتل ،

__________________

(١) في ب : فشال ما قلّ واضمحلّا.

(٢) الكلّ ، بفتح الكاف : أراد هنا ضعيفا.

(٣) انتؤوا : ابتعدوا.

(٤) في ب : من يسمع مبداه ومآله.

(٥) في ب ، ه : «فجعل ابن أخته».

(٦) يشير إلى أبي سلمة الخلال الذي كان يلقب بوزير آل محمد ، وهو حفص بن سليمان الخلال مولى بني الحارث بن كعب وكان من الساعين في تدبير أمر دولة العباسيين هو وأبو مسلم الخراساني وقد تخلص منه أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين ويقال إن العباس دعاه ليلة للسمر عنده فلما انقضى السمر خلع عليه وأكرمه ، وخرج أبو سلمة فقتل في الطريق وكان مقتله بتدبير السفاح.

٣١٩

وجعل يوعده (١) ، ورجع له إلى ما كان عليه في الظاهر.

وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد ، وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل ، وقتل أبا الصباح ، فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته ، فمات منفردا عن السلطان.

وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمّام بن علقمة ، وهو الذي عبر البحر إليه وبشّره باستحكام أمره ، فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور ، وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدّم الذكر. قال ابن حيان : فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعزّ الناس عليهما ما أراهما أنّ أحدا لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته.

وإذا تتبّع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب.

وذكر أن أول حجّاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل ، ثم يوسف بن بخت الفارسي ، مولى عبد الملك بن مروان ، وله بقرطبة عقب نابه (٢) ، ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني ، ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني ، وأبوه مغيث فاتح قرطبة ، الذي تقدمت ترجمته ، ثم منصور الخصيّ ، وكان أول خصيّ استحجبه (٣) بنو مروان بالأندلس ، ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل.

ولم يكن للداخل من يطلق عليه سمة وزير (٤) ، لكنه عيّن أشياخا للمشاورة والمؤازرة ، أولهم أبو عثمان المتقدّم الذكر ، وعبد الله بن خالد السابق الذكر ، وأبو عبدة صاحب إشبيلية ، وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان بن الحكم ، وكان من سبي البرابر ، وقيل : إنه رومي ، وبنو شهيد الفضلاء من نسله ، وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية ، ولولده نباهة عظيمة في الوزارة وغيرها ، وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذمي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن ، وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة ، ولعقبه في الدولة نباهة (٥).

__________________

(١) يوعده : يتهدده.

(٢) له عقب نابه : أي أبناء ذوو مكانة وصيت ونباهة وارتفاع شأن.

(٣) استحجبه : جعله حاجبا.

(٤) سمة وزير : أي من يسمى بالوزير. وفي ب : «من ينطلق عليه سمة وزير ..».

(٥) النباهة : ارتفاع الشأن.

٣٢٠