نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠
١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

صلة الباب الخامس

رجع :

[١٦٧ ـ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد.]

١٦٧ ـ ومن الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد.

وكان صعب الخلق ، شديد الأنفة ، جرى بينه وبين أقاربه ما أوجب خروجه إلى أقصى المشرق ، وفي ذلك يقول ، وكتب به إليهم : [بحر الخفيف]

من لصبّ يرعى النجوم صبابه

ضيّع السير في الهموم شبابه

زدت بعدا فزدت فيه اقترابا

بودادي كذاك حكم القرابه

منزلي الآن سمرقند وبالقل

عة ربع وطئت طفلا ترابه

شدّ ما أبعد الفراق انتزاحي (١)

هكذا الليث (٢) ليس يدري اغترابه

لا ولا أرتجي الإياب (٣) لأمر

إن يكن يرتجي غريب إيابه

وكتب لهم من بخارى : [بحر الوافر]

إذا هبّت رياح الغرب طارت

إليها مهجتي نحو التلاقي

وأحسب من تركت (٤) به يلاقي

إذا هبت صباها ما ألاقي

فيا ليت التفرق كان عدلا

فحمل ما يطيق من اشتياقي

وليت العمر لم يبرح وصالا

ولم يحتم (٥) علينا بالفراق

إذا كان الشوق فوق كل صفة ، فكيف تعبّر عنه الشفة ، لكن العنوان دليل على بعض ما في الصحيفة ، والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة ، وما ظنكم بمشوق طريح ، في يد الأشواق طليح (٦) ، يقطع مسافات الآفاق يتلقب تقلب الأفياء ، ويتلون تلون الحرباء ،

__________________

(١) الانتزاح : البعد.

(٢) الليث : الأسد.

(٣) الإياب : العودة.

(٤) في ه : «وأحسب ما تركت بها».

(٥) يحتم : يقضي حتما ـ وفي ب : «يختم».

(٦) الطليح : المتعب ، المهزول ، الضعيف.

٣

حتى كأنه يخبر مساحات الأرض ، ذات الطول والعرض ، ويجوب أهوية الأقاليم السبع ، خارجا بما أدخله فيه اللجاج عن السمع (١) ، فكأنه خليفة الإسكندر ، لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر ، جزت إلى بر العدوة من الغرب الأقصى ، ثم تشوقت نفسي فطمحت (٢) إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصى (٣) ، ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق ، فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق ، واختطفت من عيني تلك الطلاوة ، وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة : [بحر الطويل]

فلله عين لم تر العين مثلها

ولا تلتقي إلا بجنّات رضوان

ثم نازعتني النفس التواقة (٤) إلى الديار المصرية ، فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشاهدة (٥) إلى أن أبصرت منار الإسكندرية ، فيا لك من استئناف عمر جديد ، بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد ، ثم صعدت إلى القاهرة قاعدة الديار المصرية ، لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية ، وعاينت القاهرة المعزية ، وما فيها من الهمم [العلية](٦) الملوكية ، غير أني أنكرت مبانيها الواهية (٧) ، على ما حوت من أولي الهمم العالية ، وكونها حاضرة العسكر الجرار ، وكرسيّ الملك العظيم المقدار ، وقلت : أصداف فيها جواهر ، وشوك محدق بأزاهر ، ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه ، وجزت بحر جدة وذقت تباريحه (٨) ، وقضيت الحج والزيارة ، وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمّارة ، فهنالك بعت الزيارة بالأوزار (٩) ، وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار ، إذ هي كما قال أحد من عاينها : [بحر البسيط]

أما دمشق فجنّات معجّلة

للطالبين بها الولدان والحور

فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان ، وما زين به خارجها من الأنهار والجنان ، وبالجملة فإنها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة ، وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة ، ولم أزل أسمع عن حلب ، أنها دار الكرم والأدب ، فأردت أن يحظى

__________________

(١) في ب ، ه : «عن الشرع».

(٢) في ب ، ه : فطمحت نفسي إلى مشاهدة الغرب الأوسط.

(٣) في ب : يحصر.

(٤) النفس التواقة : المشتاقة.

(٥) في ب ، ه : «إلا المشافهة».

(٦) ساقطة في ب.

(٧) الواهية : المتداعية.

(٨) التباريح : الآلام والمشاقّ.

(٩) الأوزار : جمع وزر ، وهو : الإثم والخطيئة.

٤

بصري بما حظي به سمعي ، ورحلت إليها وأقمت جابرا بالذاكرة والمطايبة صدعي ، ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس ، وفيها لطافة وفي مبانيها طلاوة ترتاح لها الأنفس ، ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد ، فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو أن البحر مداد (١) ، ثم تغلغلت إلى بلاد العجم (٢) بلدا بلدا ، غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمدا ، إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام ، ومجمع الأنام ، فألقيت بها عصا التسيار ، وعكفت على طلب العلم واصلا في اجتهاده سواد الليل وبياض النهار ، انتهى.

وكتب إليهم أيضا من هذه الرسالة : كتبت وقد حصلتني السعادة ، وحظ الأمل والإرادة ، بحضرة بخارى قبة الإسلام.

وأجابه أهله من الغرب بكلام من جملته : وإن كنت قد تحصنت بقبة الإسلام ، فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام (٣).

وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه : [بحر الطويل]

عتبتم على حثّي المطيّ وقلتم

تعجّلت فقدا قبل وقت حمام

إذا لم يكن حالي مهمّا لديكم

سواء عليكم رحلتي ومقامي

وقتل المذكور ببخارى ، حين دخلها التتر ، وهو عم علي بن سعيد الشهير.

وكان لعبد الرحمن المذكور أخ يسمى يحيى قد عانى الجندية ، فلما بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال : لا إله إلا الله! كان أبدا يسفّه رأيي في الجندية ، ويقول : لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيرا لك ، فها هو ربّ قلم قد قتل شر قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه ، وأنا ما زلت أغازي في عبّاد الصليب وأخلص ، فما يقدر أحد أن (٤) يحسن لنفسه عاقبة ، انتهى.

قال أبو الحسن علي بن سعيد : ثم إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه ، فذبحه على نزر (٥) من المال ، أفلت به ، فانظر إلى تقلب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط ، انتهى.

ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى ، وقد

__________________

(١) المداد : الحبر.

(٢) في ب ، ه : «في بلاد العجم».

(٣) الحمام : الموت.

(٤) «أن» ساقطة في ب.

(٥) النزر : القليل التافه.

٥

أهدى إليه فاختا مع زوجه (١) [بحر الطويل].

أيا سيد الأشراف لا زلت عاليا

معاليك تنبو (٢) الدهر عن كل ناعت

من الفضل إقبال على ما بعثته

لمغناك من شاد دعوه بفاخت

ألا حبذا من فاخت ساد جنسه

وأصبح مقرونا بست الفواخت

لئن فاتني منه الأنيس فكل ما

يحل إلى علياك ليس بفائت

١٦٨ ـ ومنهم الشيخ الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن عبد الله بن يوسف بن حمزة ، القرطبي ، الأنصاري ، المعروف بابن العابد.

نزيل رباط الصاحب الصفي بن شكر (٣) ، قال بعض المشارقة عنه : إنما سميت الخمر بالعجوز لأنها بنت ثمانين ، يعني عدد حدّها (٤) ، وأنشد له : [بحر المتقارب]

عذلنا فلانا على فعله

ولمناه في شربه للعجوز

فقال : دعوني من أجلها

أنال أنا وأخي والعجوز

[١٦٩ ـ محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ، الشاطبي]

١٦٩ ـ ومنهم الشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ، الشاطبي الأصل ، البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة ، ولقبه المشارقة برضي الدين.

وتوفي بالقاهرة في جمادى الأولى سنة ٦٨٤ ، رحمه الله تعالى!.

ومن نظمه لما حضر أجله ، وقد أمر خادمه أن ينظف له بيته ، وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان ، ففعل ذلك ، فلما دخل عليه وجده ميتا ، وقد كتب في رقعة : [بحر الكامل]

حان الرحيل فودّع الدار التي

ما كان ساكنها بها بمخلد

واضرع إلى الملك الجواد وقل له

عبد بباب الجود أصبح يجتدي (٥)

لم يرض غير الله معبودا ولا

دينا سوى دين النبي محمد

ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

__________________

(١) نوع من الحمام البري من ذوات الأطواق.

(٢) تنبو : تبعد.

(٣) هو صفي الدين عبد الله بن علي المعروف بابن شكر ، وزير الملك العادل بمصر.

(٤) حد شارب الخمر ثمانون جلدة. ولذلك قيل : الخمر بنت ثمانين ، وقيل عنها : العجوز.

(٥) يجتدي : يطلب الجدوى ، يسأل.

٦

أقول لنفسي حين قابلها الردى (١)

فرامت (٢) فرارا منه يسرى إلى يمنى

قري (٣) تحملي بعض الذي تكرهينه

فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى

أنشده [له](٤) تلميذه أبو حيّان إمام عصره في اللغة.

حدث عن ابن المنير وغيره ، واشتغل الناس عليه بالقاهرة ، وله تصانيف مفيدة ، وسمع من الحافظ أبي الربيع بن سالم ، وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات ، وأثنى عليه تلميذه أبو حيان ، رحم الله تعالى الجميع!.

ومن فوائده قوله : نقلت من خط أبي الوليد بن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر بن مفوّز قد أدركته بسنّي ولم آخذ عنه واجتمعت به أنشدني له أبو القاسم بن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب أبي محمد (٥) بن حزم ، والإشارة لابن حزم الظاهري : [بحر البسيط]

يا من تعاني أمورا لن يعانيها (٦)

خلّ التعاني وأعط القوس باريها

تروي الأحاديث عن كلّ مسامحة

وإنما لمعانيها معانيها

وقد سبق في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم ، قال ؛ وإنما قال هذا الشعر في ذكر رواية ادعيت على قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله» وصحح رواية من روى «أعبده» جمع عبد ، وعلّل رواية من روى «أعتده» بالتاء مثناة باثنتين من فوق جمع عتد ، وهو الفرس ، قال ابن خيرة : الإحاطة ممتنعة ، وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء المحدّثين ، فهو إنكار غير معروف ، والله تعالى أعلم.

ومن فوائده ما نقله تلميذه أبو حيان النحوي عنه ، قال : أنشدنا للمقري ونقلته من خطه : [بحر مجزوء الوافر]

إذا ما شئت معرفة

لما (٧) حار الورى فيه

فخذ خمسا لأربعة

ودع للثوب رافيه (٨)

__________________

(١) الردى : الموت.

(٢) رامت : أرادت.

(٣) قري : اثبتي ـ استقرّي.

(٤) ساقطة في ب.

(٥) في ه : «أصحاب ابن حزم».

(٦) في ب : «لن تعانيها».

(٧) في ب : «بما».

(٨) الرافي : الذي يصلح الثياب.

٧

وهو لغز في ورد.

وقال : وأنشدنا لبعضهم : [بحر الخفيف]

لا رعى الله عزمة ضمنت لي

سلوة الصبر والتصبر عنه

ما وفت غير ساعة ثم عادت

مثل قلبي تقول : لا بدّ منه

قال : وأنشدنا لغيره : [بحر الطويل]

وكان غريب الحسن قبل التحائه

فلما التحى صار الغريب المصنّفا (١)

وأنشدنا لغيره : [بحر مجزوء الرمل]

طب على الوحدة نفسا

وارض بالوحشة أنسا

ما عليها من يساوي

حين يستخبر فلسا

وقرأ الرضي ببلده على ابن صاحب الصّلات آخر أصحاب ابن هذيل ، وسمع منه كتاب التلخيص للواني ، وسمع بمصر من ابن المقير ، وجماعة ، وروى عنه الحافظ المزي (٢) واليونيني والظاهري وآخرون ، وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها ، وكان يقول : أحرف (٣) اللغة على قسمين قسم أعرف معناه وشواهده ، وقسم أعرف كيف أنطق به فقط ، رحمه الله تعالى!.

ومن فوائد الرضي الشاطبي المذكور ما ذكره أبو حيان في البحر قال : وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعيني (٤) :

عديّ وتيم ، لا أحاول ذكرهم

بسوء ، ولكنّي محبّ لهاشم

وما يعتريني في علي ورهطه (٥)

إذا ذكروا في الله لومة لائم

يقولون : ما بال النصارى تحبهم؟

وأهل النهى من أعرب وأعاجم

__________________

(١) في هذا البيت تورية. و «غريب المصنف» اسم كتاب لأبي عمرو الشيباني «انظر معجم المؤلفين ج ٢ ص ٢٣٨) وكذلك ألف أبو القاسم بن سلام تلميذ الشيباني كتابا بنفس الاسم (انظر معجم المؤلفين ج ٨ ص ١٠١).

(٢) في ج : «المزي». وفي ه : «المرّي».

(٣) في ب ، ه : «أعرف اللغة».

(٤) في ب : «الرسعني».

(٥) الرهط : رهط الرجل : جماعته ومناصروه.

٨

فقلت لهم : إني لأحسب حبهم

سرى في قلوب الخلق حتى البهائم

ومن نظم الرضي المذكور : [بحر البسيط]

منغّص العيش لا يأوي إلى دعة

إن كان في بلد أو كان ذا ولد (١)

والساكن النفس من لم ترض همته

سكنى بلاد ولم يسكن إلى أحد

وله : [مخلع البسيط]

لو لا بناتي وسيئاتي

لطرت شوقا إلى الممات

لأنني في جوار قوم

بغّضني قربهم حياتي

وقرأ عليه أبو حيان كتاب «التيسير» وأثنى عليه ، ولما توفي أنشد ارتجالا : [بحر المتقارب]

نعوا لي الرضيّ فقلت لقد

نعى لي شيخ العلا والأدب

فمن للغات ومن للثقات

ومن للنحاة ومن للنسب

لقد كان للعلم بحرا فغار

وإنّ غؤور البحار العجب

فقدّس من عالم عامل

أثار لشجوي لما ذهب

وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزار والسراج الوراق أيهما أشعر ، وأرسل إليه الجزار شيئا ، فقال : هذا شعر جزل (٢) ، من نمط شعر العرب ، فبلغ ذلك الوراق ، فأرسل إليه شيئا فقال : هذا شعر سلس (٣) ، وآخر الأمر قال : ما أحكم بينكما ، رحمه الله تعالى!.

قلت : رأيت بخطه كتبا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب ، رحمه الله تعالى!.

١٧٠ ـ ومنهم حميد الزاهد ، وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله ، الأنصاري ، القرطبي ، نزيل مالقة.

قال الرضي الشاطبي المذكور قريبا : أنشدني حميد بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخر شيبه مع علوّ سنه : [بحر الطويل]

__________________

(١) في ب : «من كان ذا بلد أو كان ذا ولد».

(٢) الشعر الجزل : القوي المحكم ، الصعب في بنائه ومعانيه.

(٣) الشعر السلس : اللين العذب ، السهل.

٩

وهل نافعي أن أخطأ الشيب مفرقي

وقد شاب أترابي وشاب لداتي

إذا كان خط الشيب يوجد عينه

بتربي فمعناه يقوم بذاتي

واللّدات : من ولد معه في زمان واحد ، انتهى.

وفي ذكري أنه قال هذين البيتين لما قال له القاضي عياض : شبنا ولم تشب.

وقال الرضي أيضا : أنشدني حميد لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص ، وهو غريب : [بحر المنسرح]

وكاتب وشي (١) طرسه (٢) حبر (٣)

لم يشها حبره ولا قلمه

لكن بمقراضه (٤) ينمنمها

نمنمة الروض جاده رهمه

يوجد بالقطع أحرفا عدمت

فاعجب لشيء وجوده عدمه

والرهم : المطر.

قال : وتوفي حميد الزاهد هذا بمصر ، قبيل الظهر من يوم الثلاثاء ، وصلي عليه خارج مصر بجامع راشدة بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور ، ودفن بسفح المقطم بتربة الشيخ الفاضل الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص ، حذاء رجليه ، في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائة (٥) ، انتهى.

١٧١ ـ ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي.

من أهل بلنسية وأصله من جيّان ، ولكن المرية ثم مالقة ، يكنى أبا يحيى ، كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس ، وله تأليف سماه «المغرب (٦) ، في أخبار محاسن أهل المغرب» ، جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة ، وبها توفي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى.

١٧٢ ـ ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد التجيبي ، يكنى أبا عبد الله ، من أهل إشبيلية.

__________________

(١) الوشي : النقش.

(٢) الطّرس ـ بالكسر ـ الصحيفة.

(٣) الحبر : بكسر الحاء وفتح الباء ـ جمع حبرة وأصلها برد يمني منقوش شبهت به الكتابة.

(٤) المقراض : آلة يقرض بها ، المقص.

(٥) في ب : «ومولده سنة ست وستمائة».

(٦) في ب : «المعرب».

١٠

تجول في بلاد الأندلس طالبا للعلم ، ثم حج ، ولقي الحافظ السّلفي وغيره ، واستوطن تلمسان ، وبها توفي في جمادى الأولى سنة عشر وستمائة ، وله تواليف كثيرة.

١٧٣ ـ ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك اللّخمي ، الباجي.

من أهل إشبيلية ، ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية ، دخل المشرق لأداء الفريضة فحج ، وتوفي بمصر بعد ما دخل الشام ، في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة ، ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة ، وكانت رحلته من المغرب أول يوم من المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة.

١٧٤ ـ ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن زياد العمري.

من أهل سرقسطة ، يكنى أبا العباس ، له كتاب سماه «الوجازة ، في صحة القول بالإجازة» وله رحلة لقي فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه ، توفي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، يروي عنه أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ ، وكفاه فخرا بهذين الإمامين العظيمين ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٧٥ ـ ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد الرّعيني الرّندي ، يكنى أبا محمد.

استوطن مالقة ، ورحل إلى المشرق ، وحج ، ولقي جماعة من العلماء ، وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد وثلاثين وستمائة ، وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة ، وبها توفي في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ، ولقب في المشرق برشيد الدين ، وولد في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يالمالتين كورة بشتغير ، ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل.

١٧٦ ـ ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد ، الينيني.

من أهل الأندلس ، استوطن المشرق مدح الملك الكامل ، ومن شعره رحمه الله تعالى قوله : [بحر الكامل]

لو لا تحدّيه بآية سحره

ما كنت ممتثلا شريعة أمره

رشأ أصدقه وكاذب وعده

يبدي لعاشقه أدلة غدره (١)

__________________

(١) في ب : «أدلة عذره».

١١

ظهرت نبوّة حسنه في فترة

من جفنه وضلالة من شعره

١٧٧ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي (١).

رحل حاجّا فلقي ببجاية عبد الحق الإشبيلي ، وبالإسكندرية أبا الطاهر بن عوف ، ولقي غير واحد في رحلته كالغزنوي (٢) [وابن بري](٣) وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحريثي ، وللحريثي أحاديث ساوى بها البخاري ومسلما ، ولقي جماعة ممن شارك السّلفي في شيوخه.

١٧٨ ـ ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير ، الكناني ، صاحب الرحلة.

وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، أندلسي ، شاطبي ، بلنسي ، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية ، وقيل في مولده غير ذلك ، وسمع من أبيه بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن بن أبي العيش ، وأخذ عنه القراءات وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه ، وتقدم في صناعة القريض (٤) والكتابة.

ومن شعره قوله ، وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى (٥) في يده : [بحر مجزوء الرجز]

لا تغترب عن وطن

واذكر تصاريف النّوى

أما ترى الغصن إذا

ما فارق الأصل ذوى

وقال رحمه الله تعالى يخاطب الصدر الخجندي : [بحر السريع]

يا من حواه الدين في عصره

صدرا يحلّ العلم منه فؤاد

ما ذا يرى سيدنا المرتضى

في زائر يخطب منه الوداد

لا يبتغي منه سوى أحرف

يعتدّها أشرف ذخر يفاد

ترسمها أنملة مثل ما

نمّق زهر الروض كف العهاد (٦)

__________________

(١) يكنى أبا العباس ، انظر التكملة ص ٩٣.

(٢) في ب : «الفرنوي» وفي ه : «العربوي».

(٣) في ب : «ابن بري».

(٤) القريض : الشعر.

(٥) ذوى : ذبل.

(٦) في ب : «أنمله ثمل ما ..».

١٢

في رقعة كالصبح أهدى لها

يد المعالي مسك ليل المداد

إجازة يورثنيها العلا

جائزة تبقى وتفنى البلاد

يستصحب الشكر خديما لها

والشكر للأمجاد أسنى عتاد

فأجابه الصدر الخجندي (١) : [بحر المتقارب]

لك الله من خاطب خلّتي

ومن قابس يجتدي سقط زندي

أجزت له ما أجازوه لي

وما حدّثوه وما صحّ عندي

وكاتب هذي السطور التي

تراهنّ عبد اللطيف الخجندي

١٧٩ ـ ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي ، وأصله من أندة من بلنسية ، رحل معه فأدّيا الفريضة ، وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي ، وأجاز لهما أبو محمد بن أبي عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما ، ودخلا بغداد وتجولا مدة ، ثم قفلا جميعا إلى المغرب ، فسمع منهما به بعض ما كان عندهما.

وكان أبو جعفر هذا متحققا بعلم الطب ، وله فيه تقييد مفيد ، مع المشاركة الكاملة في فنون العلم.

وكتب عن السيد أبي سعيد بن عبد المؤمن ، وجدّه لأمه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية.

وتوفي أبو جعفر هذا بمراكش سنة ثمان ، أو تسع وتسعين وخمسمائة ، ولم يبلغ الخمسين في سنه ، رحمه الله تعالى!.

رجع إلى ابن جبير :

قال لسان الدين في حقه : إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب ، وله الرحلة المشهورة ، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان : إحداهما أولها : [بحر المتقارب]

أطلّت على أفقك الزاهر

سعود من الفلك الدائر

ومنها :

__________________

(١) الخجندي : هو عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي أبو القاسم صدر الدين الفقيه الأديب الواعظ المتوفى سنة ٥٨٠ (طبقات السبكي ج ٤ ص ٢٦١).

١٣

رفقت مغارم مكس الحجاز

بإنعامك الشامل الغامر

وأمّنت أكناف تلك البلاد

فهان السبيل على العابر

وسحب أياديك فيّاضة

على وارد وعلى صادر

فكم لك بالشرق من حامد

وكم لك بالغرب من شاكر

والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز: [بحر الوافر]

وما نال الحجاز بكم صلاحا

وقد نالته مصر والشآم

ومن شعره : [بحر المتقارب]

أخلاء هذا الزمان الخؤون

توالت عليهم حروف العلل

قضيت التعجب من بابهم

فصرت أطالع باب البدل

وقوله : [بحر المتقارب]

غريب تذكر أوطانه

فهيج بالذكر أشجانه

يحلّ عرا صبره بالأسى

ويعقد بالنجم أجفانه

وقال رحمه الله تعالى ، لما رأى البيت الحرام زاده الله شرفا [ومهابة وتعظيما] : [بحر المتقارب]

بدت لي أعلام بيت الهدى

بمكة والنور باد عليه

فأحرمت شوقا له بالهوى

وأهديت قلبي هديّا إليه

وقوله يخاطب من أهدى إليه موزا : [بحر المجتث]

يا مهدي الموز تبقى

وميمه لك فاء (١)

وزايه عن قريب

لمن يعاديك تاء

وقال رحمه الله تعالى : [بحر السريع]

قد ظهرت في عصرنا فرقة

ظهورها شؤم على العصر

__________________

(١) إذا صارت الموز فاء صار «فوزا» وإذا صارت زايه تاء صارت موتا ، وقد جعل الفوز للمهدي والموت لعدوّه.

١٤

لا تقتدي في الدين إلا بما

سنّ ابن سينا وأبو نصر (١)

وقال : [بحر السريع]

يا وحشة الإسلام من فرقة

شاغلة أنفسها بالسّفه

قد نبذت دين الهدى خلفها

وادّعت الحكمة والفلسفه

وقال : [مخلع البسيط]

ضلت بأفعالها الشنيعه

طائفة عن هدى الشريعه

ليست ترى فاعلا حكيما

يفعل شيئا سوى الطبيعه

وكان (٢) انفصاله ـ رحمه الله تعالى! ـ من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة ٥٧٨ ، ووصل الإسكندرية يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة ، فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوما ، ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين ، وحج رحمه الله تعالى وتجوّل في البلاد ودخل الشام والعراق والجزيرة وغيرها ، وكان ـ رحمه الله تعالى! كما قال ابن الرقيق ـ من أعلام العلماء العارفين بالله ، كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد بن عبد المؤمن صاحب غرناطة ، فاستدعاه لأن يكتب عنه كتابا وهو على شرابه ، فمدّ يده إليه بكأس ، فأظهر الانقباض ، وقال : يا سيدي ما شربتها قط ، فقال : والله لتشربنّ منها سبعا ، فلما رأى العزيمة شرب سبع أكؤس ، فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصبّ ذلك في حجره ، فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفارة شربه الحج بتلك الدنانير ، ثم رغب إلى السيد ، وأعلمه أنه حلف بأيمان لا خروج له عنها أنه يحج في تلك السنة ، فأسعفه ، وباع ملكا له تزود به ، وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر.

ومن شعره في جارية تركها بغرناطة. [بحر مخلع البسيط]

طول اغتراب وبرح شوق

لا صبر والله لي عليه

إليك أشكو الذي ألاقي

يا خير من يشتكى إليه

__________________

(١) ابن سينا : هو الحسين بن عبد الله بن سينا ، أبو علي ، الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات (انظر الأعلام للزركلي ج ٢ ص ٢٦١). وأبو النصر : هو محمد بن طرخان الفارابي أحد فلاسفة المسلمين.

(٢) في ب : «كان انفصاله».

١٥

ولي بغرناطة حبيب

قد غلق الرهن في يديه (١)

ودعته وهو في دلال

يظهر لي بعض ما لديه

فلو ترى طلّ نرجسيه

ينهلّ في ورد وجنتيه

أبصرت درّا على عقيق

من دمعه فوق صفحتيه

وله رحلة مشهورة بأيدي الناس.

ولما وصل بغداد تذكر بلده ، فقال : [بحر الطويل]

سقى الله باب الطاق صوب غمامة

وردّ إلى الأوطان كل غريب(٢)

وقال في رحلته في حق دمشق : جنة المشرق (٣) ، ومطلع حسنه المونق المشرق ، هي خاتمه بلاد الإسلام التي استقريناها ، وعروس المدن التي اجتليناها [التي](٤) قد تحلّت بأزاهير الرياحين ، وتجلت في حلل سندسية من البساتين ، وحلت من موضع الحسن بمكان مكين ، وتزينت في منصتها أجمل تزيين ، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين ، ظل ظليل ، وماء سلسبيل ، تناسب مذانبه (٥) انسياب الأراقم بكل سبيل ، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل ، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل ، وتناديهم هلموا إلى معرّس للحسن ومقيل ، قد سئمت أرضها كثرة الماء ، حتى اشتاقت إلى الظّمإ ، فتكاد تناديك بها الصمّ الصلاب ، أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر ، واكتنفتها اكتناف الكمامة (٦) للزهر ، وامتدّت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر ، فكلّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر ، ولله صدق القائلين فيها : إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها ، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها (٧) وتحاذيها.

قال العلامة ابن جابر الوادي آشي ، بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق ، ما نصه : ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد ، وتوّق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد ، هذا ولم تكن بها

__________________

(١) غلق الرهن : لم يقدر الراهن على تخليصه فصار ملكا للمرتهن.

(٢) باب الطاق : محلة كبيرة ببغداد بالجانب الشرقي (انظر معجم البلدان ج ١ ص ٣٠٨).

(٣) المونق : المعجب بحسنه ورونقه.

(٤) التي : ساقطة من ب.

(٥) المذانب جمع مذنب وهو مسيل الماء.

(٦) اكتنفتها : أحاطت بها. والكمامة : غلاف الزهرة.

(٧) تسامتها : على سمتها أي جهتها.

١٦

إقامة ، فيعرب عنها بحقيقة علامة ، وما وصف ذهبيّات أصيلها وقد حان من الشمس غروب ، ولا أزمان فصولها المتنوعات (١) ، ولا أوقات سرورها المهنئات ، ولقد أنصف من قال : ألفيتها كما تصف الألسن ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، انتهى.

رجع إلى كلام ابن جبير فنقول :

ثم ذكر في وصف الجامع أنه من أشهر جوامع الإسلام حسنا ، وإتقان بناء ، وغرابة صنعة ، واحتفال تنميق وتزيين ، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه ، ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ، ولا تدخله ، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف ، ثم مدّ النفس في وصف الجامع وما به العجائب ، ثم قال بعد عدة أوراق ما نصه : وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر ، وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار دبرت تدبيرا هندسيا ، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاسي صفر (٢) تحت كل واحد منهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها ، والطاسان (٣) مثقوبتان ، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة ، وتبصر البازين (٤) يمدّان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاسين ويقذفانها (٥) بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا ، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصّفر ، لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ، ثم تعود إلى حالها الأول ، ولها بالليل تدبير آخر ، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة ، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة ، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة ، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح ، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها ، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها ، درب بشأنها وانتقالها (٦) ، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها ، وهي التي تمسيها الناس المنجانة ، انتهى المقصود منه.

__________________

(١) في ه : «المنوعات».

(٢) في ب ، ه : «طاستين من صفر».

(٣) في ب ، ه : «والطاستان».

(٤) في ب : «البازيين».

(٥) في ب : «إلى الطاستين ويقذفانهما».

(٦) الدّرب على الشيء : المعتاد عليه ، والمتمرّن الحاذق فيه.

١٧

قلت : كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير ، ومن ذا يروم (١) عدّ محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير (٢) ، وقد أطنب الناس فيها ، وما بقي أكثر مما ذكروه ، وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، وأقمت بها إلى أوائل شوال من السنة ، وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهنا ، وملك هواها مني فكرا وذهنا ، فكأنها بلدي التي بها ربيت ، وقراري الذي لي به أهل وبيت ، لأن أهلها عاملوني بما ليس لي بشكره يدان ، وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان ، ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان (٣) ، فالله سبحانه تعالى يعطّر منها بالعافية الأردان.

وقد عنّ لي (٤) أن أذكر جملة مما قيل فيها من الأمداح الرائقة ، وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة ، فأقول :

قال البدر بن حبيب (٥) : [بحر الكامل]

يمّم دمشق ومل إلى غربيها

والمح محاسن حسن جامع يلبغا

من قال من حسد رأيت نظيره

بين الجوامع في البلاد فقد لغا

وقال في كتاب «شنف السامع ، بوصف الجامع» [بحر الكامل].

لله ما أحلى محاسن جلّق

وجهاتها اللّاتي تروق وتعذب

بيزيد ربوتها الفرات وجنكها

يا صاح كم كنّا نخوض ونلعب

وقال فيه أيضا : [بحر الرجز]

لله ما أجمل وصف جلّق

وما حوى جامعها المنفرد

قد أطرب الناس بصوت صيته

وكيف لا يطرب وهو معبد

وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة : [بحر الكامل]

يا راغبا في غير جامع جلق

هل يستوي الممنوع والممنوح

__________________

(١) يروم : يطلب.

(٢) الحسير : المتعب المعين.

(٣) بغدان : لغة في بغداد.

(٤) عنّ لي : خطر لي ، عرض لي.

(٥) البدر بن حبيب : هو بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي المتوفى سنة ٧٧٩ (انظر الدرر الكامنة ج ٢ ص ٢٩).

١٨

أقصر عناك وفي غلوّك لا تزد

إن الزيادة بابها مفتوح

وقال في منارته المعروفة بالعروس : [بحر الخفيف]

معبد الشام يجمع الناس طرا

وإليه شوقا تميل النفوس

كيف لا يجمع الورى وهو بيت

فيه تجلى على الدوام العروس

ومنه في ذكر بانيه الوليد : [بحر الرجز]

تالله ما كان الوليد عابثا

في صرفه المال وبذل جهده

لكنه أحرز ملك معبد

لا ينبغي لأحد من بعده

ومن أبيات في آخره : [بحر الوافر]

بجامع جلق رب الزعامة

أقم تلق العناية والكرامة

ويمم نحوه في كل وقت

وصلّ به تصل دار الإقامة

مصلى فيه للرحمن ذكر

ومثوى للقبول به علامه (١)

محل كمّل الباري حلاه

وبيت أبدع الباني نظامه

دمشق لم تزل للشام وجها

ومسجدها لوجه الشام شامه (٢)

وبين معابد الآفاق طرا

له أمر الإمارة والإمامة

أدام الله بهجته وأبقى

محاسنه إلى يوم القيامة

ولم أقف على كل هذا الكتاب المذكور ، بل على بعضه فقط.

ومن قصيدة القاضي المهذب بن الزبير (٣) : [بحر مجزوء الكامل]

بالله يا ريح الشما

ل إذا اشتملت الرّند بردا

وحملت من عرف الخزا

مى ما اغتدى للندّ ندا

ونسجت ما بين الغصو

ن إذا اعتنقن هوى وودا

وهززت عند الصبح من

أعطافها قدا فقدا

ونثرت فوق الماء من

أجيادها للزهر عقدا

__________________

(١) في ب ، ه : «مصلى فيه للرحمن سرّ».

(٢) الشامة : نقطة في البدن تميل إلى السواد ، تخالف لون البشرة.

(٣) هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير المتوفى سنة ٥٦١ (انظر معجم الأدباء ج ٩ ص ٤٧).

١٩

فملأت صفحة وجهه

حتى اكتسى آسا ووردا

وكأنما ألقيت فيه

منهما صدغا وخدّا

مرّي على بردى عسا

ه يزيد في مسراك بردا

نهر كنصل السيف تك

سر متنه الأزهار عمدا

صقلته أنفاس النس

يم بمرّهنّ فليس يصدا

ومنها :

أحبابنا ما بالكم

فينا من الأعداء أعدى

وحياة حبكم وحر

مة أصلكم ما خنت عهدا (١)

وقال الكمال الشّريشي (٢) : [بحر البسيط]

يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر

فإن قلبي بنار الشوق يستعر

بعدت عنكم فلا والله بعدكم

ما لذّ للعين لا نوم ولا سهر

إذا تذكرت أوقاتا نأت ومضت

بقربكم كادت الأحشاء تنفطر

كأنني لم أكن بالنّيّرين ضحى

والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر (٣)

والورق تنشد والأغصان راقصة

والدوح يطرب بالتصفيق والنهر

والسفح أين عشياتي التي ذهبت

لي فيه فهي لعمري عندي العمر

سقاك بالسفح سفح الدمع منهمرا

وقلّ ذاك له إن أعوز المطر

وحكى ابن سعيد وغيره أن غرناطة تسمى «دمشق الأندلس» لسكنى أهل دمشق الشأم بها عند دخولهم الأندلس ، وقد شبهوها بها لما رأوها كثيرة المياه والأشجار ، وقد أطلّ عليها جبل الثلج ، وفي ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة : [بحر مجزوء الرمل]

يا دمشق الغرب هاتي

ك لقد زدت عليها

تحتك الأنهار تجري

وهي تنصبّ إليها

__________________

(١) في ب : «وصلكم ما خنت ...».

(٢) هو كمال الدين أحمد بن جمال الدين الشريشي الوائلي البكري الشافعي ، توفي سنة ٧١٨ ه‍.

(شذرات الذهب ج ٦ ص ٤٧).

(٣) في ب : «لم أكن بالنيربين ضحّى».

٢٠