نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله ، وهي أنه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة فسألهم عمن كان وراء إمام ، فحدث للإمام عذر ذهب لأجله ، مثل الرعاف مثلا ، فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم ، ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي ، فهل تصح صلاتهم أم لا؟ فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم ، فقال هو : إن الصلاة باطلة ، لأن النحاة يقولون : الإتباع بعد القطع لا يجوز.

وقد حكى ذلك في شرحه للجروميّة الذي سماه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصه : كنت جالسا بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته ، وكنت إذ ذاك أصغرهم سنا وأقلهم علما ، فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها : إن إماما صلى بجماعة جزءا من صلاة ، ثم غلب عليه الحدث ، فخرج ولم يستخلف عليهم (١) ، فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءا من الصلاة ، ثم بعد (٢) ذلك استخلفوا من أتم بهم الصلاة ، فهل تصح تلك الصلاة أم لا؟ فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب ، فقلت : أنا أجاوب فيها بجواب نحوي ، فقال : هات الجواب ، فقلت : هذا إتباع بعد القطع ، وهو ممتنع عند النحويين ، فصلاة هؤلاء باطلة ، فاستظرفها مني من حضر لصغر سني ، ثم طلبنا النص فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ ، ولو لقيناه لكان حسنا ، انتهى.

ومن ألغازه قوله : [بحر الرجز]

حاجيتكم نحاتنا المصرية

أولي الذكا والعلم والطعميه (٣)

ما كلمات أربع نحويه

جمعن في حرفين للأحجيه

يعني فعل الأمر للواحد من «وأى يئي» إذا أضمر ، فإنك تقول فيه : إيا زيد على حرف واحد ، وهو الهمزة المقطوعة ، فإذا قلت «قل إ» ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا «قل» فذهب فعل الأمر وفاعله ، فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام ، فافهم.

وأحسن من هذا قوله ملغزا في ذلك أيضا : [بحر الرجز]

في أي لفظ يا نحاة الملة

حركة قامت مقام الجملة

__________________

(١) في ه : «فخرج ولم يستخلف لهم».

(٢) في ه : «ثم من بعد ذلك استخلفوا».

(٣) حاجى : طرح الأحاجي ، أي الألغاز.

٢٨١

وبالجملة فمحاسنه كثيرة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.

ومن فوائده قوله : حكى لي بعض علماء المالكية قال : كنا نقرأ المدوّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي ، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي فقال الشيخ في مسألة «مذهبنا كذا» في مسألة لم يقل فيها الشافعي بما قال ، وإنما نسبها البلقيني لنفسه ، ثم فطن وخاف أن ينتقد عليه المالكية ويقولون له : أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي ، فقال : فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية ، وإنما أنتم شافعية ، قلنا : كذلك أنتم قاسمية ، وقد اجتمعنا الكل في مالك ، قال : وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ.

قال : ولما قرىء عليه كتاب «الشفاء» مدحه وأثنى عليه إلى الغاية ، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه : ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض؟

فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور : وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض؟.

ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية : في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير ، لا يزال جائعا ، وهو من دأب الصالحين ، ولا يكون له موضع يعرف به ، وذلك من علامة المتوكلين ، ولا ينام من الليل إلا القليل ، وذلك من صفات المحبين ، وإذا مات لا يكون له ميراث ، وذلك من أخلاق الزاهدين ، ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده ، وذلك من شيم المريدين ، ويرضى من الدنيا بأدنى يسير ، وذلك من إشارة القانعين ، وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره ، وذلك من علامة المتواضعين ، وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب ، وذلك من أخلاق الخاشعين ، وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد (١) ، وذلك من أخلاق المساكين ، وإذا رحل لم يرحل معه بشيء ، وذلك من علامة (٢) المتجردين ، انتهى بمعناه.

وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه.

ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب «الفتح المنير ، في بعض ما يحتاج إليه الفقير» في غاية الإفادة ، ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية ، وحفظت منه فوائد ممتعة.

ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس ـ أعادها

__________________

(١) في أ : «من بعد».

(٢) كذا في أ ، ب ، وفي ه : «وذلك علامة المتجردين».

٢٨٢

الله تعالى! ـ قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد (١) بن علي بن محمد بن الأزرق.

قال السخاوي : إنه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق ، بحيث كان جل انتفاعه به ، وحضر مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السّرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضا في الفقه ، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني ، والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف (٢) التلمساني ، انتهى.

وله رحمه الله تعالى تآليف : منها «بدائع السلك ، في طبائع الملك» كتاب حسن مفيد في موضوعه ، لخص فيه كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة ، ومنها «روضة الأعلام ، بمنزلة العربية من علوم الإسلام» مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله ، وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره مما يكتب في سيف : [بحر البسيط]

إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب

فشم بها بارقا من لمع إيماضي (٣)

وإن نوت حركات النصر أرض عدى

فليس للفتح إلا فعلي الماضي (٤)

ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته : قلت : ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدّس الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا ، ويوسع المراجع له قبولا ورحبا ، بل يطالب بذلك ويقتضيه ، ويختار طريق التعليم به ويرتضيه ، وتوقيفا على ما خلص له تحقيقه ، ووضح له في معيار الاختيار تدقيقه ، وإلا فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل ، ويتمهد به مختار ما يحفظ ويتأصّل ، انتهى.

وهو يدل على ملكته في الإنشاء ، ويحقق ما يحصله ، إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث ، لئلا يفضي الحال إلى ما ينهى عنه.

قال : ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ ، ولكن مع ملازمة التوقير الدائم ،

__________________

(١) انظر ترجمته في أزهار الرياض ج ٣ ص ٣١٧.

(٢) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : ابن الشريف.

(٣) النقع : الغبار المتطاير في المعركة.

(٤) فعلي الماضي : هنا فعلي القاطع.

٢٨٣

والإجلال الملائم ، فقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم ، وكان قد أخذ عنهم ، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة ، وإنما أخذوا العلم عنهم ، وخالف مالك كثيرا من أشياخه ، وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل ، وكان مالك أكبر أساتيذ (١) الشافعي ، وقال : لا أحد أمنّ عليّ من مالك ، وكاد كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل ، ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا ، وقال : وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى! قال : ولا ينبغي للشيخ أن يتبرّم (٢) من هذه المخالفة إذا كانت على الوجه الذي وصفناه ، والله تعالى أعلم ، انتهى.

ولما أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه «روضة الأعلام» قول القائل في مدح ابن عصفور : [الرمل]

نقل النحو إلينا الدّؤلي

عن أمير المؤمنين البطل (٣)

بدأ النحو عليّ وكذا

ختم النحو ابن عصفور علي

قال بعده ما نصه : على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد بن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقق أبي الحسن بن (٤) الضائع عليه ، ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمن من التورية : [بحر الطويل]

بضائعك ابن الضائع النّدب قد أتت

بحظ من التحقيق والعلم موفور

فطرت عقابا كاسرا أو ما ترى

مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور

انتهى.

وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه ، وأثنى عليه غير واحد ، ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى «بشفاء الغليل ، في شرح مختصر خليل» وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية ، وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي

__________________

(١) أساتيذ أحد جموع أستاذ.

(٢) تبرم : ضجر.

(٣) الدؤلي : هو أبو الأسود الدؤلي. وأمير المؤمنين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٤) في ب : «أبي الحسن ابن الضائع».

٢٨٤

سعيد بن أحمد المقري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد : لعل تسمية ابن الأزرق «شفاء العليل» بالعين ، قلت : يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة ، فبان أنه من توارد الخواطر ، وأن كلا منهما لم يقف على تسمية الآخر ، والله تعالى أعلم ، وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاث مجلدات ، ولا أدري هل أكمله أم لا ، لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلدا ، إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة ، ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم ، ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله ، ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس ، ثم ارتحل إلى المشرق ، فدخل مصر ، واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس ، فكان كمن يطلب بيض الأنوق ، أو الأبيض العقوق (١) ، ثم حج ورجع إلى مصر فجدّد الكلام في غرضه ، فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس ، فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة ، ولم تطل مدته هنالك حتى توفي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة ، حسبما ذكره صاحب «الأنس الجليل ، في تاريخ القدس والخليل» فليراجع فإنه طال عهدي به.

ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبّنات : [بحر مخلع البسيط]

ورب محبوبة تبدت

كأنها الشمس في حلاها

فأعجب لحال الأنام من قد

أحبها منهم قلاها (٢)

ومنه قوله رحمه الله تعالى : [بحر السريع]

عذري في هذا الدخان الذي

جاور داري واضح في البيان (٣)

قد قلتم إن بها زخرفا

ولا يلي الزخرف إلا الدخان (٤)

وقوله : [بحر الطويل]

تأملت من حسن الربيع نضارة

وقد غرّدت فوق الغصون البلابل

__________________

(١) أخذ هذا المعنى من قول الشاعر :

طلب الأبيض العقوق فلما

لم يجده أراد بيض الأنوق

(٢) قلاها : وضعها في الزيت المغلي وقلاها.

(٣) كذا في أ ، ب ، وفي ه : «عذري عن هذا الدخان».

(٤) الزخرف ، والدخان : سورتان في القرآن الكريم ، وقد جاءت الدخان بعد الزخرف في ترتيب المصحف الشريف.

٢٨٥

حكت في غصون الدّوح قسّا فصاحة

لتعلم أن النبت في الروض باقل (١)

وقوله : [بحر الطويل]

وقائلة صف للربيع محاسنا

فقلت وعندي للكلام بدار

همي ببطاح الأرض صوب من الحيا

فللنبت في وجه الزمان عذار (٢)

وقوله : [بحر المتقارب]

تعجّبت من يانع الورد في

سنى وجنة نبتها بارض (٣)

ولم لا يرى وردها يانعا

وقد سال من فوقها العارض

وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته : [بحر البسيط]

تقول لي ودموع العين واكفة

ما أفظع البيت والتّرحال يا ولدي

فقلت أين السّرى قالت لرحمة من

قد عزّ في الملك لم يولد ولم يلد

قال تلميذه الحافظ ابن داود : مما ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله بن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه : من أراد أن يطوّل الله عمره ، ويظفر بعدوّه ، ويصان من فتن الدنيا ، ويوسّع عليه باب رزقه ، فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثا ، وإذا أمسى ثلاثا : سبحان الله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ، والحمد لله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ، وو لا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ، والله أكبر ملء الميزان ومنتهى العلم وبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك.

قال : وبخطه أيضا لنيل الرزق وما يراد : يا باسط ، يا جواد ، يا علي في عرشك ، بحق حقك على جميع خلقك ، ابسط لي رزقك ، وسخر لي خلقك.

وبخطه أيضا : بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر

__________________

(١) قس : هو قس بن ساعدة الإيادي ، مضرب المثل بالفصاحة. وباقل : علم على رجل من العرب اشتهر بالفهاهة والعي.

(٢) الصوب : المطر الذي لا يؤذي. والحيا : المطر.

(٣) البارض : أول ما يظهر من نبات الأرض.

٢٨٦

الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

وبخطه أيضا : يا فتاح ، يا عليم ، يا نور ، يا هادي ، يا حق ، يا مبين ، افتح لي فتحا تنّور به قلبي ، وتشرح به صدري ، واهدني إلى طريق ترضاه ، وبين لي أمري ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، انتهى.

وقال رحمه الله تعالى مورّيا (١) : [بحر الرمل]

من تكن صنعته الإنشاء لا

ينكر الرزق لأقصى العمر

ولو استعلى على السبع الدرا

ري بما في فمه من درر

فأنا الكاتب لكن لو يبا

ع لي العتق لكنت المشتري

هكذا رأيت نسبتها إليه.

ولنختم ترجمته ـ بل والباب جميعا ـ بقوله رحمه الله تعالى! ـ عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : [بحر الطويل]

مشوق بخيمات الأحبة مولع

تذكّره نجد وتغريه لعلع (٢)

مواضعكم يا لائمين على الهوى

فلم يبق للسّلوان في القلب موضع (٣)

ومن لي بقلب تلتظي فيه زفرة

ومن لي بجفن تنهمي منه أدمع (٤)

رويدك فارقب للطّائف موضعا

وخلّ الذي من شره يتوقّع

وصبرا فإن الصبر خير غنيمة

ويا فوز من قد كان للصبر يرجع

وبت واثقا باللطف من خير راحم

فألطافه من لمحة العين أسرع

وإن جاء خطب فانتظر فرجا له

فسوف تراه في غد عنك يرفع (٥)

وكن راجعا لله في كل حالة

فليس لنا ، إلا إلى الله ، مرجع

__________________

(١) موريا : مستعملا أسلوب التورية.

(٢) مشوق : مشتاق. نجد ولعلع : اسما مكانين في جزيرة العرب.

(٣) مواضعكم : مفعول به لفعل تقديره : الزموا ...

(٤) تنهمي : تنهمر.

(٥) الخطب : المصيبة.

٢٨٧

الباب السادس

في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق ، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء المشرق ، والأكابر الذين حلوا بحلولهم فيها الجيد منها والمفرق (١) والمفتخرين برؤية قطرها المونق (٢) ، على المشئم والمعرق (٣).

اعلم أنّ الداخلين للأندلس من المشرق قوم كثيرون لا تحصر الأعيان منهم ، فضلا عن غيرهم ، ومنهم من اتّخذها وطنا ، وصيّرها سكنا ، إلى أن وافته منيّته ، ومنهم من عاد إلى المشرق بعد أن قضيت بالأندلس أمنيّته.

١ ـ فمن الداخلين إلى الأندلس المنيذر الذي يقال إنه صحابي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن الأبار في التكملة : المنيذر الإفريقي ، له صحبة ، وسكن إفريقية ، ودخل الأندلس فيما ذكره عبد الملك بن حبيب ، قاله أبو محمد الرشاطي ، ولم يذكره أحد غيره ، وروى عنه عبد الرحمن الحبليّ (٤) ، انتهى.

وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس.

وذكر بعض الحفّاظ المنيذر المذكور ، وقال : إنه المنيذر اليماني ، وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازيا ، وقال ابن بشكوال : يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقد حكى ذلك الرازي ، وذكره ابن عبد البرّ في كتاب «الاستيعاب في الصحابة» (٥) وسمّاه بالمنيذر الإفريقي ،

__________________

(١) المفرق : موضع فرق الشعر من الرأس وأراد هنا الرأس.

(٢) المونق : المعجب.

(٣) المشئم : المتجه إلى الشام ، والمعرق : المتجه إلى العراق.

(٤) أبو عبد الرحمن الحبلي : هو عبد الله بن يزيد المعافري. وسيذكره المقري في النفح بعد قليل.

(٥) اسم الكتاب : «الاستيعاب في أسماء الأصحاب» وانظر ترجمة المنيذر فيه ج ٣ ص ٥٢٨ على هامش الإصابة في معرفة الصحابة.

٢٨٨

وقال ابن بشكوال : إن ابن عبد البرّ روى عنه حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره أبو علي بن السكن في كتاب الصحابة وقال : روي عنه حديث واحد ، وأرجو أن يكون صحيحا ، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له ، وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال : أبو المنيذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد حدّث بإفريقية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «من قال رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّا ، فأنا الزعيم (١) لآخذنّ بيده فأدخله الجنّة» كذا ذكره البخاري بالكنية ، وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره ، وذكره أبو جعفر أحمد بن رشد في كتاب «مسند الصحابة» له ، فقال : المنيذر اليماني إمّا من مذحج أو غيرها ، وذكر الحديث سواء ، وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا.

٢ ـ ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير ، وقد سبق من الكلام عليه ما فيه كفاية.

٣ ـ ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني.

وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح : حنش لقب له ، واسمه حسين بن عبد الله ، وكنيته أبو علي ، ويقال : أبو رشدين ، قال ابن بشكوال : وهو من صنعاء الشام. وذكره أبو سعيد بن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس ، فقال : إنه كان مع علي بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنه ، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت ، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير ، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان ، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه ، وكان أوّل من ولي عشور إفريقية في الإسلام ، وتوفي بإفريقية سنة مائة.

وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح ، وقرّب المصحف وإناء فيه ماء ، فإذا وجد النّعاس استنشق الماء ، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف (٢) ، وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله «أطعموا السائل» حتى يطعم.

قال ابن حبيب : دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني ، وهو الذي أشرف على قرطبة من الفجّ (٣) المسمّى بفج المائدة ، وأذّن ، وذلك في غير وقت الأذان ، فقال

__________________

(١) الزعيم : الكفيل.

(٢) تعايا : تعايا بالأمر : لم يضبطه ، ولم يحكمه. وتعايا عليه الأمر : أعجزه.

(٣) الفج : الطريق الواسع الواضح بين جبلين جمعه : فجاج.

٢٨٩

له أصحابه في ذلك ، فقال : إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلّا أن (١) تقوم الساعة ، هكذا ذكره غير واحد ، وقد كشف الغيب خلاف ذلك ، فلعلّ الرواية موضوعة أو مؤولة ، والله تعالى أعلم.

وذكره ابن عساكر في تاريخه ، وطوّل ترجمته ، وقال : إنّ صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام ، وليست صنعاء اليمن ، وقد قيل : إنه لم يرو عن حنش الشاميون ، وإنما روى عنه المصريون ، وحدّث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له : إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل. وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج (٢) نزل عليه بإفريقية سنة خمسين ، فحفظ له ذلك ، فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبير ، وسئل أبو زرعة عن حنش فقال : ثقة ، ولم يذكر ابن عساكر أن حنشا لقب له ، وأن اسمه حسين ، بل اقتصر على اسمه حنش ، ولعلّه الصواب ، لا ما قاله ابن وضاح ، والله تعالى أعلم.

وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أنّ حنشا كان بسرقسطة ، وأنه الذي أسّس جامعها ، وبها مات ، وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة.

وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضا قبلة جامع إلبيرة ، وعدّل وزن قبلة جامع قرطبة الذي هو فخر الأندلس.

٤ ـ ومن التابعين الداخلين (٣) للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح ، اللخمي.

ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك ، وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السّواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين ، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان ، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة ، وهو الذي زفّ أمّ البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك ، ثم عنت (٤) عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية ، فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها ، ويقال : كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة. قال ابن بشكوال : أهل مصر يقولون : علي بن رباح ، بفتح العين ، وأما أهل العراق فعليّ ، بضم العين ، وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني. وقال : وقال ابنه موسى بن علي : من قال لي موسى بن عليّ بالتصغير لم أجعله في حلّ.

__________________

(١) في ب : إلى أن تقوم الساعة.

(٢) في ج : «مع معاوية بن خديج» بالخاء المعجمة. وهو تحريف.

(٣) في ب : ومن الداخلين من التابعين.

(٤) عنت عليه : شدد عليه ، وأكرهه على أن يلزم ما يصعب عليه أداؤه أو احتماله.

٢٩٠

٥ ـ ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبليّ (١).

قال ابن بشكوال : إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمر ، رضي الله تعالى عنهم وغيرهم (٢) ، وروي عنه جماعة. وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعدّ في المصريين ، وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة ، وكان رجلا صالحا فاضلا ، رحمه الله تعالى! ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة ، وأنه دفن بقبليّها ، وقبره مشهور يتبرّك له ، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.

٦ ـ ومن الداخلين من التابعين حبّان بن أبي جبلة.

ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش ، ويكنى أبا النضر ، وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية ، وقال : حدّثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقّهون أهل إفريقية منهم حبّان بن أبي جبلة (٣) ، روى عن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهم! ويقال : توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة ، وقيل : سنة خمس وعشرين ومائة. وذكر ابن الفرضي أنه غزا مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به. قال : وقال لنا أبو محمد الثغري : بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمسة وعشرين ميلا ، وفيها الكنيسة المعظّمة عندهم المسمّاة شنت مرية ، ذكر أنّ فيها سبع سوار فضّة خالصة لم ير الراءون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط ، هكذا نقله ابن سعيد عمّن ذكر ، والله تعالى أعلم.

٧ ـ ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر : المغيرة بن أبي بردة نشيط بن كنانة العذري.

روى عن أبي هريرة ، رضي الله تعالى عنه ، ويروي عنه مالك في موطّئه ، وذكره البخاري في تاريخه الكبير ، وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر.

__________________

(١) انظر ترجمته في ابن سعد ج ٧ ص ٥١١.

(٢) في تهذيب التهذيب ج ٦ ص ٧٤. روى عن عبد الله بن عمرو وابن عمر وعقبة بن عامر وأبي ذر وأبي أيوب الأنصاري وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله وغيرهم.

(٣) حبان بن أبي جبلة القرشي مولاهم المصري روى عن عمرو بن العاص والعبادلة إلا ابن الزبير وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وعبيد الله بن زحر وموسى بن علي بن رباح (انظر تهذيب التهذيب ٢ / ١٤٩).

٢٩١

٨ ـ ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي.

ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه ، وأنه من جملة التابعين ، رضي الله تعالى عنهم! قاله ابن بشكوال في مجموعه المترجم ب «التنبيه والتعيين ، لمن دخل الأندلس من التابعين».

قال ابن الأبار : وقد سمعته من أبي الخطاب بن واجب ، وسمعه هو منه ، انتهى.

وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته : رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين ، وفي ذلك عندي نظر ، وما أراه يصح ، والله تعالى أعلم ، انتهى.

فانظر هذا فإنه سمّاه رجاء بن حيوة ، وذلك السابق حيوة بن رجاء ، فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.

٩ ـ ومنهم عياض بن عقبة الفهري.

من خيار التابعين ، ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس ، ولم يغلّوا (١).

١٠ ـ ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري.

ذكر ابن بشكوال أنه مضري ، وأن البخاري ذكره في تاريخه.

١١ ـ ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.

جدّه عبد الرحمن أحد العشرة (٢) رضي الله تعالى عنهم ، وهو ممّن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلّوا.

١٢ ـ ومنهم منصور بن خزامة فيما يذكر.

قال ابن بشكوال : قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله بن عائد الراوية رحمه الله تعالى قال : وممّن دخل الأندلس من المعمّرين ما وجدت بخطّ المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال : طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، فذكر أنه منصور بن خزامة مولى

__________________

(١) غلّ : أخذ شيئا لنفسه خفية قبل أن تقسم الغنائم.

(٢) أحد العشرة : أي العشرة المبشرين بالجنة.

٢٩٢

رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ، وأنه كان مراهقا ، وكان مع عائشة ، رضي الله تعالى عنها ، يوم الجمل ، وأنه شهد صفّين ، وأن خزامة أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب ، انتهى.

قلت : هذا كلّه لا أصل له ، ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر (١) حيث كتب على هذا الكلام ما صورته : هذا هذيان لا أصل له ، ولا يغترّ به ، وكذلك ترجمة أشج العرب اتّفق الحفّاظ على كذبه ، انتهى.

قلت : وما هو إلّا من نمط عكراش ، والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنّه.

ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب ، وأنه يعرف بأبي الدنيا ، وأنه كان معمّرا مشهورا بصحبة علي بن أبي طالب ، كرّم الله وجهه ، وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، ووصفهم بصفاتهم ، وأنه رأى عائشة ، رضي الله تعالى عنها ، فيما زعم ، وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد ، وسأله أبو بكر بن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه ، وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم ، فقد ذكر الثقات العارفون بالفنّ أنه كذّاب دجّال مائن (٢) جاهل ، فإيّاك والاغترار بمثل ذلك ممّا يوجد في كتب كثير من المؤرّخين بالمشرق والأندلس ، ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي : إنه كان إذ لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين ، قال تميم : واتّصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة ، وبالجملة فلا أصل له ، وإنما ذكرناه للتنبيه عليه.

وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس ، على أن التحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد ، وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع ، والله تعالى أعلم.

١٣ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة.

وقد تقدّم بعض الكلام عليه ، وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي ، زاد الحجاري : وليس برومي على الحقيقة ، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني ، سبي من الروم بالمشرق وهو صغير ، فأدّبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد ، وأنجب في الولادة ، وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة ، وسادوا وعظم بيتهم،

__________________

(١) هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ ه‍ ومن أهم مؤلفاته : تهذيب التهذيب ، ولسان الميزان وكلاهما في الرجال (انظر كشف الظنون ٥ / ١٢٨).

(٢) مائن : اسم فاعل مان بمعنى كذب.

٢٩٣

وتفرّعت دوحتهم (١) ، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره. ونشأ مغيث بدمشق ، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها ، وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام ، وقدّمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيّد طارق فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد ظافرا عليهما إلى الأندلس ، وأنسل (٢) بقرطبة البيت المذكور ، وفي «المسهب» أنه فتح قرطبة في شوال سنة ٩٢ ، ثم فتح الكنيسة التي تحصّن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة ٩٣ ، ولم يذكر له مولدا ولا وفاة.

وذكر الحجاري أنه تأدّب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية ، وصار يقول من الشعر والنثر ما يجوز كتبه ، وتدرّب على الركوب ، وأخذ نفسه بالإقدام في مضايق الحروب ، حتى تخرّج في ذلك تخرّجا أهّله للتقدّم على الجيش الذي فتح قرطبة ، وكان مشهورا بحسن الرأي والكيد ، وقد قدّمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره ؛ لأن منهم من عقد على نفسه أمانا ، ومنهم من فرّ إلى جليقية.

وذكر الحجاري أنه لمّا حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهنّ جارية كأنها بينهنّ بدر بين نجوم ، وهي تكثر التعرّض له بجمالها ، فوكّل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقرّ بما عزمت عليه في شأن مغيث ، وأنه قد فطن من كثرة تعرّضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه ، فأقرّت أنها أكثرت التعرّض لتقع بقلبه ، إذ حسنها فتّان ، وقد أعدّت له خرقة مسمومة لتمسح بها ذكره عند وقاعها ، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها ، وقال : لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة. وذكر أن سليمان بن عبد الملك ، لمّا أصغى إلى طارق في شأن سيّده موسى بن نصير فعذّبه واستصفى أمواله ، أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق ، وكان مغيث قد تغيّر عليه ، فاستشار سليمان مغيثا في تولية طارق ، وقال له : كيف أمره بالأندلس؟ فقال : لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا ، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان ، وبدا له في ولايته ، فلقيه بعد ذلك طارق ، فقال له : ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني ، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت ، فقال مغيث : ليتك تركت لي العلج (٣) فتركت لك الأندلس ، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك

__________________

(١) الدوحة : الشجرة العالية الكثيرة الأغصان ، وقد درج العرب على تشبيه بيوتهم ذات النسب بها.

(٢) أنسل : ولد ، صار ذا نسب.

(٣) العلج : الرجل الضخم الشديد من كفار العجم ، ويطلق العلج على الكافر مطلقا ، جمعه : علوج وأعلاج وعلجة.

٢٩٤

قرطبة الذي حصل في يده ، فلم يمكنه منه ، فأغرى به سيّده موسى بن نصير ، وقال له : يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس ، وليس في أيدينا مثله ، فأي فضل يكون لنا عليه؟ فطلبه منه ، فامتنع من تسليمه. قال ابن حيان : فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث ، فقيل له : إن سرت به معك حيّا ادعاه مغيث والعلج لا ينكر ، ولكن اضرب عنقه ، ففعل ، فاضطغنها (١) عليه مغيث ، وبالغ في أذيّته عند سليمان.

وذكر الحجاري في «المسهب» أنّ لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه ، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقا ويكفي منه هنا قوله : [بحر الوافر]

أعنتكم ولكن ما وفيتم

فسوف أعيث في غرب وشرق

وعنوان طبقته في النثر أنّ موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس : كفّ لسانك ، فقال : لساني كالمفصل ، ما أكفّه إلّا حيث يقتل. وأضافه ابن حيّان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك ، وهو الذي وجّهه إلى الأندلس غازيا ففتح قرطبة ، ثم عاد إلى المشرق ، فأعاده الوليد رسولا عنه إلى موسى بن نصير يستحثّه على القدوم عليه ، فوفد معه ، فوجدوا الوليد قد مات ، فخدم بعده سليمان بن عبد الملك.

١٤ ـ ١٥ ـ ومن الداخلين أيوب بن حبيب اللخمي.

ذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير ، وأنّ أهل إشبيلية قدّموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى ، واتّفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة ، فدخل إليها بهم ، وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر ، وقيل : إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي. قال الرازي : قدم الحرّ واليا على الأندلس في ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية ، فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين ، وقال ابن بشكوال : كانت مدة الحرّ سنتين وثمانية أشهر ، وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي (٢).

١٦ ـ ٢٦ ـ ومن الداخلين السّمح بن مالك الخولاني.

ولي الأندلس بعد الحرّ بن عبد الرحمن السابق. قال ابن حيان : ولّاه عمر بن

__________________

(١) في أ : «فأضغنها».

(٢) في الأصول هنا أبو أيوب بن حبيب وانظر أخبار مجموعة ص ١٥.

٢٩٥

عبد العزيز ، وأوصاه أن يخمّس (١) من أرض الأندلس ما كان عنوة (٢) ، ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها ، قال : وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم ، قالوا : وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل ، فإنّ مصيرهم مع الكفار إلى بوار (٣) إلّا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته.

وذكر ابن حيان أن قدوم السّمح كان في رمضان سنة مائة ، وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعد ما استأذن عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله تعالى! وكانت دار سلطانه قرطبة.

قال ابن بشكوال : استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة.

قال ابن حيان : كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر ، وذكر أنه قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط ، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين ، فلم ينج من المسلمين أحد.

قال ابن حيان : فيقال : إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن.

وقدّم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي.

وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس ، وأنه يروي عن عبد الله بن عمر ، رضي الله تعالى عنهما! قال : وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية ، واستشهد في قتال العدوّ بالأندلس سنة خمس عشرة ، انتهى.

وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح ، وأن السمح قتل سنة ١٠٢ ، وهذا يقول تولّى سنة ١١٠ ، فأين ذا من ذاك؟ والله تعالى أعلم.

ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم. وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين ، وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدّمناه قريبا ، ويضعفه أن ابن حيان قال : دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة ، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمّة إلى أن استشهد ، وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة ١١٤ ، في موضع يعرف ببلاط الشهداء.

__________________

(١) يخمس : يأخذ الخمس.

(٢) ما كان عنوة : أي ما فتح حربا.

(٣) البوار : الهلاك.

٢٩٦

قال ابن بشكوال : وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط ، وقد تقدّم مثل هذا في غزوة السّمح ، فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر ، وفي رواية سنتين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك ، وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة.

وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي ، وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس واليا من قبل يزيد بن أبي مسلم ، كاتب الحجاج ، حين كان صاحب إفريقية ، وكان قدومه الأندلس في صفر سنة ١٠٣ ، فتأخّر بقدومه عبد الرحمن المتقدّم الذكر. قال ابن بشكوال : فاستقامت به الأندلس ، وضبط أمرها ، وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة ١٠٧ ، فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر. وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علج خبيث يدعى بلاي ، فعاب على العلوج طول الفرار ، وأذكى (١) قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثأر ، ودافع عن أرضه ، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عمّا بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم ، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك ، وقيل : إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلّا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة ، وما لهم عيش إلّا من عسل النحل في جباح معهم في خروق الصخرة ، وما زالوا ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم ، واحتقروهم ، وقالوا : ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم؟ فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوّة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.

وملك بعده أذفونش جدّ عظماء الملوك المشهورين بهذه السّمة (٢).

قال ابن سعيد : فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة ، حتى إنّ حضرة قرطبة في يدهم الآن ، جبرها الله تعالى! وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة. ا ه.

قال ابن حيان والحجاري : إنه لمّا استشهد عنبسة قدّم أهل الأندلس عليهم عذرة (٣) بن عبد الله الفهري. ولم يعدّه ابن بشكوال في سلاطين الأندلس ، بل قال : ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية : أولهم يحيى بن سلمة ، وذكر الحجاري أن عذرة

__________________

(١) أذكى قرائحهم : أججها.

(٢) السمة : في الأصل العلاقة. وهنا الاسم الذي كان ملوكهم يتسمون به كما يقال مثلا لملوك الفرس : كسرى ، ولملوك الروم : قيصر ، ولملوك مصر : فرعون ، وهكذا.

(٣) كذا في أ ، ب ، وفي ه «عزرة» محرفا.

٢٩٧

كان من صلحائهم وفرسانهم ، وصار لعقبه نباهة ، وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس ، وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب ، قال ابن سعيد : وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصّل ، ومجد مؤثّل ، وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة.

وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي ؛ قال ابن بشكوال : أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها واليا بعد مقتل أميرهم عنبسة ، فقدمها في شوال سنة سبع ومائة ، وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوة ، ونحوه لابن حيان ، وكان سريره قرطبة.

وتولّى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي ، وذكر ابن بشكوال : أنه قدم عليها واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي ، صاحب إفريقية ، في شعبان سنة عشر ومائة ، ثم عزل سريعا بعد خمسة أشهر ، وكان سرير سلطانه بقرطبة.

وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي ، قال ابن بشكوال : وأتى إليها واليا من قبل عبيدة المذكور ، على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولّى قبل صاحبه ، وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة ، وعزل عنها سريعا أيضا ، وقيل : إنّ ولايته استتمّت سنة ، وكان بقرطبة.

وولي بعده الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي (١) ؛ قال ابن بشكوال : ولّاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة ، وقيل : إنه ولي سنتين وأياما ، وقد قيل : أربعة أشهر ، وكان بقرطبة.

وولي بعده محمد بن عبدالله الأشجعي ؛ قال ابن بشكوال : قدّمه الناس عليهم ، وكان فاضلا فصلّى بهم شهرين.

قال : ثم قدم عليهم واليا عبدالرحمن بن عبد الله الغافقي الذي تقدّمت ترجمته ، وذكرت ولايته الأولى للأندلس ، وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب ، صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدّم.

وولي الأندلس بعده عبدالملك بن قطن الفهري ، وذكر الحجاري أنّ من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجدّ أعيان إشبيلية. قال ابن بشكوال : قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائة فكانت مدّة ولايته عامين ، وقيل : أربع سنين ، ثم عزل عنها ذميما

__________________

(١) لقد ورد هذا الاسم في الأصول «الهيثم بن عدي الكلابي».

٢٩٨

في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة ، قال : وكان ظلوما في سيرته ، جائرا في حكومته ، وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم. وذكر ابن بشكوال أنه لمّا عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه ، لا أدري أقتله أم أخرجه ، وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس ، فغلبه عليها ، وقتل عبدالملك بن قطن ، وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر ، وصلب بصحراء ربض قرطبة (١) بعدوة النهر حيال رأس القنطرة ، وصلبوا عن يمينه خنزيرا وعن يساره كلبا ، وأقام شلوه (٢) على جذعه إلى أن سرقه مواليه بالليل وغيّبوه ، فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن. فلمّا ولي ابن عمّه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك ، وبنى فيه مسجدا نسب إليه ، فقيل : مسجد أمية ، وانقطع عنه اسم المصلب ، وكان سنّ عبدالملك عند مقتله نحو التسعين ، وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولّاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع عشرة ومائة ، وقيل : في السنة التي قبلها ، فأقام بها سنين محمود السيرة ، مثابرا على الجهاد ، مفتتحا للبلاد ، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة ، وصار رباطهم على نهر ردونة ، فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة ، وكان قد اتّخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد ، وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبيّن له عيوب دينه ، فأسلم على يده ألفا رجل ، وكانت ولايته خمس سنين وشهرين. قال الرازي : فثار أهل الأندلس بعقبة ، فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبدالملك ، وولّوا على أنفسهم عبدالملك بن قطن ، وهي ولايته الثانية ، فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر ، وتوفي في صفر سنة ١٢٣ ، وسريره قرطبة.

٢٧ ـ ٣١ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري.

قال ابن حيان : لمّا انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ما كان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض (٣) شقّ عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية ، وولّى عليها كلثوم بن عياض القشيري ، ووجّه معه جيشا كثيفا لقتالهم ، كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفا ، ومع ذلك فإنه لمّا تلاقى مع ميسرة البربري المدّعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة ، وكان بلج ابن

__________________

(١) ربض المدينة : سورها. أو ناحية المدينة وضاحيتها.

(٢) الشلو : العضو ، أو كل مسلوخ أخذ منه شيء وبقيت أشياء ، وجمعه أشلاء ، وأراد هنا الجثة.

(٣) عاث في الأرض ، عيثا وعيوثا وعيثانا : أفسد.

٢٩٩

أخيه معه ، فقامت قيامة هشام لمّا سمع بما جرى عليه ، فوجّه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر وفتح الله تعالى على يديه. ولمّا اشتدّ حصار بلج وعمّه كلثوم ومن معهما من فلّ أهل الشام (١) بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد إلى الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس ، فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم ، فلمّا شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم ، فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرة (٢) أمسكا من أرماقهم (٣) ، فلمّا بلغ ذلك عبد الملك بن قطن ضربه سبعمائة سوط ، ثم اتّهمه بعد ذلك بتغريب الجند عليه (٤) ، فسمل عينيه (٥) ، ثم ضرب وصلب عن يساره كلبا ، واتفق في هذا الوقت أنّ برابر الأندلس لمّا بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتقضوا على عرب الأندلس ، واقتدوا بما فعله إخوانهم ، ونصبوا عليهم إماما ، فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن ، واستفحل أمرهم ، فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببرّ العدوة من إخوانهم ، وبلغه أنهم قد عزموا على قصده ، فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين ، فكتب لبلج وقد مات عمّه كلثوم في ذلك الوقت ، فأسرعوا إلى إجابته ، وكانت أمنيتهم ، فأحسن إليهم ، وأسبغ النعم عليهم ، وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن ، فإذا فرغوا له من البربر هزمهم إلى إفريقية ، وخرجوا له عن أندلسه ، فرضوا بذلك ، وعاهدوه عليه ، فقدّم عليهم وعلى جنده ابنيه قطنا وأمية ، والبربر في جموع لا يحصيها غير رازقها ، فاقتتلوا قتالا صعب فيه المقام ، إلى أن كانت الدائرة على البربر ، فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلّهم بالثغور ، وخفوا عن العيون ، فكرّ الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم ، فاشتدّت شوكتهم ، وثابت همتهم (٦) ، وبطروا ، ونسوا العهود ، وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى إفريقية ، فتعلّلوا عليه ، وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة ، وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة ، فخلعوه ، وقدّموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر ، وتبعه جند ابن قطن ، وحملوا عليه في قتل ابن قطن ، فأبى فثارت اليمانية وقالوا : قد حميت لمضرك ، والله لا نطيعك ، فلما خاف تفرّق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامة قد حضر وقعة الحرّة مع أهل اليمامة ، فجعلوا يسبّونه ، ويقولون له : أفلتّ من

__________________

(١) الفل : الجماعة المنهزمون ، وجمعه فلول وأفلال.

(٢) الميرة : الطعام.

(٣) الأرماق : جمع رمق ، وهو بقية الروح.

(٤) في ب «بتضريب الجند عليه».

(٥) سمل عينيه : فقأهما بحديدة محمّاة.

(٦) ثابت همتهم : عادت.

٣٠٠