نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

وكتب ناصر الدين صاحب دواوين الإنشاء ما صورته : وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدر في انتظامه ، والثغر في ابتسامه ، وقطر الندى في انسجامه ، وزهر الروض في البكر (١) إذا غنت على غصونه مطربات حمامه ، فوجدت بين اسمه ومسماه مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم ، واتصالا قريبا كاتصال الصديق الحميم ، فتحققت أن مؤلفه ـ أبقاه الله تعالى وحرسه! ـ أبدع في تأليفه ، وأصاب في تمييزه بهذا الاسم وتعريفه ، فهو في اللطافة كالماء في إروائه ، وكالهواء المعتدل في ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه ، وكالسلك إذا انتقى جوهره وأجيد في انتقائه ، قد أينعت ثمرات فضائله فأصبحت دانية القطوف ، وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف ، وانجابت ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لآذان الجوزاء شنوف ، فأكرم به من كتاب ما الروض بأبهى من وسيمه ، ولا الرّيحان بأعطر من شميمه (٢) ، ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه ، ولا الدر بأسنى زهرا بل زهوا من رسومه ، إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين ، عن نغمات القوانين ، وإذا تأمله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين ، قد سوّر على كل نوع من البديع باب ، لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللّباب (٣) ، والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب ، ويمتع بفضائله التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب ، بمنه وكرمه ، وكتبه محمد بن يعقوب الشافعي.

وكتب الصفدي شارح لامية العجم بما نصه : وقفت على هذا المصنف الموسوم بنسيم الصبا ، والتأليف الذي لو مرّ بالمجنون لما ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا ، والإنشاد الذي إن شاء قائله جعل الكلام غيره في هبّات الهواء هبا ، والنثر الذي أغار قائله على سبائك الذهب الإبريز (٤) وسبا ، والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحدا وما له ذكر ولا نبا (٥) ، فسبّحت جواهر حروفه لمن أوجده في هذا العصر ، وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب حساده بشرر كالقصر ، وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر ، وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنّى ولا هصر : [بحر الطويل]

وقلت لأهل النظم والنثر قابلوا

(ترائبها مصقولة كالسجنجل) (٦)

وميلوا بأعطاف التعجب إنها

(نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل) (٧)

__________________

(١) البكر : جمع بكرة ، وهي الغدوة.

(٢) الشميم : الرائحة الطيبة.

(٣) اللباب : الخالص من كل شيء.

(٤) الذهب الإبريز : الذهب الخالص الصافي.

(٥) ولا نبا : ولا نبأ مهموز ، مخففة لأجل السجعة.

(٦) عجز البيت من معلقة امرئ القيس ، والسجنجل : المرآة.

(٧) عجز البيت من معلقة امرئ القيس أيضا.

٢٦١

ولما ملت بعد ما ثملت ، وغزلت بعد ما هزلت ، جردت من نفسي شخصا أخاطبه وأجاريه ، في أوصاف محاسنها التي أناهبه منها وأناهيه ، فقال لي : هذا الفن الفذ ، والنثر الذي قهر أقران هذه الصناعة وبذ ، والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فاته شيء ولا شذ ، وهذا الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب ، وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب ، فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة ، والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعد ما كان بالساهرة ، ومتع الله تعالى الزمان وأهله بهذا النوع الغض ، والنقد النض ، والبز البض ، والبديع الذي رمّ ما تشعّث من ربع هذا الفن ورض ، واقتض المعاني أبكاره وافتض ، وأرسل جارح بلاغته على الجوارح فصادها وانقص وانقض ، وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفضّ ، واستمال القلب الفظ لما فك ختم ذهوله وفض ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، بمنه وكرمه ، وكتبه خليل الصفدي ، انتهى.

٣٠٣ ـ ومنهم الأديب أبو جعفر الإلبيري.

رفيق ابن جابر السابق الذكر ، وهو البصير وابن جابر الأعمى ، وله نظم بديع منه قوله : [بحر السريع]

أبدت لي الصدغ على خدها

فأطلع الليل لنا صبحه

فخدها مع قدها قائل

(هذا شقيق عارض رمحه) (١)

وقوله وقد دخل حمص : [بحر السريع]

حمص لمن أضحى بها جنة

يدنو لديها الأمل القاصي (٢)

حل بها العاصي ألا فاعجبوا

من جنة حل بها العاصي (٣)

وقوله : [بحر الخفيف]

إن بين الحبيب عندي موت

وبه قد حييت منذ زمان (٤)

ليت شعري متى تشاهده العي

ن وتقضي من اللقاء الأماني

__________________

(١) عجز البيت من صدر البيت التالي :

جاء شقيق عارضا رمحه

إن بني عمك فيهم سلاح

(٢) القاصي : البعيد.

(٣) العاصي : النهر الذي يمر بحمص ويسقي بساتينها.

(٤) بين الحبيب : بعده وفراقه.

٢٦٢

قال : وفيه استخدام ، لأن البين يطلق على البعد والقرب ، انتهى.

ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]

ومورد الوجنات دبّ عذاره

فكأنه خط على قرطاس

لما رأيت عذاره مستعجلا

قد رام يخفي الورد منه بآس

ناديته قف لي أودع ورده

(ما في وقوفك ساعة من باس) (١)

وهذا المعنى قد تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره ، فمنهم من جلى وبرز ، وحاز خصل السبق وأحرز ، ومنهم من كان مصليا ، ومنهم من غدا لجيد الإحسان محليا ، ومنهم من عاد قبل الغاية موليا.

رجع ـ ومن تأليفه رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور ، وقال في خطبته : ولما كانت القصيدة المنظومة في علم البديع المسماة «بالحلة السيرا في مدح خير الورى» التي أنشأها صاحبنا العلامة (٢) شمس الدين أبو عبد الله بن جابر الأندلسي ، نادرة في فنها ، فريدة في حسنها ، تجنى (٣) ثمر البلاغة من غصنها ، وتنهل سواكب الإجادة من مزنها (٤) ، لم ينسج على منوالها ، ولا سمحت قريحة بمثالها ، رأيت أن أضع لها شرحا يجلو عرائس معانيها لمعانيها ، ويبدي غرائب ما فيها لموافيها ، لا أملّ الناظر فيه بالتطويل ، ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل ، فخير الأمور أوسطها ، والغرض ما يقرب المقاصد ويضبطها ، فأعرب من ألفاظها كل خفي ، وأسكت من لغاتها عن كل جلي ، والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه ، ويوردنا أحسن الموارد فيما أردناه ، انتهى ، وسمي الشرح المذكور «طراز الحلة ، وشفاء الغلة» (٥) ومما أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله : [بحر السريع]

طيبة ما أطيبها منزلا

سقى ثراها المطر الصيب

طابت بمن حل بأرجائها

فالترب منها عنبر طيب

يا طيب عيشي عند ذكري لها

والعيش في ذاك الحمى أطيب

__________________

(١) عجز هذا البيت من شعر أبي تمام الطائي.

(٢) في ب : «صاحبنا الإمام العلامة».

(٣) في ب : «يجنى ثمر» ...

(٤) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.

(٥) الغلّة : شدة العطش.

٢٦٣

وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصه : وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي : كيف جاء إلى قصر مشيد ، ومحل سرور جديد ، فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية ، والمنازل الدارسة الخالية ، فقال :

يا دار غيّرك البلى ومحاك

فأحزن في موضع السرور ، وأجرى كلامه على عكس الأمور ، وانظر إلى قول القطامي : [بحر البسيط]

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

وإن بليت وإن طالت بك الطّيل (١)

فانظر كيف جاء إلى طلل بال ، ورسم خال ، فأحسن حين حياه ، ودعا له بالسلامة ، كالمبتهج برؤية محيّاه ، فلم يذكر دروس الطلل وبلاه ، حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة ، والذي فتح هذا الباب ، وأطنب فيه غاية الإطناب ، صاحب اللواء ، ومقدم الشعراء (٢) ، حيث قال : [بحر الطويل]

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وهل يعمن إلا سعيد مخلد

قليل هموم ما يبيت بأوجال

قيل : وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة ، لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة ، انتهى.

وقال رحمه الله تعالى عند رحيله من غرناطة وأعلام نجد تلوح ، وحمائمه تشدو على الأيك وتنوح : [بحر الطويل]

ولما وقفنا للوداع وقد بدت

قباب بنجد قد علت ذلك الوادي

نظرت فألفيت السبيكة فضة

لحسن بياض الزهر في ذلك النادي

فلما كستها الشمس عاد لجينها

لها ذهبا فاعجب لإكسيرها البادي (٣)

والسبيكة : موضع خارج غرناطة.

وقال رحمه الله : [بحر الخفيف]

هذه عشرة تقضّت وعندي

من أليم البعاد شوق شديد

__________________

(١) الطّيل والطّول واحدة ، وهو الحبل الطويل يربط في وتد ويطول للدابة لترعى.

(٢) صاحب اللواء ومقدم الشعراء هو امرؤ القيس ، وأشار هنا إلى الحديث الشريف «امرؤ القيس حامل لواء الشعراء إلى النار».

(٣) اللجين : الفضة.

٢٦٤

وإذا ما رأيت إطفاء شوقي

بالتلاقي فذاك رأي سديد

وقال رحمه الله تعالى وقد أهدى طاقية : [بحر مجزوء الكامل]

خذها إليك هدية

ممن يعز على أناسك

اخترتها لك عندما

أضحت هدية كل ناسك

أرسلتها طاقية

لتنوب في تقبيل راسك (١)

وله من رسالة : وافى كتابك فوجدناه أزهى من الأزهار ، وأبهى من حسن الحباب (٢) على الأنهار. يشرق إشراق نجوم السماء ، ويسمو إلى الأسماع سمو حباب الماء.

وقال رحمه الله تعالى في العروض على مذهب الخليل : [بحر الكامل]

خلّ الأنام ولا تخالط منهم

أحدا ولو أصفى إليك ضمائره

إن الموفّق من يكون كأنه

متقارب فهو الوحيد بدائره

وقال على مذهب الأخفش : [بحر الكامل]

إن الخلاص من الأنام لراحة

لكنه ما نال ذلك سالك

أضحى بدائرة له متقارب

يرجو الخلاص فعاقه متدارك

وله : [بحر مخلع البسيط]

دائرة الحب قد تناهت

فما لها في الهوى مزيد

فبحر شوقي بها طويل

وبحر دمعي بها مديد

وإنّ وجدي بها بسيط

فليفعل الحسن ما يريد

وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا ، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي قال أبو جعفر المترجم له : أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة : [بحر السريع]

وبي عروضيّ سريع الجفا

يغار غصن البان من عطفه (٣)

الورد من وجنته وافر

لكنه يمنع من قطفه

قال : وأنشدنا أيضا لنفسه : [بحر السريع]

__________________

(١) في ب ، ه : «لتنوب عن تقبيل رأسك».

(٢) الحباب : الفقاقيع التي تظهر على سطح الماء أو الخمر.

(٣) عروضيّ : صنعته علم العروض.

٢٦٥

وبي عروضي سريع الجفا

وجدي به مثل جفاه طويل

قلت له قطّعت قلبي أسّى

فقال لي التقطيع دأب الخليل (١)

وأنشد رحمه الله تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك : [بحر البسيط]

إن صدّ عني فإني لا أعاتبه

فما التنافر في الغزلان تنقيص

شوقي مديد وحبي كامل أبدا

لأجل ذلك قلبي فيه موقوص (٢)

وأنشدنا في ذلك أيضا (٣) : [بحر الخفيف]

عالم بالعروض يخبن قلبي

في مديد الهوى بلحظ سريع

عنده وافر من الرّدف يبدو

وخفيف من خصره المقطوع

وله : [بحر الكامل]

سبب خفيف خصرها ، ووراءه

من ردفها سبب ثقيل ظاهر

لم يجمع النوعان في تركيبها

إلا لأن الحسن فيها وافر

وله : [بحر المجتث]

صدوده لي مديد

وأمر حبي طويل

وفيه أسباب حسن

وتلك عندي الأصول (٤)

فخصره لي خفيف

وردفه لي ثقيل

وقد ذكر أبو جعفر ـ رحمه الله تعالى! ـ لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة ، منها قوله : [بحر الكامل]

يا أيها الحادي اسقني كأس السّرى

نحو الحبيب ومهجتي للساقي

حي العراق على النوى واحمل إلى

أهل الحجاز رسائل العشاق

يا حسن ألحان الحداة إذا جرت

نغماتها بمسامع المشتاق

وأورده له أيضا : [بحر الكامل]

يا حسن ليلتنا التي قد زارني

فيها فأنجز ما مضى من وعده

__________________

(١) هنا تورية بالخليل ، وهو الصديق ، بالخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض.

(٢) استعمل الشاعر هنا مصطلحات العروض.

(٣) في ب : «وأنشد له أيضا في ذلك».

(٤) في ه : «وتلك فهي الأصول». وفي باقي النسخ ما أثبتناه.

٢٦٦

قوّمت شمس جماله فوجدتها

في عقرب الصّدع الذي في خدّه

رجع إلى أبي جعفر ـ رحمه الله تعالى! ـ ومن فوائده أنه لما ذكر فذلكة الحساب فقال : هي التي يضعها (١) أهل الحساب آخر جملهم المتقدمة فيقولون : فذلك كذا (٢) كذا ، انتهى.

ولما أنشد رحمه الله تعالى قول بعضهم : [مجزوء الوافر]

غزال قد غزا قلبي

بألحاظ وأحداق

له الثلثان من قلبي

وثلثا ثلثه الباقي

وثلثا ثلث ما يبقى

وباقي الثلث للساقي

وتبقى أسهم ست

تقسم بين عشاق

قال ما نصه : هذا الشاعر قسم قلبه إلى ٨١ سهما ، فجعل لمحبوبه منها الثلثين ٥٤ ، وبقي الثلث ٢٧ ، فزاده ثلثيه ١٨ ، فصار له ٧٢. يبقى ثلث الثلث وهو ٩ ، زاده منها ثلثي ثلثها ، وهو اثنان ، وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي ، فبقي من التسعة ستة ، قسمها بين العشاق ، فاجتمع لمحبوبه ٧٤ ، وللساقي سهم واحد ، وللعشاق ستة ، والجملة ٨١ ، انتهى.

وأنشد رحمه الله تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر : [بحر الخفيف]

قسم القلب في الغرام بلحظ

يضرب القلب حين يرسل سهمه

هذه في هواه يا قوم حالي

ضاع قلبي ما بين ضرب وقسمه

وأنشد له في الهندسة : [بحر الطويل]

محيط بأشكال الملاحة وجهه

كأن به أقليدسا يتحدّث

فعارضه خط استواء ، وخاله

به نقطة ، والشكل شكل مثلث

وأنشد له في خط الرمل : [بحر الخفيف]

فوق خديه للعذار طريق

قد بدا تحته بياض وحمره

قيل ما ذا فقلت أشكال حسن

تقتضي أن أبيع قلبي بنظره

وأنشد له في علم الخط : [بحر المنسرح]

__________________

(١) في ب ، ه : «هي التي يصنعها أهل الحساب».

(٢) في ب : «كذا وكذا».

٢٦٧

قد حقق الحسن نور حاجبه

وخطّ في الصّدغ واو ريحان

ومدّ من حسن قدّه ألفا

أوقف عيني وقوف حيران

وأنشد له أيضا : [بحر الكامل]

ألف ابن مقلة في الكتاب كقدّه

والنون مثل الصدغ في التحسين

والعين مثل العين لكن هذه

شكلت بحسن وقاحة ومجون

وعلى الجبين لشعره سين بدت

حار ابن مقلة عند تلك السين

قل للذي قد خط تحت الصدغ من

خيلانه نقطا لجلب فنون

يا للرجال ويا لها من فتنة

في وضع ذاك النقط تحت النون

وأورد له في ذكر الأقلام السبعة وغيرها : [بحر البسيط]

تعليق ردفك بالخصر الخفيف له

ثلث الجمال وقد وفّته أجفان

خد عليه رقاع الروض قد جعلت

وفي حواشيه للصدغين ريحان

خطّ الشباب بطومار العذار به

سطرا ففضّاحه للناس فتان (١)

محقق نسخ صبري عن هواه ومن

توقيع مدمعي المنثور برهان

يا حسن ما قلم الأشعار خطّ على

ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان

أقسمت بالمصحف الشامي وأحرفه

ما مر بالبال يوما عنك سلوان

ولا غبار على حبي فعندك لي

حساب شوق له في القلب ديوان

وأنشد له : [بحر السريع]

يا صاحب المال ألم تستمع

لقوله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ)(٢)

فاعمل به خيرا فو الله ما

يبقى ولا أنت به مخلد

وله : [بحر الكامل]

إن شئت أن تجد العدوّ وقد غدا

لك صاحبا يولي الجميل ويحسن

فاعمل كما قال الخبير بخلقه

في قوله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٣)

__________________

(١) الطومار ، والطامور : الصحيفة.

(٢) سورة النحل الآية ٩٦.

(٣) سورة المؤمنون الآية ٩٦. وسورة فصلت ، الآية ٣٤.

٢٦٨

وله : [بحر المتقارب]

إذا شئت رزقا بلا حسبة

فلذ بالتقى واتبع سبله

وتصديق ذلك في قوله

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ)(١)

وأورد له أيضا : [بحر الرمل]

عمل إن لم يوافق نية

فهو غرس لا يرى منه ثمر

«إنما الأعمال بالنيات» قد

نصّه عن سيد الخلق عمر

وقوله : [بحر الكامل]

الخير في أشياء عن خير الورى

وردت فأبدت كل نهج بيّن

دع ما يريبك ، واعملنّ بنية ،

وازهد ولا تغضب ، وخلقك حسّن

وقوله : [بحر الوافر]

حياء المرء يزجره فيخشى

فخف من لا يكون له حياء

فقد قال الرسول بأن مما

به نطق الكرام الأنبياء

إذا ما أنت لم تستحي فاصنع

كما تختار وافعل ما تشاء

وقوله : [مخلع البسيط]

قال الرسول «الحياء خير»

فاصحب من الناس ذا حياء

وعن قليل الحياء فابعد

فخيره ليس ذا رجاء

وقوله : [بحر المنسرح]

من سلم المسلمون كلهم

وآمنوا من لسانه ويده (٢)

فذلك المسلم الحقيق ، بذا

جاء حديث لا شك في سنده

ولابن جابر مما كتب به إلى الصلاح الصّفدي : [بحر البسيط]

إن البراعة لفظ أنت مغناه

وكل شيء بديع أنت معناه

إنشاد نظمك أشهى عند سامعه

من نظم غيرك لو إسحاق غنّاه (٣)

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية ٢.

(٢) في ه : «وامنعوا من لسانه ويده» محرفا.

(٣) يريد إسحاق الموصلي.

٢٦٩

وهو طويلة ، فأجابه الصفدي بقوله : [بحر البسيط]

يا فاضلا كرمت فينا سجاياه

وخصّنا بالآلي في هداياه

خصصتني بقريض شفّ جوهره

لما تألق منه نور معناه (١)

من كل بيت مبانيه مشيدة

كم من خبايا معان في زواياه

وهي طويلة.

رجع إلى نظم أبي جعفر ـ فمن ذلك قوله : [بحر الطويل]

تريك قدا على ردف تجاذبه

كخوطة في كثيب الرمل قد نبتت (٢)

ريّا القرنفل في ريح الصبا سحرا

يضوع منها إذا نحوي قد التفتت

عقد بهما ألفاظ قول امرئ القيس : [بحر البسيط]

إذا التفتت نحوي تضوّع ريحها

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

وأورد له قوله : [بحر الطويل]

ولو لا نجاء العيس حول ديارها

غداة منّى لم يبق في الركب محرم

ففوق ذرى المتنين برد مهلل

وتحت رداء الخز وجه معلم

عقد في الأول قول قيس بن الخطيم : [بحر الطويل]

ديار التي كنا ونحن على منّى

تحوط بنا لو لا نجاء الركائب

وعقد في الثاني قول ابن أخي ربيعة : [بحر الطويل]

أماطت رداء الخز عن حرّ وجهها

وأرخت على المتنين بردا مهللا (٣)

وأورد له قوله : [بحر البسيط]

إن ادعى لك مروان الجلال فقل

لا يجهل المرء بين الناس رتبته

__________________

(١) القريض : الشعر.

(٢) الخوطة : الغصن الناعم.

(٣) أماطت : نحّت وأبعدت.

٢٧٠

إن الجلالة حقا للمقول له

«هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» (١)

وقوله : [بحر السريع]

من منصفي يا قوم من ظبية

تسرف في هجري وتأبى الوصال

وكلما أسأل عن عذرها

تقول لي : ما كل عذر يقال

وقوله : [بحر الوافر]

هم حسدوا الرسول فلم يجيبوا

وكم حسدوا فصار لهم فرار

وهاجر عند ما هجروا فأضحى

لخيمة أم معبد الفخار (٢)

وقوله : [بحر الوافر]

بحسبك أن تبيت على رجاء

ولو حطّتك لليأس الخطوب

ومهما أقربتك صروف دهر

فقل ما قاله الرجل الأريب

(عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب)

وقوله : [بحر الطويل]

خليليّ هذا قبر أشرف مرسل

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)

رويدكما نبكي الذنوب التي خلت

(بسقط اللوى بين الدخول فحومل)

منازل كانت للتصابي فأقفرت

(لما نسجتها من جنوب وشمأل)

قال : ثم جرى على هذا النمط ، واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السّفط ، وقال قبله : إنه أخذ أعجاز هذه القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي ، وصنع لها صدورا ، وصرفها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه ، ولم يقف أحد في تلك المعاني على ما وقف عليه ، انتهى.

__________________

(١) عجز هذا البيت مأخوذ من بيت للفرزدق من قصيدته التي يمدح بها زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ويعرض لهشام بن عبد الله الملك حين سأل عن زين العابدين بقوله : من هذا؟ والبيت بكامله :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

(٢) أم معبد : هي المرأة التي قال في خيمتها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين هجرتهما إلى المدينة.

٢٧١

وقوله : [بحر الخفيف]

كم ليال خلت بكم كاللآلي

نظمتها لنا يد الأزمان

أيها النازحون عن رأي عيني

وهم في جوانحي وجناني

ما ألذّ الوصال بعد التنائي

وأمر الفراق بعد التداني (١)

قد وكلنا كم لرب كريم

غير وان عن عبده في أوان

ما رحلنا عن اختيار ولكن

رحلتنا تلوّنات الزمان

وقوله : [بحر الخفيف]

تشتكي الصفر من يديه وترضى السم

ر عن راحتيه عند الحروب (٢)

أحمر السيف أخضر السيب حيث الأر

ض غبراء من سواد الخطوب (٣)

وقوله مما التزم في أوله الدال : [بحر الطويل]

دفاع لمكروه ، أمان لخائف

سحاب لمستجد ، هلاك لمستعدي

دروب على الحسنى ، عفوّ لمن جنى

مثيب لمن أثنى ، مجيب لذي قصد

دع الغيث إن أعطى ، دع الليث إن سطا

دع الروض إذ يهدي ، دع البدر إذ يهدي(٤)

وقوله : [بحر الوافر]

غزال ما توسّد ظلّ بان

بهاجرة ولا عرف الظلالا (٥)

تبسم لؤلؤا ، واهتز غصنا

وأعرض شادنا ، وبدا هلالا

وقوله : [بحر الخفيف]

رفع الخصر فوق منصوب ردف

ولجزم القلوب فرعيه جرّا

مال غصنا ، دنا رشا ، فاح مسكا

تاه درا ، أرخى دجى ، لاح بدرا (٦)

وقوله حين زار قبر قسّ بن ساعدة بجبل سمعان : [بحر مجزوء الكامل]

__________________

(١) التنائي : التباعد. والتداني : التقارب.

(٢) الصفر : هنا الدنانير. والسمر : الرماح.

(٣) السيب : العطاء.

(٤) في أ : «أهدى».

(٥) الهاجرة : نصف النهار في الحر الشديد من زوال الشمس حتى العصر. أو شدة الحر.

(٦) في ب : «رنا رشا ..».

٢٧٢

هذي منازل ذي العلا

قسّ بن ساعدة الإيادي

كم عاش في الدنيا وكم

أسدى إلينا من أيادي

قد زانها بحلى البلا

غة مفصحا في كل نادي

قد قرّ في بطن الثرى

متفرّدا بين العباد

قال أبو جعفر : زرنا قبره فرأينا موضعا ترتاح إليه النفس ، ويلوح عليه الأنس ، وعند قبره عين ماء يقال : إنه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك ، وأورد له قوله : [بحر الطويل]

كرام فخام من ذؤابة هاشم

يقولون للأضياف أهلا ومرحبا

فيفعل في فقر المقلّين جودهم

كفعل عليّ يوم حارب مرحبا (١)

رجع إلى أبي جعفر رحمه الله تعالى ـ فنقول : إنه كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ٧٥٥ ، ولما ذكر الروضة قال : قيل : ولا تكون الروضة إلا بما سقتها ، أزال جنبها (٢) ، ولا يقال في موضع الشجر روضة ، انتهى ، وقال : [بحر مجزوء الكامل]

لقوامه الألف التي

جاءت بحسن ما ألف

عانقته فكأنني

لام معانقة الألف

وقال رحمه الله تعالى معتذرا عمن لم يسلم : [بحر البسيط]

لا تعتبن على ترك السلام فقد

جاءتك أحرفه كتبا بلا قلم

فالسين من طرّتي واللام مع ألف

من عارضيّ وهذا الميم ميم فمي

وقال رحمه الله تعالى : [بحر المجتث]

لا يقنطنّك ذنب

قد كان منك عظيم (٣)

فالله قد قال قولا

وهو الجواد الكريم

__________________

(١) مرحب : هو أحد رجال يهود خيبر وفرسانهم. لما غزا رسول الله خيبر خرج يريد المنزل وهو يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

وقد أورد ابن إسحاق أن الذي قتله هو محمد بن مسلمة. انظر السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٥).

(٢) في ب : «إلا بماء يسقيها أو إلى جنبها» ..

(٣) القنوط : اليأس.

٢٧٣

نبّىء عبادي أني

أنا الغفور الرحيم(١)

وقال : [بحر المتقارب]

إذا ظلم المرء فاصبر له

فبالقرب يقطع منه الوتين

فقد قال ربك وهو القوي

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(٢)

ومن نثره لما ذكر قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصه : وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ ، والحكم الذي لم يوجد له ناسخ ، أنشدها كعب في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه ، وتوسّل بها فوصل إلى العفو عن عقابه ، فسدّ صلى الله عليه وسلم خلّته (٣) ، وخلع عليه حلّته ، وكف عنه كفّ من أراده ، وأبلغه في نفسه وأهله مراده ، وذلك بعد إهدار دمه ، وما سبق من هذر كلمه (٤) ، فمحت حسناتها تلك الذنوب ، وسترت محاسنها وجه تلك العيوب ، ولولاها لمنع المدح والغزل ، وقطع من أخذ الجوائز على الشعر الأمل ، فهي حجة الشعراء فيما سلكوه ، وملاك أمرهم فيما ملكوه ، حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب ، فقيل له في ذلك ، فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قصيدة كعب أنشدها بين يديك؟ فقال : نعم ، وأنا أحبها وأحب من يحبها ، قال : فعاهدت الله أني (٥) لا أخلو من قراءتها كل يوم.

قلت : ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها ، ويقتدون بأقوالها ، تبركا بمن أنشدت بين يديه ، ونسب مدحها إليه ، ولما صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم على وزن «بانت سعاد» قال : [بحر الطويل]

لقد قال كعب في النبيّ قصيدة

وقلنا عسى في مدحه نتشارك

فإن شملتنا بالجوائز رحمة

كرحمة كعب فهو كعب مبارك

انتهى.

وقال رحمه الله تعالى : [بحر الوافر]

لقد كر العذار بوجنتيه

كما كر الظلام على النهار

فغابت شمس وجنته وجاءت

على مهل عشيّات العذار

__________________

(١) انظر سورة الحجر الآية : ٤٩.

(٢) انظر سورة الأعراف ، الآية ١٨٣.

(٣) الخلّة : الحاجة.

(٤) هذر الكلام : سقطه.

(٥) في أ : «أن لا أخلو».

٢٧٤

فقلت لناظري لما رآها

وقد خلط السواد بالاحمرار

(تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار)

وقال : [بحر الكامل]

قالوا عشقت وقد أضرّ بك الهوى

فأجبتهم يا ليتني لم أعشق

قالوا سبقت إلى محبة حسنه

فأجبتهم ما فاز من لم يسبق

ولما أنشد (١) رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله : [بحر الكامل]

ورد الورى سلسال جودك فارتووا

ووقفت دون الورد وقفة حائم

ظمآن أطلب خفة من زحمة

والورد لا يزداد غير تزاحم

قال ما نصه : فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته ، ووقعا من القلوب كالشهد في حلاوته ، مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه ، ولا تعدى ذلك المعنى نظامه ، حتى قيل : إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير ، فهما في الحسن ما لهما من نظير ، لكنه ما سلم مليح من عيب ، ولا خلا من وقوع ريب ، فمع هذه المحاسن الوافية ، ما سلما من عيب القافية ، انتهى.

ولنختم ترجمته بقوله عند شرح بيت رفيقه : [بحر البسيط]

خير الليالي ليالي الخير في إضم

والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم

ما نصه : يقول : إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور ، ويحمد فيها الورود والصدور ، ليالي الخير في إضم ، حيث النزيل لم يضم ، والقوم قد وردوا موارد الكرم ، وبلغوا أقصى مرادهم في ذلك الحرم.

٣٠٤ ـ ومن الراحلين الوليّ الصالح أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم بن بشر ، القيسي.

وهو ابن أخت ابن صاحب الصلاة البجانسي ، نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش ، وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ في أواسط المائة السابعة ، وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى الأزدي الفشتالي في تأليفه الذي سماه «تحفة المغرب ، ببلاد المغرب» وقال فيه : راضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرا وعلنا ، وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا ، وانتدبوا لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)) [العنكبوت : ٦٩].

__________________

(١) في أ : «ولما أنشدنا».

٢٧٥

وقال صاحب التأليف المذكور : سألت الشيخ أبا مروان يوما في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة تسع وأربعين وستمائة ، فقلت له : أنت يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل سفرك للمشرق ، ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق ، فقال لي : أقام الله تعالى لي (١) من باطني شيخا ، قلت له : كيف؟ قال : كنت إذا عرض لي أمر نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك ، أحدهما محمود والآخر مذموم ، فكنت أجتنب المذموم وأرتكب المحمود ، فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمن فيه من المشايخ والعلماء ، فأسأله عن ذلك ، فكان يذكر لي المحمود محمودا والمذموم مذموما ، فأحمد الله تعالى أن وفقني ، ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء ، انتهى.

ومن كلام صاحب التأليف المذكور قوله في حق الصوفية ، نفعنا الله تعالى بهم : حموا طريق الحق فحاماهم ، ونوّر بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم ، وأهانوا في رضاه نفوسهم ، ورفضوا نعماهم ، فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم ، انتهى.

وما أحسن قوله في التأليف المذكور : يا هذا ، من حافظ حوفظ عليه ، ومن طلب الخير بصدق وصل إليه ، ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه ، انتهى.

٣٠٥ ـ ومنهم الطبيب الماهر الشهير ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار ، المالقي ، نزيل القاهرة (٢).

وهو الذي عناه ابن سعيد في كتابه «المغرب» بقوله : وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتابا في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها ، وضبطه على حروف المعجم ، وهو النهاية في مقصده.

وقد ذكرت كلام ابن سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع ، فليراجع.

وكان ابن البيطار أوحد زمانه في معرفة النباتات (٣) ، سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب ، واجتمع بجماعة كثيرة من الذين يعانون هذا الفن ، وعاين منابته وتحققها ،

__________________

(١) «لي» غير موجودة في أ.

(٢) انظر ترجمته في فوات الوفيات ١ / ٤٣٤. وابن أبي أصيبعة ٢ / ١٣٣.

(٣) في ب ، ه : «في معرفة النبات».

٢٧٦

وعاد بعد أسفاره ، وخدم الكامل بن العادل ، وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش ، وجعله في الديار المصرية رئيسا على سائر العشّابين وأصحاب البسطات ، ومن بعده خدم ولده الصالح (١) ، وكان حظيا عنده ، إلى أن توفي بشعبان سنة ٦٤٦ التي توفي بها ابن الحاجب ، وله من المصنفات كتاب «الجامع في الأدوية المفردة» وكتاب «المغني» أيضا في الأدوية ، وكتاب «الإبانة والإعلام ، بما في المنهاج من الخلل والأوهام» وكتاب «الأفعال العجيبة ، والخواص الغريبة» وشرح كتاب ديسقوريدوس ، قال الذهبي : انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته ، وأماكنه ومنافعه ، وتوفي بدمشق ، انتهى.

٣٠٦ ـ ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي ، القرشي ، البسطي ، الشهير بالقلصادي(٢) ـ بفتحات ـ كما قال السخاوي

الصالح ، الرحلة ، المؤلف ، الفرضي ، آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس ، وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض ، كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي ، وكفاه فخرا أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب ، وأجازه جميع مروياته ، وأصله من بسطة ، ثم انتقل إلى غرناطة ، فاستوطنها ، وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما ، ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس بن زاغ وغيرهم ، ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلول وغيرهم ، ثم حج ولقي أعلاما ، وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل ، فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل ، ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه ، ثم جدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجة سنة ٨٩١ ، وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف ، ومن تآليفه «أشرف المسالك ، إلى مذهب مالك» وشرح مختصر خليل ، وشرح الرسالة ، وشرح التلقين و «هداية الأنام ، في شرح مختصر قواعد الإسلام» وهو شرح مفيد ، وشرح رجز القرطبي ، و «تنبيه الإنسان ، إلى علم الميزان» و «المدخل الضروري» وشرح إيساغوجي في المنطق ، وله شرح الأنوار السنية لابن جزى ، وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله : [بحر الرجز]

__________________

(١) في ه : «خدم والده الصالح» وهو تحريف.

(٢) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٦٣. وقد جاء فيه أن القلصادي ولد سنة ٨١٥ ه‍ وتوفي سنة ٨٩١ ه‍.

٢٧٧

بحمد خير الوارثين أبتدي

وبالسراج النبويّ أهتدي

وشرح حكم ابن عطاء الله ، ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، وشرح البردة ، ورجز ابن بري ، ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله : [بحر الرجز]

سبحان رافع السماء سقفا

ناصبها دلالة لا تخفى

وشرح رجز أبي مقرعة (١) ، وله «النصيحة ، في السياسة العامة والخاصة» و «هداية النظّار ، في تحفة الأحكام والأسرار» و «كشف الجلباب ، عن علم الحساب» و «كشف الأسرار ، عن علم الغبار» و «التبصرة» و «قانون الحساب» في قدر التلخيص ، وشرحه ، وشرحان على التلخيص كبير وصغير ، وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة ، ومختصره ، وكليات الفرائض ، وشرحها ، وشرحان للتلمسانية كبير وصغير ، وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب ، وله كتاب «الغنية ، في الفرائض» و «غنية النحاة» ، وشرحاها الكبير والصغير ، و «تقريب المواريث» و «منتهى العقول البواحث» وشرح مختصر العقباني ، ولم يتم ، و «مدخل الطالبين» ومختصر مفيد في النحو ، شرح رجز ابن مالك ، والجرومية ، وجمل الزجاجي ، وملحة الحريري (٢) ، والخزرجية ، ومختصر في العروض ، وغير ذلك ، وأخذ بمصر عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلّي والتقى الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم ، حسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة ، وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم ، رحم الله تعالى الجميع!.

٣٠٧ ـ ومنهم أبو عبد الله الراعي ، وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل ، الأندلسي ، الغرناطي (٣).

ولد بها سنة ٧٨٢ تقريبا ، ونشأ بها ، وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي ، وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري بن الدب ، ويعرف بابن أبي عامر ، والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري ، صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة ، ومما أخذ

__________________

(١) في أ : «ابن مقرعة».

(٢) ملحة الأعراب لأبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري مؤلف المقامات.

(٣) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل الأندلسي المالكي ، نزيل القاهرة ، المشهور بالراعي النحوي ، كان إماما عالما ، توفي سنة ٨٥٣. (انظر بغية الوعاة ١ / ٢٣٣). وشذرات الذهب ٧ / ٢٧٩).

٢٧٨

عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم ، وجميع «خلاصة الباحثين ، في حصر حال الوارثين» للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها ، وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي ، والقاضي أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني ، والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الإمام (١) ، وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ، وغيرهم من المغاربة ، ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال بن خير السكندري ، والزين أبو بكر المراغي ، والزين محمد الطبري ، وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي ، في آخرين ، ودخل القاهرة سنة ٨٢٥ فحج واستوطنها ، وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة ، وأمّ بالمؤيدية وقتا ، وتصدى للاشتغال ، فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى ، لا سيما في العربية ، بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها ، وشرح كلا من الجرومية والألفية والقواعد وغيرها مما حمله عنه الفضلاء ، وله نظم وسط ، قال السخاوي : كتبت عنه منه الكثير ، ومما لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعا لشيء نسب إليه ، فقال : [بحر الطويل]

عليك بتقوى الله ما شئت واتّبع

أئمة دين الحق تهدى وتسعد (٢)

فمالكهم والشافعي وأحمد

ونعمانهم كل إلى الخير يرشد (٣)

فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل

لذي الجهل والتعصيب إن شئت تحمد

فكل سواء في وجيبة الاقتدا

متابعهم جنات عدن يخلد

وحبهم دين يزين وبغضهم

خروج عن الإسلام والحق يبعد

فلعنة رب العرش والخلق كلهم

على من قلاهم والتعصب يقصد (٤)

وكان حادّ اللسان والخلق ، شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي ، أضر بأخرة ، ومات بسكنه بالصالحية يوم الثلاثاء ٢٧ ذي الحجة سنة ٨٥٣ ، بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين بن الأمانة من نظمه قوله : [بحر الطويل]

__________________

(١) في ب : «ابن الإمام».

(٢) في ب : «تهتد وتسعد».

(٣) في البيت ذكر لأئمة مذاهب السنة وهم مالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان.

(٤) قلى : أبغض.

٢٧٩

أفكر في موتي وبعد فضيحتي

فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي

وتبكي دما عيني وحقّ لها البكا

على سوء أفعالي وقلة حيلتي

وقد ذابت اكبادي عناء وحسرة

على بعد أوطاني وفقد أحبتي

فما لي إلا الله أرجوه دائما

ولا سيما عند اقتراب منيّتي

فنسأل ربي في وفاتي مؤمنا

بجاه رسول الله خير البرية

قال السخاوي : ومما كتبته عنه : [بحر الكامل]

ألفيته حول المعلم باكيا

ودموعه قد صاغها من كوثر

نثر الدموع على الخدود فخلتها

درا تناثر في عقيق أحمر (١)

وقوله : [بحر المتقارب]

عليك بنعمة رب العلا

وراع الملوك لرعي الذمم

وذو العلم فارع له حقّه

وإلا تفارق وتلق الندم

فهذا مقالي فلتسمعوا

نصيحة حبر من اهل الحكم (٢)

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم

وقال : [بحر الكامل]

للغرب فضل شائع لا يجهل

ولأهله شرف ودين يكمل

ظهرت به أعلام حقّ حقّقت

ما قاله خير الأنام المرسل

من أنهم حتى القيامة لن يزا

لوا ظاهرين على الهدى لن يخذلوا

وممن حدث عن الراعي (٣) الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي ، ومن تأليفه «شرح القواعد» وكتاب «انتصار الفقير السالك ، لمذهب الإمام الكبير مالك» في كراريس أربعة حسن في موضوعة ، وله «النوازل النحوية» في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة ، تكلم معه في بعضها أبو عبد الله بن العباس التلمساني.

وذكر بعضهم أنه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب ، انتهى.

__________________

(١) خلتها : حسبتها.

(٢) الحبر : العالم.

(٣) في ج : «وممن حدث عنه الراعي الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي» وقد أثبتنا ما في بقية النسخ وأهمها أ ، ب ، ه.

٢٨٠