نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

سمع من الصدفي وغيره ، وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربية والهيئة مع الخير والدين والزهد ، وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية ، ثم سرح فرحل حاجا إلى المشرق ، ودخل المهدية فلقي بها المازري ، وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين ، ثم انتقل إلى مصر ، وحج سنة ٥٢٧ ، وأقام بمكة مجاورا ، وحج ثانية سنة ٥٢٨ ، ولقي بمكة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة ، فحمل عنه ، ودخل العراق وخراسان ، وأقام بها أعواما ، وطار ذكره في هذه البلاد ، وعظم شأنه في العلم والدين ، وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال ، وتوفي بهراة سنة ٥٥١ ، وقيل : إن وفاته سنة ٥٤٨ ، وذكره العماد في «الخريدة» والسمعاني في الذيل ، وأنشد له : [بحر الطويل]

تلوّنت الأيام لي بصروفها

فكنت على لون من الصبر واحد (١)

فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت

فأهون بمفقود لأكرم فاقد (٢)

وولد سنة ٤٨٤ بشلب ، رحمه الله تعالى!.

٢٨٨ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى ، الأزدي ، المرسي ، ويعرف بابن برطلة.

سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي ، ورحل حاجا سنة ٥١٠ ، فأدى الفريضة وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسّلفي وغيرهم ، وانصرف إلى مرسية بلده ، وكان حسن السّمت خاشعا مخبتا خيرا متواضعا نبيها نزها سالم الباطن ، وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنه أخبره أن قاضي البرلس ، وكان رجلا صالحا ، خرج ذات ليلة إلى النّيل فتوضأ وأسبغ وضوءه ، ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فسمع قائلا يقول : [بحر البسيط]

لولا أناس لهم سرد يصومونا

وآخرون لهم ورد يقومونا

لزلزلت أرضكم من تحتكم سحرا

لأنكم قوم سوء لا تبالونا

قال : فتجوّزت في صلاتي ، وأدرت طرفي فما رأيت شخصا ولا سمعت حسا ، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى!.

__________________

(١) صروف الأيام : مصائبها.

(٢) أهون بمفقود : ما أهونه مفقودا.

٢٤١

وقال ابن برطلة رحمه الله تعالى : أنشدني أبو عامر قال : دخلت بعض مراسي الثغر ، فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات : [بحر المتقارب]

نزلت ولي أمل عودة

ولكنني لست أدري متى

ودافعني قدر لم أطق

دفاعا لمكروهه إذ أتى

ومن أمره في يدي غيره

سيغلب إن لان أو إن عتا (١)

فيا نازلا بعدنا ههنا

نحييك إن كنت نعم الفتى

فسألت عن منشدها ، فقيل لي : هو أبو بكر بن أبي درهم الوشقي ، وكان قد حج وأراد العودة ، فقال هذه الأبيات ، ورواها بعضهم «رحلت» مكان نزلت ، وهو أصوب ، وأبدل قوله : «يا نازلا» بيا ساكنا ، والخطب سهل فيه ، وبعض يقول : إن الأبيات وجدت بجامع مصر ، والله تعالى أعلم.

٢٨٩ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة ، الداني ، الأصبحي.

لازم ابن سعد الخير ، واحتذى أول أمره مثال خطه فقاربه ، وسمع منه ، ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف والسّلفي وغير واحد. قال التجيبي : كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها ، وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة ٥٧٣ (٢) ، قال : وأنشدنا (٣) لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي : [بحر الكامل]

يا لاحظا تمثال نعل نبيه

قبّل مثال النعل لا متكبرا

والثم له فلطالما عكفت به

قدم النبي مروّحا ومبكرا

أولا ترى أن المحب مقبل

طللا وإن لم يلف فيه مخبرا

وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا ، والله تعالى أعلم!.

٢٩٠ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف ، القضاعي ، المري.

سمع من أبي جعفر بن غزلون صاحب الباجي وغير واحد ، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السّلفي والرازي ، وتجول هنالك ، وأخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي وغير واحد ، وقال ابن المفضل : أنشدني المذكور ، قال : أنشدني أبو محمد بن صارة : [بحر البسيط]

__________________

(١) عتا : استكبر ، وجاوز الحد.

(٢) في أ : «سنة ٥٦٣».

(٣) في ب : «وأنشدني» ..

٢٤٢

وكوكب أبصر العفريت مسترقا

للسمع فانقضّ يدني خلفه لهبه

كفارس حلّ إعصار عمامته

فجرها كلها من خلفه عذبه (١)

٢٩١ ـ ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر ، الوادي آشي ، الحنفي.

سكن طرابلس الشام ، ثم انتقل إلى حلب ، وأقام بها ، وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب ، يعرف النحو والعروض ، ويشتغل فيهما ، وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر بن العديم ، قال الصفدي : رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة ٧٢٣ فرأيته حسن التودد ، وأنشدني لنفسه من لفظه : [بحر الكامل]

ما لاح في درع يصول بسيفه

والوجه منه يضيء تحت المغفر (٢)

إلا حسبت البحر مدّ بجدول

والشمس تحت سحائب من عنبر

قال الصفدي : جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد : [بحر المتقارب]

ولما اقتحمت الوغى دارعا

وقنّعت وجهك بالمغفر

حسبنا محيّاك شمس الضحى

عليها سحاب من العنبر

وبين قول أبي بكر الرصافي : [بحر الكامل]

لو كنت شاهده وقد غشي الوغى

يختال في درع الحديد المسبل

لرأيت منه والقضيب بكفه

بحرا يريق دم الكماة بجدول

وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجه إلى حلب قاضي القضاة: [بحر البسيط]

يمن ترنّم فوق الأيك طائره

وطائر عمت الدنيا بشائره

وسؤدد أصبح الإقبال ممتثلا

في أمره ما أخوه العز آمره

ومنها : [بحر البسيط]

من مخبر عني الشهباء أن كما

ل الدين قد شيّدت فيه مقاصره (٣)

وأن تقليده الزاهي وخلعته الت

ي تطرّز عطفيها مآثره

__________________

(١) العذبة : طرف الشيء.

(٢) المغفر : زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة.

(٣) الشهباء : حلب.

٢٤٣

بالنفس أفديك من تقليد مجتهد

سواه يوجد في الدنيا مناظره

أنشدت حين أدار البشر كأس طلى

حكت أوائله صفوا أواخره

وقد بدت في بياض الطّرس أسطره

سودا لتبدي ما أهدت محابره (١)

ساق تكوّن من صبح ومن غسق

فابيض خداه واسودت غدائره

وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا

بالروض تطفو على نهر أزاهره

وقد رآها عدو كان يضمر لي

من قبل سوءا فخانته ضمائره

ورام صبرا فأعيته مطالبه

وغيّض الدمع فانهلّت بوادره

بعودة الدولة الغراء ثالثة

أمنت منك ونام الليل ساهره

وقال أيضا : [بحر الوافر]

تسعر في الوغى نيران حرب

بأيديهم مهنّدة ذكور (٢)

ومن عجب لظى قد سعرتها

جداول قد أقلتها بدور

وقال ملغزا في قالب لبن : [بحر المجتث]

ما آكل في فمين

يغوط من مخرجين

مغرى بقبض وبسط

وما له من يدين

ويقطع الأرض سعيا

من غير ما قدمين

وخمس لامية العجم مدحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الصفدي : ولما كنت في حلب كتب إلي أبياتا ، انتهى.

٢٩٢ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر ، القيسي.

قال أبو حيان : كان المذكور رفيقا للأستاذ أبي جعفر بن الزبير شيخنا ، وكان كاتبا مترسلا شاعرا ، حسن الخط ، على مذهب أهل الظاهر ، وكان كاتبا للأمير (٣) أبي سعيد فرج بن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس ، وسبب خروجه من الأندلس أنه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث ، فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله ، فتوعده بقطع يديه ، فضج من ذلك وقال : إن إقليما تمات فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوعد بقطع اليد من يقيمها

__________________

(١) الطرس : الصحيفة.

(٢) مهندة : أي رماح مصنوعة في الهند.

(٣) في ب ، ه : «وكان كاتب أبي سعيد فرج» ...

٢٤٤

لجدير أن يرحل منه ، فخرج وقدم ديار مصر ، وسمع بها الحديث ، وكان فاضلا نبيلا ، ومن شعره : [بحر الطويل]

أتنكر أن يبيضّ رأسي لحادث

من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي

وكان شعارا في الهوى قد لبسته

فرأسي أميّ وقلبي عباسي

قلت : لو قال «شيبي» لكان الغاية.

وأنشد له بعضهم : [بحر الطويل]

فلا تعجبا ممن عوى خلف ذي علا

لكل عليّ في الأنام معاويه

قلت : لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير : [بحر الرجز]

ومن يكن يقدح في معاويه

فذاك كلب من كلاب عاويه

وأنشد أبو حيان للمذكور : [بحر المتقارب]

أرى الدهر ساد به الأرذلو

ن كالسّيل يطفو عليه الغثا (١)

ومات الكرام وفات المديح

فلم يبق للقول إلا الرثا (٢)

وأنشد له أيضا : [بحر الخفيف]

لولا ثلاث هن والله من

أكبر آمالي في الدنيا

حج لبيت الله أرجو به

أن يقبل النية والسعيا

والعلم تحصيلا ونشرا إذا

رويت أوسعت الورى ريا

وأهل ود أسأل الله أن

يمتع بالبقيا إلى اللقيا

ما كنت أخشى الموت أنّى أتى

بل لم أكن ألتذ بالمحيا (٣)

وقال أبو حيان في هذه المادة : [بحر الطويل]

أما إنه لولا ثلاث أحبها

تمنيت أني لا أعدّ من الأحيا

__________________

(١) الغثا : أصله الغثاء ـ وهو ما يجرفه السيل من أوراق وطحالب ، ويطفو على وجه الماء. وفي الحديث الشريف عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أو من قلة نحن يا رسول الله؟ فقال : «لا ولكن غثاء كغثاء السيل».

(٢) الرثا : أصله الرثاء ، ممدود.

(٣) أنّى أتى : من أين أتى.

٢٤٥

فمنها رجائي أن أفوز بتوبة

تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا

ومنهن صوني النفس عن كل جاهل

لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا

ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى

نسوا سنة المختار واتبعوا الرأيا

أتترك نصا للرسول وتقتدي

بشخص؟ لقد بدّلت بالرشد الغيا

٢٩٣ ـ ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي.

سكن سرقسطة وغيرها ، وروى عن أبيه معظم علمه ، وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر ، وله تآليف تدل على حذقه : منها «العقيدة ، في المذاهب السديدة» ورسالة «الاستعداد ، للخلاص من المعاد» وكان غاية في الورع ، توفي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة ٤٩٣ ، رحمه الله تعالى!.

٢٩٤ ـ ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي ، الغرناطي.

قال العز بن جماعة : قدم علينا من المغرب سنة ٧٢٤ ، ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة ، وبلغنا أنه توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة ، وأنشد والدي قصيدة من نظمه امتدحه بها ، وأنا أسمع ، ومن خطه نقلت ، وهي : [بحر الطويل]

قفا موردا عينا جرت بعدكم دما

أناضي أسفار طوين على ظما

غدون أهلّات تناقل أنجما

ورحن حنيات تفوّق أسهما (١)

يجشمها الحادي الأمرين حسّرا

ويوطئها الحادي الأحرّين هيّما

على منسميها للشقائق منبت

وفي فمويها للشقاشق مرتمى

إلى أن قال : [بحر الطويل]

وتعسا لآمال جهام سحابها

تزجّى ركاما ما استهلّ ولا همى (٢)

تجاذبها نفس تجيش نفيسة

ومن لم يجد إلا صعيدا تيمما (٣)

فهل ذمم يرعاه ليل طويته

طواني سرا بين جنبيه منهما

أقبل منه للبروق مباسما

وأرشف من بهماء ظلمائه لمى

__________________

(١) حنيات : جمع حنية وهي القوس.

(٢) السحاب الجهام : الذي لا ماء فيه. استهل المطر : اشتد انصبابه ، وأعطى الانصباب صوتا. وهمى : سال.

(٣) الصعيد : التراب.

٢٤٦

إلى أن تجلّى من كنانة بدرها

فعرس ركبي في حماه وخيما (١)

ثمال اليتامى حيث ليس مظلل

وكهف الأيامى أيما عزّ مرتمى

ومنها :

فيا كفه أأنت أم غيث ديمة

أسالت عبابا في ثرى الجود عيلما (٢)

ويا سعيه يهنيك أجر ثنى به

على معطفي علياه بردا مسهّما

قضى بمنى أوطار نفس كريمة

وروّى صداها حين حل بزمزما

وناداه داعي الحق حيّ على الهدى

فأسرج طوعا في رضاه وألجما

فلله ما أهدى وأرشد واهتدى

ولله ما أعطى وأوفى وأنعما

ومنها :

أمتّ بآداب وعلم كليهما

أقاما لديك الدعي فرضا وألزما

وهي طويلة.

٢٩٥ ـ ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام ، من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين.

خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرد ، ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة ، وأظهر الزهد والعبادة ، واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن ، وتغيير المنكر ، حتى خدع البربر بقوله وفعله ، وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان ، وكان يقال عن مسلمة : إنه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية ، وأخرج لهم أرجوزة أسندها إلى مسلمة ، ومنها في وصفه : [بحر الرجز]

وابن هشام قائم في برقه

به ينال عبد شمس حقه

يكون في بربرها قيامه

وقرة العرب لها إكرامه

واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه ، وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها ، وخطبوا له فيها بالخلافة ، وكان قيامه في رجب سنة ٣٩٧ ، فهزم عسكر باديس الصّنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر ، وأحيا أمره ، وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من

__________________

(١) عرس المسافرون : نزلوا للاستراحة.

(٢) العيلم : البئر الواسعة ، أو البحر ، وفي ب : «فيا كفه هل أنت ...».

٢٤٧

سفك الحاكم الدماء ، ورغبوه في الوصول إلى أوسيم (١) ، وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة ، فلما وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة ، ثم جاء به إلى القاهرة ، فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل ، ثم قتل صبرا في ١٣ رجب سنة ٣٩٩ ، ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه : [بحر الطويل]

فررت ولم يغن الفرار ، ومن يكن

مع الله لم يعجزه في الأرض هارب

ووالله ما كان الفرار لحاجة

سوى فزعي الموت الذي أنا شارب

وقد قادني جرمي إليك برمت

ي كما اجتر ميتا في رحى الحرب سالب

وأجمع كل الناس أنك قاتلي

فيا ربّ ظنّ ربّه فيه كاذب

وما هو إلا الانتقام وينتهي

وأخذك منه واجبا وهو واجب

ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة ، منها قوله : [بحر الكامل]

بالسيف يقرب كل أمر ينزح

فاطلب به إن كنت ممن يفلح (٢)

وله : [بحر الطويل]

على المرء أن يسعى لما فيه نفعه

وليس عليه أن يساعده الدهر

وقوله : [بحر السريع]

إن لم أجلها في ديار العدا

تملأ وعر الأرض والسهلا

فلا سمعت الحمد من قاصد

يوما ولا قلت له أهلا

وله غير ذلك مما يطول ، وخبره مشهور.

٢٩٦ ـ ومنهم أبو زكريا الطليطلي ، يحيى بن سليمان.

قدم إلى الإسكندرية ، ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب ، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء ، قال بعض من طالعه : ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه ، وله مصنفات في الأدب ، ومن نظمه قوله : [بحر الكامل]

أرض سقت غيطانها أعطانها

وزهت على كثبانها قضبانها

ومنها :

__________________

(١) في ه : «وسيم» وفي باقي النسخ كما أثبتناه.

(٢) ينزح : يبعد.

٢٤٨

فتكت بألباب الكماة فسيفها

من طرفها وسنانها وسنانها (١)

لم يبق شخص بالبسيطة سالما

إلا سبى إنسانه إنسانها (٢)

ومنها :

وتصاحبت وتجاوبت أطيارها

وتداولت وتناولت ألحانها

وتنسمت وتبسمت أيامها

وتهللت وتكللت أزمانها

بمديرها ومنيرها ونميرها

ومعيرها حسنا جلاه عيانها

٢٩٧ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد ، القرطبي ، المعروف بالمغيلي.

سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما ، ورحل فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي ، وكان بصيرا بالعربية والشعر ، ومؤلفا جيد النظر حسن الاستنباط ، حدث ، وتوفي فجأة في شهر ربيع الأول سنة ٣٦٢ ، قاله ابن الفرضي.

٢٩٨ ـ ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن سلمة ، الأنصاري ، الغرناطي.

قدم المشرق وتوفي بمصر سنة ٧٠٣ عن نحو خمسين سنة ، بالبيمارستان المنصوري ، قال قاضي القضاة عبد العزيز بن جماعة الكناني في كتابه «نزهة الألباب» : أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة ، بعد قدومه من مكة والمدينة ، وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسر له : [بحر الطويل]

لئن بعدت عني ديار الذي أهوى

فقلبي على طول التباعد لا يقوى

فحدث رعاك الله عن عرب رامة

فإني لهم عبد على السّر والنجوى

فإن مت شوقا في الهوى وصبابة

فيا شرفي إن مت في حب من أهوى

فيا أيها العذّال كفوا ملامكم

فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى

ويا جيرة الحي الذي ولهي بهم

أما ترحموا صبا يحن إلى حزوى (٣)

ويا أهل ذيّاك الحمى وحياتكم

يمين وفيّ صادق القول والدّعوى

__________________

(١) ألباب : جمع لب ، وهو العقل. والكماة : جمع كمي ، وهو الشجاع اللابس السلاح. والسنان : نصل الرمح ومضربه. والوسنان : النائم أول نومه.

(٢) إنسانه : حدّه. وإنسانها : بؤبؤ عينها.

(٣) أما ترحموا : يجب أن تكون : أما ترحمون.

٢٤٩

ملكتم قيادي فارحموا وترفّقوا

فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى

فما لي سواكم سادتي لا عدمتكم

فجودوا بوصل أنتم الغاية القصوى

انتهى.

٢٩٩ ـ ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي ، الغرناطي.

قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريبا : أنشدني المذكور لنفسه ، على قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه : [بحر الكامل]

يا سيد الشهداء بعد محمد

ورضيع ذي المجد المرفع أحمد

يا ابن الأعزة من خلاصة هاشم

سرج المعالي والكرام المجد

يا أيها البطل الشجاع المحتمي

دين الإله ببأسه المستأسد (١)

يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي

يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد

يا نجدة الملهوف في قحم الوغى

عند التهاب جحيمها المتوقد

يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه

يا غيث موتور الزمان الأنكد

يا من لعظم مصابه خص الأسى

قلب الرسول وعمّ كلّ موحّد

يا حمزة الخير المؤمّل نفعه

يوم الهياج وعند فقد المنجد

وافاك يا أسد الإله وسيفه

وفد ألمّوا من حماك بمعهد

جئناك يا عمّ الرسول وصنوه

قصد الزيارة فاحتفل بالقصد (٢)

واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا

شيم المزور قيامه بالعوّد (٣)

لذنا بجانبك الكريم توسلا

وكذا العبيد ملاذهم بالسيد

فاشفع لضيفك فالكريم مشفّع

عند الكريم ومن يشفّع يقصد

يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم

أهل المكارم والعلا والسؤدد

نزل الضيوف جناب ساحتك التي

منها يؤمّل كل عطف مسعد

فاجعل أبا يعلى قرانا عطفة

وارغب لربك في هدانا واقصد

__________________

(١) إشارة إلى تسمية الرسول لعمه الحمزة : أسد الله.

(٢) صنو الرجل : شقيقه.

(٣) العوّد : جمع عائد ، وهو الزائر.

٢٥٠

فعسى يمنّ على الجميع بتوبة

يهدي بها نهج الطريق الأرشد

فقد اعتمدنا منك خير وسيلة

نرجو بها حسن التجاوز في غد

لم لا تؤم وأنت عم محمد

ولدينه قد صلت صولة أيّد

وصحبته ونصرته وعضدته

وذببت عنه باللسان وباليد

وبذلت نفسك في رضاه بصولة

فقتلت في ذات الإله الأوحد (١)

فجزاك عنا الله خير جزائه

وسقا ثراك حيا الغمام المرعد

وعلى رسول الله منه سلامة

وعليك متّصل الرضا المتجدد

ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة ، وتوفي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة ٧١٥ ، ودفن بالبقيع ، رحمه الله تعالى! انتهى.

٣٠٠ ـ ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن ، المايرقي.

من أقارب بعض ملوك المغرب ، وكان من الفضلاء العلماء الأدباء ، وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن ، ومنه قوله : [بحر البسيط]

القضب راقصة ، والطير صادحة

والنشر مرتفع ، والماء منحدر

وقد تجلّت من اللذات أوجهها

لكنها بظلال الدوح تستتر

فكل واد به موسى يفجّره

وكل روض على حافاته الخضر

وقوله : [بحر الطويل]

وذي هيف راق العيون انثناؤه

بقدّ كريّان من البان مورق

كتبت إليه هل تجود بزورة

فوقع «لا» خوف الرقيب المصدق

فأيقنت من «لا» بالعناق تفاؤلا

كما اعتنقت «لا» ثم لم تتفرق

وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان (٢) : [بحر البسيط]

إني لأحسد «لا» في أحرف الصحف

إذا رأيت اعتناق اللام للألف (٣)

__________________

(١) في ب ، ه : «وبذلت نفسك في رضاه بجنة ... فقبلت ..».

(٢) في ه : «ذي القرنين بن حمران» محرفا.

(٣) في أ ، ج : «واعتناق اللام والألف».

٢٥١

وما أظنهما طال اعتناقهما

إلا لما لقيا من لوعة الأسف (١)

وأحسن من هذا قول القيسراني : [بحر البسيط]

أستشعر اليأس من «لا» ثم يطمعني

إشارة في اعتناق اللام للألف

وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة ٦٥٥ ، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى! والأبيات التي أولها «القضب راقصة» نسبها له اليونيني وغير واحد ، والصواب أنها ليست له ، وإنما هي لنور الدين سعيد (٢) ابن صاحب المغرب ، وقد تقدم ذكره ، ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر ، ومثل هذا كثيرا ما يقع ، والله تعالى أعلم.

٣٠١ ـ ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي ، وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود ، واضطرمت بفتنته الأندلس نارا ، ولما قدم مصر هاربا من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد ، وتبدّدت (٣) به الأحوال ، فلما سئل عن حاله ، بعد بعده عن أرضه وترحاله ، بادر وأنشد : [بحر مخلع البسيط]

أصبحت في مصر مستضاما

أرقص في دولة القرود

وا ضيعة العمر في أخير

مع النصارى أو اليهود

بالجدّ رزق الأنام فيهم

لا بذوات ولا جدود

لا تبصر الدهر من يراعي

معنى قصيد ولا قصود

أودّ من لؤمهم رجوعا

للغرب في دولة ابن هود

وتذكرت بقوله : «أرقص في دولة القرود» ما وقع لأبي القاسم بن القطان ، وهو مما يستطرف ويستظرف ، وذلك أنه لما ولي الوزارة الزينبيّ دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان ، فوقف بين يديه ودعا له ، وأظهر الفرح والسرور ، ورقص ، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره : قبح الله هذا الشيخ! فإنه يشير برقصه إلى قول الشاعر:

وأرقص للقرد في دولته

__________________

(١) في ب ، ه : «وما أظنهما طال اجتماعهما».

(٢) في ب : «لنور الدين بن سعيد».

(٣) في ب ، ه : «وتعدلت به الأحوال».

٢٥٢

٣٠٢ ـ ومن المرتحلين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي ، الهراوي (١).

من أهل المرية ، ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير ، وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين بن الخطيب ، رحمه الله تعالى! ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب ، وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان ، وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها : «شرح ألفية ابن مالك» وغير ذلك ، وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة ، ومن نظمه رحمه الله تعالى مورّيا بأسماء الكتب : [بحر الطويل]

عرائس مدحي كم أبين لغيره

فلما رأته قلن هذا من الأكفا (٢)

نوادر آدابي ذخيرة ماجد

شمائل كم فيهن من نكت تلفى (٣)

مطالعها هن المشارق للعلا

قلائد قد راقت جواهرها رصفا (٤)

رسالة مدحي فيك واضحة ، ولي

مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى

فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي

لأنت امرؤ من حاصل المجد مستصفى

وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابا ، وهي : العرائس للثعالبي ، والنوادر للقالي وغيره ، والذخيرة لابن بسام وغيره ، والشمائل للترمذي ، والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره ، والمطالع لابن قرقول وغيره ، والمشارق للقاضي عياض وغيره ، والقلائد لابن خاقان وغيره ، و «رصف المباني ، في حروف المعاني» للأستاذ ابن عبد النور ، وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله ، والرسالة لابن أبي زيد وغيره ، والواضحة لابن حبيب ، والمسالك للبكري وغيره ، والجواهر لابن شاس (٥) وغيره ، و «التهذيب في اختصار المدونة» وغيره ، و «التنبيه» لأبي إسحاق وغيره ، و «منتهى السؤل» لابن الحاجب ، و «المحصول» للإمام الرازي ، و «الغاية» للنووي وغيره و «الحاصل» مختصر المحصول و «المستصفى» للغزالي ، وما أحسن قول الحكيم موفق الدين : [بحر البسيط]

لله أيامنا والشّمل منتظم

نظما به خاطر التفريق ما شعرا

__________________

(١) في ب ، ه : «ومن المرتحلين أبو عبد الله بن جابر محمد بن جابر الضرير». وقد مرت ترجمته في المجلد الأول.

(٢) في ب : «عرائس مدحي كم أتين لغيره». وما أثبتناه أجود وأكثر مطابقة لمطلوب الشاعر. والأكفا : الأكفاء : جمع كفء.

(٣) تلفى : توجد. وألفى الشيء : وجده.

(٤) قلائد : جمع قلادة ، وهي ما يجعل في العنق من الحلي. وفيها تورية بكتاب قلائد العقيان لابن خاقان.

(٥) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : «لابن شاش».

٢٥٣

والهف نفسي على عيش ظفرت به

قطعت مجموعه المختار مختصرا

وهذه ثلاث كتب مشهورة : المختار ، والمجموع ، والمختصر ، وأحسن منه قول الآخر: [بحر الكامل]

عن حالتي يا نور عيني لا تسل

ترك الجواب جواب تلك المسأله

حالي إذا حدّثت لا لمعا ولا

جملا لإيضاحي بها من تكمله

عندي جوى يذر الفصيح مبلدا

فاترك مفصّله ودونك مجمله

القلب ليس من الصحاح فيرتجى

إصلاحه ، والعين سحب مثقله

وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله بن جزى الكاتب الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة (١).

رجع إلى الشمس بن جابر ـ فنقول : ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة :

لم يبق فيّ اصطبار

مذ خلّفوني وساروا

وللحبيب أشاروا

جار الكرام فجاروا

لله ذاك الأوار (٢)

بانوا فما الدار دار

يا بدر أهلك جاروا

وعلموك التّجرّي

كانوا من الود أهلي

ما عاملوني بعدل

أصموا فؤادي بنبل (٣)

يا بين بينت ثكلي

__________________

(١) فلتراجع ثمة : فلتراجع هناك.

(٢) الأوار : الحر ، اللهب.

(٣) أصمى الصيد : رماه فقتله فورا.

٢٥٤

يا روح قلبي قل لي

أهم دعوك لقتلي

وحرموا لك وصلي

وحللوا لك هجري

حسبي وما ذا عناد

هم المنى والمراد

وإن عن الحق حادوا

أو جاملوني وجادوا

يا من به الكلّ سادوا

والكل عندي سداد

فليفعلوا ما أرادوا

فإنهم أهل بدر (١)

وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن بن محمد السعدي رحمه الله تعالى :

للعاشقين انكسار

وذلّة وافتقار

وللملاح افتخار

وعزة واقتدار

وأهل بدري أثاروا

وودعوني وساروا

يا بدر ـ إلخ.

كتبت والوجد يملي

جدّ الهوى بعد هزل (٢)

وحار ذهني وعقلي

ما بين بدري وأهلي

يا بدر فاحكم بعدل

إذا أتوك بعذل

وحرّموا ـ إلخ.

لولا هواك المراد

ما كنت ممن يصاد

ولا شجاني البعاد

يا بدر أهلك جادوا

غلطت جاروا وزادوا

لكنهم بك سادوا

انتهى

__________________

(١) إشارة إلى الحديث الشريف «لعل ربك قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

(٢) في أ ، ب ، ه : «كتبت والوصل يملي» وما أثبتناه يوافق أ ، ج. وهو أفضل.

٢٥٥

فليفعلوا ـ إلخ.

رجع إلى ابن جابر ، فنقول :

توفي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة ٧٨٠ ، ومن نظمه قوله : [بحر البسيط]

يا أهل طيبة في مغناكم قمر

يهدي إلى كل محمود من الطّرق

كالغيث في كرم ، والليث في حرم

والبدر في أفق ، والزهر في خلق

وقوله (١) : [بحر البسيط]

أما معاني المعاني فهي قد جمعت

في ذاته فبدت نارا على علم (٢)

كالبدر في شيم ، والبحر في ديم

والزهر في نعم ، والدهر في نقم

وقال : [بحر الطويل]

ولما وقفنا كي نودّع من نأى

ولم يبق إلا أن تحثّ الركائب

بكينا وحقّ للمحبّ إذا بكى

عشية سارت عن حماه الحبائب

وقال : [بحر الكامل]

ضحكت فقلت كأن جيدك قد غدا

يهدي لثغرك من جواهر عقده

وكأن ورد الخدّ منك بمائه

قد شاب عذب لماك حالة ورده (٣)

وقال : [بحر الخفيف]

منعتنا قرى الجمال وقالت :

ليس في غير زادنا من مجال

فأقمنا على الرحال وقلنا

مالنا حاجة بحط الرحال

وقال : [بحر السريع]

عذّب قلبي رشأ ناعم

أسهر طرفي طرفه الناعس (٤)

يحرس باللحظ جنى خدّه

يا ليته لو غفل الحارس

__________________

(١) في ب : «وقال :».

(٢) العلم : الجبل.

(٣) شاب : مزج. واللمى : سمرة مستحسنة في باطن الشفة.

(٤) في ب ، ه : «أسهر جفني طرفه الناعس».

٢٥٦

وقال : [بحر الكامل]

وافيت ربعهم وقد بعد المدى

ونأى الفريق من الديار وسارا

ما كدت أعرف بعد طول تأمل

دارا بها طاف السرور ودارا

وله : [بحر الوافر]

ولست أرى الرجال سوى أناس

همومهم موافاة الرجال

أطالوا في النّدى إهلاك مال

فعاشوا في الأنام ذوي كمال

وقال : [بحر الخفيف]

أيها المتهمون نفسي فداكم

أنجدوني على الوصول لنجد

وقفوا بي على منازل ليلى

فوجودي هناك يذهب وجدي

وما كتبه على كتاب «نسيم الصّبا» لابن حبيب ، وصورته : لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصبا ، المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا ، انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام ، وهملت (١) سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام ، وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات ، وسمعت الآذان ضمخة الأذهان (٢) بهذه الأبيات : [بحر المنسرح]

هذي فصول الربيع في الزمن

كم حسن أسندت إلى حسن

رقّت وراقت فمن شمائلها

بمثل صرف الشمول تتحفني (٣)

كم ملح قد حوت وكم لمح

يعجبني لفظها ويعجزني

كم فيه من نفث ومن نكت

أشهدني حسنها فأدهشني

جمع عدمنا له النظير فلا

يصرف عن خاطر ولا أذن

يا خير أهل العلا وبحرهم

أيّ بديع الكلام لم ترني (٤)

بدرك في مطلع الفضائل لا

يكون مثل له ولم يكن

هذي الفصول التي أتيت بها

قد أفحمت كل ناطق لسن

__________________

(١) في ب : «وهمت سحائب».

(٢) في ب : «صحبة الأذهان». وفي ه : «ضخمة الأذهان».

(٣) الشمول : الخمر.

(٤) في أ : «يا حبر أهل العلا».

٢٥٧

كم فن معنى بها يذكرني

شجوي لشدو الحمام في فنن

فمن نسيب مع النسيم جرى

لطفا فأزرى بالجوهر الثمن

وحسن سجع كالزهر في أفق

والزهر في ناعم من الغصن

له معان أعيت مداركها

كل معان بنيلهن عني (١)

لا زال راق للمجد راقمها

ذا سنن حاز أحسن السنن

فصول ، هي للحسن أصول ، وشمول ، لها على كل القلوب شمول ، ليس لقدامة على التقدم إليها حصول ، ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول ، ولا انتهى قسّ الإيادي (٢) ، إلى هذه الأيادي ، ولا ظفر بديع الزمان ، بهذه البدائع الحسان ، لقد قصر فيها حبيب (٣) عن ابنه ، وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه ، نزهت في طرف خمائلها ، ونبهت بلطف شمائلها ، تالله إنها لسحر حلال ، وخلال ما مثلها خلال ، كلام كله كمال ، ومجال لا يرى فيه إلا جمال ، راقم بردها ، وناظم عقدها ، في كل فصل ، جاء بكمال فضل ، وفي كل معنى ، عمر بالبراعة مغنى ، أعرب فأغرب ، وأوجر فأعجز ، وأطال فأطاب (٤) ، وأجاد حين أجاب ، فما أنفس فرائده ، وأنفع فوائده ، وأفصح مقاله ، وأفسح مجاله ، وأطوع للنظم طباعه ، وأطول في النثر باعه ، أزاهر نبتت في كتاب ، وجواهر تكوّنت من ألفاظ عذاب ، ومواهب لا تدرك بيد اكتساب ، فسبحان من يرزق من يشاء بغير حساب ، فصول أحلى في الأفواه من السهد (٥) ، وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السّهد ، سبك أدبها (٦) في قالب النكت الحسان ، وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسّان ، فما أحقها أن تسمى فصول الربيع ، وأصول البديع ، لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق ، ويزين الآفاق بما فاق ، ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق ، وحقائق بلاغته في جيد الإجادة بمنزلة الأطواق ، بمن الله تعالى وكرمه ، انتهى.

وحيث جرى ذكر كتاب «نسيم الصبا» فلا بأس أن نذكر تقاريظ العلماء له ، فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان : وقفت على هذا الكتاب الذي أبدع فيه مؤلفه ، ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه ، وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه ، وعرفت مقدار ما فيه من

__________________

(١) معان : جمع معنى. ومعان : اسم فاعل من عانى يعاني.

(٢) في ب : «لهذه الأيادي».

(٣) حبيب : هو أبو تمام الطائي. وابنه هنا ابن حبيب الحلبي صاحب كتاب نسيم الصبا الذي يقرضه الشاعر.

(٤) أطاب : جاء بما هو طيب.

(٥) السّهد : الأرق.

(٦) في ب ، ه : «سكب أدبها».

٢٥٨

الإنشاء وأين من يعرفه ، فوجدته ألطف من اسمه ، وأحسن من الدرر في نظمه ، وأطيب من الورد عند شمه ، هبّت على رياض فصوله نسيم صباها ، ففاقت الأزهار في رباها ، وتشوفت (١) قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب ريّاها ، وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها (٢) ، عن الشمس وضحاها ، وتحلّت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم ، ومن معانيه بالعقد النظيم ، وترنّحت أفنان فنون الفصاحة لما هب عليها ذلك النسيم ، كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه ، وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلا في كتابه ، صدر هذا الكتاب عن علم سابق ، وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق ، وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق ، وقريحة إذا ذقت جناها ، وشمت (٣) سناها ، تذكرت ما بين العذيب وبارق (٤) فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه ، ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه ، بمنه وكرمه ، انتهى.

وقرظ عليه بعضهم بقوله : وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم (٥) من هذه الفصول ، ووجد من نسيم الصبا أمارات القبول ، ونزه طرفه في رياض هذا الكتاب ، وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن رد الجواب : [بحر الكامل]

ما ذا أقول وكلّ وصف دونه

أين الحضيض من السّماك الأعزل

يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل ، وفضحت فصحاء الأوائل ، وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل ، وزادت في البلاغة على فريد ، وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد (٦) ، وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعا ، وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعا : [بحر الكامل]

قطف الرجال القول حين نباته

وقطفت أنت القول لما نوّرا (٧)

وخطاب أعجز الخطباء وصفه ، وجواب ألغى البلغاء رصفه ، وغرائب تعرّفت بمبديها ، وشوارد تألفت بمهديها ، وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنس قبلك ولا جان ، ولم يقطف

__________________

(١) في ب ، ه : «وتشوقت» وكلا المعنيين ، وما أثبتناه ، وما في ب ، ه رائع جميل.

(٢) السنا : النور.

(٣) شمت : نظرت.

(٤) العذيب وبارق : مكانان.

(٥) في ه : «فصوص الحكم».

(٦) عبد الحميد : هو عبد الحميد الكاتب ، كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

(٧) نوّر : أزهر ، والنّور : الزهر.

٢٥٩

أزهارها عين ناظر ولا يد جان ، معان تطرب السمع لها حكم وأحكام ، وألفاظ هي الأرواح لا أرواح أجسام ، فلما ألقى فهمه عروة المتماسك ، وضاقت عليه في وصفه المسالك ، وعجز عن وصف بلوغ بلاغته ، عطف على حسن كتابته ، فرأى خطا يسبي الطرف ، ويستغرق الظرف ، نسج قلمه (١) الكريم من وشي البلاغة ديباجا ، واتخذ من محاسن الحسان طريقا ومنهاجا ، فألفى ألفات كاعتدال القدود ، ونونات كأهلّة السعود ، وسينات كالطرر ، ونقطا كالدرر ، جعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف ، وحلّى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف (٢) ، فعطف ساعة يطنب (٣) في دعائه وشكره ، وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره ، فلله در ألفاظك ودرر فضلك ، وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلّك (٤) : [بحر الطويل]

لسانك غواص ، ولفظك جوهر

وصدرك بحر بالفضائل زاخر

والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك ومقام قدرك ، ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنه وكرمه ، إنه على كل شيء قدير.

وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي ، رحمه الله تعالى! في تقريظ الكتاب المذكور ما نصه : الحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، حدقت نحو الحدائق ، وفوّقت سهمي تلقاء الغرض الشائق ، وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق ، فما علّل صداي كنسيم الصبا ، ولا كمثله سهما صائبا صبابه من لا صبا (٥) ، ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهبا : [بحر مجزوء الكامل]

وتجيء من ملح الكلا

م بطارف أو تالده

كلم نوابغ نحو آ

فاق المطالع صاعده

لو رامها قسّ لما

ألفى أباه ساعده

أبدى نتائج عيّه

في ذي المعاني الشارد

فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب ، ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب ، وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب ، كتبه عبد الوهاب [بن](٦) السبكي ، انتهى.

__________________

(١) في ه : «نسخ قلمه».

(٢) الشنوف : جمع شنف ، وهي حلية تعلق في أعلى الأذن.

(٣) في ه : يطيب.

(٤) الوابل : المطر الشديد. والطلّ : المطر الخفيف الضعيف.

(٥) في ب ، ه : «صابه من لا صبا».

(٦) هذه الكلمة ساقطة من ب ، ه.

٢٦٠