نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

الحديث ، وممن حدث عنه الحافظان أبو سليمان وأبو محمد بن حوط الله ، ولقيه أبو سليمان بلورقة سنة ٥٧٥ ، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ٥٧٧ ، وقد قارب المائة.

٢٢٦ ـ ومنهم أبو عمر بن عات ، وهو أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي.

من أهل شاطبة ، سمع أباه وأبا الحسن بن هذيل ، وأبا عبد الله بن سعادة وابن حبيش وغير واحد وطائفة كثيرة ، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة ، وسمع أبا الطاهر السّلفي وأبا الطاهر بن عوف وغيرهما ممن يطول ذكره ، وأجاز له أبو الفرج بن الجوزي وغيره ممن أخذ عنه وسمع منه ، وقد ضمن ذكر أشياخه وجملة صالحة من مروياته عنهم برنامجيه اللذين سمي أحدهما «بالنزهة ، في التعريف بشيوخ الوجهة» وهو كتاب حافل جامع ، والآخر «بريحانة النفس (١) ، وراحة الأنفس ، في ذكر شيوخ الأندلس» قال ابن عبد الملك المراكشي في الصلة : حدثنا عنه شيخنا أبو محمد حسن بن علي بن القطان ، وكان من أكابر المحدثين ، وجلة (٢) الحفاظ المسندين للحديث والآداب بلا مدافعة ، يسرد الأسانيد والمتون ظاهرا فلا يخل بحفظ شيء منها ، متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه ومعرفة المسائل ، إذ لم يعن بذلك عنايته بغيره ، فكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي عمر بن عبد البر وابن عات ، وكان على سنن السلف الصالح في الانقباض ، ونزارة الكلام ، ومتانة الدين ، وأكل الحشف (٣) ، ولزوم التقشف ، والتقلل من الدنيا ، والزهد فيها ، والمثابرة على كثير من أفعال البر كالأذان والإمامة وبذل المعروف والتوسع بالصدقات على الضعفاء والمساكين.

وحكي أنه حضر في جماعة من طلبة العلم لسماع السير على بعض شيوخهم ، فغاب الكتاب أو القارئ بكتابه ، فقال أبو عمر : أنا أقرأ لكم ، فقرأ لهم من حفظه ، وقال أبو عمر عامر بن نذير : لازمته مدة ستة أشهر ، فلم أر أحفظ منه ، وحضرت إسماع الموطأ وصحيح البخاري منه ، فكان يقرأ من كل واحد من الكتابين نحو عشر أوراق عرضا بلفظه كل يوم عقب صلاة الصبح ، لا يتوقف في شيء من ذلك ، انتهى.

وقال بعض المؤرخين : إنه كان آخر الحفاظ للحديث ، يسرد المتون والأسانيد ظاهرا لا يخل بحفظ شيء منها ، موصوفا بالدراية والرواية ، غالبا عليه الورع والزهد ، على منهاج السلف ، يلبس الخشن ، ويأكل الحشف (٤) ، وربما أذن في المساجد ، وله تآليف دالة على سعة حفظه ، مع حظ من النظم والنثر ، وشهد وقعة العقاب (٥) التي أفضت إلى خراب الأندلس

__________________

(١) في ب : «بريحانة التنفس».

(٢) في ه : «وجملة الحفاظ».

(٣) الحشف ، بفتحتين : نوع من التمر رديء.

(٤) الحشف ، بفتحتين : نوع من التمر رديء.

(٥) في ب ، ه : «وقيعة العقاب».

٢٠١

بالدائرة على المسلمين فيها ، وكانت السبب الأقوى في تحيّف الروم (١) بلادها حتى استولت عليها ، ففقد حينئذ ولم يوجد حيا ولا ميتا ، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة تسع وستمائة ، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، قاله ابن الأبار : وهو ممن أجاز له المذكور فيها رواه أو ألفه ، رحمه الله تعالى!.

٢٢٧ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن أحمد بن حنون ، البهراني.

من ساكني إشبيلية ، وأصله من لبلة ، روى عن أبيه وابن الجد وابن زرقون وابن جهور وغيرهم من أعلام الأندلس ، ثم رحل إلى المشرق ، فسمع ببغداد من أبي حفص عمر بن طبرزد ، وبخراسان من المؤيد الطوسي ، وبهراة من أبي روح عبد المعز ، وبمرو من عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني ، ومن جماعة غير هؤلاء وسمع أيضا بدمشق من أبي الفضل الحرستاني وسواه ، وبها توفي قبل العشرين وستمائة ، فيما نقل ابن الأبار عن ابن نقطة ، وقال غيره : إنه مات سنة خمس وعشرين وستمائة.

٢٢٨ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد ، المخزومي.

من أهل قرطبة ، ويعرف أبوه بكوران (٢) ، روى عن أبيه وغيره من مشيخة بلده ، ورحل حاجّا فلقي بالإسكندرية أبا الحسن بن المقدسي وسمع منه ، وأنشد من لفظه بعض أصحاب ابن الأبار (٣) ، قال : أنشدني شرف الدين أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي (٤) ، قال : أنشدتني تقية (٥) بنت غيث بن علي الأرمنازي لنفسها : [بحر السريع]

لا خير في الخمر ، على أنها

مذكورة في صفة الجنّه

لأنها إن خامرت عاقلا

خامره في عقله جنّه

يخاف أن تقذفه من علا

فلا تقي مهجته جنّه (٦)

٢٢٩ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عياش ، الكناني ، المرسي.

__________________

(١) تحيف الروم بلادها : أي انتقاصهم إياها بلدا بعد بلد بالاستيلاء عليها.

(٢) في ب : «بكوزاز» وفي التكملة : «بكوزاز».

(٣) في ج : «بعض أصحاب الآثار».

(٤) في ب ، ه : «أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي».

(٥) في ه : «بقية».

(٦) جنة ، بضم الجيم : الترس ، السلاح الواقي. وفي ب : تقذفه من عل.

٢٠٢

سمع من ابن بشكوال موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير بقراءة محمد بن حوط الله ، ورحل إلى المشرق سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، فحج سنة ثمانين بعدها ، وأقام بالحجاز والشام مدة ، ولقي أبا الطاهر الخشوعي بدمشق فسمع منه مقامات الحريري وأخذها الناس عنه ، ومما أفاد وزاد في قول الحريري :

إذا ما حويت جنى نخلة

الأبيات ـ قوله : [بحر المتقارب]

ولا تأسفنّ على خارج

إذا ما لمحت سنى الداخل

ولا تكثر الصمت في معشر

وإن زدت عيّا على باقل (١)

وسمع من أبي القاسم ابن عساكر السنن للبيهقي ، ومن أبي حفص الميانشي جامع الترمذي ، وقفل إلى الأندلس في سنة سبع وتسعين ، وحدث بيسير ، وكان يحسن عبارة الرؤيا ، وكفّ بصره سنة ثمان وعشرين وستمائة أو نحوها ، وتوفي على إثر ذلك ، ومولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

٢٣٠ ـ ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حصن بن أحمد بن حزم ، الغافقي.

ويقال فيه : إبراهيم بن حصن بن عبد الله بن حصن.

أندلسي ، سكن دمشق ، وولي الحسبة بها ، ويكنى أبا إسحاق ، سمع ببغداد من أبي بكر بن مالك القطيعي وطبقته ، وبدمشق من عبد الوهاب الكلابي ويوسف بن القاسم الميانجي ، وبمصر من أبي طاهر الذّهلي وأبي أحمد الغطريفي ، وله أيضا سماع بالرملة وأطرابلس والدينور وغيرها من البلدان ، وحدث بيسير ، روى عنه أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الوهاب بن عبد الله الجياني (٢) من شيوخ عبد العزيز بن أحمد الكناني ، وكان مالكيا ، وقيل : إنه يذهب إلى الاعتزال ، وكان صارما في الحسبة ، ووليها سنة خمس وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم العبيدي ، وتوفي بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وأربعمائة ، قيل : ثاني عيد الأضحى ، وقيل غير ذلك ، ذكره ابن عساكر ، رحمه الله تعالى!.

قلت : ما سمعت بمالكيّ معتزليّ غير هذا ، ولعله كان مالكيا بالمغرب ، فلما دخل في خدمة الشيعة حصل منه ما حصل من نسبته لمذهب الاعتزال ، فالله تعالى أعلم.

__________________

(١) باقل : مضرب المثل في العي والفهاهة. قيل : كان بيده غزال فسئل بكم اشتراه ، فتركه وفتح أصابع يديه ومد لسانه. يشير إلى العدد / ١١ / فهرب الغزال.

(٢) في ب ، ه : «الجبان».

٢٠٣

٢٣١ ـ ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد ، الغافقي (١).

من أهل المرية ، ونزل مرسية ، سمع ببلده من ابن شفيع ، وأخذ عنه القراءات ، ومن الحافظ ابن سكرة وابن رغيبة وعبد القادر بن الحناط ، وبقرطبة من ابن عتاب وابن طريف وأبي بحر الأسدي وابن مغيث وغيرهم ، ورحل حاجا ، فسمع بمكة من أبي علي بن العرجاء أحاديث جعفر بن نسطور وغيرها في شعبان سنة ست وعشرين ، وسمع أيضا من أبي الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسي ، وقفل إلى بلده ، وانتقل بعد الحادثة عليه إلى مرسية ، وولي القضاء والخطبة هنالك ، وحدّث ، وأخذ عنه ، وكان فقيها مشاورا ، وقيل : إن ابن حبيش سمع منه الأحاديث النسطورية ، وأسمع صحيح البخاري آخر الحجة (٢) سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، وكان يحدّث به عن سلطان بن إبراهيم عن كريمة المروزية ، وحكى رحمه الله تعالى عن أبي ذرّ الهروي أنه قال عند موته : عليكم بكريمة فإنها تحمل كتاب البخاري من طريق أبي الهيثم ، رحم الله تعالى الجميع!.

٢٣٢ ـ ٢٣٣ ـ ومنهم أبو القاسم بن فورتش ، وهو إسماعيل بن يحيى بن عبد الرحمن ، السّرقسطي ، وأخوه القاضي محمد بن يحيى ، وكانا جميعا زاهدين ، لهما رحلة سمعا فيها من أبي ذر الهروي بمكة ، وعادا إلى بلدهما ، وولي محمد منهما القضاء ، وقد لقيهما القاضي الحافظ أبو علي بن سكّرة ولم يسمع منهما ، ويرويان عن أبي عمر الطلمنكي وأبي الحزم بن أبي درهم (٣) ، وتوفي أبو القاسم في نحو الخمسمائة.

٢٣٤ ـ ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن عمر ، القرشي ، العلوي ، الإشبيلي.

رحل حاجا ، ودخل العراق والموصل ، وقيد الكثير ورواه ، وسمع من أبي حفص الميانشي بمكة سنة ٥٧٠ ، وحدث بالموطإ عن أبي الحسن علي بن هابيل الأنصاري عن أبي الوليد الباجي ، وحدث أيضا عن غيره بما دل على أنه كان يخلط ولا يضبط ، وكذلك قال أبو الصبر : كان له في الموطأ إسناد عال جدا ، فتصفحته فوجدته ينقص منه رجل واحد ، فاستربت (٤) في الرواية عنه بعد تحسين الظن به ، ولم يتنبه أبو الصبر لأن ابن هابيل وغيره من شيوخه مجهولون ، وأبو الصبر ممن روى عن المذكور ، وهو أبو الصبر السبتي ، والله تعالى أعلم بحقيقة حال الرجل.

__________________

(١) انظر ترجمته في التكملة ص ١٤٩.

(٢) في ب : «آخر ذي الحجة».

(٣) في ج : «أبي الحزم بن درهم».

(٤) استراب : وقع في الشك. واستربت في الرواية عنه : رأيت ما يريبني وشككت.

٢٠٤

٢٣٥ ـ ومنهم أبو الروح عيسى بن عبد الله بن محمد بن موسى بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن خليل ، النفزي (١) ، الحميري ، التاكرنّيّ.

قال في تاريخ إربل : كان شابا متأدبا فاضلا ، قدم مصر ، وله شعر حسن ، وقال الحافظ عبد العظيم المنذري : أنشدنا المذكور لنفسه : [بحر الكامل]

يا قلب مالك لا تفيق من الهوى

أو ما يقرّ بك الزمان قرار؟

ألكلّ ذي وجه جميل صبوة

ولكل عهد سالف تذكار؟ (٢)

وله : [بحر البسيط]

يا رب أضحية سوداء حالكة

لم ترع في البيد إلا الشمس والقمرا

تخال باطنها في اللون ظاهرها

فهي الغداة كزنجيّ إذا كفرا

ولد سنة ٥٩٠ بتاكرنّا من بلاد الأندلس ، وهي من نظر (٣) قرطبة ، وتوفي بأرزن من ديار بكر سنة ٦٢٩ ، عائدا من آمد (٤) ، رحمه الله تعالى!.

ومن بديع شعره : [بحر البسيط]

إن أودع الطرس ما وشّاه خاطره

أبدى لعينيك أزهارا وأشجارا

وإن تهدّد فيه أو يعد كرما

بثّ البرية آجالا وأعمارا

وتاكرنا ـ بضم الكاف والراء وتخفيفها ، وشد النون ـ وورد المذكور إربل سنة سبع وعشرين وستمائة ، وله أبيات أجاز فيها أبيات (٥) شرف الدين عمر بن الفارض في غلام اسمه بركات ، قال الأسدي الدمشقي ، ومن خطه نقلت : كنت حاضرا هذه الواقعة بالقاهرة بالجامع الأزهر ، إذ قال ابن الفارض : [بحر الكامل]

بركات يحكي البدر عند تمامه

حاشاه ، بل شمس الضّحى تحكيه (٦)

__________________

(١) في ج : «النقري» تحريف.

(٢) الصبوة : مصدر صبا يصبو صبوة ؛ أي حن ومال. وفي ب : «جميل حنّة».

(٣) في أ : «من قطر قرطبة».

(٤) آمد : أعظم مدن ديار بكر وأجلها قدرا وأشهرها ذكرا ، وهي بلد قديم وحصن ركين مبني بالحجارة السود على نشز دجلة (معجم البلدان ١ / ٥٦).

(٥) في ب : «فيها قول شرف الدين».

(٦) يحكي : يشبه.

٢٠٥

فقال أبو الروح ، وأنشدني ذلك : [بحر الكامل]

هذا الكمال فقل لمن قد عابه

حسدا وآية كل شيء فيه

لم تذو إحدى زهرتيه ، وإنما

كملت بذاك ملاحة التشبيه

وكأنه رام يغلّق جفنه

ليصيب بالسهم الذي يرميه

وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل : أنشدني أبو الروح لنفسه : [بحر الكامل]

أوصيت قلبي أن يفرّ عن الصّبا

ظنا بأنّي قد دعوت سميعا

فأجابني لا تخش مني بعد ما

أفلتّ من شرك الغرام وقوعا

حتى إذا نادى الحبيب رأيته

آوي إليه ملبيا ومطيعا

كذبالة أخمدتها فإذا دنا

منها الضرام تعلقته سريعا (١)

قال : وأنشدني : [بحر البسيط]

وزائر زارني واللّيل معتكر

والطّيب يفضحه والحلي يشهره

أمسكت قلبي عنه وهو مضطرب

والشوق يبعثه والصّون يزجره

فبتّ أصدى إلى من لا يحللني

والورد صاف ولا شيء يكدّره (٢)

تراه عيني وكفّي لا تلامسه

حتى كأني في المرآة أنظره

قال : وأنشدني [قال : أنشدني](٣) الإمام أبو عمرو بن غياث الشريشي لنفسه رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

صبوت وهل عار على الحر إن صبا

وقيد ثغر الأربعين إلى الصبا

وقالوا مشيب قلت وا عجبا لكم

أينكر صبح قد تخلل غيهبا (٤)

وليس مشيبا ما ترون ، وإنما

كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا

وتوفي أبو عمرو سنة ٦٢٠ ، عن تسعين سنة.

قال ابن المستوفي : وأنشدني (٥) أبو عمرو أيضا لنفسه : [بحر السريع]

__________________

(١) الذبالة : الفتيلة.

(٢) أصدى : أعطش كثيرا. وفي ب : «من لا يحلئني».

(٣) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٤) الغيهب : الظلمة.

(٥) في ب : «قال وأنشدني».

٢٠٦

أودع فؤادي حسرة أو دع

نفسك تؤذي أنت في أضلعي

أمسك سهام اللحظ أو فارمها

أنت بما ترمي مصاب معي

موقعها القلب وأنت الذي

مسكنه في ذلك الموضع

قال : وأنشدني قال : أنشدني مطرف الغرناطي : [بحر الخفيف]

أنا صبّ كما تشاء وتهوى

شاعر ماجد كريم جواد

سنّة سنّها قديما جميل

وأتى المحدثون مثلي فزادوا (١)

قال : وأنشدني أيضا المطرف : [بحر السريع]

وفي فروع الأيك ورق إذا

بلّ الندى أعطافها تسجع (٢)

أو هزّها نفح نسيم الصبا

شاقك منها غرّد شرّع

كأنما ريطتها منبر

وهي خطيب فوقه مصقع

إن شبّها في طرف لوعة

جرى لها في طرف مدمع

أخذه من قول عبد الوهاب بن علي المالقيّ الخطيب : [المتقارب]

كأنّ فؤادي وطرفي معا

هما طرفا غصن أخضر

إذا اشتعل النار في جانب

جرى الماء في الجانب الآخر

٢٣٦ ـ ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الإمام النحوي اللغوي نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حمدون ، الحميري ، الأندلسي ، المالقي.

قال شرف الدين الصابوني : أنشدنا المذكور لنفسه سنة ٦٦٧ : [بحر الطويل]

فؤادي بأيدي النائبات مصاب

وجفن لفيض الدمع فيه مصاب (٣)

تناءت ديار قد ألفت وجيرة

فهل لي إلى عهد الوصال إياب (٤)

وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى

ودون مرادي أبحر وهضاب

مضى زمني والشيب حل بمفرقي

وأبعد شيء أن يردّ شباب

__________________

(١) جميل : هو جميل بن معمر الشاعر الغزل الذي علق بثينة فعرف بها.

(٢) الأيك : الشجر الكثير الملتف. والورق : جمع ورقاء : وهي الحمامة.

(٣) في ب : «فؤاد بأيدي».

(٤) تناءت : تباعدت. والإياب : الرجوع.

٢٠٧

إذا مر عمر المرء ليس براجع

وإن حل شيب لم يفده خضاب

فحل حمام الشيب في فرق لمّتي

وقد طار عنها للشباب غراب (١)

وكم عظة لي في الزمان وأهله

وبين فؤادي والقبول حجاب

فدع شهوات النفس عنك بمعزل

فعذب الليالي مقتضاه عذاب

وسلّ فؤادا عن رباب وزينب

فما القصد منها زينب ورباب

وأنوي متابا ثم أنقض نيتي

فربع صلاحي بالفساد خراب

أقر بتقصيري وأطمع في الرضا

وما القصد إلا مرجع ومتاب

ويعتبني في العجز خلّ وصاحب

وهل نافع في الجامدات عتاب

أطهر أثوابي وقلبي مدنس

وأزعم صدقا والمقال كذاب

وفارقت من غرب البلاد مواطنا

فيسقي ربا غرب البلاد سحاب (٢)

فبالقلب من نار التشوق حرقة

وبالعين من فيض الدموع عباب (٣)

وما بلغ المملوك قصدا ولا منّى

ولا حطّ عن وجه المراد نقاب

وأخشى سهام الموت تفجأ غفلة

وما سار بي نحو الرسول ركاب

وقلبي معمور بحب محمد

فمالي في غير الحجاز طلاب

يحنّ إلى أوطانه كل مسلم

فقدس منها منزل وجناب

فأسعد أيامي إذا قيل هذه

منازل من وادي الحمى وقباب

فجسمي بمصر وروحي بطيبة

فللروح عن جسمي هناك مناب

على مثل هذا العجز والعمر منقض

تشقّ قلوب لا تشق ثياب

وأرجو ثوابا بامتداحي محمدا

وما كل مثن في الزمان يثاب

به أخمدت من قبل نيران فارس

وحقق من ظبي الفلاة خطاب

وكم قد سقى من كفه الجيش فارتووا

وكم قد شفى منه العيون رضاب

أجيب لما يختار في حضرة العلا

وما كل خلق حيث قال يجاب

__________________

(١) اللمّة : الشعر الذي يتجاوز شحمة الأذن.

(٢) في ب : «فسقّى ربا غرب».

(٣) العباب : كثرة الماء ، كثرة السيل. ارتفاع الموج واضطرابه.

٢٠٨

فلم تلهه دنياه عن خوف ربه

ولا شغلته عن رضاه كعاب (١)

محمد المختار أعلى الورى ندى

وأكرم مبعوث أتاه كتاب

أتحسب أن تحصي بعدّ صفاته

وهيهات ما يحصي علاه حساب

ثناء رسول الله خير ذخيرة

وقد ذل جبار وخيف عقاب

وقد نصب الميزان والله حاكم

وذلت لأحكام الإله رقاب

فكل ثناء واجب لصفاته

فما مدح مخلوق سواه صواب

إليك رسول الله أنهي مدائحي

وإن رجائي راحة وثواب

إذا قيل من تعني بمدحك كله

فأنت إذا خبرت عنه جواب

(فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب) (٢)

فأنت أجلّ العالمين مكانة

وأكرم مدفون حواه تراب

وله يرثي العز بن عبد السلام : [بحر الكامل]

أمد الحياة كما علمت قصير

وعليك نقّاد بها وبصير

عجبا لمغتر بدار فنائه

وله إلى دار البقاء مصير

فسليمها للنائبات معرّض

وعزيزها بيد الردي مقهور

أيظن أن العمر ممدود له

والعمر فيه على الردى مقصور

وهي طويلة ، ولم يحضرني سوى ما ذكرته.

٢٣٧ ـ ومنهم عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، الغسّاني ، الوادي آشي ، أبو محمد.

وله أخبار كثيرة في الحماسة وعلوّ الهمة.

ومن نظمه لما تعمم مخدومه ابن غانية بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء : [بحر الطويل]

فديتك بالنفس التي قد ملكتها

بما أنت موليها من الكرم الغضّ

__________________

(١) الكعاب : الفتاة التي كعب ثدياها ونهدا.

(٢) البيت لأبي فراس الحمداني في مدح سيف الدولة الحمداني وعتابه.

٢٠٩

تردّيت للحسن الحقيقي بهجة

فصار لها الكليّ في ذاك كالبعض

ولما تلالا نور غرّتك التي

تقسم في طول البلاد وفي عرض

تلفعتها خضراء أحسن ناظر

نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض (١)

وأسدلت حمراء الملابس فوقها

بمفرق تاج المجد والشرف المحض

فأصبحت بدرا طالعا في غمامة

على شفق دان إلى خضرة الأرض

وقال رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

أجبنا ورمحي ناصري وحسامي

وعجزا وعزمي قائدي وإمامي

ولي منك بطّاش اليدين غضنفر

يحارب عن أشباله ويحامي (٢)

وقال رحمه الله تعالى لما أسنّ يستأذن مخدومه في الحج والزيارة : [بحر الكامل]

أمنن بتسريح عليّ وفعله

سبب الزيارة للحطيم ويثرب (٣)

ولئن تقوّل كاشح أن الهوى

درست معالمه وأنكر مذهبي (٤)

فمقالتي ما إن مللت وإنما

عمري أبى حمل النّجاد ومنكبي

وعجزت عن أن أستثير كمينها

وأشق بالصمصام صدر الموكب (٥)

وقال رحمه الله تعالى ، ولا خفاء ببراعته : [بحر الطويل]

ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما

وسقيا وإن لم تشك يا ساجعا ظما

أعدهن ألحانا على سمع معرب

يطارح مرتاحا على القضب معجما

وطر غير مقصوص الجناح مرفّها

مسوّغ أشتات الحبوب منعما

مخلّى وأفراخا بوكرك نوّما

ألا ليت أفراخي معي كنّ نوّما

وقال رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

كفى حزنا أن الرماح صقيلة

وأن الشّبا رهن الصدى بدمائه

__________________

(١) في ه : «تلففتها خضراء».

(٢) الغضنفر : الأسد. والأشبال : جمع شبل ، وهو ولد الأسد.

(٣) في ب : «امنن بتسريح علي فعله».

(٤) الكاشح : العدو المبغض الذي يضمر العداوة.

(٥) الصمصام : السيف.

٢١٠

وأن بياديق الجوانب فرزنت

ولم يعد رخ الدست بيت بنائه (١)

وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ من جلة الأدباء ، وفحول الشعراء ، وبرعة الكتاب (٢) كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن (٣) ، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم ، وكان منقطعا إليه ، وممن صحبه في حركاته ، وكان آية في بعد الهمة ، والذهاب بنفسه ، والغناء في مواقف الحرب ، والجنسية علة الضم ، إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضا ، ووجّهه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق ، وقد طال العراك ، وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [إلى أن يباكروها من الغد ، فلما بلغ الصدر اشتدّ على الناس](٤) وذمّر (٥) أرباب الحفيظة ، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة ، فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة ، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة ، فقال له الأمير : وما حملك على ما صنعت؟ فقال : الذي عملت هو شأني ، وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم فانظر غيري.

وتشاجر له ولد صغير مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير ، وقال: وما قدر أبيك؟ فلما بلغ أباه خرج مغضبا لحينه ، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده فقال : حفظك الله تعالى! لست أشك في أني خديم أبيك ، ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك ، اعلم أن أباك وجّهني رسولا إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه ، فلما بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر ، وأجري علي سبعة دراهم في اليوم ، وطولع بكتابي ، وقيل : من الميرقي الذي وجّهه؟ فقال بعض الحاضرين : هو رجل مغربي ثائر على أستاذه ، فأقمت شهرا ، ثم استدعيت ، فلما دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي ، وقالوا للخليفة : هذا رجل جهل مقداره ، فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهما ، وأجري على مثلها في اليوم ، ثم استدعيت فودعت الخليفة ، واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته ، وانصرفت إلى أبيك ، فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار ، والثانية كانت على قدري ، وترجمته رحمه الله تعالى واسعة (٦).

__________________

(١) البيدق ، والفرز ، والرخ والدست من اصطلاحات الشطرنج. وفي ب : «وأن بياذيق».

(٢) برعة : جمع بارع. وبرع : تم في الفضيلة أو الجمال أو العلم ونحوها.

(٣) في ج : منصور بن عبد المؤمن.

(٤) ما بين حاصرتين من ج.

(٥) ذمّر : حثّ ، حضّ.

(٦) في ب : «متسعة».

٢١١

٢٣٨ ـ ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني ، الوادي آشي

المؤلف ، الرحالة ، المتجول ببلاد المشرق سائحا ، صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها «جامع أنماط السائل ، في العروض والخطب والرسائل».

ومن نظمه قوله رحمه الله : [بحر الطويل]

ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت

فما أكثر الغرقى على الجنبات

وأكثر من لاقيت يغرق إلفه

وقلّ فتى ينجى من الغمرات (١)

توفي سنة ٦٠٣ ، رحمه الله تعالى!.

٢٣٩ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد ، القرطبي ، الخزرجي.

كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب ، وله تآليف حسان ، وشعر رائق ، فمنه قوله رحمه الله تعالى : [بحر الوافر]

وفي الوجنات ما في الروض لكن

لرونق زهرها معنى عجيب (٢)

وأعجب ما التعجّب عنه أني

أرى البستان يحمله قضيب

وتوفي رحمه الله تعالى سنة ٦٠١.

٢٤٠ ـ ومنهم أبو العباس القرطبي ، صاحب «المفهم ، في شرح مسلم» وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري ، المالكي ، الفقيه ، المحدث ، المدرس ، الشاهد بالإسكندرية.

ولد بقرطبة سنة ٥٧٨ ، وسمع الكثير هنالك ، ثم انتقل إلى المشرق ، واشتهر وطار صيته ، وأخذ الناس عنه ، وانتفعوا بكتبه ، وقدم مصر ، وحدث بها ، واختصر الصحيحين ، وكان بارعا في الفقه والعربية ، عارفا بالحديث ، وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة ، ومن تصانيفه رحمه الله تعالى «المفهم ، في شرح مسلم» وهو من أجلّ الكتب ، ويكفيه شرفا اعتماد الإمام النووي رحمه الله تعالى عليه في كثير من المواضع ، وفيه أشياء حسنة مفيدة ، منها اختصاره للصحيحين كما مر ، وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة ٦٥٦ (٣) ، وكان يعرف في بلاده بابن المزين ، وله كتاب

__________________

(١) إلفه : صديقه ومؤانسه. والغمرات : جمع غمرة ، وهي الشدّة.

(٢) الوجنات : الخدود ، جمع وجنة.

(٣) اختلف في سنة وفاته ، فجاء في الذيل والتكملة أنه توفي سنة ٦٥٦ ه‍ كما ورد هنا في النفح. بينما جاء في الديباج أنه توفي سنة ٦٢٦ ه‍.

٢١٢

«كشف الإقناع (١) ، عن الوجد والسماع» أجاد فيه وأحسن وكان يشتغل أولا بالمعقول ، وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال.

قال الشيخ شرف الدين الدمياطي : أخذت عنه ، وأجاز لي مصنفاته ، رحمه الله تعالى! وحدث بالإسكندرية وغيرها ، وصنف غير ما ذكرناه ، وكان إماما عالما جامعا لمعرفة الحديث والفقه والعربية وغيرها.

٢٤١ ـ ومنهم العارف الكبير ، الولي الصالح الشهير ، أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة ، الخزاعي ، الأندلسي.

أحد الأعلام المنقطعين المقربين أولي الهداية ، كان ـ رضي الله تعالى عنه ونفعنا به! ـ كثير الأتباع ، بعيد الصيت ، فذّا شهيرا (٢).

قال الحافظ ابن الزبير : هو أحد الأعلام المشاهير فضلا وصلاحا ، قرأ ببلنسية وتفقه ، وحفظ نصف المدوّنة ، وأقرأها ، وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها ، أخذ عن أبوي الحسن بن النعمة وابن هذيل ، وحج ، ولقي في رحلته من الأندلس جلّة أكبرهم الولي الكبير سيد أبو مدين شعيب ، أفاض الله تعالى علينا من أنواره! وانتفع به ، ورجع عنه بعجائب ، فشهر بالعبادة ، وتبرك الناس به ، فظهرت عليه بركته ، توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ٦٢٤ ، وعاش نيفا وثمانين سنة.

وله ترجمة في الإحاطة ملخصها ما ذكرناه.

٢٤٢ ـ ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب ، الخزرجي ، الأنصاري ، الشاطبي ، الفقيه ، القاضي ، الصّدر ، المتفنن ، المحصل ، المجيد.

له علم محكم ، وعقد صحيح مبرم ، رحل إلى المشرق وحج ، وكانت رحلته بعد تحصيله ، فزاد فضلا إلى فضل ، ونبلا إلى نبل ، وكان متثبتا في فقهه ، لا يستحضر من النقل الكثير ، ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه ، وكان له علم بالعربية وأصول الفقه ، ومشاركة في أصول الدين ، له شرح على الجزولية ، وكان أبوه قاضيا ، وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث ومجد مكسوب ومنسوب ، ثم ولي قضاء بجاية ، فكان في قضائه على سنن الفضلاء

__________________

(١) في ب : «كشف القناع ...».

(٢) فذا : فريدا ، لا مثيل له.

٢١٣

وطريق الأولياء العقلاء بالحق مع الصدق ، معارضا للولاة ، وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلا عند الحاجة ، وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره ، ويرى أن الكثرة مفسدة ، وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلا من أهل بجاية ، فقال له مشافهة : إن شئتم قدمتموه وأخرتموني (١) وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن (٢) العربي أبو بكر وغيره من أنها «قبول قول الغير على الغير بغير دليل» يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلا الآحاد الذين تبيّن فضلهم في الوجود ، وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي في صحيفة من يقدمه من باب قوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنّة حسنة ، ومن سنّ سنّة سيّئة» وقد سئل : من أولياء الله؟ فقال : شهود القاضي ، لأنهم لا يأتون كبيرة ، ولا يواظبون على صغيرة ، وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجل منها ، وإن كانت خطة لا صفة فلا شيء أخس منها ، ولما كانت واقعة ابن (٣) مرين بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه ، فقال : والله لا أفسد ديني ، ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه ، واقتفاء سننه الذي اقتفاه ، قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبرينيّ في «عنوان الدراية في علماء بجاية».

٢٤٣ ـ ومنهم محمد بن يحيى الأندلسي ، اللبسي ـ بلام فموحدة فسين ـ قاضي القضاة ، أخذ عن الحافظ ابن حجر (٤) ، ونوّه به عند الأشراف (٥) ، حتى ولاه قضاء المالكية بحماة ، وسار سيرة السلف الصالح ، ثم حنق على نائبها في بعض الأمور ، وسافر إلى حلب مظهرا إرادة السماع على حافظها البرهان.

ووصفه ابن حجر في بعض مجاميعه بقوله : الشيخ ، الإمام ، العالم ، العلامة في الفنون ، قاضي الجماعة. وقال : إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه والنحو وأصول الدين ، يستحضر علوما كأنها بين عينيه ، ووصفه أيضا بعلامة دهره ، وخلاصة عصره ، وعين زمانه ، وإنسان أوانه ، جامع العلوم ، وفريد كل منثور ومنظوم ، قاضي القضاة ، لا زالت رايات الإسلام

__________________

(١) في ج : «قدمتموه وأخرتموه» وهو تحريف.

(٢) في ب : «القاضي ابن العربي» ..

(٣) في أ ، ه : «مزين» وقد أثبتنا ما في ب.

(٤) الحافظ ابن حجر هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني الشافعي ، المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة القاهري. ولد سنة ٧٧٣ ه‍. وتوفي ٨٥٢ ه‍ (انظر مقدمة تهذيب التهذيب تأليف ابن حجر ط. دار الفكر / بيروت ص ١).

(٥) في ب : «عند الأشرف».

٢١٤

به منصورة ، وأعلام الإيمان به منشورة ، ووجوه الأحكام الشرعية بحسن نظره محبورة ، ولد سنة ٨٠٦ ، وتوفي ببرسّا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة ٨٨٤ ، قاله السخاوي «في الضوء اللامع».

٢٤٤ ـ ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله بن الحكيم ، الرندي ، ذو الوزارتين.

رحل إلى مصر والحجاز والشام ، وأخذ الحديث عن جماعة ، وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر بن الحكيم ، ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك ، فنقول : إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري (١) السفاح ، أخذ عنه العربية ، وقرأ عليه القرآن بالروايات السبع ، وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر ، وأخذ ـ رحمه الله تعالى! ـ عن جماعة من أعلام الأندلس (٢) ، وأخذ في رحلته عن الجلّة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر ، فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن بن عساكر ، لقيه بالحرم الشريف ، وانتفع به ، وأكثر من الرواية عنه ، والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرّاني المعروف بابن هبة الله ، والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري ـ جزائر المغرب (٣) ـ نزيل بغداد والشيخ أبو الصفاء خليل بن أبي بكر المرادي الحنبلي ، لقيه بالقاهرة ، والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني ، والشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث وحافظها ومؤرخها ،! والشهاب ابن الخيمي ، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها : [بحر البسيط]

يا مطلبا ليس لي في غيره أرب

إليك آل التقصّي وانتهى الطّلب (٤)

وفيها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه :

يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا

لقد حكيت ولكن فاتك الشّنب

والشيخ جمال الدين أبو صادق محمد بن يحيى القرشي ، ومن تخريجه «الأربعون المروية بالأسانيد المصرية» وسمع الحلبيات من ابن عماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة ، ومولده سنة ٥٩٨ ، وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد

__________________

(١) في أ : «العبدري».

(٢) في ب ، ه : «عن جملة من أعلام الأندلس».

(٣) في أ : «جزائر العرب».

(٤) آل يؤول أولا ومآلا ـ إليه : رجع. والتقصي : بلوغ الغاية في البحث.

٢١٥

اللطيف بن يوسف البغدادي ، وتكنى أم الفضل ، وسمعت من أبيها ، ومن أشياخ ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناظر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان وأخوه محمد بن سليمان ، في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من البلاد يطول تعدادهم ، وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله بن رحيمة الكناني ، وبتونس عن قاضيها أبي العباس بن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي الحسين عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي (١).

ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور قوله : [بحر الرمل]

هل إلى ردّ عشيات الوصال

سبب أم ذاك من ضرب المحال

حالة يسري بها الوهم إلى

أنها تثبت برأ باعتلال (٢)

وليال ما تبقى بعدها

غير أشواقي إلى تلك الليال (٣)

إذ مجال الوصل فيها مسرحي

ونعيمي آمر فيها ووال

ولحالات التراضي جولة

مرحت بين قبول واقتبال

فبوادي الخيف خوفي مسعد

وبأكناف منّى أسنى موال

لست أنسى الأنس فيها أبدا

لا ولا بالعذل في ذاك أبال (٤)

وغزال قد بدا لي وجهه

فرأيت البدر في حال الكمال

ما أمال التيه من أعطافه

لم يكن إلا على خصل اعتدال

خصّ بالحسن فما أنت ترى

بعده للناس حظا في الجمال

من تسلّى عن هواه فأنا

بسواه عن هواه غير سال

فلئن أتعبني حبي له

فلكم نلت به أنعم حال

إذ لآلي جيده من قبلي

ووشاحاه يميني وشمال (٥)

__________________

(١) في أ : «عبيد الله بن أحمد» تحريف. وهو عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع القرشي الأموي العثماني الإشبيلي (بغية الوعاة ٢ / ١٢٥).

(٢) في ب : «تثبت برءا».

(٣) في ب : «تلك الليالي».

(٤) في ب : «أبالي».

(٥) في ب : «وشمالي».

٢١٦

خلف النوم لي السهد به

وترامى الشخص لا طيف الخيال

فتداوى بلماه ظمئي

مزجك الصهباء بالماء الزلال (١)

أو إشادات بناء الملك الأو

حد الأسمى الهمام المتعال (٢)

ملك إن قلت فيه ملكا

لم تكن إلا محقا في المقال

أيد الإسلام بالعدل فما

إن ترى رسما لأصحاب الضلال

ذو أياد شملت كل الورى

ومعال يا لها خير معال

همة هامت بأحوال التقى

وصفات بالجلالات حوال

وقف النّفس على إجهادها

بين صوم وصلاة ونوال

وهي طويلة ، ومنها :

أيها المولى الذي نعماؤه

أعجزت عن شكرها كنه المقال (٣)

ها أنا أنشدكم مهنئا

من بديع النظم بالسحر الحلال

فأنا العبد الذي حبّكم

لم يزل والله في قلبي وبال (٤)

أورقت روضة آمالي بكم

مذ تولّاها الرّباب المتوال (٥)

[واقتنيت الجاه من خدمتكم

فهي ما أذخره من كنز مال](٦)

ومنها :

يا أمير المسلمين هذه

خدمة تنبىء عن أصدق حال (٧)

هي بنت ساعة أو ليلة

سهلت بالحب في ذاك الجلال

ما عليها إذ أجادت مدحها

من بعيد الفهم يلغيها وقال

فهي في تأدية الشكر لكم

أبدا بين احتفاء واحتفال

__________________

(١) اللمى : سمرة مستحسنة في الشفة. و (مزجك) منصوب مفعول مطلق. أي كمزجك الصهباء بالماء الزلال.

والصهباء : الخمر.

(٢) في ب : «المتعالي».

(٣) الكنه : حقيقة الشيء وجوهره.

(٤) في ب : «وبالي» ، وهذا أصلها.

(٥) في ب : «المتوالي».

(٦) لم يرد هذا البيت في ه ، ولا في الإحاطة.

(٧) في ب : «خدمتي تنبىء عن صادق حال».

٢١٧

وكتب رحمه الله تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس : [بحر الخفيف]

حي حيّي بالله يا ريح نجد

وتحمّل عظيم شوقي ووجدي

وإذا ما بثثت حالي فبلّغ

من سلامي لهم على قدر ودّي

ما تناسيتهم وهل في مغيبي

قد نسوني على تطاول بعدي (١)

بي شوق إليهم ليس يعزى

لجميل ولا لسكان نجد (٢)

يا نسيم الصّبا إذا جئت قوما

ملئت أرضهم بشيح ورند (٣)

فتلطف عند المرور عليهم

وحقوقا لهم عليّ فأدّ

قل لهم قد غدوت من وجدهم في

حال شوق لكل رند وزند

وإن استفسروا حديثي فإني

باعتناء الإله بلّغت قصدي

فله الحسد إذ حباني بلطف

عنده قلّ كلّ شكر وحمد

وافتتح مخاطبته لأخيه الأكبر أبي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها : [بحر الكامل]

ذكر اللّوى شوقا إلى أقماره

فقضى أسى أو كاد من تذكاره

وعلا زفير حريق نار ضلوعه

فرمى على وجناته بشراره

لو كنت تبصر خطه في خده

لقرأت سر الوجد من أسطاره

يا عاذليه أقصروا فلشدّ ما

أفضى عتابكم إلى إضراره (٤)

إن لم تعينوه على برحائه

لا تنكروا بالله خلع عذاره (٥)

ما كان أكتمه لأسرار الهوى

لو أن جند الصبر من أنصاره

ما ذنبه والبين قطّع قلبه

أسفا وأذكى النار في أعشاره

بخل اللوى بالساكنيه وطيفهم

وحديثه ونسيمه ومزاره

يا برق خذ دمعي وعرج باللوى

فاسفحه في باناته وعراره

وإذا لقيت بها الذي بإخائه

ألقى خطوب الدهر أو بجواره

__________________

(١) في أ : «هم نسوني».

(٢) أراد جميل بن معمر صاحب بثينة.

(٣) الشيح : نبات طيب الرائحة. والرند : شجر صغير طيب الرائحة.

(٤) في أ ، وفي الإحاطة : «فلربما أفضى».

(٥) البرحاء : الشدة.

٢١٨

فاقر السلام عليه قدر محبتي

فيه وترفيعي إلى مقداره

والمم بسائر إخوتي وقرابتي

من لم أكن لجوارهم بالكاره

ما منهم إلا أخ أو سيد

أبدا أرى دأبي على إكباره (١)

فابثث لذاك الحي أنّ أخاهم

في حفظ عهدهم على استبصاره

وقال رحمه الله تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه : [بحر الوافر]

ألا واصل مواصلة العقار

ودع عنك التخلق بالوقار

وقم واخلع عذارك في غزال

يحق لمثله خلع العذار

قضيب مائس من فوق دعص

تعمم بالدجى فوق النهار (٢)

ولاح بخده ألف ولام

فصار معرّفا بين الدراري

رماني قاسم والسين صاد

بأشفار تنوب عن الشّفار (٣)

وقد قسمت محاسن وجنتيه

على ضدين من ماء ونار

فذاك الماء من دمعي عليه

وتلك النار من فرط استعاري

عجبت له أقام بربع قلبي

على ما شبّ فيه من الأوار (٤)

ألفت الحب حتى صار طبعا

فما أحتاج فيه إلى ادكار

فما لي عن مذاهبه ذهاب

وهذا فيه أشعاري شعاري

وقال العلامة ابن رشيد في «ملء العيبة» : لما قدمنا المدينة سنة ٦٨٤ كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكيم ، وكان أرمد (٥) ، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار ، وقوي الشوق لقرب المزار ، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار ، وإعظاما لمن حل تلك الديار ، فأحس بالشفاء ، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله : [بحر الطويل]

ولما رأينا من ربوع حبيبنا

بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا

__________________

(١) دأبي : عادتي وشأني.

(٢) القضيب : الغصن ، يشبه به قد الفتاة. والدّعص : كثيب الرمل ، وتشبه عجيزة المرأة به.

(٣) الأشفار : أهداب العين ، والشّفار : جمع شفرة ، وهي نصل السكين.

(٤) الأوار : اللهب.

(٥) الأرمد : المصاب بالرمد.

٢١٩

وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا

شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا

وحين تبدّى للعيون جمالها

ومن بعدها عنا أديلت لنا قربا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن حلّ فيها أن نلم به ركبا

نسح سجال الدمع في عرصاتها

ونلثم من حبّ لواطئه التربا (١)

وإن بقائي دونه لخسارة

ولو أن كفي تملأ الشرق والغربا

فيا عجبا ممن يحب بزعمه

يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا

وزلّات مثلي لا تعدد كثرة

وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا

وخط الوزير ابن الحكيم في غاية الحسن ، وقد رأيته مرارا ، وملكت بعض كتبه ، ونثره ـ رحمه الله تعالى! ـ أعلى من شعره كما نبه عليه لسان الدين في الإحاطة.

ومن نثره في رسالة طويلة كتبها عن سلطانه ، ما صورته : وقد تقرر عند الخاص والعام ، من أهل الإسلام. واشتهر في آفاق الأقطار ، اشتهار الصباح في سواد الظلام. أنا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لعرض الدنيا. وأنا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار ، ولا أقصرنا عن الاعتضاد (٢) بكل من أملنا معاملته والاستظهار. ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار (٣) حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار ، فسمحنا بالطارف من أموالنا والتّلاد ، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد ، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد ، فلم يكن بين تلبية المدعوّ وزهده ، ولا بين قبوله ورده ، إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد ، ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ، ولا يجعل فيها شيئا (٤) إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه ، ولما أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه ، وبقي المسلمون يتوقعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه ، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام ، وشمرنا عن ساعد الجد في جهاد عبدة الأصنام ، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٥] أخذ الاعتزام ، فأمدّنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر ، ونصرنا بألطاف أغنى فيها

__________________

(١) نسح الدمع : نجعله يسيل. والسجال : جمع سجل ، وهو الدلو. وعرصات الدار : جمع عرصة ، وهي ساحة الدار ، أو بقعة واسعة بين الدور.

(٢) الاعتضاد : الاستعانة.

(٣) في أ : «وبنات الأرسال».

(٤) في ه : «ولا يجعل فيها سببا». وفي الإحاطة : وأن يجعل فيها شيئا.

٢٢٠