نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

النبيين في أعلى عليين في الجنة ، فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقا في هذا الباب ، فأقبل الآن على ما قصدتني (١) له أو دع ، فهالني قوله ، فسكتّ متفكرا ، وأطرقت متأدبا ، فلما رأى ذاك مني قال : وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه ، يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارّ ساكن لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، ووطء الديار ، وركوب البحار ، وهو ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدّث في الآخرة ، ولا عزه بأقلّ من عز المحدث ، فلما سمعت ذلك نقص عزمي (٢) في طلب الحديث ، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدما ، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته ، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لهذا الصبي يا أبا إبراهيم ، فقال له أبو إبراهيم : إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك ، انتهى.

وجاء أبو حيان إلى ابن تيمية والمجلس غاصّ فقال يمدحه ارتجالا : [بحر البسيط]

لما أتينا تقيّ الدين لاح لنا

داع إلى الله فرد ما له وزر

على محياه من سيما الألى صحبوا

خير البرية نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حبرا

بحر تقاذف من أمواجه الدرر (٣)

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيم إذ عصت مصر (٤)

فأظهر الحقّ إذ آثاره درست

وأخمد الشر إذ طارت له الشرر

كنا نحدث عن حبر يجيء فها

أنت الإمام الذي قد كان ينتظر

 ثم انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية ، ومات وهو على انحرافه ، ولذلك أسباب : منها أنه قال له يوما : كذا قال سيبويه ، فقال : يكذب سيبويه ، فانحرف عنه ، رحم الله تعالى الجميع!

وحضر الشيخ أبو حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجّهه مع بعض غلمانه : [بحر المنسرح]

__________________

(١) في ب ، ه : «فأقبل الآن إلى ما قصدتني له أو دع».

(٢) في ب : «نقض عزمي».

(٣) الحبر : العالم. والحبر : جمع حبرة ، وهي نوع من الثياب المخططة التي اشتهرت اليمن بصناعتها.

(٤) سيد تيم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفي ب «عصت مضر».

١٨١

حيّيت أثير الدين شيخ الأدبا

أقضي له حقا كما قد وجبا

حييت فتى بطاق آس نضر

كالقدّ بدا ملئت منه طربا

قال فأنشدته : [بحر البسيط]

أهدى لنا غصنا من ناضر الآس

أقضى القضاة حليف الجود والباس

لما رأى سقمي أهداه مع رشإ

حلو التثني فكان الشافي الآسي (١)

ولما أنشد الشيخ أبو حيان قول نور الدين القصري في روضة مصر : [بحر الخفيف]

ذات وجهين فيهما قسم الحس

ن فأضحت بها القلوب تهيم

ذا يلي مصر فهو مصر وهذا

يتولى وسيم فهو وسيم

قد أعادت عصر التصابي صباها

وأبادت فيها الغموم الغيوم

زاد فيها بيتا ، وهو : [بحر الخفيف]

فبلجّ البحار يسبح نون

وبفجّ القفار يسفح ريم (٢)

قال أبو حيان : وكنت ماشيا بين القصرين مع ابن النحاس ، فعبر علينا صبي يدعى بجمال ، وكان مصارعا ، فقال البهاء : لينظم كل منا فيه ، ثم قال : [بحر البسيط]

مصارع تصرع الآساد شمرته

تيها فكل مليح دونه سمج

لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم

عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج

فنظمت أنا : [بحر الطويل]

سباني جمال من مليح مصارع

عليه دليل للملاحة واضح

لئن عزّ منه المثل فالكل دونه

وإن خفّ منه الخصر فالرّدف راجح

وسمع العزازي نظمنا فقال ، وأنشدنيه : [بحر السريع]

هل حكم ينصفني في هوى

مصارع يصرع أسد الشرى

مذ فرّ عني الصبر في حبه

حكى عليه مدمعي ما جرى

أباح قتلي في الهوى عامدا

وقال كم لي عاشق في الورى

__________________

(١) الرشأ : ولد الغزالة الذي قوي ومشى مع أمه. والآسي : الطبيب.

(٢) النون : الحوت.

١٨٢

رميته في أسرحبي ومن

أجفان عينيه أخذت الكرى

وقال لسان الدين في الإحاطة : كان أثير الدين أبو حيان نسيج وحده في ثقوب الذهن ، وصحة الإدراك ، والاضطلاع (١) بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية ، إمام النحاة في زمانه غير مدافع ، نشأ في بلده غرناطة مشارا إليه في التبريز بميدان الإدراك ، وتغيير السوابق في مضمار التحصيل ، ونالته نبوة (٢) لحق بسببها بالمشرق ، واستقر بمصر ، فنال بها ما شاء من عزّ وشهرة وتأثل (٣) وافر وحظوة (٤) ، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ملجأ وعدّة ، وكان شديد البسط مهيبا جهوريا (٥) مع الدّعابة والغزل وطرح التّسمّت ، شاعرا ، مكثرا ، مليح الحديث ، لا يمل وإن أطال ، وأسن جدّا فانتفع به ، قال لي بعض أصحابنا : دخلت عليه وهو يتوضأ ، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى كما تفعل البرك والأوز (٦) ، فقال لي : لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في هذا السن ، ثم قال لي بعد كلام حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى والمقري الخطيب أبي جعفر الشّقوري والشريف أبي عبد الله بن راجح وشيخنا الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق قال : حدّثنا شيخنا أبو حيان في الجملة سنة ٧٣٥ بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزله ، حدّثنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير سماعا من لفظه وكتبه من خطه بغرناطة ، عن الكاتب أبي إسحاق بن عامر الهمداني الطّوسي ـ بفتح الطاء ـ حدّثنا أبو عبد الله بن محمد العنسي القرطبي ، وهو آخر من حدّث عنه ، أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجيّاني ، أنبأنا حكم بن محمد ، أنبأنا أبو بكر بن المهندس ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا طالوت بن عباد بن نصال بن جعفر ، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اكفلوا لي بستّ أكفل لكم بالجنّة ، إذا حدّث أحدكم فلا يكذب ، وإذا ائتمن فلا يخن ، وإذا وعد فلا يخلف ، غضّوا أبصاركم ، وكفّوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم».

ثم قال ابن الخطيب : إن أبا حيان حملته حدّة الشبيبة على التعرض للأستاذ أبي جعفر الطباع ، وقد وقعت بينه وبين أستاذة ابن الزبير الوحشة ، فنال منه ، وتصدّى للتأليف في الرد عليه وتكذيب روايته فرع أمره للسلطان ، فامتعض (٧) له ، ونفذ الأمر بتنكيله ، فاختفى ، ثم أجاز البحر مختفيا ، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.

__________________

(١) الاضطلاع : التحمل والتعهّد.

(٢) نبوة : جفوة. وسيرد فيما بعد سبب هذه النبوة في النفح.

(٣) تأثل تأثلا : تأصل وثبت وعظم.

(٤) الحظوة : المكانة ، المنزلة.

(٥) الجهوري : العالي الصوت ، الشديده.

(٦) في ب : «الإوز».

(٧) امتعض من الأمر : حنق وعضب.

١٨٣

ثم قال : وشعره كثير يتصف بالإجادة وضدها ، فمن مطوّلاته قوله : [بحر البسيط]

لا تعذلاه فما ذو الحب معذول

العقل مختبل والقلب متبول

هزت له أسمرا من خوط قامتها

فما انثنى الصلب إلا وهو مقتول

جميلة فصّل الحسن البديع لها

فكم لها جمل منه وتفصيل

فالنحر مرمرة ، والنشر عنبرة ،

والثغر جوهرة ، والريق معسول

والطرف ذو غنج ، والعرف ذو أرج

والخصر مختطف ، والمتن مجدول

هيفاء ينطق في الخصر الوشاح لها

درماء تخرس في الساق الخلاخيل (١)

من اللواتي غذاهنّ النعيم فما

يشقين ، آباؤها الصّيد البهاليل (٢)

إلى أن قال : وقوله : [بحر الكامل]

نور بخدّك أم توقّد نار

وضنى بجفنك أم فتور عقار (٣)

وشذا بريقك أم تأرّج مسكة

وسنى بثغرك أم شعاع دراري

جمعت معاني الحس فيك فقد غدت

قيد القلوب وفتنة الأبصار

متصاون خفرا إذا ناطقته

أغضى حياء في سكون وقار

في وجهه زهرات روض تجتلى

من نرجس مع وردة وبهار

خاف اقتطاف الورد من وجناتها

فأدار من آس سياج عذار

وتسللت نمل العذار بخده

ليردن شهدة ريقه المعطار

وبخده نار حمته وردها

فوقفن بين الورد والإصدار

كم ذا أداري في هواه محبّتي

ولقد وشى بي فيه فرط أواري (٤)

وقال ابن رشيد : حدثنا أبو حيان قال : حدثنا التاجر أبو عبد الله البرجوني بمدينة عيذاب من بلاد السودان ، وبرجونة قرية من قرى دار السلام ، قال : كنت بجامع لو لم من بلاد الهند ومعنا رجل مغربي اسمه يونس ، فقال لي : اذكر لنا شيئا ، فقلت له : قال علي رضي الله تعالى عنه : «إذا وضع الإحسان في الكريم أثمر خيرا ، وإذا وضع في اللئيم أثمر شرا ، كالغيث يقع

__________________

(١) في أ : «يستن» وقد أثبتنا ما في ب ، ه.

(٢) البهاليل : جمع بهلول ، وهو السيد الجامع لصفات الخير.

(٣) العقار : الخمرة.

(٤) الأوار : حر النار.

١٨٤

في الأصداف فيثمر الدر ، ويقع في فم الأفاعي فيثمر السم» فما راعنا إلا ويونس المغربي قد أنشد لنفسه : [بحر السريع]

صنائع المعروف إن أودعت

عند كريم زكّت النّعما

وإن تكن عند لئيم غدت

مكفورة موجبة إثما

كالغيث في الأصداف در ، وفي

فم الأفاعي يثمر السما

قال أبو حيان : فلما سمعت هذه الأبيات نظمت معناها في بيتين ، وهما : [بحر الطويل]

إذا وضع الإحسان في الخبّ لم يفد

سوى كفره ، والحر يجزي به شكرا (١)

كغيث سقى أفعى فجاءت بسمها

وصاحب أصدافا فأثمرت الدرّا

قال أبو حيان : وأنشدنا الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي بن رمّاح (٢) الهمداني لنفسه بالقاهرة : [بحر الوافر]

فلا تعجب لحسن المدح مني

صفاتك أظهرت حكم البوادي

وقد تبدي لك المرآة شخصا

ويسمعك الصّدى ما قد تنادي

وبعد كتبي ما نقله ابن رشيد عن أبي حيان رأيت لبعضهم أن أبا حيان هذا الذي ذكره ابن رشيد ليس هو أبو حيان النحوي الأندلسي ، وإنما هو شخص آخر ، وفيه عندي نظر لا يخفى ، والذي أعتقده ولا أرتاب فيه أنه أبو حيان النحوي.

وقال ابن رشيد : وأنشدني أبو حيان لنفسه : [بحر الطويل]

إذا غاب عن عيني أقول سلوته

وإن لاح حال اللون فاضطرب القلب (٣)

يهيّجني عيناه والمبسم الذي

به المسك منظوم به اللؤلؤ الرطب

وقال الشريف بن راجح : رأيت أن ما وضعه الشيخ أبو حيان في تقديم (٤) لسان الأتراك تضييع لعمره ، وقلت : [بحر السريع]

نفائس الأعمار أنفقتها

أنا وأمثالي على غير شيء

__________________

(١) الخبّ : الخدّاع ، الخبيث.

(٢) في أ : «زماخ».

(٣) حال اللون : تغير.

(٤) في ب : «في تقدّم».

١٨٥

شيوخ سوء ليس يرضى بما

ترضى به من المخازي صبي

ومن نظم أبي حيان قوله : [بحر الخفيف]

إن علما تعبت فيه زماني

باذلا فيه طارفي وتلادي

لجدير بأن يكون عزيزا

ومصونا إلا على الأجواد

وقوله : [بحر الطويل]

ومالك والإتعاب نفسا شريفة

وتكليفها في الدهر ما ليس يعذب

أرحها فعن قرب تلاقي حمامها

فتنعم في دار البقا أو تعذب

واستشكل هذان البيتان بأن ظاهرهما خلاف الشرع ، وأجيب بأن مراده أمر الرزق ، لا أمر التكليف.

وأفاد غير واحد أن سبب رحلة الشيخ أبي حيان عن الأندلس أنه نشأ شر بينه وبين شيخه أحمد بن علي بن الطباع فألف أبو حيان كتابا سماه «الإلماع ، في إفساد إجازة ابن الطباع» فرفع ابن الطباع أمره للأمير محمد بن نصر المدعوّ بالفقيه ، وكان أبو حيان كثير الاعتراض عليه أيام قراءته عليه ، فنشأ شر عن ذلك ، وذكر أبو حيان أنه لم يقم بفاس إلا ثلاثة أيام ، وأدرك فيها أبا القاسم المزياتي ، وخرج أبو حيان من الأندلس سنة تسع وسبعين وستمائة.

٢١٧ ـ وكان جماعة من أعلام الأندلس رحلوا منها ، فلما وصلوا إلى العدوة أقاموا بها ، ولم يذهبوا إلى البلاد المشرقية ، منهم الشيخ النحوي الناظم الناثر أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي ، وهو القائل يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله صاحب تونس : [بحر الطويل]

أمن بارق أورى بجنح الدجى سقطا

تذكرت من حلّ الأجارع فالسقطا

وبان ولكن لم يبن عنك ذكره

وشطّ ولكن طيفه عنك ما شطا (١)

حبيب لو ان البدر جاراه في مدى

من الحسن لاستدنى مدى البدر واستبطا

إذا انتجعت مرعى خصيبا ركابه

غدا لحظ عيني يشتكي الجدب والقحطا

لقد أسرعت عني المطيّ بشادن

تسرع في قتل النفوس وما أبطا

ظننت الفلا دار ابن ذي بزن بها

وخلت المحاريب الهوادج والغبطا (٢)

فكم دمية للحسن فيها وصورة

تروق وتمثال من الحسن قد خطا

__________________

(١) بان : بعد. وشط : بعد أيضا.

(٢) الغبطا : وهي الغبيط ؛ أي ما يوضع على ظهر البعير لتركب المرأة فيه.

١٨٦

حمائل لاحت كالخمائل بهجة

سقيط الحيا فيهن لا يسأم السقطا

توسّد غزلان الأوانس والمها

به الوشي والديباج لا السّدر والأرطى (١)

ولم يسب قلبي غير أبهرها سنى

وأطولها جيدا وأخفقها قرطا

أيا ربة الأحداج سيري فتعلمي

وما بك جهل ، أن سهمك ما أخطا (٢)

قفي تستبيني ما بعينيك من صنّى

كجسمي وعنوان الهوى فيه مختطا

فلم أر أعدى منك لحظا وناظرا

لقلبي ولا أعدى عليه ولا أسطى (٣)

سقى الله عيشا قد سقانا من الهوى

كؤوسا بمعسول اللّمى خلطت خلطا

وكم جنة قد ردت في ظل كافر

فلم أجز ما أولاه كفرا ولا غمطا

وكم ليلة قاسيتها نابغيّة

إلى أن بدت شيبا ذوائبها شمطا (٤)

وبت أظن الشهب مثلي لها هوى

وأغبطها في طول ألفتها غبطا

على أنها مثلي عزيزة مطلب

ومن ذا الذي ما شاء من دهره يعطى

كأن الثريا كاعب أزمعت نوى

وأمّت بأقصى الغرب منزلة تخطى (٥)

كأن نجوم الهقعة الزّهر هودج

لها عن ذرا الحرف المناخة قد حطّا

كان رشاء الدلو رشوة خاطب

لها جعل الأشراط في مهرها شرطا

كأن السها قد دق من فرط شوقه

إليها كما قد دقق الكاتب النّقطا

كأن سهيلا إذ تناءت وأنجدت

غدا يائسا منها فأتهم وانحطا

كأن خفوق القلب قلب متيم

تعدى عليه الدهر في البين واشتطا

كأن كلا النسرين قد ريع إذ رأى

هلال الدجى يهوى له مخلبا سلطا

كأن الذي ضمّ القوادم منهما

هوى واقعا للأرض أو قص أو قطا

كأن أخاه رام فوتا أمامه

فلم يعد أن مد الجناح وأن مطا

كأن بياض الصبح معصم غادة

جنت يدها أزهار زهر الدجى لقطا

__________________

(١) توسّد : تتوسّد. والأرطى : شجر له ثمر كالعناب.

(٢) الأحداج : جمع حدج ، وهو مركب للنساء كالهودج.

(٣) أسطى : أقوى سطوة.

(٤) ليلة نابغية : أي قاسية شديدة.

(٥) في ب : «منزلة شحطا».

١٨٧

كأن ضياء الشمس وجه إمامنا

إذا ازداد بشرا في الوغى وإذا أعطى

محمد الهادي الذي أنطق الورى

ثناء بما أسدى إليهم وما أنطى (١)

إمام غدا شمس المعالي وبدرها

وقد أصبحت زهر النجوم له رهطا

جميل المحيا مجمل طيب ذكره

يعاطى سرورا كالحميا ويستعطى

إذا ما الزمان الجعد أبدى تجهما

أرانا الحياء الطلق والخلق السّبطا (٢)

كلا أبوي حفص نماه إلى العلا

فأصبح عن مرقاته النجم منحطا

بسيماه تدري أن كعبا جدوده

وإن هو لم يذكر رزاحا ولا قرطا

إذا قبض الروع الوجوه فوجهه

يزيد لكون النصر نصلا له بسطا

به تترك الأبطال صرعى لدى الوغى

كأن قد سقوا من خمر بابل إسفنطا (٣)

تراه إذا يعطي الرغائب باسما

له جذل يربي على جذل المعطى (٤)

وكم عنق قد قلّدت بنواله

فريدا وقد كانت قلادتها لطا (٥)

متى ما تقس جود الكرام بجوده

فبالبحر قايست الوقيعة والوقطا (٦)

يشف له عن كل غيب حجابه

فتحسبه دون المحجّب ما لطّا (٧)

تطيع الليالي أمره في عصاته

وتردي أعاديه أساودها نشطا

وتمضي عليهم سيفه وسنانه

فتبري الكلى طعنا وتفري الطّلى قطّا

فكيف ترجت غرة منه فرقة

غدا عزها ذلا ورفعتها هبطا

وكم بالنهى والحلم غطى عليهم

إلى أن جنوا ذنبا على العلم قد غطّى

فأمطاهم دهم الحديد وطالما

أنالهم دهم الجياد وما أمطى

ورام لهم هديا ولكنهم أبوا

بغيّهم إلا الضلالة والخبطا

__________________

(١) أنطى : لغة في أعطى.

(٢) في الديوان : «إذا ما الزمان الجعد أبدى عبوسه». والسّبط : السهل.

(٣) الإسفنط : الخمر.

(٤) الجذل : الفرح.

(٥) اللط : القلادة من حب الحنظل.

(٦) الوقيعة : نقرة يستقر فيها الماء. والوقط : حوض يستنقع فيه الماء.

(٧) لط : أسدل وستر.

١٨٨

وكان لهم يبغي المثوبة والرضا

ولكن أبوا إلا العقوبة والسخطا

ولو قوبلت بالشكر منه مآرب

لما اعتاض منها أهلها الأثل والخمطا (١)

هو الناصر المنصور والملك الذي

أعاد شباب الدهر من بعدما اشمطّا

أصاخت له الأيام سمعا وطاعة

وأحكمت الدنيا له عهدها ربطا

فلا بد من أن يملك الأرض كلّها

وأن تملأ الدنيا إيالته قسطا (٢)

ويغزو في آفاق أندلس العدا

بجيش تخطّ الأرض ذبّله خطا (٣)

وكل جواد خف سنبكه فما

يمس الثرى إلا مخالسة فرطا (٤)

يؤم بها الأعداء ملك أمامه

من الرعب جيش يسرع السير إن أبطا

ويرمى جبال الفتح من شط سبتة

بها فتوافي سبّقا ذلك الشطا

بحيث التقى بالخضر موسى وطارق

وموسى به رحلا لغزو العدا حطا

وسعيك ينسي ذكر سعيهما به

ويوسع سعي المشركين به حبطا

ويوقع في الأعداء أعظم وقعة

بها تملأ الأسماع طير الملا لغطا

تجاوب سحم الطير فيه وشهبها

كما راطن الزنج النبيط أو القبطا

وتنكر فيها الجو والأرض أعين

ترى الجو نارا والصعيد دما عبطا

فتخضب منهم من أشابت بخوفها

نصول ترى منها بفود الدجى وخطا

ويحسم أدواء العدا كل صارم

حسام إذا لاقى الطلى حدّه قطّا

وكل كميّ كلما خط صفحة

بسيف غدا بالرمح ينقط ما خطا

شجاع إذا التفّ الرماحان مثل ما

تقلقل في أسنان مشط يد مشطا

إذا ما رجت منه أعاديه غرة

رأت دون ما ترجو القتادة والخرطا

فيجدع آناف العداة بسيفه

وينشقها بالرمح ريح الردى قسطا (٥)

__________________

(١) الأثل : شجر صلب الخشب جيده يكثر قرب الماء في الأراضي الرملية. والخمط : كل شجر لا شوك له.

(٢) في ب : «إيالته قسطا».

(٣) في أ :

ويغزو وفي آفاق أندلس العدا

بجيش يخطّ الأرض من قبله خطّا

(٤) فرطا : سبقا وإسراعا.

(٥) في الديوان : وينشقها بالرمح ريح الردى سعطا. وفي ب : سعطا.

١٨٩

يبيد الأعادي سطوة ومكيدة

فيحكي الأسود الغلب والأذؤب الملطا (١)

سرى في طلاب المعلوات فلم يزل

يمد يدا مبسوطة وندى بسطا

ولو نازعت يمناه جذبا شماله

لبوسا من الماذيّ لا نعقّ وانعطا

يصول بخطيّ فكل مرشة

به أثر يعزوه للحية الرّقطا (٢)

قنا تبصر الآكام فرعا كواسيا

بهنّ وقد أبصرن عارية مرطا

إذا نسبت للخطّ أو لردينة

نسبن إلى العليا ردينة والخطّا

كماة حماة ما يزال إلى الوغى

حنين لهم ما حنّ نضو وما أطّا (٣)

عليهم نسيج السابغات كأنها

جلود عن الحيات قد كشطت كشطا

إذا لمع للشمس لاحت عليهم

رأيت صلالا ألبست حللا رقطا

ترجرج كالزاروق لينا ومثله

ترى نقطة من بعد ما طرحت خطا (٤)

جيوش إذا غطى البلاد عبابها

وأمواجها غطت نفوس العدا غطا

فكم قد حكت في حصر حصن ومعقل

وشاحا على خصر فآسفنه ضغطا (٥)

وخيل كأمثال النّعام تخالها

لإفراط لوك اللجم تبغي لها سرطا (٦)

تخيلها فتخا إذا ارتفعت وإن

سبحن بماء خلتها خفة بطا (٧)

فينعق منها مرط كل عجاجة

موادع لا يسأمن مرا ولا مرطا (٨)

وكم خالطت سمر الرماح وأوردت

مياها غدت حمر الدماء لها خلطا

يجرونها ليل السرى فإذا دعوا

نزال امتطوا منهن أفضل ما يمطى (٩)

فكم جنبوها خلف معتادة السرى

عوارف لم تسمع لها أذن نحطا

__________________

(١) في ب ، ه : «والأذؤب المعطا».

(٢) في ب ، ج : «يصول بخطيّ لكل مرشحة».

(٣) أطّ يئطّ أطيطا : صوّت.

(٤) في الديوان : تدحرج كالزاووق.

(٥) في الديوان : فأوسعنه ضغطا.

(٦) سرط سرطا : ابتلع.

(٧) الفتخ : العقاب.

(٨) في ب : «موازع لا يسأمن» ..

(٩) نزال : اسم فعل أمر بمعنى انزل. وفي ب : يحمّونها ليل أشرف ما يمطى.

١٩٠

وقد وسمت أعناقهن أزمة

بطول السرى حتى تظن لها علطا

إذا أوقدت نارا بقذف الحصا حكت

وبحر الدجى طام سفينا رمت نفطا (١)

إمام الهدى أعليت للدين معلما

وسمت العدا من بعد رفعتهم حطا

وألحفتهم عقم المنى عن حيالها

فما ولدت عقما ولا نتجت سقطا (٢)

وصيرتم في عقلة سارح العدا

وسرحتم الآمال من عقلها نشطا (٣)

ومن كان يشكو سطوة الدهر قد غدا

بعدلك لا يعدى عليه ولا يسطى

ففي كل حال تؤثر القسط جاريا

على سنن التقوى وتجتنب القسطا

فبوركت سبطا جدّه عمر الرضا

وبورك من جد غدوت له سبطا (٤)

تلوت الإمام العدل يحيى فلم تزل

تزيد أمور الخلق من بعده ضبطا

فزدتم وضوحا بعده واستقامة

وتوطئة نهج السبيل الذي وطّا

وما كان أبقى غاية غير أنه

حبيت بما لم يحب خلق ولم يعطا

إذا درر الأملاك في الفخر نظّمت

على نسق عقدا فدولتك الوسطى

وله أيضا فيه : [بحر الكامل]

في كل أفق من صباح دجاكم

نور جلا خيط الظلام بخيطه

راقت محاسن مجدكم فبهرن ما

كسيته من حبر المديح وريطه (٥)

٢١٨ ـ وله ـ رحمه الله تعالى! ـ عدة تآليف ، وولد سنة ٦٠٨ ، وتوفي ليلة السبت ٢٤ رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة بتونس ، وممن أخذ عنه الحافظ ابن رشيد الفهري ، وذكره في رحلته وأثنى عليه ، كما أثنى عليه العبدري في رحلته ، فقال : حازم ، وما أدرك ما حازم ، وقد عرّفت به في «أزهار الرياض» مما يغني عن الإعادة ، وكان هو والحافظ أبو عبد الله بن الأبار فرسي رهان ، غير أن ابن الأبار كان أكثر منه رواية وهو الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر ، القضاعي ، الأندلسي ، البلنسي ، كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص ابن أمير المؤمنين

__________________

(١) طمى البحر : امتلأ. وطما الماء ارتفع وملأ النهر.

(٢) في ب : «وألحقتهم عقم المنى» ..

(٣) في ب : «وصيّرهم في عقلة» ..

(٤) السبط : ولد الولد.

(٥) الريط : جمع ريطة وهي الملاءة.

١٩١

عبد المؤمن بن علي ، ثم عن ابنه السيد أبي زيد ، ثم كتب عن الأمير ابن مردنيش (١) ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص وفي ضمن ذلك استصرخه لدفع عادية العدو ، فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها : [بحر البسيط]

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

وقد ذكرناها في غير هذا الموضع ، ثم لما كان من أمر بلنسية ما كان رجع بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه ، فنزل منه بخير مكان ، ورشّحه لكتب علامته في صدور مكاتباته ، فكتبها مدة ، ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها ، فكتبها مدة بالخط المشرقي ، وكان آثر عند السلطان من المغربي ، فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه ، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه ، لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه ، وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها ، فجاهر بالرد ، ووضعها استبدادا وأنفة ، وعوتب على ذلك ، فاستشاط غضبا (٢) ، ورمى بالقلم ، وأنشد متمثلا : [بحر الخفيف]

اطلب العز في لظّى وذر ال

ذلّ ولو كان في جنان الخلود (٣)

فنمي ذلك إلى السلطان ، فأمر بلزومه بيته ، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب ، وأعتبه ، وسماه «إعتاب الكتاب» واستشفع فيه بابنه المستنصر ، فغفر السلطان له ، وأقال عثرته ، وأعاده إلى الكتابة ، ولما توفي السلطان رفعه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه ، ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه ، وبعث إلى داره ، فرفعت إليه كتبه أجمع ، وألفى أثناءها ، فيما زعموا ، رقعة بأبيات أولها : [بحر المجتث]

طغى بتونس خلف

سموه ظلما خليفه (٤)

فاستشاط السلطان لها ، وأمر بامتحانه ، ثم بقتله ، فقتل قعصا (٥) بالرماح وسط محرم سنة ٦٥٨ ، ثم أحرق شلوه ، وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه ، وكان مولده ببلنسية سنة ٥٩٥.

__________________

(١) في ج : «أبي مردنيش».

(٢) استشاط غضبا : غضب غضبا شديدا.

(٣) البيت لأبي الطيب المتنبي. ولظى : جهنم.

(٤) الخلف : ذو الشر من الأعقاب.

(٥) القعص : القتل بالرمح بسرعة.

١٩٢

وقال في حقه ابن سعيد في «المغرب» ما ملخصه : حامل راية الإحسان ، المشار إليه في هذا الأوان ، ومن شعره قوله يصف الياسمين : [مجزوء الوافر]

حديقة ياسمين لا

تهيم بغيرها الحدق

إذا جفن الغمام بكى

تبسّم ثغرها اليقق (١)

فأطراف الأهلة سا

ل في أثنائها الشفق

وكتب إلى الوزير أبي عبد الله بن أبي الحسين بن سعيد يستدعي منه منثورا : [بحر الطويل]

لك الخير أتحفني بخيريّ روضة

لأنفاسه عند الهجوم هبوب

أليس أديب الروض يجعل ليله

نهارا فيذكو تحته ويطيب

ويطوي مع الإصباح منشور نشره

كما بان عن ربع المحب حبيب

أهيم به عن نسبة أدبية

ولا غرو أن يهوى الأديب أديب

وقوله في الخسوف : [بحر المتقارب]

نظرت إلى البدر عند الخسوف

وقد شين منظره الأزين

كما سفرت صفحة للحب

يب يحجبها برقع أدكن

وقوله في المعنى : [بحر الوافر]

ألم تر للخسوف وكيف أبدى

ببدر التم لماع الضياء

كمرآة جلاها القين حتى

أنارت ثم ردت في غشاء

وقوله : [بحر الخفيف]

والثريّا بجانب البدر تحكي

راحة أومأت لتلطم خدا

وقوله : [بحر الكامل]

من عاذري من بابلي طرفه

ولعمره ما حلّ يوما بابلا

أعتدّه خوطا لعيشي ناعما

فيعود خطّيّا لقتلي ذابلا (٢)

__________________

(١) اليقق : الشديد البياض ، الناصع.

(٢) الخوط : الغصن الناعم. والخطيّ : الرمح.

١٩٣

وهو حافظ متقن ، له في الحديث والأدب تصانيف ، وله كتاب في متخير الأشعار سماه «قطع الرياض» وتكلمة الصّلة لابن بشكوال ، و «هداية المعترف ، في المؤتلف والمختلف» وكتاب التاريخ ، وبسببه قتله صاحب إفريقية ، وأحرقت كتبه على ما بلغنا ، رحمه الله تعالى! وله «تحفة القادم ، في شعر الأندلس» و «الحلة السيراء ، في أشعار الأمراء».

ومن شعره قوله : [بحر مجزوء الكامل]

أمري عجيب في الأمور

بين التواري والظهور

مستعمل عند المغ

يب ومهمل عند الحضور

وسبب هذا أن ملك تونس كان إذا أشكل عليه شيء أو ورد عليه لغز أو معمّى أو مترجم بعث به إليه ، فيحله ، وإذا حضر عنده لا يكلمه ولا يلتفت إليه ، ووجد في تعاليقه ما يشين دوله صاحب تونس ، فأمر بضربه ، فضرب حتى مات ، وأحرقت كتبه ، رحمه الله تعالى! وكان أعداؤه يلقبونه بالفار ، وحصلت بينه وبين أبي الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي مهاجاة ، فقال فيه : [بحر الكامل]

لا تعجبوا لمضرة نالت جمي

ع الناس صادرة عن الأبار

أو ليس فارا خلقة وخليقة

والفار مجبول على الإضرار

فأجابه ابن الأبار : [بحر الكامل]

قل لابن شلبون مقال تنزه

غيري يجاريك الهجاء فجار

(إنا اقتسمنا خطّتينا بيننا

فحملت برّة واحتملت فجار) (١)

وهذا مضمن من شعر النابغة الذبياني ، انتهى ما لخصناه من كلام ابن سعيد في حقه.

ومن شعر ابن الأبار أيضا : [بحر الكامل]

لو عنّ لي عون من المقدار

لهجرت للدار الكريمة داري

وحللت أطيب طيبة من طيبة

جارا لمن أوصى بحفظ الجار

حيث استبان الحق للأبصار

لما استتار حفائظ الأنصار (٢)

__________________

(١) البيت من شعر النابغة الذبياني من قصيدة مطلعها :

نبّئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

وبرّة : اسم للبر. وفجار : اسم للفجور. (انظر ديوان النابغة ط صادر / بيروت ص ٥٩).

(٢) حفائظ : جمع حفيظة ، وهي الغضب والحمية.

١٩٤

يا زائرين القبر قبر محمد

بشرى لكم بالسبق في الزوّار

أوضعتم لنجاتكم فوضعتم

ما آدكم من فادح الأوزار (١)

فوزوا بسبقكم وفوهوا بالذي

حملتم شوقا إلى المختار

أدوا السلام سلمتم وبرده

أرجو الإجارة من ورود النار

اللهمّ أجرنا منها يا رحيم يا رحمن يا كريم!.

ولنختم ترجمته بقوله : [بحر الوافر]

رجوت الله في اللّأواء لما

بلوت الناس من ساه ولاهي (٢)

فمن يك سائلا عني فإني

غنيت بالافتقار إلى إلهي

وقد جوّدت ترجمته في «أزهار الرياض ، في أخبار عياض» فليراجع ذلك فيه من شاء.

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر المرتحلين من الأندلس إلى المشرق :

٢١٩ ـ ومنهم الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدّي (٣).

وهو أبو بكر محمد ، ويقال : أبو المكارم ، ابن أبي أحمد يوسف بن موسى بن يوسف بن موسى بن مسدّي ، المهلبي ، الأزدي ، الأندلسي.

شيخ السنة ، وحامل راياتها ، وفريد الفنون ، ومحكم آياتها ، عرف الأحاديث ، وميز بين شهرتها وغرابتها وكان المتلقّي لراية السنة بيمين عرابتها (٤) ، طلع بمغربه شمسا قبل بزوغه بأفق المشرق ، وملأ جزيرته الخضراء من بحر علومه المتدفق ، وأفعمها (٥) بنوره المشرق ، وطاف البلاد الإسلامية ، المغربية والمشرقية ، فعقدت على كماله الخناصر ، وجعله أرباب الدراية لمقلة الدين الباصر ، ولقي أعيان الشيوخ في القطرين ، وأخذ عنهم ما تقر به العين ، ويدفع به عن القلب الرّين (٦) ، مع فصاحة لسان ، وطلاقة بيان وبنان ، وخلال حسان ، وبلاغة سحبته على

__________________

(١) آده يؤوده أودا : ثقل عليه ، وأتعبه.

(٢) اللأواء : الشدة والضيق.

(٣) انظر ترجمته في شذرات الذهب ٥ / ٣١٣.

(٤) إشارة إلى بيت الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي :

إذا ما رأية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(٥) أفعمها : ملأها.

(٦) الرّين : الدنس.

١٩٥

سحبان ، وظهر أزهار بان ، وفوّضت إليه خطابة الحرم الشريف بمكة فكان كما يقال : هذا السّوار لمثل هذا المعصم ، فكم وشّى بها من مطارف للبلاغة وكم عنّم ، حتى يظن الرائي عود منبره من وعظه مائسا ، ولئن مال من سجع الحمام رطبا فقد مال من سجع هذا الإمام يابسا ، وترجم على من لقي من الأعيان بسحر البيان ، وفصّل أحوالهم بأحسن تبيان ، وعدّتهم أربعة آلاف شيخ وناهيك بهذه مزية تقاد لها الفضائل في أرسان ، وأرى تحقيق قول القائل : جمع الله تعالى العالم في إنسان ، وله موضوعات مفيدة من حديث وفقه ونظم ونثر ، وله مسند غريب جمع فيه مذاهب العلماء المتقدّمين والمتأخرين (١) ، وهو أشهر من نار على علم ، وكان يكتب بالقلمين المغربي والمشرقي ، وكلاهما في غاية الجودة ، ومثل هذا يعدّ نادرا ، توفي شهيدا مطعونا من أناس كانوا يحسدونه ، فختم الله تعالى له بالشهادة ، وبوّىء بها دار السعادة ، وتوفي سنة ٦٦٣ بمكة ، ومولده سنة ٥٩٨ ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بأمثاله!.

٢٢٠ ـ ومنهم الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي القبتوري ـ بفتح القاف ، وسكون الباء الموحدة ، وفتح التاء ثالثة الحروف ، وسكون الواو ، وبعدها راء ـ الإشبيلي المولد والمنشأ (٢).

ولد في شوال سنة ٦١٥ ، وقرأ على الأستاذ الدباج كتاب سيبويه والسبع ، وله باع مديد في الترسّل مع التقوى والخير ، وله إجازة من الرضى بن برهان والنجيب بن الصيقل ، وكتب لأمير سبتة ، وحدث بتونس عن العراقي (٣) ، وجاور زمانا ، وتوفي بالمدينة سنة ٧٠٤ ، وحج مرتين ، قال أبو حيان : قدم القاهرة مرتين ، وحج في الأولى ، وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر الوافر]

أسيلي الدمع يا عيني ولكن

دما ، ويقلّ ذلك لي ، أسلي (٤)

فكم في الترب من طرف كحيل

لترب لي ومن خدّ أسيل (٥)

__________________

(١) في ه : «المتقدّمين والمتقدّمين».

(٢) خلف بن عبد العزيز بن محمد الغافقي القبثوري ـ بالثاء ـ الإشبيلي. قال الصفدي : كان له معرفة بالنحو واللغة. وقال الذهبي : كان له باع في الترسل والنظم. ولد سنة ٦١٥ ه‍ ومات في المدينة سنة ٧٠٤ ه‍ (انظر بغية الوعاة ١ / ٥٥٥).

(٣) في ب : الغرافي.

(٤) في ب : أسيلي.

(٥) الترب : ما كان مماثلا لآخر في السن ، وجمعة أتراب.

١٩٦

وقال : [بحر البسيط]

ما ذا جنيت على نفسي بما كتبت

كفّي ، فياويح نفسي من أذى كفّي

ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا

قضاءه الكف عنه كنت ذا كف

وقال : [بحر البسيط]

وا حسرتا لأمور ليس يبلغها

مالي وهنّ منى نفسي وآمالي

أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما

ألوت جهدا ولكن جدّي الآلي (١)

وقال العلامة فتح الدين بن سيد الناس : إنه أنشده لنفسه بالحرم الشريف النبوي سنة ثلاث وسبعمائة : [بحر الطويل]

رجوتك يا رحمن إنك خير من

رجاه لغفران الجرائم مرتجي (٢)

فرحمتك العظمى التي ليس بابها

وحاشاك في وجه المسيء بمرتج (٣)

وقد أنشد له أبو حيان كثيرا من نظمه ، رحمه الله تعالى!.

٢٢١ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج بن أبي الخليل ، الأموي ، الإشبيلي ، النباتي ، المعروف بابن الرومية.

كان عارفا بالعشب والنبات ، صنف كتابا حسنا كثير الفائدة في الحشائش ، ورتب فيه أسماءها على حروف المعجم ، ورحل إلى البلاد ، ودخل حلب ، وسمع الحديث بالأندلس وغيرها.

وقال البرزالي في حقه : إنه كان يعرف الحشائش معرفة جيدة ، وسمع الحديث بدمشق من ابن الحرستاني ، وابن ملاعب ، وابن العطار ، وغيرهم ، وقال بعضهم : اجتمعت به ، وتفاوضت معه في ذكر الحشائش ، فقلت له : قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب ، وذكروا أنه يستعمل منه شيء كثير ، وهذا يدل على أنه كان موجودا كثيرا ، وأما الآن فلا يوجد ، ولا يخبر عنه بخبر (٤) ، فقال : هو موجود ، وإنما لا يعلمون أين يطلبونه ، فقلت له: وأين هو؟ فقال : بالأهواز منه شيء كثير ، انتهى.

وأجاز البحر بعد سنة ٥٨٠ للقاء ابن عبيد الله بسبتة فلم يتهيأ له ذلك ، وحج ـ رحمه الله

__________________

(١) ما ألوت جهدا : ما قصرت. وجدّي الآلي : حظي المقصر.

(٢) مرتجي : اسم فاعل من ارتجى بمعنى رجا.

(٣) مرتج : مغلق.

(٤) في في ب ، ه : «ولا يخبر عنه مخبر».

١٩٧

تعالى! ـ في رحلته الأولى ، ولقي كثيرا ، وروى عن عدد من الرجال والنساء ضمنهم التذكرة له ، وله مختصر كتاب «الكامل» لأحمد بن عدي في رجال الحديث ، وله كتاب «المعلم ، بما زاده البخاري على كتاب مسلم» ويعرف بالنباتي لمعرفته بالنبات ، ومولده في نحو سنة ٥٦١ ، وتوفي رحمه الله تعالى بإشبيلية منسلخ ربيع الثاني سنة ٦٣٧ ، وقد رثاه أناس من تلامذته ، وألف بعضهم في التعريف به ، وسمع من ابن زرقون وابن الجد وابن عفير وغير واحد كأبي ذر الحبشي ، وسمع ببغداد من جماعة ، وحدث بمصر أحاديث من حفظه ، ويقال له «الحزمي» بفتح الحاء ـ نسبة إلى مذهب ابن حزم لأنه كان ظاهري المذهب ، وكان زاهدا صالحا ، وحكى بعضهم عنه أنه كان جالسا في دكانه بإشبيلية يبيع الحشائش وينسخ ، فاجتاز به الأمير أبو عبدالله بن هود سلطان الأندلس ، فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، واشتغل بنسخه ، ولم يرفع إليه رأسه ، فبقي واقفا منتظرا أن يرفع إليه رأسه ساعة طويلة ، فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى ، وله كتابان حسنان في علم الحديث : أحدهما يقال له «الحافل ، في تكملة الكامل لابن عدي (١) وهو كتاب كبير. قال ابن الأبار : سمعت شيخنا أبا الخطاب بن واجب يثني عليه ويستحسنه ، والثاني اختصر فيه الكامل لأبي أحمد بن عدي كما سبق في مجلدين ، وسمع بدمشق والموصل وغيرهما جماعة من أصحاب الحافظ أبي الوقت السجزي وأبي الفتح بن البطي وأبي عبد الله الغراوي وغيرهم من الأئمة ، وله فهرسة حافلة أفرد فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق ، وكان متعصبا لابن حزم بعد أن تفقه في المذهب المالكي على ابن زرقون أبي الحسين ، وطالت صحبته له ، وكان بصيرا بالحديث ورجاله ، كثير العناية به ، واختصر كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك ، وغيره أضبط منه ، وفاق أهل زمانه في معرفة النبات ، وفعد في دكان لبيعه ، قال ابن الأبار : وهنالك رأيته ولقيته غير مرة ، ولم آخذ عنه ، ولم أستجزه ، وسمع منه جلّ أصحابنا ، ومولده في شهر المحرم سنة ٥٦٧ ، وتوفي بإشبيلية ليلة الاثنين مستهلّ ربيع الآخر سنة ٦٣٧ ، وقال ابن زرقون : منسلخ شهر ربيع الأول ، وحكى ذلك عن ولده أبي النور محمد بن أحمد ، انتهى.

٢٢٢ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام ، الغافقي ، الإشبيلي ، الشهير بالمسيلي.

رحل حاجّا ، وقفل إلى بلده ، وحدث عنه أبو بكر بن خير بوفاة القاضي ابن أبى حبيب ، وروى عن أبي محمد بن أبي السعادات المروروذي (٢) الخراساني ، وأنه أنشده بثغر الاسكندرية

__________________

(١) ابن عدي : هو الإمام الحافظ أحمد بن عبد الله بن عدي الجرجاني المولود سنة ٢٧٧ ه‍ ، والمتوفى سنة ٣٦٥ ه‍. وكتابه الكامل في ضعفاء الرجال طبع في بيروت بدار الفكر محققا.

(٢) في أ : «المروزي».

١٩٨

عند وداعه إياه ، قال : أنشدني أبو تراب جندل (١) عند الوداع لبعضهم : [مخلع البسيط]

السم من ألسن الأفاعي

أعذب من قبلة الوداع

ودّعتهم والدموع تجري

لما دعا للوداع داعي

٢٢٣ ـ ومنهم أبو العباس ـ ويقال : أبو جعفر ـ أحمد بن معدّ بن عيسى بن وكيل ، التجيبي ، الزاهد ، ويعرف بابن الأقليشي.

صاحب كتاب «النجم ، من كلام سيد العرب والعجم» صلى الله عليه وسلم عارض به كتاب القضاعي ، وأصل أبيه من أقليش ، وضبطها بعضهم بضم الهمزة ، وسكن دانية ، وبها ولد ونشأ ، سمع أباه أبا بكر (٢) وأبا العباس بن عيسى ، وتلمذ له ، ورحل إلى بلنسية فأخذ العربية والآداب عن أبي محمد البطليوسي ، وسمع الحديث من صهره أبي الحسن طارق بن يعيش والحافظ أبي بكر بن العربي وأبي (٣) الوليد بن خيرة وابن الدباغ ، ولقي بالمريّة أبا القاسم بن ورد وأبا محمد عبد الحق بن عطية وولي الله سيدي أبا العباس بن العريف ، ورحل إلى المشرق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وجاور بمكة سنين ، وسمع بها من أبي الفتح الكروخي جامع الترمذي برباط أم الخليفة العباسي سنة سبع وأربعين وخمسمائة ، ثم كر راجعا إلى الغرب (٤) ، فقبض في طريقه ، وحدث بالأندلس والمشرق ، وكان عالما ، عاملا ، متصوّفا ، شاعرا مجوّدا ، مع التقدم في الصلاح والزهد والعزوف عن الدنيا وأهلها ، والإقبال على العلم والعبادة ، وله تصانيف : منها كتاب «الغرر ، من كلام سيد البشر» وكتاب «ضياء الأولياء» وهو أسفار عدة ، وحمل الناس عنه معشّراته في الزهد ، وكتبها الناس ، وكان يضع يده على وجهه إذا قرأ القارئ فيبكي حتى يعجب الناس من بكائه ، وكان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله ، وقد وصف غير واحد إمامته وعلمه وورعه وزهده ، وروى عنه أبو الحسن (٥) بن كوثر وابن بيبش وغيرهما.

ومن شعره قوله : [بحر الطويل]

أسير الخطايا عند بابك واقف

له عن طريق الحق قلب مخالف

قديما عصى عمدا وجهلا وغرّة

ولم ينهه قلب من الله خائف

__________________

(١) في التكملة : ابن جندل.

(٢) في أ : «سمع أباه وأبا بكر».

(٣) في ب : «وأبوي».

(٤) في ب : «إلى المغرب».

(٥) في ب ، ه : «أبو الحسين بن كوثر».

١٩٩

تزيد سنوه وهو يزداد ضلة

فها هو في ليل الضلالة عاكف (١)

تطلّع صبح الشيب والقلب مظلم

فما طاف منه من سنا الحق طائف (٢)

ثلاثون عاما قد تولت كأنها

حلوم تقضّت أو بروق خواطف

وجاء المشيب المنذر المرء أنه

إذا رحلت عنه الشبيبة تالف

فيا أحمد الخوّان قد أدبر الصبا

وناداك من سن الكهولة هاتف

فهل أزق الطرف الزمان الذي مضى

وأبكاه ذنب قد تقدم سالف

فجد بالدموع الحمر حزنا وحسرة

فدمعك ينبي أن قلبك آسف

وقد وافق في أول هذه القطعة قول أبي الوليد بن الفرضي ، أو أخذه منه نقلا ، وتوفي في صدوره (٣) عن المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في عشر الخمسين وخمسمائة ، ودفن عند الجميزة التي في المقبرة التالية لسوق العرب ، وقال ابن عباد (٤) : إنه توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين بعدها ـ رحمه الله تعالى! ـ وقد نيف عن الستين.

٢٢٤ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر ، المعافري ، المرسي.

وأصله من طلبيرة ، ويعرف بابن إفرند ، روى عن أبي الحسين الصفدي وغيره كالقاضي الحافظ أبي بكر بن العربي وأبي محمد الرشاطي وأبي إسحاق بن حبيش وغيرهم ، وله رحلة حج فيها ، ولقي أبا الفتح بن الزندانقاني ببلد بين سرخس ومرو من أصحاب أبي حامد الغزالي ، وأنشد عنه مما قاله في وداع إخوانه بالبيت المقدس : [بحر الطويل]

لئن كان لي من بعد عود إليكم

قضيت لبانات الفؤاد لديكم (٥)

وإن تكن الأخرى ولم تك أوبة

وحان حمامي فالسلام عليكم (٦)

وقد روى هذين البيتين أبو عمر بن عباد (٧) وابنه محمد عن ابن إفرند هذا ، وكان صالحا زاهدا متصوفا ، رحمه الله تعالى!.

٢٢٥ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن عميرة بن يحيى ، الضبي.

من أهل لورقة ، رحل حاجّا ، وكان منقبضا زاهدا صواما قواما ، وأقرأ القرآن ، وأسمع

__________________

(١) ضلّة : ضلالا.

(٢) السنا : الضياء.

(٣) في ب : «في صدره».

(٤) في ب : «وقال ابن عياد».

(٥) اللبانات : جمع لبانة ، وهي الحاجة.

(٦) الحمام : الموت.

(٧) في ب ، ه : «ابن عياد».

٢٠٠