نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

لما رأينا السحر من أشكالها

جملا نسبناه إلى الزجاج (١)

وله فيما أظن : [بحر الوافر]

له شفة أضاعوا النّشر فيها

بلثم حين سدّت ثغر بدر

فما أشهى لقلبي ما أضاعوا

(ليوم كريهة وسداد ثغر) (٢)

وهو تضمين حسن.

٢١٦ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق إمام النحاة أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان ، النّفزي ، الأثري ، الغرناطي (٣).

قال ابن مرزوق الخطيب في حقه : هو شيخ النحاة بالديار المصرية ، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية ، انتهت إليه رياسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث سمعت عليه وقرأت ، وأنشدني الكثير ، وإذا أنشدني شيئا ولم أقيده استعاده مني ، فلم أحفظه ، فأنشدني وكنت أظنه لنفسه ارتجالا إلى أن أخبرني أحد أصحابنا عنه أنه أخبره أنهما لأبي الحسن التّجاني أنشدهما له ببيته بالمدرسة الصالحية رحمه الله تعالى : [بحر السريع]

إن الذي يروي ولكنه

يحفظ ما يروي ولا يكتب

كصخرة تنبع أمواجها

تسقي الأراضي وهي لا تشرب

قال : ورويت عنه تآليف (٤) ابن أبي الأحوص : منها «التبيان ، في أحكام القرآن» و «المعرب المفهم ، في شرح مسلم» ولم أقف عليه و «الوسامة ، في أحكام القسامة» و «والمشرع (٥) السلسل ، في الحديث المسلسل» وغير ذلك.

وحدثني بسنن أبي داود عن ابن خطيب المزّة عن أبي حفص بن طبرزد عن أبي البدر الكرخي (٦) ومفلح الرومي عن أبي بكر بن ثابت الخطيب عن أبي عمر الهاشمي عن اللؤلؤي

__________________

(١) في البيت تورية بكتاب الجمل للزجاجي.

(٢) هذا عجز بيت للعرجي وهو :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

(٣) انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ١ ص ٢٨٠ ، وقد جاء عنه فيه «نحوي عصره ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه وأديبه».

(٤) في ب : «تواليف».

(٥) في ب : «المشرع السلسل ...» بإسقاط الواو.

(٦) كذا في أ ، والكروخي في ب ، ه ، ج.

١٤١

عن أبي داود ، وبسنن النسائي عن جماعة عن ابن باقا عن أبي زرعة عن ابن حميد (١) الدّوسي عن أبي نصر الكسار عن ابن السني عن النسائي ، وبالموطإ عن أبي جعفر بن الطباع بسنده.

وشكوت إليه يوما ما يلقاه الغريب من أذاة العداة ، فأنشدني لنفسه : [بحر الطويل]

عداتي لهم فضل عليّ ومنّه

فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

وأنشدني أيضا من مداعباته ، وله في ذلك النظم الكثير مع طهارته وفضله : [بحر البسيط]

علقته سبجيّ اللون قادحه

ما ابيضّ منه سوى ثغر حكى الدررا (٢)

قد صاغه من سواد العين خالقه

فكل عين إليه تدمن النظرا (٣)

وأنشدني في جاهل لبس صوفا وزهي فيه (٤) : [بحر الطويل]

أيا كاسيا من جيّد الصوف نفسه

ويا عاريا من كل فضل ومن كيس

أتزهى بصوف وهو بالأمس مصبح

على نعجة واليوم أمسى على تيس

انتهى ما اختصرته من كلام الخطيب ابن مرزوق :

وأنشد الرحالة ابن جابر الوادي آشي لأبي حيّان قوله : [بحر الطويل]

وقصّر آمالي مآلي إلى الردى

وأنّي وإن طال المدى سوف أهلك

فصنت بماء الوجه نفسا أبية

وجادت يميني بالذي كنت أملك

ووقفت على «أعيان العصر ، وأعوان النصر» للصفدي ، فوجدت فيه ترجمة أبي حيان واسعة فرأيت أن أذكرها بطولها لما فيها من الفوائد ، وهي :

الشيخ ، الإمام ، العالم ، العلامة ، الفريد ، الكامل ، حجة العرب ، مالك أزمّة الأدب ، أثير الدين ، أبو حيان الأندلسي الجيّاني ـ بالجيم ، والياء آخر الحروف مشدّدة ، وبعد الألف نون ـ وكان أمير المؤمنين في النحو ، والشمس السافرة شتاء في يوم الصّحو ، والمتصرف في هذا العلم فإليه الإثبات والمحو ، لو عاصر أئمة البصرة لبصّرهم ، أو أهل الكوفة لكف عنهم اتباعهم السواد وحذرهم ، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريدا ، وأصبح به

__________________

(١) كذا في ب ، ه .. وفي (أ) : «أبي حميد».

(٢) سبجي : نسبة إلى السبج ، وهو خرز أسود.

(٣) سواد العين : بؤبؤ العين.

(٤) في ب : «وزها فيه».

١٤٢

التسهيل بعد تعقيده مفيدا ، وجعل سرحة شرحه وجنة راقت النواظر توريدا (١) ، ملأ الزمان تصانيف ، وأمال عنق الأيام بالتآليف (٢) ، تخرج به أئمة في هذا الفنّ ، وروّق لهم في عصره منه سلافة الدّن (٣) ، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير مجيب (٤) ، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقصيره وهو محذّر ، أو الخليل لكان بعينه قذاه ، أو سيبويه لما تردى من مسألته الزنبورية برداه ، أو الكسائي لأعراه حلة جاهه عند الرشيد (٥) وأناسه ، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولدا المأمون تقديم مداسه ، أو اليزيدي لما ظهر نقصه من مكامنه ، أو الأخفش لأخفى جملة من محاسنه ، أو أبو عبيدة لما تركه ينصب لشعب الشعوبية ، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلق بعربية ، أو السكري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا ، أو المازني لما زانه قوله : «إن مصابكم رجلا» أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج ، أو ثعلب لاستكن بمكره في وكره ولما خرج ، أو المبرد لأصبحت كواه (٦) مقترة ، أو الزجاج لأمست قواريره مكسرة ، أو ابن الوزان لعدم نقده ، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه ، أو ابن باب لعلم أن قياسه ما اطرد ، أو ابن دريد ما بلع (٧) ريقه ولا ازدرد ، أو ابن قتيبة لأضاع رحله ، أو ابن السراج لمشى (٨) إذ رأى وحله ، أو ابن الخشاب لأضرم فيه نارا ، ولم يجد معه نورا ، أو ابن الخباز لما سجّر له تنورا ، أو ابن القوّاس لما أغرق في نزعه ، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعه ، أو ابن خروف لما وجد له مرعى ، أو ابن إياز لما وجد لأوزاره وقعا ، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريا ، أو الدباج (٩) لكان من جلته (١٠) الرائقة عريّا ، وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقا وغربا ، وفريد هذا الفن الفذ بعدا وقربا ، وفيه قلت : [بحر السريع]

__________________

(١) السرحة : واحدة السرح ، وهو شجر عظيم طويل. والوجنة : الخد.

(٢) في ب : «التواليف».

(٣) روّق الشراب : صفاه. والسلافة : أفضل الخمر. والدن : وعاء ضخم للخمر.

(٤) يونس بن حبيب الضبي الولاء البصري أبو عبد الرحمن ، بارع في النحو ، سمع من العرب ، وروى عن سيبويه (بغية الوعاة ج ٢ ص ٣٦٥).

(٥) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ، صاحب كتاب العين (انظر بغية الوعاة ١ / ٥٥٧).

(٦) في ب : «قواه مقترة».

(٧) في ب : «لما بلع ريقه».

(٨) في ب : «لمشاه ...».

(٩) في ب ، ه : «ابن الدباج».

(١٠) في ب : «حلته الرائقة».

١٤٣

سلطان علم النحو أستاذنا الش

يخ أثير الدين حبر الأنام (١)

فلا تقل زيد وعمرو ، فما

في النحو معه لسواه كلام

خدم هذا العلم مدّة تقارب الثمانين ، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقا متشعبة الأفانين ، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان ، وتبدّلت حركاته بالإسكان ، وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر ، وصلي عليه بالجامع (٢) الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر ، ومولده بمدينة مطخشارش (٣) في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة.

وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى : [بحر السريع]

مات أثير الدين شيخ الورى

فاستعر البارق واستعبرا (٤)

ورق من حزن نسيم الصبا

واعتل في الأسحار لمّا سرى (٥)

وصادحات الأيك في نوحها

رثته في السجع على حرف را

يا عين جودي بالدموع التي

يروي بها ما ضمه من ثرى

واجري دما فالخطب في شأنه

قد اقتضى أكثر مما جرى

مات إمام كان في فنه

يرى إماما والورى من ورا

أمسى منادى للبلى مفردا

فضمه القبر على ما ترى

يا أسفا كان هدى ظاهرا

فعاد في تربته مضمرا

وكان جمع الفضل في عصره

صح فلما أن قضى كسّرا

وعرّف الفضل به برهة

والآن لما أن مضى نكّرا

وكان ممنوعا عن الصرف لا

يطرق من وافاه خطب عرا

لا أفعل التفضيل ما بينه

وبين من أعرفه في الورى

__________________

(١) الحبر ، بفتح الحاء ، بفتح الحاء ، وسكون الباء : العالم.

(٢) في ب : «وصلي عليه في الجامع».

(٣) مطخشارش : ضاحية من ضواحي قرطبة أو حي من أحيائها ، وقد جاء ذلك في هذا الكتاب فيما بعد.

(٤) استعبر : ذرف الدمع.

(٥) سرى : سار ليلا.

١٤٤

لا بدل عن نعته بالتقى

ففعله كان له مصدرا

لم يدّغم في اللحد إلا وقد

فك من الصبر وثيق العرا

بكى له زيد وعمرو فمن

أمثلة النحو وممن قرا

ما أعقد التسهيل من بعده

فكم له من عسرة يسّرا

وجسر الناس على خوضه

إذ كان في النحو قد استبحرا (١)

من بعده قد حال تمييزه

وحظه قد رجع القهقرى

شارك من قد ساد في فنه

وكم له فنّ به استأثرا

دأب بني الآداب أن يغسلوا

بدمعهم فيه بقايا الكرى

والنحو قد سار الردى نحوه

والصرف للتصريف قد غيرا

واللغة الفصحى غدت بعده

يلغي الذي في ضبطها قررا

تفسيره البحر المحيط الذي

يهدي إلى وراده الجوهرا

فوائد من فضله جمة

عليه فيها نعقد الخنصرا

وكان ثبتا نقله حجة

مثل ضياء الصبح إن أسفرا

ورحلة في سنّة المصطفى

أصدق من يسمع إن أخبرا (٢)

له الأسانيد التي قد علت

فاستفلت عنها سوامي الذرا (٣)

ساوى بها الأحفاد أجدادهم

فاعجب لماض فاته من طرا (٤)

وشاعرا في نظمه مفلقا

كم حرّر اللفظ وكم حبّرا

لها معان كلما خطها

تستر ما يرقم في تسترا (٥)

__________________

(١) جسّر : شجع وقوى.

(٢) في ب : «ورحله في سنة ...»

(٣) استفلت : هبطت إلى الأسفل. والسوامي : جمع سام ، وهو المرتفع. والذرى : جمع ذروة ، وهي أعلى الشيء وقمته.

(٤) طرا : أصلها طرأ مهموزة ، وحذفها لضرورة القافية ، وهو جائز.

(٥) تستر : مدينة في خوزستان مشهورة بصناعة النسيج المرقوم. والشطر الثاني من البيت مأخوذ من قول الصاحب بن عباد حين لبس يوما عمامة بطراز عريض من عمل تستر ، فجعل بعض جلسائه يتأملها فقال الصاحب : ما حملت بتستر لتستر.

١٤٥

أفديه من ماض لأمر الردى

مستقبلا من ربه بالقرى

ما بات في أبيض أكفانه

إلا وأضحى سندسا أخضرا

تصافح الحور له راحة

كم تعبت في كل ما سطر

إن مات فالذكر له خالد

يحيا به من قبل أن ينشرا

جاد ثرى وافاه غيث إذا

مساه بالسّقي له بكّرا

وخصه من ربه رحمة

تورده في حشره الكوثرا

وكان قد قرأ القراءات على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحوا من عشرين ختمة إفرادا وجمعا ، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطباع بغرناطة ، ثم قرأ السبعة إلى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة ، ثم إنه قدم الإسكندرية ، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي (١) ، ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليحي ، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية وديار مصر والحجاز ، وحصّل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك ، واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة ، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالا منه ، لأني لم أره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب ، ولم أره على غير ذلك ، وله إقبال على الطلبة الأذكياء ، وعنده تعظيم لهم ، ونظم ونثر ، وله الموشحات البديعة ، وهو ثبت فيما ينقله ، محرر لما يقوله ، عارف باللغة ، ضابط لألفاظها ، وأما النحو والصرف (٢) ، فهو إمام الناس كلهم فيهما ، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته ، وله اليد الطّولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم ، خصوصا المغاربة ، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم ، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج وأسماؤهم قريبة من لغاتهم ، وألقابهم كذلك ، وقيده وحرره ، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك ، وأجابه عنها.

وله التصانيف التي سارت وطارت ، وانتشرت وما انتثرت ، وقرئت ودريت ونسخت وما فسخت ، أخملت كتب الأقدمين ، وألهت المقيمين بمصر والقادمين ، وقرأ الناس عليه ، وصاروا أئمة وأشياخا في حياته ، وهو الذي جسّر الناس على مصنفات ابن مالك رحمه الله

__________________

(١) المريوطي : نسبة إلى بلد في مصر تدعى مريوط.

(٢) في ب : «أما النحو والتصريف».

١٤٦

تعالى ، ورغبهم في قراءتها (١) ، وشرح لهم غامضها ، وخاض بهم لججها ، وفتح لهم مقفلها ، وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب (٢) : هذه نحو الفقهاء ، وكان التزم أن لا يقرئ أحدا إلا إن كان في كتاب سيبويه أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه ، ولما قدم من بلاده لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى كثيرا ، وأخذ عنه كتب الأدب ، وكان شيخا حسن العمة ، مليح الوجه ، ظاهر اللون ، مشرب الحمرة (٣) ، منور الشيبة ، كبير اللحية ، مسترسل الشعر فيها لم تكن كثّة ، عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريبا من الكاف ، على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة ، وسمعته يقول : ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.

وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك ، ينبسط معه ، ويبيت عنده في قلعة الجبل ، ولما توفيت ابنته نضار طلع إلى السلطان الملك الناصر محمد ، وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقوقية (٤) ، فأذن له في ذلك ، وكان أولا يرى رأي الظاهرية ، ثم إنه تمذهب للشافعي (٥) رضي الله تعالى عنه ، بحث على الشيخ علم الدين العراقي «المحرر» للرافعي ، و «مختصر المنهاج» للنووي ، وحفظ «المنهاج» إلا يسيرا ، وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر بن الزبير ، بحث عليه من الإشارة للباجي ، ومن المستصفى للغزالي ، وعلى الخطيب أبي الحسن بن فضيلة ، وعلى الشيخ علم الدين العراقي ، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني ، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي ، وقرأ شيئا (٦) من أصول الدين على شيخه ابن الزبير ، وقرأ عليه شيئا من المنطق ، وقرأ أشياء (٧) من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي ، وقرأ عليه شيئا من «الإرشاد» للعميدي في الخلاف ، ولكنه برع في النحو ، وانتهت إليه الرياسة (٨) والمشيخة فيه ، وكان خاليا من الفلسفة والاعتزال والتّجسيم ، وكان أولا يعتقد في الشيخ تقي الدين بن تيمية وامتدحه بقصيدة ، ثم إنه انحرف عنه لما وقف على كتاب «العرش» له ، قال الفاضل كمال الدين الأدفوي : وجرى على مذهب كثير من النحويين في

__________________

(١) في ب ، ه : «ورغبتهم فيها وفي قراءتها».

(٢) ابن الحاجب هو الإمام جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النحوي المالكي المولود سنة ٥٧٠ ه‍ ، والمتوفى سنة ٦٤٦ ه‍ ومن مؤلفاته كتاب «الكافية في النحو».

(٣) في ب ، ه : «مشربا بالحمرة».

(٤) في ب : «في البرقية».

(٥) تمذهب للشافعي : اتخذ مذهب الشافعي مذهبا له.

(٦) في ب ، ه : «وقرأ أشياء من أصول الدين».

(٧) في ب ، ه : «وقرأ شيئا من المنطق».

(٨) في ب : «الرئاسة».

١٤٧

تعصبه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين ، قال : حكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة : إن عليا رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، أتراه ما صدق في هذا! فقال : صدق ، قال فقلت له : فالذين سلّوا السيوف في وجهه يبغضونه أو يحبونه أو غير ذلك؟ قال : وكان سيّىء (١) الظن بالناس كافة ، فإذا نقل له عن أحد خبر (٢) لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمن هو عنده مجروح ، فيقع في ذم من هو بألسنة العالم ممدوح ، ، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير ، منه ألم كثير ، انتهى.

قلت : أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيرا ، وما كنت أنقم عليه شيئا إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، على أنني أنا ما سمعت في حقه شيئا ، نعم كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح حتى قلت له يوما : يا سيدي ، فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال : هو رجل مسلم دين ، وإلا ما كان يطير في الهواء ، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغمار.

وكان فيه ـ رحمه الله تعالى! ـ خشوع يبكي إذا سمع القرآن ، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية ، وقال كمال الدين المذكور : قال لي : إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها ، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني ، وغيرهما ، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ ، انتهى.

قلت : كان يفتخر بالبخل ، كما يفتخر غيره بالكرم ، وكان يقول لي : أوصيك احفظ دراهمك ويقال عنك بخيل ، ولا تحتج إلى السفل.

وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر الطويل]

رجاؤك فلسا قد غدا في حبائلي

قنيصا رجاء للنّتاج من العقم

أأتعب في تحصيله وأضيعه

إذن كنت معتاضا من البرء بالسقم (٣)

قلت : والذي أراه فيه أنه طال عمره ، وتغرب ، وورد البلاد ولا شيء معه ، وتعب حتى حصل المناصب تعبا كثيرا ، وكان قد جرب الناس ، وحلب أشطر الدهر (٤) ومرت به حوادث ،

__________________

(١) في أ«يسيء».

(٢) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : «خير».

(٣) في ه : «إذن كنت معتاضا عن البرء بالسقم».

(٤) حلب أشطر الدهر : أي جرب الأيام وعركها وعركته.

١٤٨

فاستعمل الحزم ، وسمعته غير مرة يقول : يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس : يشتري له بائتة بفلسين ، وبفلس زبيبا ، وبفلس كوز ماء ، ويشتري ثاني يوم ليمونا بفلس يأكل به الخبز ، وكان يعيب على مشتري الكتب ويقول : الله يرزقك عقلا تعيش به ، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف ، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك ، وأنشدني له إجازة : [بحر الكامل]

إن الدراهم والنساء كلاهما

لا تأمننّ عليهما إنسانا

ينزعن ذا اللب المتين عن التقى

فترى إساءة فعله إحسانا

وأنشدني له من أبيات : [بحر الطويل]

أتى بشفيع ليس يمكن رده

دراهم بيض للجروح مراهم

تصيّر صعب الأمر أهون ما يرى

وتقضي لبانات الفتى وهو نائم (١)

ومن حزمه قوله :

عداتي لهم فضل ـ البيتين

وقد مدحه كثير من الشعراء ، والكبار الفضلاء ، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بقوله : [بحر الكامل]

قد قلت لما أن سمعت مباحثا

في الذات قرّرها أجلّ مفيد

هذا أبو حيان قلت صدقتم

وبررتم هذا هو التوحيدي(٢)

وكان قد جاء يوما إلى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده ، فكتب بالجص على مصراع الباب ، فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال : [بحر الكامل]

قالوا أبو حيان غير مدافع

ملك النحاة فقلت بالإجماع

اسم الملوك على النقود وإنني

شاهدت كنيته على المصراع

ومدحه شرف الدين بن الوحيد بقصيدة مطولة أولها : [بحر الطويل]

__________________

(١) لبانات ، جمع لبانة ، وهي الحاجة ، ويقال : قضى لبانته أي قضى حاجته.

(٢) التوحيدي المنسوب إلى التوحيد ، وهو علم الكلام ، وفي البيت تورية بأبي حيان التوحيدي علي بن محمد صاحب كتاب المقابسات.

١٤٩

إليك أبا حيان أعملت أنيقي

وملت إلى حيث الركائب تلتقي (١)

دعاني إليك الفضل فانقدت طائعا

ولبيت أحدوها بلفظي المصدق

ومدحه نجم الدين إسحاق بن المنّيّ (٢) التركي ، وسأله تكملة شرح التسهيل بقصيدة ، وأرسلها إليه من دمشق ، وأولها : [بحر الطويل]

تبدّى فقلنا وجهه فلق الصبح

وكمله باليمن فيه وبالنجح

وسهلت تسهيل الفوائد محسنا

فكن شارحا صدري بتكملة الشرح

ومدحه مجير الدين عمر بن اللّمطي (٣) بقصيدة أولها : [بحر السريع]

يا شيخ أهل الأدب الباهر

من ناظم يلفى ومن ناثر

ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيدة أولها : [بحر البسيط]

ضيف ألمّ بنا من أبرع الناس

لا ناقض عهد أيامي ولا ناسي

عار من الكبر والأدناس ذو شرف

لكنه من سرابيل العلا كاسي

ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين أول الأولى : [بحر الرمل]

أتراه بعد هجران يصل

ويرى في ثوب وصل مبتذل

قمر جار على أحلامنا

إذ تولاها بقدّ معتدل

وأول الثانية : [بحر الرمل]

اعذروه فكريم من عذر

قمرته ذات وجه كالقمر (٤)

ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة أولها : [بحر البسيط]

[إن الأثير أبا حيان أحيانا

بنشره طي علم مات أحيانا

ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة أولها](٥) : [بحر الطويل]

فضضت عن العذب النمير ختامها

وفتّحت عن زهر الرياض كمامها

ومدحه جماعة آخرون يطول ذكرهم ، وكتبت أنا إليه من الرحبة سنة ٧٢٩ : [بحر البسيط]

__________________

(١) أنيقي : جمع ناقة وكذلك الركائب. وفي ب : أينقي.

(٢) في ب : «إسحاق بن ألمي التركي».

(٣) في ب ، ج : «الملطي».

(٤) قمرته : غلبته في القمار.

(٥) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

١٥٠

لو كنت أملك من دهري جناحين

لطرت لكنه فيكم جنى حيني

يا سادة نلت في مصر بهم شرفا

أرقى به شرفا ينأى عن العين

وإن جرى لسما كيوان ذكر علا

أحلني فضلهم فوق السماكين

وليس غير أثير الدين أثّله

فشاد ما شاد لي حقا بلا مين (١)

حبر ولو قلت إن الباء رتبتها

من قبل صدّقك الأقوام في ذين

أحيا علوما أمات الدهر أكثرها

مذ جلّدت خلّدت ما بين دفين

يا واحد العصر ما قولي بمتهم

ولا أحاشي امرأ بين الفريقين

هذي العلوم بدت من سيبويه كما

قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين

قدم لها وبودي لو أكون فدى

لما ينالك في الأيام من شين (٢)

يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب

إذا الخليل غدا يفديك بالعين (٣)

يقبل الأرض وينهى ما هو عليه من الأشواق التي برّحت (٤) بألمها ، وأجرت الدموع دما ، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها ، وأربت بسحّها (٥) على السحائب ، وأين دوام هذه من ديمها ، وفرقت الأوصال (٦) على السقم لوجود عدمها : [بحر الطويل]

فيا شوق ما أبقى ، ويا لي من النوى

ويا دمع ما أجرى ، ويا قلب ما أصبى (٧)

ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الأرض الحمائم ، يسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم ، وثناءه الذي يتضوّع كالزهر بين الكمائم ، ويتنسّم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع ملوّنات العمائم ، ويشهد الله على ما قد قلته والله سبحانه نعم الشهيد.

فكتب هو الجواب عن ذلك ولكنه عدم مني.

وأنشدته يوما لنفسي : [بحر الخفيف]

__________________

(١) أثل : أثل المال : نماه ، وأثل الشيء كثره. وأثل المجد : جناه. والمين : الكذب.

(٢) في ب : «فدم لها» ..

(٣) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي. والعين : كتاب العين للخليل ، وفي البيت تورية.

(٤) برحت : آلمت وأوجعت.

(٥) السحّ : توالي المطر وانصبابه.

(٦) الأوصال : المفاصل بين الأعضاء.

(٧) البيت لأبي الطيب المتنبي.

١٥١

قلت للكاتب الذي ما أراه

قط إلا ونقّط الدمع شكله

إن تخطّ الدموع في الخد شيئا

ما يسمى؟ فقال خطّ ابن مقله

وأنشدني هو من لفظه لنفسه :

سبق الدمع بالمسير المطايا

إذ نوى من أحبّ عني نقله

وأجاد الخطوط في صفحة الخ

دّ ولم لا يجيد وهو ابن مقله

وأنشدني في مليح نوتيّ : [بحر الطويل]

كلفت بنوتيّ كأن قوامه

إذا ينثني خوط من البان ناعم (١)

مجاذفه في كل قلب مجاذب

وهزاته للعاشقين هزائم

وأنشدته أنا لنفسي : [بحر الخفيف]

إنّ نوتيّ مركب نحن فيه

هام فيه صبّ الفؤاد جريحه

أقلع القلب عن سلوّي لما

أن بدا ثغره وقد طاب ريحه

وأنشدته لنفسي أيضا : [بحر مخلع البسيط]

نوتيّنا حسنه بديع

وفيه بدر السماء مغرى

ما حك برّا إلا وقلنا

يا ليت أنا نحك برّا

فأعجباه رحمه الله تعالى ، وزهزه لهما (٢).

وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب : [بحر المتقارب]

تعشقته أحدبا كيسا

يحاكي نحيبا حنين النّعام

إذا كدت أسقط من فوقه

تعلقت من ظهره بالسّنام

فأنشدته لنفسي : [بحر السريع]

وأحدب رحت به مغرما

إذ لم تشاهد مثله عيني

لا غرو إن هام فؤادي به

وخصره ما بين دفين

وأنشدني من لفظه لنفسه في أعمى : [بحر البسيط]

__________________

(١) الخوط : الغصن الناعم. والبان : شجر لين ، طويل الورق أبيض الزهر تشبه به قدود الحسان في الليونة والتثني.

(٢) زهزه : أبدى السرور ، وقال : «زه ، زه». وزه : كلمة استحسان.

١٥٢

ما ضرّ حسن الذي أهواه أنّ سنى

كريمتيه بلا شين قد احتجبا

قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا

لكنّ حسنهما الفتان ما ذهبا (١)

كالسيف قد زال عنه صقله فغدا

أنكى وآلم في قلب الذي ضربا (٢)

وأنشدته لنفسي في ذلك : [بحر السريع]

ورب أعمى وجهه روضة

تنزّهي فيها كثير الديون

وخدّه ورد غنينا به

عن نرجس ما فتحته العيون

وأنشدته أيضا لنفسي في ذلك : [بحر الطويل]

فيا حسن أعمى لم يخف حدّ طرفه

محبّ غدا سكران فيه وما صحا

إذا صاد خلّ بات يرعى حدوده

غدا آمنا من مقلتيه الجوارحا

وكتبت إليه استدعاء ، وهو : المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العالم العلامة ، لسان العرب ، ترجمان الأدب ، جامع الفضائل ، عمدة وسائل السائل ، حجة المقلّدين ، زين المقلّدين ، قطب المؤملين ، أفضل الآخرين ، وارث علوم الأولين ، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق ، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب فكل ذي لبّ إليها شيّق ، والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها ، وقنصت أوابدها الجامحة (٣) من مواطئ مواطنها ، كشاف معضلات الأوائل ، سبّاق غايات قصر عن شأوها سحبان وائل ، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها ، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فوق فرقدها ، حتى أبرز كلامه جنان فكلّ جنّان من بعده عن الدخول إليها جبان ، وأتى ببراهين وجوه حورها لم يطمثهن إنس قبله ولا جان ، وأبدع خمائل نظم ونثر لا تصل إلى أفنان فنونها يد جان ، أثير الدين أبي حيان ، لا زال ميت العلم يحييه وهل عجيب ذلك من أبي حيان : [بحر الكامل]

حتى ينال بنو العلوم مرامهم

ويحلهم دار المنى بأمان (٤)

إجازة كاتب هذه الأحرف ما رواه فسح الله تعالى في مدته من المسانيد والمصنفات

__________________

(١) ذوتا : ذبلتا.

(٢) أنكى : أكثر نكاية.

(٣) قنصت : اصطادت. وأوابد الأدلة : شواردها.

(٤) في أ : «حتى ينال بني العلوم» ، وفي ج ، ه : «وحتى ينال بنو المعلم» والأفضل أن يكون «حتى ينيل بني العلوم مرامهم» ولم يأت كذلك في الأصول.

١٥٣

والسنن والمجاميع الحديثية ، والتصانيف الأدبية ، نظما ونثرا ، إلى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها ، وتباين أجناسها وأنواعها ، مما تلقاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان ، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة ، كيفما تأدّى ذلك إليه ، وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها ، وما له من نظم ونثر إجازة خاصة ، وأن يثبت بخطه تصانيفه إلى حين هذا التارخ ، وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدّد له من بعد ذلك على رأي من يراه ويجوّزه ، منعما متفضلا إن شاء الله تعالى.

فكتب الجواب رحمه الله تعالى : أعزك الله! ظننت بإنسان (١) جميلا فغاليت ، وأبديت من الإحسان جزيلا وما باليت ، وصفت من هو القتام (٢) يظنه الناس سماء ، والسراب يحسبه الظمآن ماء ، يا ابن الكرام وأنت أبصر من يشيم (٣) ، أمع الروض النضير يرعى الهشيم (٤) أما أغنتك فضائلك ، وفواضلك ، ومعارفك ، وعوارفك ، عن نغبة من دأماء (٥) ، وتربة من يهماء (٦) ، لقد تبلجت المهارق من نور صفحاتك ، وتأرجت الأكوان من أريج نفحاتك ، ولأنت أعرف من يقصد للدراية ، وأنقد من يعتم عليه في الرواية ، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك ، وتتفضل من تالدك وطارفك ، وتجلو الخامل في منصة النباهة ، وتنقذه من لكن الفهاهة (٧) ، فتشيد له ذكرا ، وتعلي له قدرا ، ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت ، وإجابتك فيما إليه ندبت ، فإن المالك لا يعصى ، والمتفضل المحسن لا يقصى ، وقد أجزت لك ـ أيدك الله تعالى! ـ جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك ، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة بمشافهة وكتابة ووجادة (٨) ، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك ، وجميع ما صنفته واختصرته وجمعته وأنشأته نظما ونثرا ، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء : فمن مروياتي الكتاب العزيز قرأته بقراءة السبعة على جماعة من أعلاهم الشيخ المسند المعمّر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله

__________________

(١) في ه : «ظننت بالإنسان».

(٢) القتام : الغبار الأسود.

(٣) يشيم : ينظر.

(٤) الهشيم : اليابس من كل عشب وكل شجر.

(٥) النغبة : الجرعة : والدأماء : البحر.

(٦) اليهماء : الأرض الواسعة التي لا يهتدى فيها إلى الطريق وغيرها. والصحراء الواسعة.

(٧) الفهاهة : العي.

(٨) في ب : «ووجازة».

١٥٤

المصري ابن المليحي ، آخر من روى القرآن بالتلاوة على أبي الجود (١) ، والكتب الستة والموطأ ومسند عبد بن حميد ومسند الدارميّ ومسند الشافعي ومسند الطّيالسي والمعجم الكبير للطّبراني والمعجم الصغير له وسنن الدارقطني وغير ذلك.

وأما الأجزاء فكثيرة جدا ، ومن كتب النحو والآداب فأروي بالقراءة كتاب سيبويه ، والإيضاح ، والتكملة ، والمفصل ، وجمل الزجاجي ، وغير ذلك ، والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب (٢) والمتنبي والمعري ، وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة فهم كثير ، وأذكر الآن منهم جماعة : فمنهم القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي ، والمقري أبو جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري ، وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس ، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب القوّاس البغدادي ، وصفي الدين الحسين بن أبي منصور بن الخزرجي ، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدّهّان ، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني ، ورضي الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي ، ونجيب الدين محمد بن أحمد [بن محمد] بن المؤيد الهمداني (٣) ، ومكي بن محمد بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصّفّار ، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير بن الفارض ، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي ، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني ، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداريّ (٤) بن الخليلي ، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي ، ومحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر العنسي عرف بابن النّنّ (٥) ، وعبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز الطائي القرطبي ، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخزمي ، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي ، وعبد الرحمن بن يوسف بن يحيى بن يوسف ابن خطيب المزة ، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري ، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني ، وعبد العزيز بن

__________________

(١) كذا في أ ، ب ، ج. وهي في ه : «عن أبي الجود».

(٢) هو حبيب بن أوس الطائي ، أبو تمام.

(٣) في أ : «الهمذاني» بالذال المعجمة.

(٤) كذا في أ ، ب ، ه. وفي ج : «ابن الدارمي».

(٥) كذا في أ ، ب ، ه. وفي ج : «ابن التين».

١٥٥

عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتّاني ، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجى الخزرجي ، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسني البهنسي المجاور ، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي ، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي ، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي ، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري ، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي ، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية ، وزينب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي.

وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي بن المرحل (١) ، وأبو الحسن بن حارم (٢) بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني ، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي ، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنّون المالقي (٣) ، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكي المالقي ، وأبو الحسين يحيى بن عبدالعظيم بن يحيى الأنصاري الجزار ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي ، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن (٤) المصري الوراق ، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياسين الكومي (٥) التلمساني ، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري ، وأبو عبد الله محمد بن سعيد [بن محمد](٦) بن حماد بن محسن الصنهاجي البوصيري ، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي (٧).

وممن أخذت عنه من النحاة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخشني الأبّدي ، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي بن الضائع (٨) ، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي ، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللّبلي ، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي ابن النحاس.

__________________

(١) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : «أبو المرحل» محرفا.

(٢) في ب : «أبو الحسن حازم بن محمد».

(٣) في ب : «محمد بن زنون المالقي».

(٤) كذا في أ ، ب ، ه. وفي ج : «أبو حفص عمرو».

(٥) في بعض النسخ : «الكوفي». وفي بعض النسخ «الكرمي».

(٦) بن محمد : ساقطة من ب.

(٧) في أ : «الغرازي».

(٨) كذا في أ ، ب ، ه. وفي ه : «ابن الصّائغ».

١٥٦

وممن لقيته من الظاهرية أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد ، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشّنتمري.

وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربعمائة شخص وخمسين. وأما الذين أجازوني فعالم كثير جدا من أهل غرناطة ومالقة وسبتة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام ، وأما ما صنفته فمن ذلك «البحر المحيط» في تفسير القرآن العظيم «إتحاف الأديب (١) ، بما في القرآن من الغريب» كتاب «الأسفار ، الملخص من كتاب الصّفّار» شرحا لكتاب سيبويه ، كتاب «التجريد لأحكام سيبويه» كتاب «التذييل والتكميل ، في شرح التسهيل» كتاب «التنخيل ، الملخص من شرح التسهيل» كتاب «التذكرة» كتاب «المبدع» في التصريف ، كتاب «الموفور» كتاب «التقريب» كتاب «التدريب» كتاب «غاية الإحسان» كتاب «النكت الحسان» كتاب «الشذا ، في مسألة كذا» كتاب «الفضل ، في أحكام الفصل» كتاب «اللمحة» كتاب «الشذرة» كتاب «الارتضاء ، في الفرق بين الضاد والظاء» كتاب «عقد اللآلي» كتاب «نكت الأمالي» كتاب «النافع ، في قراءة نافع» «الأثير ، في قراءة ابن كثير» «المورد الغمر ، في قراءة أبي عمرو» «الروض الباسم ، في قراءة عاصم» «المزن الهامر ، في قراءة ابن عامر» «الرمزة ، في قراءة حمزة» «تقريب النائي ، في قراءة الكسائي» «غاية المطلوب ، في قراءة يعقوب» قصيدة «النيّر الجليّ ، في قراءة زيد بن عليّ» «الوهاج ، في اختصار المنهاج» «الأنور الأجلى ، في اختصار المحلى» «الحلل الحالية ، في أسانيد القرآن العالية» كتاب «الإعلام ، بأركان الإسلام» «نثر الزهر ، ونظم الزهر» قطر الحبّي (٢) ، في جواب أسئلة الذهبي» فهرست مسموعاتي «نوافث السحر ، في دمائث الشعر» (٣) «تحفة النّدس ، في نحاة الأندلس» «الأبيات الوافية ، في علم القافية» جزء في الحديث ، مشيخة ابن أبي المنصور ، كتاب «الإدراك ، للسان الأتراك» «زهو الملك ، في نحو الترك» «نفحة المسك ، في سيرة الترك» كتاب «الأفعال ، في لسان الترك» «منطق الخرس ، في لسان الفرس» ومما لم يكمل تصنيفه كتاب «مسلك الرشد ، في تجريد مسائل نهاية ابن رشد» كتاب «منهج السالك ، في الكلام على ألفية ابن مالك» «نهاية الإغراب (٤) ، في علمي التصريف والإعراب» رجز «مجاني الهصر ، في آداب وتواريخ لأهل

__________________

(١) في ب : «إتحاف الأريب».

(٢) في ج : «نظر الحسبي» محرفا. وأثبتنا ما في أ ، ب ، ه. والحبي ، بفتح الحاء وكسر الباء وتشديد الياء : السحاب الذي يشرف من الأفق على الأرض.

(٣) في ه : «في دمياث الشعر» محرفا. وقد أثبتنا ما في أ ، ب ، ه.

(٤) في ج : «نهاية الإعراب» وقد أثبتنا ما في أ ، ب ، ه.

١٥٧

العصر» «خلاصة التبيان ، في علمي البديع والبيان» رجز «نور الغبش ، في لسان الحبش» «المخبور ، في لسان اليخمور» قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.

وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف : [بحر الخفيف]

أنا هاو لمستطيل أغنّ

كلما اشتد صارت النفس رخوه (١)

أهمس القول وهو يجهر سبّي

وإذا ما انخفضت أظهر علوه

فتح الوصل ثم أطبق هجرا

بصفير والقلب قلقل شجوه

لان دهرا ثم اغتدى ذا انحراف

وفشا السر مذ تكررت نحوه

وأنشدني أيضا لنفسه : [بحر الوافر]

يقول لي العذول ولم أطعه

تسلّ فقد بدا للحبّ لحيه (٢)

تخيل أنها شانت حبيبي

وعندي أنها زين وحليه

وأنشدني لنفسه أيضا : [بحر البسيط]

شوقي لذاك المحيّا الزاهر الزاهي

شوق شديد وجسمي الواهن الواهي

أسهرت طرفي وولّهت الفؤاد هوى

فالطرف والقلب مني الساهر الساهي

نهبت قلبي وتنهى أن أبوح بما

يلقاه واشوقه للناهب الناهي

بهرت كل مليح بالبهاء فما

في النّيّرين شبيه الباهر الباهي

لهجت بالحب لما أن لهوت به

عن كل شيء فويح اللاهج اللاهي (٣)

وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر السريع]

راض حبيبي عارض قد بدا

يا حسنه من عارض رائض

وظن قوم أن قلبي سلا

والأصل لا يعتدّ بالعارض

وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر الطويل]

تعشقته شيخا كأن مشيبه

على وجنتيه ياسمين على ورد

__________________

(١) الأغنّ : ذو الغنة ، وهي صوت يخرج من اللهاة والأنف.

(٢) الحب ، بكسر الحاء : المحبوب.

(٣) لهج بالحب : أولع به.

١٥٨

أخا العقل يدري ما يراد من الهوى

أمنت عليه من رقيب ومن صدّ

وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى

لسود اللحى ناس وناس إلى المرد

ألا إنني لو كنت أصبو لأمرد

صبوت إلى هيفاء مائسة القدّ

وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركا

فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي

وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر الطويل]

ألا إن ألحاظا بقلبي عوابثا

أظنّ بها هاروت أصبح نافثا (١)

إذا رام ذو وجد سلوّا منعنه

وكنّ على دين التصابي بواعث

وقيدن من أضحى عن الحب مطلقا

وأسر عن للبلوى بمن كان رائثا (٢)

بروحي رشا من آل خافان راحل

وإن كان ما بين الجوانح لابثا

غدا واحدا في الحسن للفضل ثانيا

وللبدر والشمس المنيرة ثالثا

وأنشدني لنفسه ، ومن خطه نقلت : [بحر الطويل]

أسحر لتلك العين في القلب أم وخز

ولين لذاك الجسم في اللمس أم خز

وأملود ذاك القدّ أم أسمر غدا

له أبدا في قلب عاشقه هز (٣)

فتاة كساها الحسن أفخر حلة

فصار عليها من محاسنها طرز

وأهدى إليها الغصن لين قوامه

فماس كأن الغصن خامره العز

يضوع أديم الأرض من نشر طيبها

ويخضرّ من آثار تربتها الجرز (٤)

وتختال في برد الشباب إذا مضت

فينهضها قدّ ويقعدها عجز

أصابت فؤاد الصب منها بنظرة

فلا رقية تجدي المصاب ولا حرز

وأنشدني إجازة في مليح أبرص ، ومن خطه نقلت : [بحر الطويل]

وقالوا الذي قد صرت طوع جماله

ونفسك لاقت في هواه نزاعها

به وضح تأباه نفس أولي النهى

وأفظع داء ما ينافي طباعها (٥)

__________________

(١) نفث : سحر ، والنافث : الساحر.

(٢) راث يرث ريثا : أبطأ. والرائث : المبطىء.

(٣) الأملود : الناعم اللين من الناس والغصون. والأسمر : الرمح.

(٤) الأرض الجرز : الأرض التي لا تنبت.

(٥) الوضح ، هنا : البرص.

١٥٩

فقلت لهم لا عيب فيه يشينه

ولا علة فيه يروم دفاعها

ولكنها شمس الضحى حين قابلت

محاسنه ألقت عليه شعاعها

وأنشدني من لفظه لنفسه في فحام : [بحر الطويل]

وعلّقته مسود عين ووفرة

وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد

كأن خطوط الفحم في وجناته

لطاخة مسك في جنيّ من الورد

وأنشدني إجازة ، ومن خطه نقلت : [بحر الخفيف]

سأل البدر هل تبدّى أخوه

قلت يا بدر لن تطيق طلوعا

كيف يبدو وأنت يا بدر باد

أو بدران يطلعان جميعا

وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني.

عاذلي في الأهيف الأنس

لو رآه الآن قد عذّرا

رشأ قد زانه الحور

غصن من فوقه قمر

قمر من سحبه الشعر

ثغر من فيه أم درر (١)

حال بين الدر واللّعس

خمرة من ذاقها سكرا (٢)

رجة بالردف أم كسل

ريقة بالثغر أم عسل

وردة بالخد أم خجل

كحل بالعين أم كحل (٣)

يا لها من أعين نعس

جلبت للناظر السهرا

مذ نأى عن مقلتيّ سني

ما أذيقا لذة الوسن

__________________

(١) كذا في أ. وفي ب ، ه : «ثغر في فيه أم درر».

(٢) اللعس : سواد مستحسن في باطن الشفة.

(٣) الكحل ، بفتحتين : سواد يعلو الأجفان خلقة ، ومنه «ليس التكحّل في العين كالكحل».

١٦٠