نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

الأندلسي بنيسابور يقول : سمعت أبا علي الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي ، قال ابن عساكر : وقد لقيته ، ولم أسمعها منه ، قال : سمعت أبا علي الحسن بن إبراهيم بن تقي الجذامي المالقي يقول : سمعت بعض الشيوخ يقول : قيل لأبي ذر الهروي : أنت من هراة ، فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري؟ فقال : إني قدمت بغداد أطلب الحديث ، فلزمت الدارقطني فلما كان في بعض الأيام كنت معه ، فاجتاز به القاضي أبو بكر بن الطيب ، فأظهر الدارقطني من إكرامه ما تعجبت منه ، فلما فارقه قلت : أيها الشيخ الإمام من هذا الذي أظهرت من إكرامه ما رأيت؟ فقال : أو ما تعرفه؟ قلت : لا ، فقال : هذا سيف السنة أبو بكر الأشعري ، فلزمت القاضي منذ ذلك ، واقتديت به في مذهبه ، انتهى.

١٩٣ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن الحسن بن عمر ، الأنصاري ، البطليوسي.

رحل إلى المشرق ، فأدى الفريضة ، وتجوّل هناك ، ولقي أبا الحسن بن المفرّج الصقلي وأبا عبد الله الفراوي ، فسمع منهما الصحيحين بعلوّ ، وسمع من أبي الفتح ناصر بن أبي علي الطوسي سنن أبي داود ، وحدّث بالموطإ عن أبي بكر الطّرطوشي ، وله أيضا رواية عن زاهر بن الشّحّامي وعبد المنعم بن عبد الكريم القشيري وأبي محمد الحريري سمع منه مقاماته الخمسين ببستانه (١) من بغداد ، ونزل بمكة ، وجاور بها ، وحدث فيها وفي غيرها ، وأسن ، وكان ثقة مسندا يروي عنه أبو عبد الله بن أبي الصيف اليمني وأبو حفص بن شراحيل الأندلسي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي ، وسمع منه في صفر سنة ست وستين وخمسمائة ، وقد لقيه أبو القاسم بن عساكر الحافظ وروى عنه.

١٩٤ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الأنصاري.

من أهل المرية عمل بلنسية ، ويعرف بابن الرّهبيل ، سمع من أبي الحسن بن النعمة كثيرا ، واختص به ، وعنه أخذ القراءات ، وسمع من ابن هذيل أيضا ، ثم رحل حاجا ، فلقي بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أبا طاهر السّلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي ، وسمع منهما ، وجاور بمكة ، وأخذ بها عن أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي صحيح البخاري ، وكان يرويه عن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه ، وسمع أيضا من أبي محمد المبارك بن الطباخ البغدادي ، وأجاز له أبو المفاخر سعيد بن الحسين الهاشمي وأبو محمد عبد

__________________

(١) أبو محمد الحريري : هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي. اشتهر بتأليفه المقامات سائرا على طريق بديع الزمان الهمذاني في تأليفها. وعدد مقاماته خمسون. انظر مقدمة مقامات الحريري طبعة دار الكتاب اللبناني بيروت تحقيق يوسف البقاعي وشرحه.

١٢١

الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي ببجاية عند صدوره في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ، وقفل إلى بلده فلزم الانقطاع والانقباض عن الناس والإقبال على ما يعنيه ، وكان قد خطب به قبل رحلته ، وحكى التجيبي أن طلبة الإسكندرية تزاحموا عليه لسماع «التيسير» لأبي عمرو المقري منه بروايته عن ابن هذيل سماعا في سنة ثلاث وخمسين ، وصارت له بذلك عندهم وجاهة ، وبعد قفوله أصابه خدر منعه من التصرف ، وكان الصلاح غالبا عليه ، وتوفي غدوة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة ، وكانت جنازته مشهودة ، رحمه الله تعالى!.

١٩٥ ـ ومنهم الحسين بن أحمد بن الحسين بن حي ، التّجيبي ، القرطبي.

أخذ علم العدد والهندسة عن أبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن برغوث (١) ، وكان كلفا بصناعة التعديل ، وله زيج مختصر ذكره القاضي صاعد ونسبه ، وحكى أنه خرج من الأندلس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بعد أن نالته بها وبالبحر محن شداد ، ولحق بمصر ، ثم رحل عنها إلى اليمن ، واتصل بأميرها ، فحظي عنده ، وبعثه رسولا إلى القائم بأمر الله الخليفة ببغداد ، ونال هناك دنيا عريضة ، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد سنة ست وخمسين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى!.

١٩٦ ـ ومنهم أبو يوسف حماد بن الوليد ، الكلاعي.

أخذ بقرطبة عن أبي المطرف القنازعي وغيره ، ورحل إلى المشرق ، وحدث بالإسكندرية فسمع منه بها يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن شبل شرح الاعتقاد من تأليفه ، ورسالة قمع الحرص ، وقصر الأمل ، والحث على العمل ، وذلك في سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، ولقيه هنالك أبو مروان الطّبني ، فسمع منه بعض فوائده.

١٩٧ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن فتح بن عبد الله بن جبير.

من أهل طرطوشة ، يعرف بالجبيري ، وهو والد أبو عبيد القاسم بن خلف الجبيري الفقيه ، وكانت له رحلة إلى المشرق ، ومعه رحل ابنه وهو صغير ، وكان من أهل العلم والنزاهة ، وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية ، قال أبو عبيد : نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي بطرطوشة ، وهو يومئذ يتولى القضاء في الثغور الشرقية قبل أن يلي قضاء الجماعة بقرطبة ، فأنزله في بيته الذي كان يسكنه ، فكان إذا تفرغ نظر

__________________

(١) ابن برغوث : كان عالما بالرياضيات ، وخاصة الفلك. توفي سنة ٤٤٠ ه‍ (انظر طبقات صاعد : ٧١).

١٢٢

في كتب أبي ، فمر على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ، ولم يذكر عليا فيهم ، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد ، فلما رأى ذلك منذر غضب وسبّ ابن عبد ربه ، وكتب في حاشية الكتاب : [بحر الكامل]

أوما عليّ ـ لا برحت ملعنا

يا ابن الخبيثة! ـ عندكم بإمام؟

ربّ الكساء وخير آل محمد

داني الولاء مقدّم الإسلام

قال أبو عبيد : والأبيات بخطه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة ، وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ثلاثين وثلاثمائة.

١٩٨ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن محمد بن خلف ، الغرناطي.

له رحلة روى فيها بالإسكندرية عن مهدي بن يوسف الوراق ، وحدث عنه أبو العباس بن عيسى الداني (١) بالتلقين للقاضي عبد الوهاب.

١٩٩ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن فرج بن خلف بن عامر بن فحلون (٢) ، القنطري.

من قنطرة السيف ، وسكن بطليوس ويعرف بابن الروية ، رحل حاجا فأدى الفريضة ، ولقي بمكة رزين بن معاوية الأندلسي فحمل عنه كتابه في تجريد الصحاح سنة خمس وخمسمائة ، وفيها حج وقفل إلى بلده بعد ذلك ، وكان فقيها مشاورا ، حدّث عنه ابن خير في كتابه إليه من بطليوس في نحو الثلاثين وخمسمائة.

٢٠٠ ـ ومنهم زرارة بن محمد بن زرارة الأندلسي.

رحل حاجا إلى المشرق ، وسمع بمصر أبا محمد الحسن بن رشيق سنة سبع وستين وثلاثمائة وأبا بكر مسرّة بن مسلم الصدفي ، حدث ، وأخذ عنه.

٢٠١ ـ ومنهم طاهر الأندلسي ، من أهل مالقة ، يكنى أبا الحسن (٣).

رحل إلى قرطبة ، وخرج منها لما دخلها البرابر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة ، فلم يزل بمكة

__________________

(١) في ج : «الدالي».

(٢) في ه : «ابن قحلون».

(٣) في ب : «يكنى أبا الحسين».

١٢٣

إلى حدود الخمسين وأربعمائة ، وكان من أصحاب أبي عمر الطّلمنكي وملازميه لقراءة القرآن ، وطلب العلم مع أبي محمد الشّنتجالي وأبي أيوب الزاهد إمام مسجد الكوّائين بقرطبة ، وجاور بمكة طويلا ، وأقرأ على مقربة من باب الصفا ، وكان الشّيبيون يكرمونه ويفرجون له لضعفه عند دخوله البيت الحرام ، ذكره الطبني ، قال ابن الأبار : وأحسبه المذكور في برنامج الخولاني ، والذي قرأ لهم أكثر المدونة على أبي عمر أحمد (١) بن محمد الزيات ، انتهى.

٢٠٢ ـ ومنهم أبو الطاهر الأندلسي ، من أهل لبلة (٢).

نزل مصر ، وكانت له حلقة بجامع عمرو بن العاص ، وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ نحويا له شعر وترسيل وتعلق بالملوك للتأديب بالنحو ، ثم ترك ذلك.

٢٠٣ ـ ومنهم أبو محمد طارق بن موسى بن يعيش ، المنصفي ، المخزومي.

والمنصفي نسبة إلى قرية بغربي بلنسية ، ويكنى أيضا أبا الحسن ، رحل قبل العشرين وخمسمائة ، فأدى الفريضة ، وجاور بمكة ، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري ، ومن الشريف أبي محمد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران أخذ عنه كتاب «الإحياء» للغزالي عن مؤلفه ، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي وأبي الحسن بن مشرف وأبي عبد الله الرازي وأبي طاهر السّلفي وغيرهم ثم قفل إلى بلده فحدث ، وأخذ الناس عنه ، وسمعوا منه ، وكان شيخا صالحا عالي الرواية ثقة ، قال ابن عياد : لم ألق أفضل منه ، وكان مجاب الدعوة ، وحدث عنه بالسماع والإجازة جلّة ، منهم أبو الحسن بن هذيل وأبو محمد القلّني (٣) وأبو مروان بن الصّيقل وأبو العباس الإقليشي وأبو بكر بن خير وابن سعد الخير وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي وأبو بكر بن جزى وغيرهم ، ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الأقليشي وأبي الوليد بن خيرة الحافظ سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وقد نيف على السبعين ، فأقام بمكة مجاورا إلى أن توفي بها عن سن عالية ـ رحمه الله تعالى! ـ سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

٢٠٤ ـ ومنهم محمد بن إبراهيم بن مزين الأودي.

من أهل أكشونية (٤) غربي الأندلس ، يكنى أبا مضر ، ولاه عبد الرحمن بن معاوية قضاء

__________________

(١) كذا في ب ، ج. وفي ه : على أبي أحمد بن محمد.

(٢) لبلة : هي قصبة كورة بالأندلس ، تقع غرب قرطبة (معجم البلدان ج ٥ ص ١٠).

(٣) في ب : «القلّني».

(٤) أكشونية : «مدينة بالأندلس يتصل عملها بعمل أشبونة ، وهي غربي قرطبة ، وهي مدينة برية بحرية كثيرة الخيرات. (معجم البلدان ج ١ ص ٢٤٠).

١٢٤

الجماعة بقرطبة ، وذلك في المحرم سنة سبعين ومائة ، وأقام أشهرا ، ثم استعفى فأعفاه ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وسمع في رحلته إمامنا مالك بن أنس وانصرف ومات عن سن عالية سنة ثلاث وثمانين ومائة ، وذكره ابن شعبان في الرواة عن مالك ، وحكي أنه روى عنه : من قطع لسانه استؤني به عاما ، وأن مالكا قال له : قد بلغني أن بالأندلس من نبت لسانه فإن لم ينبت أقيد ، انتهى.

٢٠٥ ـ ومنهم أبو عبدالله محمد بن أحمد حيّاز ، الشاطبي ، الأوسي.

قدم مصر ، وكان قد أخذ عن ابن برطلة وابن البراء وغيرهما ، وعمل فهرست شيوخه على حروف المعجم ، وحج وعاد إلى بلده ، ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة ، رحمه الله تعالى وغفر له!.

٢٠٦ ـ ومنهم القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبدالملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة بن صخر بن سماعة ، اللّخمي ، الأندلسي ، الإشبيلي.

قال أبو شامة : هو من بيت كبير بالأندلس يعرف ببني الباجي مشهور ، كثير العلماء والفضلاء ، وأصلهم من باجة القيروان ، وليس منهم القاضي أبو الوليد الباجي الفقيه ، فإنه من بيت آخر من باجة الأندلس ، وقدم أبو مروان حاجا من بلاده في البحر إلى عكا من ساحل دمشق ، ثم دخل دمشق سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة ، ونزل عندنا بالمدرسة العادليّة ، وجدّه الأعلى أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قدم إلى الديار المصرية ، وحج منها ومعه ولده محمد أخو عبد الملك ويعرف بصاحب الوثائق ، وسمعا بها من جماعة من العلماء ، وذكر أبو عبد الله الحميدي أحمد بن عبد الله هذا في «المقتبس» (١) ، وكناه أبا عمر ، وذكر أنه سكن إشبيلية وأثنى عليه كثيرا ، وقال : مات في حدود الأربعمائة ، وروى عنه ابن عبد البر وغيره.

وأبوه عبد الله بن محمد بن علي يعرف بالرواية ، ذكره الحميدي أيضا.

وذكر ابن بشكوال في «الصلة» عبد الملك بن عبد العزيز جد هذا الشيخ القادم وأثنى عليه ، وقال : توفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

وكان هذا الشيخ أبو مروان حسن الأخلاق فاضلا متواضعا محسنا ، وسمعته يقول ، وقد

__________________

(١) في ب : «جذوة المقتبس».

١٢٥

سئل إعارة شيء ، فبادر إليه ، ثم قال : عندي في قوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)) [الماعون : ٧] هو كل شيء.

واستفدنا من هذا الشيخ فائدة جليلة ، وهي معاينة قدر مدّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عندهم متوارث ، وقد أخبر عن ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه «المحلى» وعايرت بذلك المدّ المدّ الذي لنا بدمشق حينئذ ، وهو الكيل الكبير ، فوجدت مدّنا يسع صاعين إلا يسيرا ، ووجدته ممسوحا يسع صاعا ونصفا وشيئا فيكون مدان ممسوحان ثلاثة آصع (١) زائدة ، وقرأت في كتاب «المحلى» لابن حزم قال أبو محمد : وخرط لي مدّ على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي ، وهو عند أكثرهم لا يفارق داره ، أخرجه إليّ ثقتي الذي كلفته ذلك علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور ، وذكر أنه مدّ أبيه ، وأن جده أخذه وخرطه (٢) على مد أحمد بن خالد ، وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على مد يحيى بن يحيى ، على مد مالك ، قال أبو محمد : ولا شك (٣) أن أحمد بن خالد صححه أيضا على مد محمد بن وضاح الذي صححه ابن وضاح بالمدينة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام! قال أبو محمد : ثم كلته بالقمح الطيب ، ثم وزنته فوجدته رطلا ونصف رطل بالفلفلي لا يزيد حبة ، وكلته بالشعير إلا أنه لم يكن بالطيب فوجدته رطلا واحدا ونصف أوقية ، وسألت عن الرطل الفلفلي ، فقيل لي : هو ست عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم ، وفي تقدير ابن حزم نظر.

وتوفي هذا الشيخ بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بعد رجوعه من الحج ، رحمه الله تعالى! انتهى كلام أبي شامة ، وبعضه بالمعنى.

٢٠٧ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد ، الواعظ ، الإشبيلي ، ثم المصري.

فاضل شرح الصدور بلفظه ، ومتكلم أحيا القلوب بوعظه ، أحواله مشهورة ، ومجالسه بالذكر معمورة ، وله معرفة بالأدب ، وخبرة بالشعر والخطب ، وكلام وجهه حسن ، ونظم يمتاز به على كثير من أرباب اللّسن ، قاله ابن حبيب الحلبي ، قال : وهو القائل : [بحر البسيط]

من أنت محبوبه من ذا يعيّره

ومن صفوت له من ذا يكدره

__________________

(١) الصاع مكيال ، ويجمع على آصع ، وأصوع ، وصوع ، وصيعان ، وصوعان.

(٢) في ه : «خرجه» وهو لا شيء.

(٣) في ب ، ه : «ولا أشك».

١٢٦

هيهات عنك ملاح الكون تشغلني

والكل أعراض حسن أنت جوهره

وقال : [بحر الخفيف]

اكشف البرقع عن بكر العقار

واخل في ليلك مع شمس النهار

وانهب العيش ودعه غلطا

ينقضي ما بين هتك واستتار

إن تكن شيخ خلاعات الصبا

فالبس الصبوة في خلع العذار

وارض بالعار وقل : قد آن لي

في هوى خمّار كاسي لبس عاري

وقال : [بحر السريع]

حثّوا إلى نجد نياق الهوى

فثمّ واد جوّه معشب (١)

وانتظروا حتى يلوح الحمى

فالعيش فيه طيب طيب

وتوفي سنة أربع وثمانين وستمائة ، هكذا ذكر ترجمته ابن حبيب ، ثم بعد كتبها حصل لي شك : هل هو ممن ارتحل بنفسه من الأندلس أو ولد بمصر وإنما ارتحل إليها بعض سلفه؟

والله تعالى أعلم.

٢٠٨ ـ وكذا ذكر آخر بقوله في سنة سبع وثمانين وستمائة : وفيها توفي الإمام زكي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى بن علي الإشبيلي المالكي ، محدث ، عالم ، زاهد فيما ليس بدائم ، كثير الخير ، جزيل المير ، كان حسن المناهج ، قاضيا للحوائج ، محسنا إلى الصامت والمعرب ، مقصدا لمن يرد من الحجاز والمغرب ، سمع بمصر ودمشق وحلب ، وأفتى ودرس ، مفيدا لذوي الطلب ، ولم يبرح يعين بأياديه ويغيث ، وهو أول من باشر بظاهرية دمشق مشيخة الحديث ، وكانت وفاته بدمشق عن نيف وسبعين سنة ، انتهى.

٢٠٩ ـ ومنهم الأحق بالسبق والتقدم ، بقيّ بن مخلد بن يزيد ، أبو عبد الرحمن ، القرطبي ، الأندلسي ، الحافظ ، أحد الأعلام ، وصاحب التفسير والمسند (٢).

أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى ، وارتحل إلى المشرق ، ولقي الكبار ، وسمع بالحجاز مصعبا الزهري وإبراهيم بن المنذر وطبقتهما ، وبمصر يحيى بن بكير وزهير بن عبّاد وطائفة ، وبدمشق إبراهيم بن هشام الغساني ، وصفوان بن صالح وهشام بن

__________________

(١) حثّوا نياق الهوى : أعجلوها إعجالا متصلا ، أمر من حثّ.

(٢) ترجمته في الجذوة : ١٦٧. والمرقية العليا : ١٨. وقد كان له خاصة بالأمير المنذر بن محمد قبل ولايته الملك ، فلما ملك أراده على القضاء فأبى.

١٢٧

عمار وجماعة ، وببغداد أحمد بن حنبل وطبقته ، وبالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبا بكر بن أبي شيبة وطائفة ، وبالبصرة أصحاب حماد بن زيد ، وعني بالأثر عناية عظيمة لا مزيد عليها ، وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثلاثون رجلا ، وكان إماما ، زاهدا ، صوّاما ، صادقا ، كثير التهجد ، مجاب الدعوة ، قليل المثل ، مجتهدا ، لا يقلد ، بل يفتي بالأثر.

ولد في رمضان سنة إحدى ومائتين ، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين.

قال ابن حزم : أقطع أنه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره ، لا تفسير محمد بن جرير ولا غيره ، وكان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبا للعلوم عارفا بها ، فلما دخل بقي بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرىء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه ، وقام جماعة من العامة عليه ، ومنعته (١) من قراءته ، فاستحضره الأمير محمد وإياهم ، وتصفح الكتاب جزءا جزءا حتى أتى على آخره ، ثم قال لخازن كتبه : هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه ، فانظر في نسخه لنا ، وقال لبقي : انشر علمك ، وارو ما عندك ، ونهاهم أن يتعرضوا له.

قال ابن حزم : مسند بقي روي فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنّف (٢) ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين ممن ذكرهم أربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة وعلى مصنف عبد الرزاق وعلى مصنف سعيد بن منصور.

ثم ذكر تفسيره فقال : فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام ، لا نظير لها ، وكان متخيرا لا يقلد أحدا ، وكان جاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي.

وذكر القشيري أن امرأة جاءته فقالت له : إن ابني قد أسرته الفرنج ، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه ، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأفتكّه بها ، فإن رأيت أن تشير إلى من يأخذها ويسعى

__________________

(١) في ب ، ه : «ومنعوه من قراءته».

(٢) المسند : كتاب الحديث الذي رتب فيه الحديث بحسب رواته من الصحابة ، فيكون لكل صحابي باب ، فباب لأبي بكر وآخر لعمر ، وثالث لأبي هريرة مثلا. وهكذا. ومن أشهر هذا النوع مسند أحمد بن حنبل. والمصنف هو كتاب بالحديث الذي رتبت أحاديثه بحسب أبواب الفقه ، فيكون باب للوضوء ، وآخر للصلاة ، وثالث للصوم ... وهكذا. ومن هذا النوع صحيح البخاري وصحيح مسلم والسنن والموطأ.

١٢٨

في فكاكه ، فليس لي ليل ولا نهار ، ولا صبر ولا قرار ، فقال : نعم ، انصرفي حتى ننظر في ذلك إن شاء الله تعالى ، وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص ، فذهبت ، فما كان غير قليل حتى جاءت وابنها معها ، فقالت : اسمع خبره يرحمك الله تعالى! فقال : كيف كان أمرك؟ فقال : إني كنت فيمن يخدم الملك ، ونحن في القيود ، فبينا أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي ، فأقبل على الموكل بي فشتمني ، وقال : فككت القيد من رجليك ، فقلت : لا والله ولكن سقط ولم أشعر ، فجاؤوا بالحداد فأعاده ، وسمر مسماره وأيده ، ثم قمت ، فسقط أيضا ، فسألوا رهبانهم ، فقالوا : ألك والدة؟ فقلت : نعم ، فقالوا : إنه قد استجيب دعاؤها له ، فأطلقوه ، فأطلقوني وخفروني (١) إلى أن وصلت إلى بلاد الإسلام ، فسأله [بقي] عن الساعة التي سقط القيد من رجليه فيها ، فإذا هي الساعة التي دعا له فيها ، فرحمه الله تعالى.

٢١٠ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق يوسف بن يحيى بن يوسف الأندلسي الأزدي ، المعروف بالمغامي.

من أهل قرطبة ، وأصله من طليطلة ، وهو من ذرية أبي هريرة رضي الله عنه تعالى!.

سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان ، وروى عن عبد الملك بن حبيب مصنفاته ، وارتحل إلى مصر ، وسمع من يوسف بن يزيد القراطيسي ، وعاد إلى الأندلس ، وكان فقيها ، نبيلا ، فصيحا بصيرا بالعربية ، ثم بعد عوده من مصر أقام بقرطبة أعواما ، ثم عاد إلى مصر ، وأقام بها ، وسمع الناس منه ، وعظم أمره بالبلاد بالمشرقية ، ثم إنه عاد إلى المغرب فتوفي بالقيروان سنة ثمان وثمانين ومائتين ، وبين بمصر الواضحة لابن حبيب (٢) ، وصنف شيئا في الرد على الشافعية في عشرة أجزاء ، وألف كتاب فضائل مالك رضي الله تعالى عنه ، والذي يرتضي أن من قلد إماما من المجتهدين لا ينبغي له أن يغضّ من قدر غيره ، وإن كان ولا بد من الانتصار لمذهبه وتقوية حجته فليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة ، رضي الله تعالى عنهم! فإنهم على هدى من ربهم ، وقد ضلّ بعض الناس فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وقد حكى أبو عبد الله الوادي آشي ـ حسبما رأيته بخطه ـ أن القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي ألف كتابا لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب في مائة جزء ، وسماه «النصرة ، لمذهب

__________________

(١) خفره : حماه. وخفروني : هنا أرسلوا معي حرسا يحميني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام.

(٢) الواضحة : كتاب الواضحة في إعراب القرآن تأليف عبد الملك بن حبيب السلمي. وكان المغامي هذا راويته عن مؤلفه.

١٢٩

إمام دار الهجرة» فوقع الكتاب بخطه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر ، فغرقه في النيل ، فقضى الله تعالى أن السلطان فرج بن برقوق سافر إلى الشام ومعه القضاة الأربعة وغيرهم من الأعيان لدفع تيمور لنك عن البلاد ، فلم يستطع شيئا ، وهزم إلى مصر ، وتفرقت العساكر ، وأخذ القضاة والعلماء أسارى (١) ومن جملتهم ذلك القاضي ، فبقي في أسر تيمور لنك إلى أن ارتحل عن الشام ، فأخذه معه أسيرا إلى أن وصل إلى الفرات ، فغرق فيه ، أعني القاضي ، فرأى بعض الناس أن ذلك بسبب تغريقه الكتاب المذكور ، والجزاء من جنس العمل ، والله تعالى أعلم.

وقد نجى الله تعالى من هذه الورطة قاضي القضاة أبا زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المالكي صاحب كتاب «العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في تاريخ العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» فإنه كان من جملة القضاة الحاضرين في الهزيمة ، فلما أدخلوا على تيمور لنك قال لهم ابن خلدون : قدّموني للكلام تنجوا إن شاء الله تعالى ، وإلا فأنتم أخبر ، فقدموه وعليه زي المغاربة ، فلما رآه تيمور لنك قال : ما أنت من هذه البلاد؟ وتكلم معه فخلبه ابن خلدون بلسانه (٢) ، وكان آية الله الباهرة ، ثم قال لتيمور لنك : إني ألفت كتابا في تاريخ العالم ، وحليته بذكرك ، أو كما قال ، ويقال : إن تيمور لنك هو الذي قال له : بلغني أنك ألفت كتابا في تاريخ العالم ، ثم قال له تيمور لنك : كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنصر مع أننا خربنا العالم؟ فقال له ابن خلدون : أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة ، أو نحو هذا من العبارات فأعجبه ذلك ، وقيل : إنه لما أنس بابن خلدون قال له : يا خوند ، ما أسفي إلا على كتاب ألفته في التاريخ ، وأنفقت فيه أيام عمري ، وقد تركته بمصر ، وإن عمري الماضي ذهب ضياعا حيث لم يكن في خدمتك وتحت ظل دولتك ، والآن أذهب فآتي بهذا الكتاب وأرجع سريعا حتى أموت في خدمتك ، ونحو هذا من الكلام ، فأذن له ، فذهب ولم يعد إليه ، وقال بعض العلماء : إنه لم ينج من يد ذلك الجبار أحد من العلماء غير ابن خلدون ورجل آخر ، وقد ذكر ذلك ابن عرب شاه في «عجائب المقدور» (٣) وقد طال عهدي به فليراجع ، وحكى غير واحد أن تيمور لنك لما أخذ حلب على الوجه المشهور في كتب التاريخ جمع العلماء فقال لهم على عادته في التعنت : قتل منا ومنكم جماعة ، فمن الذي في الجنة قتلانا أو قتلاكم؟ وكان مراده إبراز سبب لقتلهم ، لأنهم إن قالوا

__________________

(١) الأسير : جموعه : أسرى ، وأسراء ، وأسارى وأسارى.

(٢) خلبه بلسانه : خدعه بقول ، واستمال قلبه.

(٣) «عجائب المقدور في نوائب تيمور» كتاب في التاريخ ألفه أحمد بن محمد المعروف بابن عرب شاه ويظهر التكلف والسجع عليه ، ولا غرابة فذلك بسبب طغيان الصنعة في تلك الفترة وهي في القرن التاسع الهجري.

١٣٠

أحد الأمرين هلكوا ، فقال بعض العلماء ، وأظنه ابن الشّحنة : دعوني أجبه ، وإلا هلكتم ، فتركوه ، فقال له : يا خوند ، هذا السؤال أجاب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه ، فغضب [تيمور لنك] وقال : كيف يمكن أن يجيب عن هذا السؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن لم نكن في زمانه؟ أو كلاما هذا معناه ، فقال العالم المذكور : روينا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليذكر ويرى مكانه ، فمن الذي في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الّذي في الجنّة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فتعجب تيمور لنك من هذا الجواب المفحم المسكت ، وحقّ له أن يتعجب منه ، فإن هذا من الأجوبة التي يقل نظيرها ، وفيها المخلص على كل حال بالإنصاف ، وقد وفق الله تعالى هذا العالم لهذا الجواب حتى يتخلص على يده أولئك الأقوام من الطاغية الجبار العنيد الذي جعل الله تعالى فتنته في الإسلام وفتنة جنكزخان وأولاده من أعظم الفتن التي وهى بها المسلمون (١).

وذكر بعض العلماء أن ابن خلدون لما أقبل على تيمور لنك قال له : دعني أقبل يدك ، فقال : ولم؟ فقال له : لأنها مفاتيح (٢) الأقاليم ، يشير إلى أنه فتح خمسة أقاليم ، وأصابع يده خمسة : فلكل أصبع إقليم ، وهذا أيضا من دهاء ابن خلدون.

وقد كدنا نخرج عن المقصود في هذه الترجمة فلنصرف العنان ، والله سبحانه المستعان.

٢١١ ـ ومن الراحلين من الأندلس الإمام الحافظ أبو بكر بن عطية (٣) ، رحمه الله تعالى!

قال الفتح : شيخ العلم ، وحامل لوائه ، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكوكب سمائه ، شرح الله تعالى لحفظه صدره ، وطاول به عمره ، مع كونه في كل علم وافر النصيب ، مياسرا بالمعلّى والرقيب (٤) ، رحل إلى المشرق لأداء الفرض ، لابس برد من العمر الغض (٥) ، فروى وقيد ، ولقي العلماء وأسند ، وأبقى تلك المآثر وخلد ، نشأ في بيئة كريمة ، وأرومة من الشرف غير مرومة (٦) ، لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم ، وأرباب مجد ضخم ، قد قيدت مآثرهم الكتب ، وأطلعتهم التواريخ كالشهب ، وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها ،

__________________

(١) وهى المسلمون : ضعفوا.

(٢) في ب ، ه : «لأنها مفتاح الأقاليم».

(٣) اسمه غالب بن عبد الرحمن بن عطية (قلائد العقيان ص ٢٠٧).

(٤) المياسر : لاعب الميسر ، والمعلى والرقيب : قد حان من قداح الميسر.

(٥) لابس برد من العمر الغض : كناية عن أنه في مقتبل العمر.

(٦) الأرومة : الأصل. وغير مرومة : لا يوصل إليها.

١٣١

ويقيد شوارد المعاني وغرائبها ، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصوله وفروعه ، وعمر برهة من شبيبته ربوعه ، وبرز فيه تبريز الجواد المستولي على الأمد ، وجلّى عن نفسه به كما جلى الصقال عن النصل الفرد (١) ، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلا ، ويقوم على قوة العارضة دليلا ، فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزمان ، وينبه على التحفظ من الإنسان : [بحر الرمل]

كن بذئب صائد مستأنسا

وإذا أبصرت إنسانا ففر

إنما الإنسان بحر ما له

ساحل فاحذره إياك الغرر (٢)

واجعل الناس كشخص واحد

ثم كن من ذلك الشخص حذر

وله في الزهد : [بحر الرمل]

أيها المطرود من باب الرضا

كم يراك الله تلهو معرضا

كم إلى كم أنت في جهل الصبا

قد مضى عمر الصبا وانقرضا

قم إذا الليل دجت ظلمته

واستلذّ الجفن أن يغتمضا (٣)

فضع الخد على الأرض ونح

واقرع السّنّ على ما قد مضى

وله في هذا المعنى : [مخلع البسيط]

قلبي يا قلبي المعنّى

كم أنا أدعى فلا أجيب

كم أتمادى على ضلال

لا أرعوي لا ولا أنيب (٤)

ويلاه من سوء ما دهاني

يتوب غيري ولا أتوب

وا أسفى كيف برء دائي

دائي كما شاءه الطبيب

لو كنت أدنو لكنت أشكو

ما أنا من بابه قريب

أبعدني منه سوء فعلي

وهكذا يبعد المريب

ما لي قدر وأي قدر

لمن أخلّت به الذنوب

وله في هذا المعنى أيضا : [بحر الكامل]

__________________

(١) الفرد : الذي لا مثيل له.

(٢) الغرر : التعرض للهلاك.

(٣) دجت ظلمته : أظلمت كثيرا. والدجى : الظلمة.

(٤) لا أرعوي : لا أرجع.

١٣٢

لا تجعلن رمضان شهر فكاهة

تلهيك فيه من القبيح فنونه

واعلم بأنك لا تنال قبوله

حتى تكون تصومه وتصونه

وله في مثل ذلك : [بحر الطويل]

إذا لم يكن في السمع مني تصاون

وفي بصري غضّ وفي مقولي صمت

فحظي إذا من صومي الجوع والظما

وإن قلت إني صمت يوما فما صمت

وله في المعنى الأول : [بحر الطويل]

جفوت أناسا كنت آلف وصلهم

وما في الجفا عند الضرورة من باس

بلوت فلم أحمد ، وأصبحت آيسا

ولا شيء أشفى للنفوس من الياس

فلا تعذلوني في انقباضي فإنني

رأيت جميع الشر في خلطة الناس

وله يعاتب بعض إخوانه : [بحر الوافر]

وكنت أظن أن جبال رضوى

تزول وأن ودك لا يزول

ولكنّ الأمور لها اضطراب

وأحوال ابن آدم تستحيل (١)

فإن يك بيننا وصل جميل

وإلا فليكن هجر طويل

وأما شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره (٢) ، وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره ، فإنه نسي إلى ما تناساه ، وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه ، فمما وقع من ذلك قوله : [بحر الكامل]

كيف السلو ولي حبيب هاجر

قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا

لما درى أن الخيال مواصلي

جعل السهاد على الجفون رقيبا (٣)

وله أيضا : [بحر مخلع البسيط]

يا من عهودي لديك ترعى

أنا على عهدك الوثيق

إن شئت أن تسمعي غرامي

من مخبر عالم صدوق

__________________

(١) تستحيل : تتغير.

(٢) المرخ ، بفتح الميم وسكون الراء : شجر سريع الوري يتخذ للقدح به ، والعفار ـ بفتح العين والفاء جميعا : شجر خوار يتخذ منه الزناد ، ونارهما أسرع نار وأعظمها.

(٣) السهاد : الأرق.

١٣٣

فاستخبري قلبك المعنى

يخبرك عن قلبي المشوق (١)

انتهى كلام الفتح.

وأبو بكر بن عطية المذكور هو والد الحافظ القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير ، رحم الله تعالى الجميع!.

قال في الإحاطة في حقه ما ملخصه : هو الشيخ الإمام المفسر عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي ، فقيه عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب ، حسن التقييد ، له نظم ونثر ، ولي قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم ، وكان غاية في الذكاء والدهاء والتهمم بالعلم ، سريّ الهمة في اقتناء الكتب توخى الحق ، وعدل في الحكم ، وأعز الخطة ، روى عن أبيه وأبوي علي الغساني والصدفي وطبقتهما ، وألف كتابه «الوجيز» في التفسير فأحسن فيه وأبدع ، وطار بحسن نيته كلّ مطار ، وبرنامجا ضمنه مروياته وأسماء شيوخه فحرر وأجاد.

ومن نظمه يندب عهد شبابه : [بحر البسيط]

سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في

ريعانه وليالي العيش أسحار (٢)

أيام روض الصبا لم تذو أغصنه

ورونق العمر غضّ والهوى جار

والنفس تركض في تضمير شرّتها

طرفا له في زمان اللهو إحضار (٣)

عهدا كريما لبسنا فيه أردية

كانت عيانا ومحّت فهي آثار

مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى

كوني سلاما وبردا فيه يا نار

أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في

ليل الشباب لصبح الشّيب إسفار

وقارعتني الليالي فانثنت كسرا

عن ضيغم ما له ناب وأظفار

إلا سلاح خلال أخلصت فلها

في منهل المجد إيراد وإصدار

أصبو إلى روض عيش روضه خضل

أو ينثني بي عن العلياء إقصار (٤)

إذا فعطّلت كفي من شبا قلم

آثاره في رياض العلم أزهار

__________________

(١) المعنّى : المكلف ما يصعب ويشق عليه.

(٢) أسحار : جمع سحر ، وهو آخر الليل قبل الفجر.

(٣) الشرّة : الحدة. والطرف ، بكسر الطاء وسكون الراء : الفرس. والإحضار : ضرب من السير السريع.

(٤) خضل : ندي ومبتل.

١٣٤

مولده سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة بلورقة ، قصد ميورقة يتولى قضاءها فصدّ عن دخولها وصرف منها إلى لورقة اعتداء عليه ، رحمه الله تعالى! انتهى.

وقال الفتح في حقه ما نصه : فتى العمر كله العلاء ، حديث السن قديم السناء ، لبس الجلالة بردا ضافيا ، وورد ماء الأصالة صافيا ، وأوضح للفضل رسما عافيا ، وثنى في ذهنه للأغراض فننا قصدا ، وجعل فهمه شهابا رصدا ، سما إلى رتب الكهول صغيرا ، وسنّ كتيبة ذهنه على العلوم مغيرا ، فسباها معنى وفصلا ، وحواها فرعا وأصلا ، وله أدب يسيل رضراضا (١) ، ويستحيل ألفاظا مبتدعة وأغراضا.

وقال أيضا فيه : نبعة دوح العلاء ، ومحرز ملابس الثناء ، فذّ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ، وقار كما رسا الهضب ، وأدب كما اطّرد السّلسل العذب ، وشيم تتضاءل لها قطع الرياض ، وتبادر الظن به إلى شريف الأغراض ، سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بعباه (٢) ، ولم ينض ثوب شبابه (٣) ، أدمن التعب في السؤدد جاهدا ، فتى تناول الكواكب قاعدا ، وما اتكل على أوائله ، ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله ، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح أو منار ، وقد أثبتّ من نظمه المستبدع ما ينفح عبيرا ، ويتضح منيرا ، فمن ذلك قوله من قصيدة : [بحر البسيط]

وليلة جبت فيها الجزع مرتديا

بالسيف أسحب أذيالا من الظلم

والنجم حيران في بحر الدجى غرق

والبرق في طيلسان الليل كالعلم

كأنما الليل زنجيّ بكاهله

جرح فيثعب أحيانا له بدم (٤)

انتهى المقصود منه.

وهو ـ أعني أبا بكر ـ أحد مشايخ عياض ، حسبما ألمعت به في «أزهار الرياض».

٢١٢ ـ ومنهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح ـ بالحاء المهملة ـ بن أحمد بن محمد ، الإمام ، الحافظ ، الزاهد ، بقية السلف ، اللّخمي ، الإشبيليّ ، الشافعي (٥) ، أسره الإفرنج

__________________

(١) الرضراض : في الأصل الحصا الدقيق في مجاري الماء ، وهنا الصافي الرائق.

(٢) في ب : «بعبابه».

(٣) نضا الثوب : خلعه.

(٤) يثعب : يجري ويسيل الدم.

(٥) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ٤٤٣. وقد توفي سنة ٦٩٩ ه‍.

١٣٥

سنة ست وأربعين وستمائة ، وخلص ، وقدم مصر سنة بضع وخمسين ، وقيل : إنه تمذهب للشافعي ، وتفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلا ، وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي ، والمعين أحمد بن زين الدين وإسماعيل بن عزون (١) والنجيب بن الصيقل وابن علّان (٢) ، وبدمشق من ابن عبد الدائم وخلق ، وعني بالحديث ، وأتقن ألفاظه ، وعرف رواته وحفاظه ، وفهم معانيه ، وانتقى لبابه (٣) ومبانيه.

قال الصفدي : وكان من كبار أئمة هذا الشان ، وممن يجري فيه وهو طلق اللسان ، هذا إلى ما فيه من ديانة ، وورع وصيانة ، وكانت له حلقة اشتغال بكرة بالجامع الأموي يلازمها ، ويحوم عليه من الطلب حوائمها ، سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي ، واستفاد منه ، وروى في تصانيفه عنه ، وعرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فأباها ، ولم يقبل حباها (٤) ، وكان بزيّ الصوفية ، ومعه فقاهة بالشافعية ، ولم يزل على حاله حتى أحزن الناس ابن فرح ، وتقدّم إلى الله وسرح ، وشيع الخلق جنازته ، وتولّوا وضعه في القبر وحيازته ، وتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وستمائة ، ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة.

وله قصيدة غزلية في ألقاب الحديث سمعها منه الدّمياطي واليونيني ، وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد بن الوليد ، ومات بتربة أم الصالح بالإسهال.

والقصيدة المذكورة هي هذه : [بحر الطويل]

غرامي صحيح والرّجا فيك معضل

وحزني ودمعي مطلق ومسلسل (٥)

وصبري عنكم يشهد العقل أنه

ضعيف ومتروك ، وذلّي أجمل

ولا حسن إلا سماع حديثكم

مشافهة يملى علي فأنقل

وأمري موقوف عليك ، وليس لي

على أحد إلا عليك المعوّل

ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي

على رغم عذالي ترقّ وتعدل

وعذل عذولي منكر لا أسيغه

وزور وتدليس يرد ويهمل

أقضّي زماني فيك متصل الأسى

ومنقطعا عما به أتوصّل

__________________

(١) في ب ، ه : «وإسماعيل بن عزوز».

(٢) في ب : «ابن علاق» وفي ه : «وابن علاف».

(٣) في ه : «وانتفى لآليه».

(٤) الحباء ، بكسر الحاء : العطاء ، وقد قصره لإقامة السجع.

(٥) المعضل : المسألة الصعبة التي لا يهتدى لحلّها.

١٣٦

وها أنا في أكفان هجرك مدرج

تكلّفني ما لا أطيق فأحمل

وأجريت دمعي بالدماء مدبّجا

وما هو إلا مهجتي تتحلّل (١)

فمتفق سهدي وجفني وعبرتي

ومفترق صبري وقلبي المبلبل

ومؤتلف شجوي ووجدي ولوعتي

ومختلف حظي وما منك آمل

خذ الوجد عني مسندا ومعنعنا

فغيري موضوع الهوى يتحيل

وذي نبذ من مبهم الحب فاعتبر

وغامضه إن رمت شرحا أحول

عزيز بكم صب ذليل لغيركم

ومشهور أوصاف المحب التذلل

غريب يقاسي البعد عنك ، وما له

وحقّ الهوى عن داره متحوّل

فرفقا بمقطوع الوسائل ، ما له

إليك سبيل لا ولا عنك معدل

فلا زلت في عز منيع ورفعة

وما زلت تعلو بالتجني فأنزل

أورّي بسعدى والرّباب وزينب

وأنت الذي تعنى وأنت المؤمّل (٢)

فخذ أوّلا من آخر ثم أولا

من النّصف منه فهو فيه مكمل

أبر إذا أقسمت أني بحبّه

أهيم وقلبي بالصبابة يشعل

وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي ، انتهى كلام الصفدي.

وظاهر كلامه أنه ابن فرح ـ بفتح الراء ـ والذي تلقيناه عن شيوخنا أنه بسكون الراء ، وقد شرح هذه القصيدة جماعة من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم ، وهي وحدها دالة على تمكن الرجل ، رحمه الله تعالى!

٢١٣ ـ ومنهم عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر ، أبو الأصبغ ، الأموي ، الأندلسي.

سمع بمكة وبدمشق ومصر وغيرها ، وحدث عن سليمان بن أحمد بن يحيى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ لكلّ نبيّ أب عصبة ينتمون إليها ، إلّا ولد فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم ، وهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ويل للمكذّبين بفضلهم ، من أحبّهم أحبّه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله» وحدث عن أبي العباس أحمد بن محمد البرذعي بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال : كنت عند مالك بن أنس وهو يحدثنا ، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة ، ومالك يتغير لونه ويتصبر ، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من

__________________

(١) دبّجه : زوقه. وهنا المدبج : المخلوط.

(٢) أورّي : أريد شيئا وأظهر غيره.

١٣٧

المجلس وتفرق الناس عنه قلت له : يا أبا عبد الله ، قد رأيت منك عجبا ، قال : نعم ، أنا صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد أبو الأصبغ المذكور بقرطبة وتوفي ببخارى سنة ٣٦٥.

قال الحاكم أبو عبد الله : رأيت أبا الأصبغ في المنام في بستان فيه خضرة ومياه جارية وفرش كثيرة ، وكأني أقول : إنها له ، فقلت : يا أبا الأصبغ ، بماذا وصلت إليه؟ أبا لحديث؟ فقال : إي والله ، وهل نجوت إلا بالحديث؟ قال : ورأيته أيضا وهو يمشي بزي أحسن ما يكون ، فقلت : أنت أبو الأصبغ؟ فقال : نعم ، قلت : ادع الله تعالى أن يجمعني وإياك في الجنة ، فقال : إن أمام الجنة أهوالا ، ثم رفع يديه وقال : اللهم اجعله معي في الجنة بعد عمر طويل ، انتهى.

٢١٤ ـ ومنهم القاضي أبو البقاء خالد ، البلوي ، الأندلسي ، رحمه الله تعالى (١).

وهو خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد ، البلوي ، ووصفه الشاطبي بأنه الشيخ الفقيه القاضي الأعدل ، انتهى.

وهو صاحب الرحلة المسماة : «تاج المفرق ، في تحلية أهل المشرق» ، ومما أنشده رحمه الله تعالى فيها لنفسه : [بحر الكامل]

ولقد جرى يوم النوى دمعي دما

حتى أشاع الناس أنك فاني (٢)

والله إن عاد الزمان بقربنا

لكففت عن ذكر النوى وكفاني

وهذه الرحلة المسماة بتاج المفرق مشحونة بالفوائد والفرائد ، وفيها من العلوم والآداب ما لا يتجاوزه الرائد (٣) ، وقد قال رحمه الله تعالى فيها في ترجمة الولي نجم الدين الحجازي رضي الله تعالى عنه ، ما نصه : وذكر لي رضي الله تعالى عنه قال : مما وصّى به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور ـ يعني سيدي أبا الحجاج يوسف بن عبد الرحيم الأقصري القطب الغوث رضي الله تعالى عنه ، وأعاد علينا من بركاته ـ خواصّه وأصدقاءه ، قال : إذا أدركتكم الضرورة والفاقة (٤) فقولوا : حسبي الله ، ربي الله يعلم أنني في ضيق ، قال : وذكر لي أيضا

__________________

(١) انظر ترجمته في الإحاطة ١ : ٣٢٤.

(٢) النوى : البعد.

(٣) راد : تفقد واستطلع. والرائد : المستطلع السابق من القوم.

(٤) الفاقة : الفقر والحاجة.

١٣٨

رضي الله تعالى عنه قال : رأى هذا الجد يوسف المذكور النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم ، بعد أن سأل الله تعالى ذلك ، وقد كان أصابته فاقة ، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل يا برّ يا رحيم (١) ، يا برّ يا رحيم ، الطف بي في قضائك ، ولا تولّ أمري أحدا سواك ، حتى ألقاك» فلما قالها أذهب الله تعالى عنه فاقته. قال : وكان رحمه الله تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه ، انتهى.

ونسب بعضهم القاضي خالدا المذكور إلى انتحال كمال العماد في «البرق الشامي» ، لأن خالدا أكثر في رحلته من الأسجاع التي للعماد ، فلذا قال لسان الدين ابن الخطيب فيه : [بحر الطويل]

خليليّ إن يقض اجتماع بخالد

فقولا له قولا ولن تعدوا الحقّا

سرقت العماد الأصبهاني برقه

وكيف ترى في شاعر سرق البرقا

وأظن أن لسان الدين كان منحرفا عنه ، ولذلك قال في كتابه «خطرة الطيف ، ورحلة الشتاء والصيف» (٢) عندما جرى ذكر قنتورية (٣) وقاضيها خالد المذكور ما صورته : لم يتخلف ولد عن والد ، وركب قاضيها ابن أبي خالد ، وقد شهرته النزعة الحجازية ، ولبس من خشن الحجازيّة (٤) ، وأرخى من البياض طيلسانا ، وتشبّه بالمشارقة شكلا ولسانا ، والبداوة تسمه على الخرطوم ، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم ، انتهى.

ومن نظم أبي البقاء خالد البلوي المذكور قوله : [بحر الطويل]

أتى العيد واعتاد الأحبة بعضهم

ببعض وأحباب المتيم قد بانوا

وأضحى وقد ضحوا بقربانهم وما

لديه سوى حمر المدامع قربان

وقال في رحلته : إنه قال هذين البيتين بديهة بمصلّى تونس في عيد النحر من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.

ومن نظمه أيضا قوله رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

ومستنكر شيبي وما ذهب الصّبا

ولا جف إيناع الشبيبة من غصني

__________________

(١) كذا في أ ، ب ، ه ، وفي ج : قل يا رب يا رحيم يا رب يا رحيم.

(٢) نشر هذا الكتاب الدكتور أحمد مختار العبادي في كتابه : «مشاهدات لسان الدين بن الخطيب».

(٣) قنتورية : تقع إلى جنوب برشانة في ولاية المرية.

(٤) في ب : «الحجازيّه». (الحجا : العقل).

١٣٩

فقلت فراقي للأحبة مؤذن

بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني

ومحاسنه ـ رحمه الله تعالى! ـ كثيرة ، وفي الرحلة منها جملة.

٢١٥ ـ ومنهم برهان الدين أبو إسحاق بن الحاج إبراهيم ، النميري ، الغرناطي.

وهو أيضا مذكور في ترجمة ابن الخطيب بما يغني عن تكرير اسمه هنا وقال رحمه الله تعالى في رحلته : أخبرني شيخنا ـ يعني الشيخ الإمام الصالح أبا عبد الله محمد المعروف بخليل التوزري إمام المالكية بالحرم الشريف رضي الله تعالى عنه ـ قال : اعتكفت بجامع عمرو بن العاص كفّا لشرّتي عن الناس ، خصوصا أدّى الغيبة ، نحو خمسين ليلة ، أردت أن أدعو لطائفة من أصحابي بمطالب مختلفة ، كل بحسب ظني فيه يومئذ ، فأدركتني حيرة في التمييز والتخصيص ، فألهمت أن قلت بديهة : [بحر المتقارب]

شهدنا بتقصير ألبابنا

فحسن اختيارك أولى بنا (١)

وأنت البصير بأعدائنا

وأنت البصير بأحبابنا

قال : ثم أردفتها بدعاء ، وهو : اللهم يا من لا يعلم خيره إلا هو ، أنت أعلم بأعدائنا وأودّائنا (٢) ، فافعل بكل منهم ما يناسب حسن اختيارك لنا ، حسبما علمته منا ، وكفى بك عليما ، وكفى بك قديرا ، وكفى بك بصيرا ، وكفى بك لطيفا ، وكفى بك خبيرا ، وكفى بك نصيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا كثيرا.

وقال ابن الحاج المذكور في الرحلة المذكورة : إذا التقى الرجل بعدوه وهو على خوف منه فليقرأ هذه الحروف (كهيعص (١)) [مريم : ١] ، (حم (١) عسق (٢)) [الشورى : ١ ـ ٢] وليعقد بكل حرف منها أصبعا ، يبدأ بإبهام يده اليمنى ويختم بإبهام يده اليسرى ، فإذا قرب من عدوه فليقرأ في نفسه سورة الفيل ، فإذا وصل إلى قوله (تَرْمِيهِمْ) [الفيل : ٤] فليكررها ، وكلما كررها فتح أصبعا من أصابعه المعقودة تجاه العدو ، فيكررها عشر مرات ، ويفتح جميع أصابعه ، فإذا فعل ذلك أمن من شره إن شاء الله تعالى وهو مجرب ، انتهى.

ومن بديع نظم أبي إسحاق ابن الحاج النميري المذكور قوله : [بحر الكامل]

يا رب كاس لم يسحّ شمولها

فاعجب لها جسما بغير مزاج (٣)

__________________

(١) الألباب : جمع لب ، وهو العقل.

(٢) أودّاؤنا : الذين يودّوننا ويخلصون لنا الحب.

(٣) في ب : «لم يشجّ». وشج الشراب بالماء : مزجه به. وسحّ : سال. والشمول : الخمر.

١٤٠