نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

وجئت بجاية فجلت بدورا

يضيق بوصفها حرف الرويّ

وفي أرض الجزائر هام قلبي

بمعسول المراشف كوثريّ

وفي مليانة قد ذبت شوقا

بلين العطف والقلب القسيّ

وفي تنس نسيت جميل صبري

وهمت بكل ذي وجه وضي

وفي مازونة ما زلت صبّا

بوسنان المحاجر لوذعي

وفي وهران قد أمسيت رهنا

بظامي الخصر ذي ردف رويّ

وأبدت لي تلمسان بدورا

جلبن الشوق للقلب الخلي

ولما جئت وجدة همت وجدا

بمنخنث المعاطف معنوي

وحل رشا الرباط رشا رباطي

وتيمني بطرف بابليّ

وأطلع قطر فاس لي شموسا

مغاربهنّ في قلب الشجي

وما مكناسة إلّا كناس

لأحوى الطرف ذي حسن سني

وإن تسأل عن ارض سلا ففيها

ظباء كاسرات للكميّ

وفي مراكش يا ويح قلبي

أتى الوادي فطمّ على القريّ (١)

بدور بل شموس بل صباح

بهيّ في بهي في بهي

أبحن مصارع العشاق لما

سعين به فكم ميت وحيّ (٢)

بقامة كل أسمر سمهريّ

ومقلة كل أبيض مشرفي

إذا أنسينني حسنا فإني

أنسّيهم هوى غيلان ميّ (٣)

فها أنا قد تخذت الغرب دارا

وأدعى اليوم بالمراكشي

على أن اشتياقي نحو زيد

كشوقك نحو عمرو بالسوي

تقسمني الهوى شرقا وغربا

فيا للمشرقي المغربي

فلي قلب بأرض الشرق عان

وجسم حل بالغرب القصي (٤)

فهذا بالغدوّ يهيم غربا

وذاك يهيم شرقا بالعشي

__________________

(١) القري : مسيل الماء إلى التلاع. وهو مثل يضرب للأمر العظيم يغطي على صغائر الأمور.

(٢) وحيّ : سريع.

(٣) غيلان : هو ذو الرمة الشاعر. ومي : محبوبته.

(٤) عان : أسير.

١٠١

فلولا الله مت هوى وشوقا

وكم لله من لطف خفي

وقد خرجنا بالاستطراد إلى الطول ، وذلك منا استرسال مع جاذب الأدب ، فلنمسك العنان ، والله المستعان.

وما عددناه من القصائد والمقطوعات في مدح دمشق الشام فهو غيض من فيض (١) ، وفي نيتي أن أجمع في ذلك كتابا حافلا أسميه «نشق عرف دمشق» أو «مشق قلم المدح لدمشق» ولسان حالي الآن ينشد قول بعض الأكابر : [بحر الخفيف]

نحن في مصر رهن شوق إليكم

هل لديكم بالشام شوق إلينا

فعجزنا عن أن ترونا لديكم

وأبيتم عن أن نراكم لدينا

وحفظ الله عهد من حفظ العه

د ووفّى به كما قد وفينا

وقول ابن الصائغ : [بحر المجتث]

وددت لو أن عيني

مكان كتبي إليكم

حتى أراكم وأملي

أخبار شوقي عليكم

رجع إلى ابن جبير رحمه الله تعالى :

ومن شعره قوله : [البحر السريع]

إياك والشهرة في ملبس

والبس من الأثواب أسمالها (٢)

تواضع الإنسان في نفسه

أشرف للنفس وأسمى لها

وقال : [بحر الطويل]

تنزّه عن العوراء مهما سمعتها

صيانة نفس فهو بالحر أشبه (٣)

إذا أنت جاوبت السفيه مشاتما

فمن يتلقى الشتم بالشتم أسفه

وقال : [الطويل]

أقول وقد حان الوداع وأسلمت

قلوب إلى حكم الأسى ومدامع :

أيا ربّ أهلي في يديك وديعة

وما عدمت صونا لديك الودائع

__________________

(١) غيض من فيض : قليل من كثير.

(٢) الأسمال : جمع سمل ، وهو الثوب البالي.

(٣) العوراء : الكلمة القبيحة.

١٠٢

وقال أبو عبد الله بن الحجاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يمدح ابن جبير المذكور : [بحر الكامل]

لأبي الحسين مكارم لو أنها

عدّت لما فرغت ليوم المحشر

وله عليّ فضائل قد قصرت

عن بعض نعماها عظام الأبحر

وقال ابن جبير من قصيدة مطلعها : [بحر الرمل]

يا وفود الله فزتم بالمنى

فهنيئا لكم أهل منى

قد عرفنا عرفات بعدكم

فلهذا برّح الشوق بنا

نحن في الغرب ويجري ذكركم

بغروب الدمع يجري هتّنا (١)

ومنها :

فيناديه على شحط النّوى

من لنا يوما فقلت ملّنا (٢)

سر بنا يا حادي الركب عسى

أن نلاقي يوم جمع سربنا

ما دعا داعي النوى لما دعا

غير صب شفه برح العنا

شم لنا البرق إذا لاح وقل

جمع الله بجمع شملنا

علنا نلقى خيالا منكم

بلذيذ الذكر وهنا علنا

لو حنا الدهر علينا لقضى

باجتماع بكم بالمنحنى

لاح برق موهنا من نحوكم

فلعمري ما هنا العيش هنا (٣)

أنتم الأحباب نشكو بعدكم

هل شكوتم بعدنا من بعدنا

وله رحمه الله تعالى من قصيدة مطوّلة أوّلها : [بحر المتقارب]

لعل بشير الرضا والقبول

يعلل بالوصل قلب الخليل

وله أخرى أنشدها عند استقباله المدينة المشرفة ، على صاحبها الصلاة وأتم السلام! وهي ثلاثة وثلاثون بيتا من الغر ، أولها : [بحر المتقارب]

أقول وآنست بالليل نارا

لعل سراج الهدى قد أنارا

__________________

(١) الهتّن : جمع هاتن : وهو السائل المتدفق.

(٢) في ب : «من لنا يوما بقلب ملنا».

(٣) موهنا : بعد منتصف الليل.

١٠٣

وإلا فما بال أفق الدجى

كأن سنا البرق فيه استطارا (١)

ونحن من الليل في حندس

فما باله قد تجلّى نهارا (٢)

وكان أبو الحسين بن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة ، ثم رفضها وزهد فيها.

وقال صاحب «الملتمس» في حقه : الفقيه الكاتب أبو الحسين بن جبير ، ممن لقيته وجالسته كثيرا ورويت عنه ، وأصله من شاطبة ، وكان أبوه أبو جعفر من كتابها ورؤسائها ، ذكره ابن اليسع في تاريخه ، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه ، وتولع بغرناطة ، فسكن بها ، قال : ومما أنشدنيه لنفسه قوله يخاطب أبا عمران الزاهد بإشبيلية : [بحر الوافر]

أبا عمران قد خلّفت قلبي

لديك وأنت أهل للوديعه

صحبت بك الزمان أخا وفاء

فها هو قد تنمّر للقطيعه (٣)

قال : وكان من أهل المروءات ، عاشقا في قضاء الحوائج ، والسعي في حقوق الإخوان ، والمبادرة لإيناس الغرباء ، وفي ذلك يقول : [بحر الرمل]

يحسب الناس بأني متعب

في الشفاعات وتكليف الورى

والذي يتعبهم من ذاك لي

راحة في غيرها لن أفكرا

وبودي لو أقضّي العمر في

خدمة الطلاب حتى في الكرى (٤)

قال : ومن أبدع ما أنشده رحمه الله تعالى أول رحلته : [الخفيف]

طال شوقي إلى بقاع ثلاث

لا تشدّ الرحال إلا إليها

إن للنفس في سماء الأماني

طائرا لا يحوم إلا عليها

قصّ منه الجناح فهو مهيض

كلّ يوم يرجو الوقوع لديها (٥)

وقال : [بحر المتقارب]

إذا بلغ العبد أرض الحجاز

فقد نال أفضل ما أمّ له (٦)

فإن زار قبر نبي الهدى

فقد أكمل الله ما أمّله

__________________

(١) استطار : انتشر والسنا : الضوء.

(٢) الحندس : الظلمة الشديدة.

(٣) تنمر : أصبح كالثمر ، وأراد تنكر وغدر.

(٤) الكرى : النوم.

(٥) الجناح المهيض : المسكور مرة بعد مرة.

(٦) أم له : قصد.

١٠٤

وعاد رحمه الله تعالى إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حلّ فيها دمشق والموصل وبغداد ، وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج ، فعطب في خليج صقلية الضيق ، وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة ٥٨١ ، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم.

ومن شعره أيضا : [بحر الخفيف]

لي صديق خسرت فيه ودادي

حين صارت سلامتي منه ربحا

حسن القول سيىء الفعل كالج

زار سمّى وأتبع القول ذبحا

وحدّث رحمه الله تعالى بكتاب «الشفاء» عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض ، ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسن يحيى بن علي القرشي.

وتوفي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤ ، والدعاء عند قبره مستجاب ، قاله ابن الرقيق رحمه الله تعالى وقال ابن الرقيق : في السنة بعدها.

وقال أبو الربيع بن سالم : أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي ، ويعرف بابن الخطيب ، لأبي الحسين بن جبير ، وقال : وهو مما كتب به إليّ من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة ، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك ، وتوفيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقّشي فدفنها بها : [بحر المتقارب]

بسبتة لي سكن في الثّرى

وخلّ كريم إليها أتى (١)

فلو أستطيع ركبت الهوا

فزرت بها الحيّ والميتا

وأنشد ابن جبير رحمه الله تعالى لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة ، أو في طريقها قوله : [بحر البسيط]

لي نحو أرض المنى من شرق أندلس

شوق يؤلف بين الماء والقبس (٢)

إلى آخرها.

__________________

(١) السكن : الزوجة.

(٢) القبس : القطعة من النار.

١٠٥

ومن شعره قوله : [بحر مخلع البسيط]

يا خير مولى دعاه عبد

أعمل في الباطل اجتهاده

هب لي ما قد علمت مني

يا عالم الغيب والشهاده

وقال رحمه الله تعالى : [بحر المتقارب]

وإني لأوثر من أصطفي

وأغضي على زلة العاثر (١)

وأهوى الزيارة ممن أحب

لأعتقد الفضل للزائر

وقال رحمه الله تعالى : [بحر البسيط]

عجبت للمرء في دنياه تطمعه

في العيش والأجل المحتوم يقطعه

يمسي ويصبح في عشواء يخبطها

أعمى البصيرة والآمال تخدعه

يغتر بالدهر مسرورا بصحبته

وقد تيقن أن الدهر يصرعه (٢)

ويجمع المال حرصا لا يفارقه

وقد درى أنه للغير يجمعه

تراه يشفق من تضييع درهمه

وليس يشفق من دين يضيعه

وأسوأ الناس تدبيرا لعاقبة

من أنفق العمر فيما ليس ينفعه

وقال : [بحر الطويل]

صبرت على غدر الزمان وحقده

وشاب لي السم الزعاف بشهده (٣)

وجرّبت إخوان الزمان فلم أجد

صديقا جميل الغيب في حال بعده

وكم صاحب عاشرته وألفته

فما دام لي يوما على حسن عهده

وكم غرني تحسين ظني به فلم

يضيء لي على طول اقتداحي لزنده

وأغرب من عنقاء في الدهر مغرب

أخو ثقة يسقيك صافي وده

بنفسك صادم كلّ أمر تريده

فليس مضاء السيف إلا بحده

وعزمك جرّد عند كل مهمة

فما نافع مكث الحسام بغمده

__________________

(١) أوثر : أفضل. وأغضي : أسكت وأصبر.

(٢) يصرعه : يهلكه.

(٣) شاب السم : خلطه. والسم الزعاف : السريع القتل. والشهد : العسل.

١٠٦

وشاهدت في الأسفار كل عجيبة

فلم أر من قد نال جدّا بجدّه (١)

فكن ذا اقتصاد في أمورك كلها

فأحسن أحوال الفتى حسن قصده

وما يحرم الإنسان رزقا لعجزه

كما لا ينال الرزق يوما بكدّه

حظوظ الفتى من شقوة وسعادة

جرت بقضاء لا سبيل لرده

وقال : [بحر البسيط]

الناس مثل ظروف حشوها صبر

وفوق أفواهها شيء من العسل (٢)

تغرّ ذائقها حتى إذا كشفت

له تبين ما تحويه من دخل (٣)

وقال : [بحر المتقارب]

تغير إخوان هذا الزمان

وكل صديق عراه الخلل

وكانوا قديما على صحة

فقد داخلتهم حروف العلل

قضيت التعجب من أمرهم

فصرت أطالع باب البدل

وقد تقدم بيتان من هذه الثلاثة على وجه آخر أول ترجمة المذكور ، ورأيت بخط ابن سعيد البيتين على وجه آخر ، وهو قوله : [بحر المتقارب]

ثكلت أخلّاء هذا الزمان

فعندي مما جنوه خلل

قضيت التعجب من شأنهم

فصرت أطالع باب البدل

ولابن جبير رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

من الله فاسأل كل أمر تريده

فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرا

ولا تتواضع للولاة فإنهم

من الكبر في حال تموج بهم سكرا

وإياك أن ترضى بتقبيل راحة

فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى

وهو نحو قول القائل : [بحر الخفيف]

[قل لنصر والمرء في دولة

السلطان أعمى ما دام يدعى أميرا](٤)

__________________

(١) الجد ، بفتح الجيم : الحظ. والجد ، بكسر الجيم : الاجتهاد بالأمر.

(٢) الصبر : نبات يميل زهره إلى الصفرة أو إلى الحمرة ، تستعمل عصارته في الطب.

(٣) الدخل : الفساد ، والعيب.

(٤) هذا البيت والذي بعده ساقط من ب ، ه.

١٠٧

[فإذا زالت الولاية عنه

واستوى بالرّجال عاد بصيرا]

[وقال ابن جبير ، رحمه الله تعالى](١) : [بحر الخفيف]

أيّها المستطيل بالبغي أقصر

ربّما طأطأ الزّمان الرّؤوسا

وتذكّر قول الإله تعالى (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى)(٢) وقال ، وقد شهد العيد بطندتة من قرى مصر : [بحر الطويل]

شهدنا صلاة العيد في أرض غربة

بأحواز مصر والأحبة قد بانوا

فقلت لخلّي في النوى جد بمدمع

فليس لنا إلا المدامع قربان

وقال : [بحر السريع]

قد أحدث الناس أمورا فلا

تعمل بها إني امرؤ ناصح

فما جماع الخير إلا الذي

كان عليه السّلف الصالح

وقال : [بحر مجزوء الرمل]

رب إن لم تؤتني سعة

فاطو عني فضلة العمر

لا أحب اللبث في زمن

حاجتي فيه إلى البشر

فهم كسر لمنجبر

ما هم جبر لمنكسر

ولما وصل ابن جبير ـ رحمه الله تعالى! ـ إلى مكة في ١٢ ربيع الآخر سنة ٥٧٩ أنشد قصيدته التي أولها : [بحر المتقارب]

بلغت المنى وحللت الحرم

فعاد شبابك بعد الهرم

فأهلا بمكة أهلا بها

وشكرا لمن شكره يلتزم

وهي طويلة ، وسيأتي بعضها.

وقال رحمه الله تعالى عند تحركه للرحلة الحجازية : [بحر الوافر]

أقول وقد دعا للخير داع

حننت له حنين المستهام

حرام أن يلذ لي اغتماض

ولم أرحل إلى البيت الحرام

ولا طافت بي الآمال إن لم

أطف ما بين زمزم والمقام

ولا طابت حياة لي إذا لم

أزر في طيبة خير الأنام (٣)

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٣) طيبة : مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

١٠٨

وأهديه السلام وأقتضيه

رضا يدني إلى دار السلام

وقال : [بحر المتقارب]

هنيئا لمن حجّ بيت الهدى

وحطّ عن النفس أوزارها (١)

وإن السعادة مضمونة

لمن حج طيبة أو زارها (٢)

ولنختم ترجمته بقوله : [بحر الطويل]

أحب النبي المصطفى وابن عمه

عليا وسبطيه وفاطمة الزهرا

هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم

وأطلعهم أفق الهدى أنجما زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم

وحبهم أسنى الذخائر للأخرى

وما أنا للصّحب الكرام بمبغض

فإني أرى البغضاء في حقهم كفرا

هم جاهدوا في الله حق جهاده

وهم نصروا دين الهدى بالظّبا نصرا (٣)

عليهم سلام الله ما دام ذكرهم

لدى الملإ الأعلى وأكرم به ذاكرا (٤)

وقوله في آخره الميمية : [بحر المتقارب]

نبي شفاعته عصمة

فيوم التنادي به يعتصم (٥)

عسى أن تجاب لنا دعوة

لديه فنكفي بها ما أهم

ويرعى لزواره في غد

ذماما فما زال يرعى الذّمم

عليه السلام ، وطوبى لمن

ألم بتربته فاستلم

أخي كم نتابع أهواءنا

ونخبط عشواءها في الظلم

رويدك جرت فعج واقتصد

أمامك نهج الطريق الأعم

وتب قبل عض بنان الأسى

ومن قبل قرعك سنّ الندم (٦)

ومنها :

وقل ربّ هب رحمة في غد

لعبد بسيما العصاة اتسم (٧)

__________________

(١) أوزارها : أثقالها ، وأعباؤها.

(٢) أو زارها : أو حرف عطف. زارها : من الزيارة.

(٣) الظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.

(٤) أكرم به : ما أكرمه.

(٥) يوم التنادي : يوم القيامة.

(٦) عض البنان ، وقرع السن : كناية عن الندم.

(٧) السيما : العلامة. واتسم : افتعل من الوسم.

١٠٩

جرى في ميادين عصيانه

مسيئا ودان بكفر النعم

فيا رب صفحك عما جنى

ويا رب عفوك عما اجترم

١٨٠ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الأديب أبو عامر بن عيشون (١).

قال الفتح : رجل حلّ المشيّدات والبلاقع (٢) ، وحكى النسرين الطائر والواقع ، واستدرّ خلفي البؤس والنعيم ، وقعد مقعد البائس والزعيم ، فآونة في سماط ، وأخرى بين درانك وأنماط ، ويوما في ناووس ، وأخرى في مجلس مأنوس ، رحل إلى المشرق فلم يحمد رحلته ، ولم يعلق بأمل نحلته ، فارتد على عقبه ، وردّ من حبالة الفوت إلى منتظره ومرتقبه ، ومع هذا فله تحقق بالأدب ، وتدفق طبع إذا مدح أو نسب ، وقد أثبتّ له ما تعلم حقيقة نفاذه ، وترى سرعة وجده في طريق الإحسان وإغذاذه (٣).

ثم قال : وأخبرني أنه دخل مصر وهو سار في ظلم البوس ، عار من كل لبوس ، قد خلا من النقد كيسه ، وتخلى عنه إلا تعذيره وتنكيسه ، فنزل بأحد شوارعها لا يفترش إلا نكده ، ولا يتوسّد إلا عضده ، وبات بليلة ابن عبدل (٤) ، تهب عليه صرصر لا ينفح منها عنبر ولا مندل ، فلما كان من السحر دخل عليه ابن الطوفان (٥) فأشفق لحاله ، وفرط إمحاله ، وأعلمه أن الأفضل ابن أمير الجيوش استدعاه ، ولو ارتاد جوده بقطعة يغنيها له لأخصب مرعاه ، فصنع له في حينه : [بحر البسيط]

قل للملوك وإن كانت لهم همم

تأوي إليها الأماني غير متّئد

إذا وصلت بشاهنشاه لي سببا

فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي

من واجه الشمس لم يعدل بها قمرا

يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد

فلما كان من الغد وافاه فدفع إليه خمسين مثقالا مصرية وكسوة وأعلمه أنه غناه ، وجود الإظهار للفظه ومعناه ، وكرره ، حتى أثبته في سمعه وقرره ، فسأله عن قائله فأعلمه بقلته ،

__________________

(١) انظر قلائد العقيان ص ٢٨٨.

(٢) المشيدات : الأبنية. والبلاقع : جمع بلقع وهو الأرض القفراء الخالية.

(٣) الوخد والإغذاذ : ضربان من السير السريع.

(٤) ابن عبدل : هو الحكم بن عبدل الأسدي ، أحد شعراء بني أمية. وقد أشار إلى قوله :

قد بات همي قرنا أكابده

كأنما مضجعي على حجر

(٥) في ب : «ابن طوفان».

١١٠

وكلمه في رفع خلّته (١) ، فأمر له بذلك.

وله أيضا رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]

قصدت على أن الزيارة سنة

يؤكّدها فرض من الود واجب

فألفيت بابا سهّل الله إذنه

ولكن عليه من عبوسك حاجب

مرضت ومرّضت الكلام تثاقلا

إليّ إلى أن خلت أنك عاتب

فلا تتكلف للعبوس مشقة

سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب

فلا الأرض تدمير ولا أنت أهلها

ولا الرزق إن أعرضت عنّي جانب

وله يستعتبني : [بحر الطويل]

كتبت ولو وفّيت برك حقه

لما اقتصرت كفي على رقم قرطاس

ونابت عن الخط الخطا وتبادرت

فطورا على عيني وطورا على راسي

سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ

مديحك ألحانا يسوغ بها كاسي

وهل نافح الآس الندامى فلم أذع

ثنائي أذكى من منافحة الآس

١٨١ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو مروان الطبني ، وهو عبد الملك بن زيادة الله.

قال في الذخيرة : كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام ، وحملة ألوية الأقلام ، من أهل بيت اشتهروا بالشعر ، اشتهار المنازل بالبدر ، أراهم طرؤوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة ، وانتثار (٢) شمل الطاعة ، وأناخوا في ظلها ، ولحقوا بسروات أهلها (٣) ، وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أوّل من بنى بيت شرفهم ، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم.

قال ابن حيان : وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثا ومشاهدة ، وأنصفهم ظرفا (٤) ، وأحذقهم بأبواب الشّحذ والملاطفة ، وآخذهم بقلوب الملوك والجلّة ، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة ، انتهى المقصود منه.

__________________

(١) الخلّة ، بفتح الخاء : الفقر.

(٢) الانتثار : التفرق. وقد جاء في ب ، ه : وانتشار.

(٣) سروات القوم : ساداتهم.

(٤) في ب : «وأنصعهم ظرفا».

١١١

ثم قال في الذخيرة : فأمّا ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ، ورحل إلى المشرق ، وسمع من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز ، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة ، انتهى.

وقد ذكر قصة قتله المستبشعة واتهم باغتياله ابنه.

ومن نظم أبي مروان الطّبني المذكور ما وجده صاحب الذخيرة في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال : لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضربا موجعا ، وأقرّ بذلك أعين مطالبيه ، قال أبو مروان الطّبني فيه : [بحر المنسرح]

شكرت للعامريّ ما صنعا

ولم أقل للحذيلميّ لعا (١)

ليث عرين عدا بعزته

مفترسا في وجاره ضبعا

لا برحت كفه ممكّنة

من الأماني فنعم ما صنعا

وددت لو كنت شاهدا لهما

حتى ترى العين ذلّ ما خضعا

إن طال منه سجوده فلقد

طال لغير السجود ما ركعا

قال ابن بسام : وابن رشيق القائل قبله : [بحر البسيط]

كم ركعة ركع الصّفعان تحت يدي

ولم يقل سمع الله لمن حمده (٢)

ثم قال ابن بسام في الذخيرة ما نصه : والعرب تقول : «فلان يركع لغير صلاة» إذا كنوا عن عهر الخلوة ، ومن مليح الكناية لبعض المتقدّمين يخاطب امرأته : [بحر الكامل]

قلت : التشيّع حبّ أصلع هاشم

فترفّضي إن شئت أو فتشيعي (٣)

قالت : أصيلع هاشم ، وتنفّست

بأبي وأمي كل شيء أصلع

ولما صنت كتابي هذا من شين الهجاء ، وكبرته أن يكون ميدانا للسفهاء ، أجريت ههنا طلقا من مليح التعريض ، في إيجاز القريض ، مما لا أدب على قائليه ، ولا وصمة عظمى على من قيل فيه ، والهجاء ينقسم قسمين : فقسم يسمونه هجو الأشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا مقذعا ، ولا هجوا مستبشعا ، وهو طأطأ قديما من الأوائل ، وثلّ عرش القبائل ، إنما هو

__________________

(١) لعا : دعاء للعاثر بمعنى أنجاك الله وأنعسك.

(٢) الصفعان : الذي يضرب كثيرا على قفاه.

(٣) أصلع هاشم : الإمام علي رضي الله عنه.

١١٢

توبيخ وتعبير ، وتقديم وتأخير ، كقول النجاشي في بني (١) العجلان ، وشهرة شعره ، منعتني عن ذكره ، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وأنشدوه قول النجاشي فيهم ، فدرأ الحد بالشبهات ، وفعل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة ، وسأله أن ينشد ما قاله فيه ، فأنشده قوله : [بحر البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (٢)

فسأل عن ذلك كعب بن زهير ، فقال : والله ما أودّ بما قال له حمر النعم ، وقال حسان : لم يهجه ، ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشّبرم ، فهمّ عمر رضي الله تعالى عنه بعقابه ، ثم استعطفه بشعره المشهور.

وقال عبد الملك بن مروان يوما : أحسابكم يا بني أمية (٣) ، فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال في : [بحر الطويل]

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا (٤)

ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى ، وقال : أنحن نفعل هذا بجاراتنا؟! ودعا عليه ، فما ظنك بشيء يبكي علاثة ، وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس.

وقد كان الراعي يقول : هجوت جماعة من الشعراء ، وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها.

ولما قال جرير : [بحر الوافر]

فغضّ الطّرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

أطفأ مصباحه ونام ، وقد كان بات ليلته يتململ ، لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه.

قال الراعي : فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه ، حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون : قبحكم الله وقبح ما جئتمونا به!.

__________________

(١) النجاشي : هو قيس بن عمر الحارثي من شعراء صدر الإسلام. كان ماجنا خليعا.

(٢) قيل : إن هذا البيت أهجى بيت قالته العرب.

(٣) في الذخيرة : احفظوا أجسامكم.

(٤) المشتى : زمان الشتاء ، ومكانه. وغرثى : جائعة. وخمائص : جمع خميص ، وهي الضامرة البطن وأراد بها هنا الناحلة من شدة الجوع.

١١٣

والقسم الثاني : هو السباب الذي أحدثه جرير أيضا وطبقته ، وكان يقول : إذا هجوتم فأضحكوا ، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتا ، ولا عيرت به قبيلة ؛ وهو الذي صنّا هذا المجموع عنه ، وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه ، فإن أبا منصور الثعالبيّ كتب منه في يتيمته ما شانه اسمه (١) ، وبقي عليه إثمه.

ومن مليح التعريض لأهل أفقنا قول بعضهم في غلام كان يصحب رجلا يسمى بالبعوضة : [بحر المتقارب]

أقول لشادنكم قولة

ولكنّها رمزة غامضه (٢)

لزوم البعوض له دائما

يدل على أنها حامضه

وأنشدت في مثله قول بعض أهل الوقت : [بحر البسيط]

بيني وبينك سرّ لا أبوح به

الكل يعلمه والله غافره (٣)

وحكي أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال : عاتبت بعض الإخوان عتابا شديدا عن أمر أوجع فيه قلبي ، وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت : [بحر الطويل]

وإني على ما هاج صدري وغاظني

ليأمنني من كان عندي له سرّ

فكان هذا البيت أشد عليه من عض الحديد ، ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع ، وهذا الباب ممتدّ الأطناب ، ويكفي ما مر ويمرّ منه في أضعاف هذا الكتاب ، انتهى كلام ابن بسام في الذخيرة بلفظه.

ولا خفاء أنه عارض بالذخيرة يتيمة الثعالبي ، ولذا قال في خطبة الذخيرة : أما بعد حمد الله ولي الحمد وأهله ، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله ، فإن ثمرة هذا الأدب ، العالي الرتب ، رسالة تنثر وترسل ، وأبيات تنظم وتفصل ، تنثال تلك انثيال القطار (٤) ، على صفحات الأزهار ، وتتصل هذه اتصال القلائد ، على نحور الخرائد (٥) ، وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصيّ إلى وقتنا هذا من فرسان الفنّين ، وأئمة النوعين ، قوم هم ما هم طيب مكاسر ، وصفاء

__________________

(١) شانه : عابه.

(٢) الشادن : ابن الغزال.

(٣) في ب : «بيني وبينك سرّ لا أبوح به» (وهو الأصح وزنا).

(٤) تنثال : تتابع. والقطار : جمع قطرة ، وأراد المطر.

(٥) الخرائد : جمع خريدة ، وهي في الأصل اللؤلؤة التي لم تثقب وهنا البكر.

١١٤

جواهر ، وعذوبة موارد ومصادر ، لعبوا بأطراف الكلام المشقق ، لعب الدجنّ (١) بجفون المؤرق ، وجدّوا (٢) بفنون السحر المنمق ، جدّ الأعشى ببنات المحلّق (٣) ، فصبوا على قوالب النجوم ، غرائب المنثور والمنظوم ، وباهوا غرر الضحى والأصائل ، بعجائب الأشعار والرسائل ، نثر لو رآه البديع (٤) لنسي اسمه ، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه ، ونظم لو سمعه كثير (٥) ما نسب ولا مدح ، أو تتبعه جرول (٦) ما عوى ولا نبح ، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق ، يرجعون إلى أخبارهم المعادة ، رجوع الحديث إلى قتادة (٧) ، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب ، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب ، لجثوا على هذا صنما ، وتلوا ذلك كتابا محكما ، وأخبارهم الباهرة ، وأشعارهم السائرة ، مرمى القصيّة ، ومناخ الرّذيّة (٨) ، لا يعمر بها جنان ولا خلد ، ولا يصرف فيها لسان ولا يد ، فغاظني منهم ذلك ، وأنفت مما هنالك ، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري ، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري ، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة ، وتصبح بحوره ثمادا مضمحلة ، مع كثرة أدبائه ، ووفور علمائه ، وقديما ضيعوا العلم وأهله ، وربّ محسن مات إحسانه قبله ، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان ، وخص أهل المشرق بالإحسان ، وقد كتبت لأرباب هذا الشان ، من أهل الوقت والزمان ، محاسن تبهر الألباب ، وتسحر الشعراء والكتاب ، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ، ولا المدائح العامرية ، إذ كان ابن فرج الجيّاني قد رأى رأيي في النّصفة ، وذهب مذهبي من الأنفة ، فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق معارضا لكتاب الزهرة للأصبهاني ، فأضربت أنا عما ألف ، ولم أعرض لشيء مما صنف ، ولا تعدّيت أهل عصري ، مما شاهدته بعمري أو لحقه أهل دهري ، إذ كل مردّد ثقيل ، وكل متكرر مملول ، وقد مجّت الأسماع :

يا دار مية بالعلياء فالسند

إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف المرتضى والقاضي عبد

__________________

(١) في ب : «لعب الدجى» ..

(٢) في ب : «وحدوا بفنون السحر المنمق حداء الأعشى».

(٣) الأعشى : هو ميمون بن قيس أحد شعراء الجاهلية الفحول. وقصته مع المحلق ومديحه له مشهورة.

(٤) البديع : أراد بديع الزمان الهمذاني أول من اخترع المقامات.

(٥) كثير : هو كثير بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة.

(٦) جرول : الحطيئة.

(٧) قتادة : هو قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري ، ثقة ثبت (تقريب التهذيب ج ٢ ص ١٢٣).

(٨) الرذية : الناقة التي أنهكها السير.

١١٥

الوهاب والوزير ابن المغربي وغيرهم ممن يطول ، ما صورته : وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور ، في تأليفه المشهور ، المترجم بيتيمة الدهر ، في محاسن أهل العصر ، انتهى المقصود منه.

قلت : وتذكرت بما أنشده في الهجاء قول الباقعة الشاعر المشهور أبي العباس أحمد الغفجومي الشهير بالجواري (١) وعامة الغرب يقولون الجراوي يهجو قومه بني غفجوم وهم بربر بتادلا متوصلا بذلك إلى هجو أصلاء فاس بني الملجوم ، ومستطردا في ذلك ما هو في اطراده كالماء السجوم ، وهو [قوله] : [بحر الكامل]

يا ابن السبيل إذا مررت بتادلا

لا تنزلنّ على بني غفجوم

أرض أغار بها العدو فلن ترى

إلا مجاوبة الصدى للبوم

قوم طووا ذكر السماحة بينهم

لكنهم نشروا لواء اللوم

لا حظّ في أموالكم ونوالهم

للسائل العافي ولا المحروم

لا يملكون إذا استبيح حريمهم

إلا الصّراخ بدعوة المظلوم

يا ليتني من غيرهم ولو انني

من أرض فاس من بني الملجوم

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن أحد بني الملجوم قضاة فاس وأصلائها بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلدة بل متفرقة بستة آلاف دينار ، ويكفيك ذلك في معرفة قدر القوم ، ومع ذلك هجاهم بهذا ، والله سبحانه يغفر الزلات.

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر من ارتحل من علماء الأندلس إلى البلاد المشرقية المحروسة ، فنقول :

١٨٢ ـ ومنهم حبيب بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس ابن عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان.

من أهل قرطبة ، ويعرف بدحّون [رحل إلى المشرق ، وكان فقيها عالما ، أديبا شاعرا محسنا ، و](٢) رحل إلى المشرق أيام عبد الرحمن بن الحكم ، وحج ، ولقي أهل الحديث

__________________

(١) هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي المتوفى سنة ٦٠٩ ه‍ كان عالما بالآداب وله ديوان شعر وكتاب اسمه «صفوة الأدب ونخبة كلام العرب». (التكملة : ١٢٨).

(٢) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

١١٦

فكتب عنهم ، وقدم (١) بعلم كثير ، وكانت له حلقة بجامع قرطبة يسمع الناس فيها ، وهو يلبس الوشي الشامي ، إلى أن أوصى إليه الأمير عبد الرحمن بترك ذلك ، فتركه ، وتوفي بعد المائتين.

ومن شعره قوله : [بحر الكامل]

قال العذول : وأين قلبك؟ كلما

رمت اهتداءك لم يزل متحيرا

قلت : اتئد فالقلب أول خائن

لما تغير من هويت تغيرا

ونأى فبان الصبر عني جملة

وبقيت مسلول العزاء كما ترى

ومن ولده سعيد بن هشام ، وكان أديبا عالما فقيها ، رحم الله تعالى الجميع!.

ودخل دمشق وطنهم الأقدم وعاملها يومئذ للمعتصم بن الرشيد عمر بن فرج الرّخّجي ، فوافق دخوله إياها غلاء شديدا ومجاعة أشكت أهلها ، فضجوا إلى الرّخجي أن يخرج عنهم من عندهم من الغرباء القادمين عليهم من البلاد ، فأمر بالنداء في المدينة على كل من بها من طارىء وابن سبيل ليخرجوا عنها ، وضرب لهم أجلا ثلاثة أيام أوعد من تخلف منهم بعدها بالعقاب ، فابتدر الغرباء (٢) الخروج عنها ، وأقام دحّون لم يتحرك ، فجيء به إلى الرخّجي بعد الأجل ، فقال له : ما بالك عصيت أمري؟ أو ما سمعت ندائي؟ فقال له دحّون : ذلك النداء الذي وقفني ، فقال له : وكيف؟ فانتمى له ، فقال له الرخّجي : صدقت والله إنك لأحقّ بالإقامة فيها منا ، فأقم ما أحببت ، وانصرف إذا شئت.

وكان لدحّون هذا ابن يقال له بشر بن حبيب ، ويعرف بالحبيبي ، وهو من المشهورين بقرطبة ، وأمه المدنية الراوية عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه! وبنته عبدة بنت بشر مشهورة ، ولها رواية عنه ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٨٣ ـ ومنهم بهلول بن فتح من أهل أقليش (٣) ، له رحلة حجّ فيها ، وكان رجلا صالحا خيرا ، حكى عن نفسه أنه رأى في منامه بعد قدومه من الحج كأنه بمكة وقائل يقول: انطلق بنا نصلّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فكنت أقول لرجل من جيراني بأقليش : يا أبا فلان انطلق بنا نصلّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول لي : لست أجد إلى ذلك سبيلا ، فكنت أتوجه وأصلي مع الناس والنبي صلى الله عليه وسلم إمامنا ، فلما سلم من الصلاة رجع إلي وقال لي : من أين أنت؟ قلت له : من الأندلس ، فكان يقول : من أي موضع؟ فكنت أقول : من مدينة أقليش ، فيقول لي : أتعرف أبا إسحاق البوّاني؟ فكنت أقول : هو جاري ، وكيف لا أعرفه؟ فيقول لي : أقرئه مني السلام.

__________________

(١) في ب : «وقفل بعلم كثير».

(٢) أوعد : هدد ، وابتدر : أسرع.

(٣) أقليش : مدينة بالأندلس من أعمال شنت برية (معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٧).

١١٧

١٨٤ ـ ومنهم أبو الحسن ثابت بن أحمد بن عبد الولي ، الشاطبي.

روى عن أبي زيد عبد الرحمن بن يعيش المهري (١) ، ورحل حاجا ، فسمع منه بالإسكندرية أبو الحسن بن المفضل المقدسي ، وحدث عنه بالحديث المسلسل في الأخذ باليد عن ابن يعيش المذكور عن أبي محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد بن خلف الأنصاري عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز ، وعليه مداره بالأندلس ، عن نصر السمرقندي بإسناده ، وفيه بعد ، قال الحافظ ابن الأبار : وقد رويته مسللا من طرق بعضها عن ابن المفضل ، وأنبأني به ابن أبي جمرة (٢) عن أبي بحر الأندلسي (٣) ، عن نصر السمرقندي ، فصار ابن المفضل بمنزلة من سمعه ممن سمعه مني ، والحمد لله تعالى ، انتهى.

١٨٥ ـ ومنهم أبو أحمد جعفر بن لبّ بن محمد بن عبد الرحمن بن يونس بن ميمون ، اليحصبي.

سكن شاطبة ، وأصله من أنشيان عملها ، ويكنى أبا الفضل أيضا ، حج وسمع أبا طاهر بن عوف والحافظ السّلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي وأبا الثناء الحراني وبدر بن عبد الله الحبشي وأبا الحسن بن المفضل وغيرهم ، وكان من أهل العناية بالرواية مع الصلاح والعدالة ، حسن الخط ، جيد الضبط ، سماه التّجيبي في معجم مشيخته وهو في عداد أصحابه لاشتراكهما في السماع بإسكندرية وتركه هنالك ، ثم قدم عليه تلمسان من شاطبة في أضحى سنة ست وثمانين وخمسمائة ، وحكى مما أفاده عن ابن المفضل أن أبا عبد الله الكيزاني (٤) ـ وكان شاعرا مجيدا ـ أتته امرأة مات ولدها ، فسألته أن يرثيه ، فقال : [بحر المجتث]

تبكي عليه بشجو

فقلت لا تندبيه

هذا زمان عجيب

قد عاش من مات فيه

وأخذ عنه الحافظ أبو الربيع بن سالم وقال : إنه توفي بعد التسعين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) في ج : المهروي. وفي التكملة : الهروي.

(٢) في ج : «حمزة».

(٣) في ب ، ه : «الأسدي».

(٤) هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة ٥٦٠ ه‍ (انظر وفيات الأعيان ج ٤ ص ٤٦١ رقم الترجمة ٦٧٨).

١١٨

١٨٦ ـ ومنهم أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه ، الخزاعي ، العابد.

من أهل قسطنطانية عمل دانية ، أخذ القراءات عن ابن هذيل ، وسمع منه ومن ابن النعمة ببلنسية ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، ودخل الإسكندرية مرافقا لمن سمع من السّلفي ، ولم يسمع منه هو شيئا ، قال ابن الأبار : فيما علمت ، وقفل إلى بلده مائلا إلى الزهد والإعراض عن الدنيا ، وكان شيخ المتصوفة في وقته ، وعلا ذكره ، وبعد صيته في العبادة ، إلا أنه كانت فيه غفلة ، قال ابن الأبار : [بحر و] رأيته إذ قدم بلنسبة لإحياء ليلة النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة ، وتوفي عن سن عالية تقارب المائة ، منتصف ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة ، وشهد جنازته بشر كثير من جهات شتى ، وانتاب الناس قبره دهرا طويلا يتبركون بزيارته إلى حين إجلاء الروم من كان يشاركهم من المسلمين ببلاد شرق الأندلس التي تغلبوا عليها ، وذلك في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.

١٨٧ ـ ومنهم أبو جعفر النحوي.

أندلسي نزل مصر ، وكان من رؤساء أهل العلم بالنحو ، وممن له حال جليلة ذكره الطّبني فيما حكاه ابن الأبار.

١٨٨ ـ ومنهم أبو الحسن جابر بن أحمد بن عبد الله ، الخزرجي ، القرطبي ، وكناه بعضهم أبا الفضل.

سمع ببلده من أبي محمد بن عتاب وغيره ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وكان أديبا ناظما ، كتب عنه أبو محمد العثماني بالإسكندرية بعض شعره.

١٨٩ ـ ومنهم أبو الحسن جهور بن خلف بن أبي عمر بن قاسم بن ثابت المعافري.

رحل حاجا إلى المشرق فأدى الفريضة ، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السّلفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وسمع أيضا من غيره ، وطال مكثه هنالك ، وهو ـ فيما رجحه بعضهم ـ من أهل غرب الأندلس.

١٩٠ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن حفص بن الحسن ، البهراني ، الأندلسي.

رحل وتجول ببلاد المشرق ، فسمع أبا محمد عبد الله بن حمّويه وأبا حامد أحمد بن محمد بن رجاء بسرخس ، وأبا محمد بن أبي شريح بهراة ، وأبا عبد الله الحسين بن عبد الله المفلحي بالأهواز ، وأبا بكر أحمد بن جعفر البغدادي وأبا حامد أحمد بن الخليل وأبا حاتم حامد بن العباس وأبا محمد الحسن بن رشيق بمصر ، وقدم دمشق فروى عنه من أهلها تمام بن محمد ، وبنيسابور أحمد بن منصور بن خلف المغربي وغيره.

١١٩

ذكره ابن عساكر وقال : أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن علي بن فطيمة وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالا : أنا أبو بكر أحمد بن منصور أنا أبو علي الحسن بن جعفر القضاعي ، وأنا الحسن بن رشيق بمصر ، أنا المفضل بن محمد الجندي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم ، ولا يحمل العلم عمن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم ، ولا يحمل عمن يكذب في حديث الناس ، وإن كان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا ؛ لأن الحديث والعلم إذا سمع من العالم فقد جعل حجة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى ، وإنما قال فيه «القضاعي» لأن بهراء من قضاعة.

١٩١ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد ، الأموي.

من أهل دانية ، ويعرف بابن برنجال ، سمع من أبي بكر بن صاحب الأحباس وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما ، وله رحلة حج فيها وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي ، وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة خمس وستين وأربعمائة ، وبعسقلان من أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد التّجيبي ، وأخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه ، وكان فقيها على مذهب مالك ، وولي الأحكام ببلده ، وحدّث ، وأخذ عنه ، وسمع الناس منه بالإسكندرية سنة تسع وستين ، ثم بدانية سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة ، وتوفي في نحو الخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

١٩٢ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن إبراهيم بن محمد بن تقي (١) ، الجذامي ، المالقي.

روى بقرطبة عن أبي محمد بن عتّاب ، وعن أبي سكّرة الصّدفي بمرسية سنة ثمان وخمسمائة ، وصحب أبا مروان بن مسرّة ، وكان من أهل الرواية والتقييد ، وكانت له رحلة سمع فيها من أبي طاهر السّلفي مجالسه التي أملاها بسلماس برجب سنة خمس عشرة وخمسمائة حسبما ألفى بخط السلفي ، وفي رحلته لقيه أبو علي الحسن بن علي البطليوسي نزيل مكة ، وحدّث عنه أبو طالب أحمد بن مسلم المعروف بالتّنوخي من أهل الإسكندرية بكتاب «الاستيعاب» لابن عبد البر ، وأجاز له إجازة عامة في السنة السابقة ، وقال ابن عساكر في تاريخه ، وذكر أبا ذر (٢) الهروي : سمعت أبا الحسن علي بن سليمان المرادي الحافظ

__________________

(١) هكذا في ب ، ه : وفي التكملة ص ٢٥٨ ، وابن عساكر. وفي ج : بقي.

(٢) كذا في ب ، ج. وفي ه : «وذكر أبو ذر» وليس بشيء ، لأنه جملة «وذكر أبا ذر» جملة حالية اعترضت بين فعل القول والمقول وفاعل ذكر ضمير مستتر يعود على ابن عساكر. وأبا ذر مفعول به.

١٢٠