إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢٨

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

ومنها

قول محمد بن إدريس الشافعي

ذكره جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم العلامة أبو بكر محمد بن إسماعيل بن خلف بن خلقون الاشبيلي المتوفى سنة ٦٣٦ في «أسماء شيوخ مالك بن أنس» (ص ٦٧ ط مكتبة الثقافة الدينية ، بور سعيد الظاهر) قال :

قال ابن أبي حاتم : نا أحمد بن سلمة ، قال : سمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يقول : قلت للشافعي : كيف جعفر بن محمد عندك؟ قال : ثقة ـ في مناظرة جرت بينهما.

ومنها

قول عمر بن المقداد

ذكره جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الفاضل الأمير أحمد حسين بهادر خان الحنفي البريانوي الهندي في كتابه «تاريخ الأحمدي» (ص ٣٢٧ ط بيروت سنة ١٤٠٨) قال :

وفي حلية الأولياء لأبي نعيم عن عمر بن المقداد قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.

ومنها

قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

٤٤١

فمنهم الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» حوادث سنة ١٤١ ـ ١٦٠ (ص ٨٩ ط بيروت سنة ١٤٠٧) قال :

وقال ابن عقدة : ثنا جعفر بن محمد بن حسين بن حازم ، حدثني أبو نجيح إبراهيم ابن محمد ، سمعت الحسن بن زياد الفقيه ، سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر ، لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إلي فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهيئ لنا من مسائلك الصعاب ، فهيأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إلي المنصور فأتيته ، فدخلت ، وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثم التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا؟ قال : نعم هذا أبو حنيفة ، ثم أتبعها : قد أتانا ، ثم قال : يا أبا حنيفة هات من مسائلك فاسأل أبا عبد الله ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن ـ يريد أهل البيت ـ نقول كذا وكذا ، فربما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معا ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة ، ثم يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس بالاختلاف.

ومنهم العلامة صدر الأئمة صدر الدين أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي أخطب خطباء خوارزم في «مناقب أبي حنيفة» (ج ١ ص ١٤٨ ط دار الكتاب العربي ، بيروت) قال :

وبه قال عن الحسن بن زياد اللؤلؤي ، سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق ، لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ـ فذكر مثل ما تقدم عن الحافظ الذهبي.

٤٤٢

ومنهم العلامة أبو أحمد عبد الله بن محمد الحنفي المتوفى سنة ٣٦٥ في «الكامل في الرجال» (ج ٢ ص ٥٥٦) قال :

حدثنا ابن سعيد ، حدثنا جعفر بن محمد بن حسن بن حازم ، حدثنا أبي إبراهيم بن محمد الزماني أبو نجيح ، سمعت حسن زياد يقول : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد ، لما أقدمه المنصور ـ فذكر مثل ما تقدم عن الذهبي بعينه.

ومنهم الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه «أئمة الفقه التسعة» (ج ٢ ص ٩٠ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب) قال عند ذكر الإمام أبي حنيفة النعمان :

لزم الإمام جعفر الصادق سنتين تعلم فيهما الكثير ، وإن اختلفا من بعد ، حتى قال أبو حنيفة النعمان : لو لا السنتان لهلك النعمان.

وقال أيضا في ج ١ ص ١٦٦ عند ذكر الشافعي :

والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق ، وتعلم منهم بعض فقه الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه ، وتعلم من مذهب الإمام الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الاستنباط حين لا يكون نص ، العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الاتباع ولا التقليد.

وتعلم من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم.

ومنهم الفاضل الأمير أحمد حسين بهادر خان الحنفي البريانوي الهندي في «تاريخ الأحمدي» (ص ٣٢٧ ط بيروت سنة ١٤٠٨) قال :

وفي تذكرة الحفاظ للذهبي عن أبي حنيفة قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.

٤٤٣

ومنها

قول هياج بن بسطام

نقله جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» حوادث سنة ١٤١ ـ ١٦٠ (ص ٨٩ ط بيروت سنة ١٤٠٧) قال :

وقال هياج بن بسطام : كان جعفر بن محمد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء.

ومنها

قول أبي حاتم

نقله جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الحافظ المذكور في الكتاب المزبور (في الصحيفة الماضية) قال :

قال أبو حاتم : ثقة لا يسأل عن مثله.

ومنها

قول ابن معين

نقله جماعة من الأعلام في كتبهم :

فمنهم الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» حوادث سنة ١٤١ ـ ١٦٠

٤٤٤

(ص ٨٨ ط بيروت سنة ١٤٠٧) قال :

روى عباس الدوري عن ابن معين قال : جعفر بن محمد ثقة مأمون.

ومنها

قول الحافظ الشيخ زين الدين العراقي

نقله في «شرح الألفية المسماة بالتبصرة والتذكرة» له أيضا (ج ١ ص ٣١ ط دار الكتب العلمية ، بيروت) قال فيه :

فنقول وبالله التوفيق : إن أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي إذا كان الراوي عن جعفر ثقة.

ومنها

قول الحافظ ابن شاهين

نقله في كتابه «تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم» (ص ٨٥ ط دار الكتب العلمية في بيروت سنة ١٤٠٦) قال فيه :

جعفر بن محمد الصادق : ثقة مأمون ، قاله يحيى ، وسئل عثمان بن أبي شيبة عنه ، فقال : مثل جعفر لا يسأل عنه ، هو ثقة إذا روى عنه الثقات.

ومنها

قول الحافظ العجلي

نقله في «تاريخ الثقات» ترتيب الحافظ الهيثمي (ص ٩٨) قال فيه :

٤٤٥

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، ولهم شيء ليس لغيرهم ، خمسة أئمة : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

حدثني حسين الجعفي ، عن حفص بن غياث قال : قدمت البصرة ، فقالوا : لا تحدثنا عن ثلاثة : جعفر بن محمد ، وأشعث بن سوار ، وأشعث بن عبد الملك ، فقلت : أما جعفر بن محمد فلم أكن لأدع الحديث عنه ، لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفضله.

ومنها

قوله الفاضل الدكتور عبد المعطى قلعجي في «تعليقه على تاريخ الثقات» (ص ٩٨) قال :

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو عبد الله الصادق : روى عنه شعبة ، والسفيانان ، ومالك ، وابن جريج ، وأبو حنيفة ، وخلق كثير ، ولا يسأل عن عدالته فهو الثقة ابن الثقة ، ذكره ابن حبان في الثقات فقال : كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا ، يحتج بحديثه.

وقال أيضا في تعليقات «تاريخ أسماء الثقات» لابن شاهين ص ٨٥ مثل ذلك.

ومنها

قول أبي زهرة

في كتابه «الميراث عند الجعفرية» (ص ٣٤ ط دار الرائد العربي ، بيروت) قال :

والإمام جعفر الصادق هو ابن الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ، من فاطمة سيدة نساء العالمين ، كما قال سيد المرسلين ، وهي

٤٤٦

بنت محمد ، وهي التي بقيت منها العترة النبوية والسلالة المحمدية ، ففي أولادها وذريتها إلى يوم القيامة العبقة النبوية والسلالة الهاشمية ، إن صحت النسبة واستقاموا على الجادة.

ولد الإمام جعفر سنة ٨٣ ، وقيل سنة ٨٠ ، وتوفي سنة ١٤٨ ، فسنه قريبة من سن الإمام أي حنيفة ، وإن كان يعد من شيوخ أبي حنيفة ، فقد روى عنه وعن أبيه محمد الباقر.

وجعفر الصادق إمام ابن إمام ، حتى تنتهي السلسلة إلى الإمام علي بن أبي طالب الذي قال عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه أقضى أصحابه ، وهو الذي كان يحل كل معضلة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، حتى لقد كان يقول عمر عند ما تكون معضلة ، مسألة ولا أبا حسن لها.

بيئة كريمة :

ولسنا ممن يقول إن العلم ينتقل بالوراثة ، ولكنا نقول إن العرق دساس ، وإن الرجل الذي ينبت في منبت العلم ، ويتوارث ذكر العلم كابرا عن كابر ، لا بد أن يكون فيه نزوع إليه ، واتجاه نحوه ، فإن وجد البيئة الصالحة والفراغ الذي يشغله بالعلم ، ولا يشغل عنه بشاغل آخر ، فإنه لا بد أن ينتج في العلم ويثمر ، والإمام جعفر الصادق ، هو غصن كبير من أغصان تلك الدوحة الهاشمية التي انصرفت في العصر الأموي والعباسي إلى العلم تزجي به الفراغ ، وتعمل فيه بما يتفق مع شرف النسبة ، والانتماء إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

جمعه بين علم المدينة وعلم العراق :

وقد تهيأت لجعفر الصادق نشأة علمية ، وبيئة علمية ، فأبوه محمد الباقر بن علي زين العابدين كان إماما من أئمة العلم بالمدينة يؤخذ عنه في الفتيا ويرجع إليه ، وقد

٤٤٧

التقى فيه شرف النسب ، وشرف النفس ، والعزة الهاشمية ، مع العلم الذي انصرف إليه ، ولم يجد عملا له دون سواه. وقد قالوا إنه لقب بالباقر لأنه لما اشتهر بالعلم ونفاذ البصيرة فيه قيل كأنه بقر العلم أي شقه ووصل إلى لبابه وأقصى غايته. وعمه الإمام زيد بن علي أستاذ أبي حنيفة ، وصاحب واصل بن عطاء ، كان عالما في الفقه وفي العقائد ، وحسبك أن أبا حنيفة شيخ الفقهاء قد أخذ عنه. وابن عمه عبد الله بن حسن كان إماما في الفقه والحديث ، وقد أخذ عنه أبو حنيفة أيضا. فالإمام جعفر نشأ في ذلك البيت العلمي ، وكان مقامه مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كانت مثابة الحديث ، وفقه الصحابة والتابعين ، ولذلك كان من أعلم الناس بأقوال العلماء وقد علم فقه الأثر ، وفقه الرأي معا ، ولقد قال أبو حنيفة في مقدار علمه «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق». وقد روي أن أبا جعفر المنصور قال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهيئ من المسائل الشداد ما تسأله به ، فهيأ له أربعين مسألة ، وإن أبا حنيفة يقول في لقائه وعرض هذه المسائل : «أتيته فدخلت عليه (أي على أبي جعفر المنصور) وجعفر بن محمد جالس عن يمينه فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلمت عليه ، وأومأ فجلست ، ثم التفت إليه ، فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال : نعم ، ثم التفت إلي فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله مسائلك ، فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعهم ، وربما خالفنا ، حتى أتيت على الأربعين مسألة ، ما أخل منها مسألة واحدة. ثم قال أبو حنيفة : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

فإذا كان قد تلقى العلم بالمدينة ، فهو لم ينقطع عن علم العراق ، بل كان يعرفه كما حكى شيخ فقهاء العراق وإمام القياسين في الفقه الإسلامي.

٤٤٨

علاقته بالسياسة في عصره :

ولقد كان أبو عبد الله كأبيه محمد الباقر ممن لم تشغل السياسة العملية حيزا كبيرا من تفكيرهم فيما يظهر ، بل انصرف إلى العلم كأبيه ، ولم يشغل هو ولا أبوه أنفسهما بالسياسة العملية ، كما فعل عمه زيد ، وكما فعل أولاد عمه إبراهيم ومحمد النفس الزكية أولاد عبد الله بن حسن.

وكان في آرائه السياسية كأبيه معتدلا غير مغال ، وقد كان أبوه ينهى عن سب الشيخين أبي بكر وعمر ، وعن سب ذي النورين عثمان رضي‌الله‌عنهم ، ويروى أنه ذكر بحضرته بعض أهل العراق هؤلاء الأئمة الثلاثة بسوء ، فغضب وقال لهم مؤنبا : أنتم من المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم! قالوا : لا. قال : فأنتم من الذين تبوءوا الدار والإيمان! قالوا : لا. قال : ولستم من الذين جاءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، قوموا عني ، لأقرب الله داركم ، تقرون بالإسلام ، ولستم من أهله.

التزامه محراب العلم :

ولقد كانت الأحوال في العصر الذي عاش فيه الإمام جعفر تجره إلى السياسة جرا شديدا ، ولكنه استعصم ولم يسر في تيارها العملي ، كما فعل عمه ، وأبناء عمومته من أولاد الإمام عبد الله بن الحسن رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

ومنها

قول الشيخ أحمد محيي الدين العجوز

في كتابه «مناهج الشريعة الإسلامية» (ج ٣ ص ١١٤ ط مكتبة المعارف ، بيروت) قال :

مذهب الإمامية وهم الذين يعتقدون بإمامة اثني عشر من آل البيت النبوي ،

٤٤٩

والإمامية أكبر طوائف الشيعة وينتشر مذهبهم في إيران ، ثم العراق ، ثم لبنان.

وإمامهم في الفقه وأحكامه الإمام جعفر بن محمد الصادق وهو الإمام السادس من أئمة أهل البيت الكرام ، كان رضي‌الله‌عنه من كبار المجتهدين ، ومن العلماء الزهاد ، الذين يخشون الله تعالى ، فهو ذو علم غزير في الدين ، وأدب كامل وحكمة رفيعة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات.

وكما كان من كبار المجتهدين في أحكام الشريعة السمحة ، ومرجع علماء الشرع في زمانه ، كان عالما جليلا في الزجر والفال ، ولا سيما علم الكيمياء.

فقد كان فيه على باع واسع ، ومعرفة دقيقة وبراعة فائقة. وقد تلقى عنه علم الكيمياء جابر بن حيان ، فبرع في الأركان الأربعة ، والموازين والخمائر الكبيرة ، والمزج والإصباغ وخواص المعادن وطبائعها والعلم الإلهي وما بعد الطبيعة.

وقد ألف الإمام جعفر الصادق كتابا في الكيمياء يقع في ألف ورقة في القرن الأول الهجري.

وكان يقال له : شيخ الكيميائيين.

كان مقامه في المدينة المنورة في أكثر الأحيان ، ثم رحل إلى الكوفة ، وأقام فيها حينا.

وقد أخذ عن الإمام جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه الإمام مالك في المدينة ، وقال عنه : إنه كان من العلماء الزهاد الذين يخشون الله.

وأخذ عنه أيضا الإمام أبو حنيفة في الكوفة ، وقال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق.

ومنهم الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه «أئمة الفقه التسعة» (ج ١ ص ٢٧ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب) قال :

لم يجمع الناس على حب أحد في ذلك العصر كما أجمعوا على حب الإمام جعفر

٤٥٠

ابن محمد الذي اشتهر فيهم باسم جعفر الصادق.

ذلك أنه كان صافي النفس ، واسع الأفق ، مرهف الحس ، متوقد الذهن ، كبير القلب ، يلتمس في غضبه الأعذار للآخرين ، حاد البصيرة ، ضاحك السن ، مضيء القسمات ، عذب الحديث ، حلو المعشر ، سباقا إلى الخير ، برا طاهرا.

وكان صادق الوعد ، وكان تقيا.

هو من العترة الطاهرة عترة رسول الله (ص) .. جده لأمه هو أبو بكر الصديق وجده لأبيه هو الإمام علي بن أبي طالب ، وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره.

ولد في المدينة سنة ٨٠ هو مات فيها سنة ١٤٨ ه‍.

وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة ، والعلم الغزير ، وإشراقاته الروحية ، واستنباطه العقلي.

وكان مع جلال هذا الحسب متواضعا لله ، يلتقي في أعماقه علم الصاحبين العظيمين وصلاحهما وحسن بلائهما ، وتراث تقواهما ، ولا يزدهيه على الرغم من ذلك كبرياء من يجمع في نفس واحدة أطراف ذلك المجد كله ، وتلك الروعة كلها.

وعى منذ طفولته نصيحة أبيه الإمام محمد الباقر «ما دخل في قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله».

تعهده وهو صغير جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر بقدر ما تعهده جده لأبيه علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فإذا به وهو صبي يحفظ القرآن ويتقن تفسيره ، ويحفظ الأحاديث والسنة من أوثق مصادرها عن آل البيت ، تواترا عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعن الصديق رضي‌الله‌عنه وعن سائر الصحابة من رواة الأحاديث الصادقين.

وأتاح له توفر هذه المصادر جميعا أن يتقن دراسة الحديث وفهمه ، وأن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي.

٤٥١

ثم نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه لأنه يزلزل أركان الاستبداد ، فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون في إخفاء ما رواه علي بن أبي طالب من السنة.

وانتهى نظر الإمام جعفر إلى أنه لا يوجد حديث شريف يخالف أو يمكن أن يخالف نصوص القرآن الكريم ، وأن كل ما ورد من أحاديث مخالفا لكتاب الله فهو موضوع ينبغي ألا يعتد به.

وكان عصره متوترا مشوبا بالأسى ، تخضب الرايات المنتصرة فيه دماء الشهداء من آل البيت ، ويطغى الأنين الفاجع على عربدة الحكام.

كان عصر الفتوحات الرائعة ، والفزع العظيم والدموع.

فالدولة الأموية تضع العيون والأرصاد على آل البيت منذ استشهاد الإمام الحسين ابن علي في كربلاء.

وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم ، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة.

استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين أبي الشهداء ، وبكاه الإمام جعفر أحر البكاء.

وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار : أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام ، وأنظار الحكام على السواء.

عرف منذ مطلع صباه أن الإمام عليا بن أبي طالب رئيس البيت العلوي يلعن على المنابر في مساجد الدولة في صلاة الجمعة. وعلى الرغم من أن أم المؤمنين أم سلمة كانت قد أرسلت إلى معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له : إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون عليا بن أبي طالب ومن يحبه ، وأشهد أن الله ورسوله يحبانه. على الرغم من تلك النصيحة فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر ، وتلعن معه زوجه فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.

٤٥٢

وسمع جعفر هذه اللعنات طيلة صباه وجزء من صدر شبابه ، حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فتبرأ إلى الله من هذا العار ، وكان يحمل للإمام علي ابن أبي طالب ما يحمل لغيره من الخلفاء الراشدين الثلاثة من إجلال وتوقير. وأمر الخطباء أن يتلوا ـ بدلا من لعن علي في ختام خطبة الجمعة ـ الآية الكريمة التي ما زالت تتلى إلى الآن : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وطابت نفس جعفر كما طابت نفوس الصالحين وأهل التقوى والعلم بما صنعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، وأعلن الإمام جعفر في مجلسه إعجابه بالخليفة عمر سبط عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وكان الإمام جعفر منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد ، كان قد أخذ بمبدإ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية ، اتقاء شرهم ، وحذر للفتنة ، وهم إذ ذاك غلاظ شداد على من لا يوالونهم.

فآثر أن يهب نفسه للعلم ، وألا يفكر في النهوض والإقضاض على السلطان الجائر ، حقنا لدماء المسلمين.

ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية ، وتزكيهم وتحركهم إلى الدفاع عن حقوق الإنسان التي شرعها الإسلام وإلى حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة.

وكان قد تعلم من جده الإمام علي زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول (ص) أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله ، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء.

وكان قد رأى جده الإمام زين العابدين رضي‌الله‌عنه يخطو في المسجد حتى يجلس في حلقة أحد الفقهاء من غير آل البيت ، فيقول له أحد الحاضرين : غفر الله لك أنت سيد الناس. وتأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا

٤٥٣

العبد الأسود. فيرد زين العابدين : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع وان العلم يطلب حيث كان.

ولقد وعى الصغير دلالة هذا كله ، وانتفع به طيلة حياته. ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين ، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله

نصائح أبيه «إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر ، إنك إن كسلت لم تؤد حقا ، وإن ضجرت لم تصبر على حق» ، «إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد» ، «إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا ، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص». ثم وصيته «ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق : الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة ، والبخيل يقطع المال حين الحاجة ، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد ، والأحمق يريد أن ينفع فيضر ، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله».

مضى الإمام جعفر الصادق ـ وقد ورث الإمامة عن أبيه ـ بكل ما تعلمه من أبيه وجديه يخوض غمرات الحياة المضطربة .. وفي تلك الأيام عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة شابا ورعا يتفكر في خلق السموات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي ، يرفض الإشتغال بالسياسة اتقاء البطش ، على وجهه شعاع من نور النبوة.

وهداه عكوفه على دراسة القرآن والحديث إلى أن واجب المسلم أن يؤمن عن اقتناع وتدبر وتفكر في ظواهر الحياة والكون ، فهي دليله إلى الإيمان بوحدانية الله.

وهداه هذا التفكير إلى الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس ، وتحرر الفكر ، وتهديه إلى الإيمان العميق الحق الراسخ.

وتتلمذ عليه جابر بن حيان ، وكان أبوه شيعيا قتل دفاعا عن الحقيقة وفي حب آل

٤٥٤

البيت ، فاصطنع الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم ، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس .. وخصص له وقتا في كل يوم يتدارسان فيه علوم الطبيعة والكيمياء والطب ، وكشف له من تبصره بالفقه كثيرا من المعارف العلمية وهداه بالمعارف العلمية إلى التمكن من الفقه.

وعلم وهو في المدينة أن في العراق مذاهب تدعو إلى الإلحاد والزندقة ، فخرج يناقش زعماء هذا المذهب ، لم يقعد مكتفيا بالحكم عليهم بالكفر ، أو يصب اللعنات عليهم ، بل ناقشهم بمنطقهم ، ليثبت لهم وجود الله ، وقادهم مما يعلمون إلى ما لا يعلمون.

واشتهر في ذلك الزمان طبيب هندي برع في علوم الطب والصيدلة ، فحرص الإمام جعفر على أن يلتقي به ويتعرف إلى علمه ، وتبادلا المعارف معا ثم أخذ يحاوره في الإسلام وفي إثبات وجود الله.

بهذه الحكمة والموعظة الحسنة عاش الإمام جعفر يدعو إلى سبيل ربه فأقنع كثيرا من الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين بالإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأضافوا بفكرهم ثراء إلى الفقه وإلى العلوم في ذلك الزمان.

آمن بالتجربة والنظر العقلي والجدل طريقا إلى الإيمان وسلحته معرفته الواسعة العميقة بالعلوم في الاستدلال والإقناع ، وجذب أصحاب العقول المبتكرة إلى الدين ، وهو مع انشغاله بكل ذلك ، كان يتحرى أحوال الناس ، ويحمل على كتفه جرابا فيه طعام ومال فيوزع على أصحاب الحاجة ، دون أن يدع أحدا يعرف على من يتصدق.

ولكم أساء إليه بعض صنائع الحكام الذين خشوا التفاف الناس حوله فما قابل الإساءة إلا بالإحسان ، وهو يردد قول الله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

وفي الحق أنه استطاع أن يحول كل الذين دسوا عليه ليسيئوا إليه إلى أولياء

٤٥٥

حميمين.

كان يزدري الانتقام ويعلم الناس فضيلة العفو مرددا قول جده رسول الله (ص) «ما زاد عبد بالعفو إلا عزا».

ولكن أقارب جعفر لم يتركوه لما هو فيه من علم ودراسة ليؤدي دوره في تنوير العقول ، فقد حاولوا أكثر من مرة أن يقحموا عليه السياسة.

ودعوه إلى الثورة على الدولة الأموية ، واجتمعت عليه الألسنة تلح ليتولى أمر الخلافة ، فرفض وصرفهم عما هم آخذون فيه.

فعادوا يطالبونه بالبيعة لواحد منهم ولكنه لم يوافق.

وكانت الثورة ضد حكم الدولة الأموية تشتد ، ووميض النار خلل الرماد يوشك أن يكون له ضرام.

وكان بعض المنتسبين إلى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني أمية وزينوا لهم الاستبداد وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض ، وأنهم لا يسألون عما يفعلون.

وقد ساء رأي الناس في هذه الفئة من المنتسبين إلى الفقه والعلم ، لأنهم باعوا شرفهم بالمناصب والجاه.

وكان الصادق من أكثر الناس حرصا على حماية الأمة من سموم هؤلاء المرتزقة.

وفي الحق أن الحكام الأمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين ، فيجزلون لهم العطاء ويولون بعضهم.

وكان بعض هؤلاء الولاة يحب أن يبدو فقيها عالما على الرغم من جهله المركب ، وقد تعود أحد هؤلاء المرتزقة المنافقين أن يتقرب إلى الخليفة الأموي بلعن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وسب فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها .. بعد أن كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد أبطل تلك الأحدوثة الشائنة : سب علي وفاطمة! ولكن عمر بن عبد العزيز كان قد مات بكل عدله وحزمه وصفائه ، وما بقي في الدولة

٤٥٦

من رجال إلا هذا الصنف من الضالين وصناع الضلال.

وعرف الصادق أن ذلك الفقيه المرتزق الذي كان قد كوفئ بتعيينه واليا ، ما زال يسب عليا وفاطمة ويهدد الناس إن خالفوه ، والناس قد أسكتهم الخوف.

وإذ بالإمام الصادق يذهب ويستمع له ثم ينتفض مقاطعا المنافق المرتزق ويكشف للناس جهله ونفاقه ، ويوضح للناس وهو يعظهم أن مثل هذا المنافق الذي يبيع شرفه وضميره بالمنصب أو بالجاه أو المال ، ويبيع آخرته بدنياه ، إنما هو ضال مضلل وهو أبين الناس خسرانا يوم القيامة ، وأن محض افتراءاته وكشف جهله واجب.

حقا .. ما كان الإمام الصادق يستطيع أن يسكت عن كل هذا التزييف على أنه ما من شيء كان يوجع الإمام الصادق مثل انحدار الذين ينتسبون إلى العلم والثقافة والفقه والدين إلى حضيض النفاق ، والمراءاة ، والانحناء ، وبيع الضمير.

وما كان أنشط النخاسين في التقاط من ارتضوا أن يصبحوا عبيدا وإماء .. لقد شعر الإمام الصادق منذ استشهاد عمه الإمام زيد أنه يعيش في نهاية عصر.

إنها نهاية عصر .. حقا ..!

وانتهى العصر ..

سقطت دولة بني أمية وأرسل الثوار إلى جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة.

وجاءته الرسالة وهو مشغول في تأملاته ودراساته وتجاربه فأحرق الرسالة ولم يرد.

كان يحلق في سماء المعرفة ، يضرب في أغوار العلم ، ويشعر أنه أقوى من الملك .. أي ملك في الأرض. وأنه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس.

كان يقول : من طلب الرياسة هلك.

على أن الرياسة ظلت تطلبه وهو يرفض.

وإذ رفض الخلافة بايع الناس أبا العباس حفيد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب

٤٥٧

وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين.

وتأمل الإمام الصادق فيمن يحيط بالخليفة الجديد.

لقد انتهى عصر ... هذا حق ..

انتهى بكل خيره وشره ، وجاء عصر جديد يتطلع فيه الناس إلى الحرية ، والنظافة ، والطهارة ، والعدل ، فإذا بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة ، الدولة العباسية.

ومات أبو العباس ، وورثة الخليفة المنصور وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون بالخليفة الثاني في العصر الجديد. وإذ بهم يوسوسون له بالآراء نفسها ، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض ، حتى لقد جعلوا المنصور يحمل الناس على تقبيل الأرض بين يديه ، أنهم أشباه رجال اشتهر عنهم الجهل والتخلف والغباء والحمق ووجهوا كل نشاطهم للنفاق. نفوس كريهة زرية مهينة محتقرة.

وحكم الصادق على العهد الجديد بمن يمثلونه ويفيدون منه.

أي أمل للناس في الخليفة وقد أصبحت الشورى لذوي الضمائر المتهرئة والألسنة المستهلكة؟ لقد مضوا يدعون إلى التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلى الناس باسم الدين ، لينصرف المستبدون إلى جمع المال ، وينصرفوا هم إلى الارتزاق.

لقد شرعوا للبغي وأحدثوا خرقا في الإسلام.

لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله ، بل بالزهد في كل شيء ، والانصراف عن كل حق.

ثم وصل فجور هؤلاء المرتزقة إلى آخر مدى فوضعوا الأحاديث النبوية لخدمة الطبقة الحاكمة حتى الأحاديث الشريفة لم تسلم من تزييفهم.

وعلى الرغم من كل هذه المظالم ، وعلى الرغم مما عاناه الإمام جعفر من آلام وهو يعيش محنة خيبة الأمل في النظام الجديد ، فإنه ظل آخذا بالتقية قائلا : التقية ديني ودين آبائي. والتقية ألا يجهر المرء بما يعتقد اتقاء للأذى أو حتى تتحسن

٤٥٨

الظروف. والأصل في التقية هو قول الله تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً).

وكان الخليفة المنصور قد غالى في القسوة على مخالفيه ، ومنهم بعض آل البيت من العلويين والإمام الصادق يسكت تقية ، ولكنه آثر مع ذلك أن ينصح الخليفة بالحسنى فقال له : عليك بالحلم فإنه ركن العلم. فإن كنت تفعل ما تقدر عليه كنت كمن أحب أن يذكر بالصولة. واعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل.

وهكذا مضى الإمام الصادق يؤدي دوره في تنوير الناس حكاما ومحكومين .. والخصومة تشجر حول القضاء والقدر ، والجبر والإختيار ، فيقول الإمام للناس : إن الله أراد بنا أشياء ، وأراد منا أشياء ، فما أراده الله بنا طواه عنا ، وما أراده أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا.

وكان هذا لا يروق للطبقة الحاكمة ، ولا للمتنطعين والمرتزقة من المنتسبين إلى العلم والفقه.

ذهب الإمام جعفر الصادق إلى أن القول بالجبر ضد الشرع ، لأنه لا حساب ولا عقاب إذا لم يكن للمرء حرية اختيار ما يفعل.

وإلا فمن أين تنبع المسئولية إن لم تك للإنسان حرية الفعل؟

وهكذا مضى الإمام الصادق بكل إيمانه بدوره ، يعلم الناس بعض ما خفي عنهم من تفسير القرآن ووجد أن الأمراء والولاة يقترفون الظلم ، ويأكلون ما ليس لهم من حقوق الرعية ثم يستغفرون الله ، ويحسبون أن الله سيتوب عليهم ، فمضى يشرح معنى الاستغفار مفسرا بضع آيات من سورة نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) فالاستغفار إذن يجلب السعادة والغنى.

ولكن الاستغفار الحق ليس هو ترديد الكلمة باللسان ، ولكنها توبة القلب ،

٤٥٩

وإعمال العقل ، والعمل الصالح الذي يحقق خير الأمة.

الاستغفار أن تمتثل الأمر لله تعالى بالعدل والإحسان. ذلك أن المرء يجب أن يفكر في الله بكل ما يملك العقل من قدرات ، ليعرف الله ويعرف كيف يتقيه وكيف يحقق أهداف شرائعه وما أهداف الشرائع إلا تحقيق المصلحة للبشر وإعمار الأرض.

ولقد سأله أحد الناس : يا بن بنت رسول الله ، لقد قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فما لنا ندعوه فلا يجيب؟ فقال له الإمام : لأنك تدعو من لا تعرف.

إنه يطالب الناس أن يفكروا ليعرفوا الله .. أن يعرفوا الله بعقولهم ليستقر إيمانهم على أساس وطيد.

كان الإمام على غزارة علمه متواضعا رقيقا مع كل من يعرف ومن لا يعرف ، وكم تلقى من إساءات من بعض الحمقى والأغبياء وذوي النفوس المعقدة أو الضمائر العفنة أو ذوي الفظاظة ، فما قابلها إلا بالابتسام أو بالصبر. كان يتمثل قول الله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

وكان يكره الخصومة ويسعى جهده إلى الصلح فإن عرف أن هناك خصومة على مال تبرع من ماله خفية ليعطى طالب المال ، وكان يقول : لا يتم المعروف إلا بثلاثة : بتعجيله وتصغيره وستره.

ناضل الإمام الصادق لإقرار التسامح الديني ولإرساء قواعد شريفة للتعامل بين المسلمين وأهل الكتاب من نصارى ويهود وكان حربا على التعصب الذي يسيء إلى الشريعة وإلى إنسانية الإنسان.

ذلك أنه وجد بعض المتنطعين والأراذل يحاولون أن يسيئوا معاملة المسيحيين ، فأثبت عليهم مخالفة قواعد الشرع وأوامر الرسول (ص) ، لأن الإسلام أمر المسلمين بأن يتعايشوا مع المسيحيين إخوانا متحابين ، وألا يكرهوا الناس على أن يكونوا مسلمين ، فلا إكراه في الدين.

يجب أن يترك أهل الكتاب وما يدينون به فقد نهى الإسلام عن إثارة الفتنة في

٤٦٠