إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢٨

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

القريب القرابة وأنت ذو الرحم الواشجة والسليم الناحية القليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأجلسه معه على فراشه ، وأقبل يسائله ويحادثه ، ثم قال : عجلوا لأبي عبد الله إذنه وجائزته وكسوته. فلما خرج أمسكه الربيع وقال له : رأيتك قد حركت شفتيك فانجلى الأمر ، وأنا خادم السلطان ولا غنى لي عنه ، فعلمني إياه. فقال : نعم ، قلت : اللهم احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بحفظك الذي لا يرام ، لا أهلك وأنت رجائي ، فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ عندها شكري فلم تحرمني ، وكم من بلية ابتليت بها قلّ عندها صبري فلم تخذلني ، اللهم بك أدرأ في نحره وأعوذ بك من شره.

دعاء آخر له عليه‌السلام

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الفاضلان المعاصران الشريف عباس أحمد صقر والشيخ أحمد عبد الجواد المدنيان في «جامع الأحاديث» القسم الثاني (ج ٩ ص ٦٤٣ ط دمشق) قالا :

عن عامر بن صالح قال : سمعت الفضل بن الربيع يحدث عن أبيه الربيع قال : قدم المنصور المدينة فأتاه قوم فوشوا بجعفر بن محمد ، وقالوا : إنه لا يرى الصلاة خلفك ، ويتنقّصك ولا يرى التسليم عليك ، فقال : يا ربيع ائتني بجعفر بن محمد ، قتلني الله إن لم أقتله ، فدعوت به ، فلما دخل عليه كلّمه إلى أن زال عنه الغضب ، فلما خرج قلت له : يا أبا عبد الله همست بكلام أحببت أن أعرفه ، قال : نعم ، كان جدي علي بن الحسين رضي‌الله‌عنه يقول : من خاف من سلطان ظلامة أو تغطرسا فليقل : اللهم احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بكنفك الذي لا يرام ، واغفر لي بقدرتك عليّ ، فلا تهلكني وأنت رجائي ، فكم من نعمة أنعمت بها علي قلّ لك عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري ، يا من قلّ عند نعمته شكري فلم يحرمني ،

٣٤١

ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني ، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني ، ويا ذا النعماء التي لا تحصى ، ويا ذا الأيادي التي لا تنقضي ، أستدفع مكروه ما أنا فيه ، وأعوذ بك من شرّه يا أرحم الراحمين (ابن النجار).

دعاء آخر له عليه‌السلام

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم العلامة جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري في «مختصر تاريخ مدينة دمشق» (ج ٨ ص ٣٢١ ط دار الفكر بدمشق) قال :

قال رزام (أبو القسر الكاتب مولى خالد القسري): بعث بي المنصور إلى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، فلما أقبلت به إليه والمنصور بالحيرة وعلونا النجف ، نزل جعفر بن محمد عن راحلته فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فصلى ركعتين ، ثم رفع يديه. قال رزام : فدنوت منه فإذا هو يقول : اللهم بك أستفتح وبك أستنجح وبمحمد عبدك ورسولك أتوسل ، اللهم سهّل حزونته وذلّل لي صعوبته وأعطني من الخير أكثر مما أرجو واصرف عني من الشرّ أكثر مما أخاف.

ثم ركب راحلته ، فلما وقف بباب المنصور وأعلم أصحابه فتحت له الأبواب ورفعت الستور ، فلما قرب من المنصور قام إليه فتلقاه وأخذ بيده وما شاه حتى انتهى به إلى مجلسه ، فأجلسه فيه ، ثم أقبل عليه يسأله عن حاله ، وجعل جعفر يدعو له ، ثم قال : قد عرفت ما كان مني في أمر هذين الرجلين يعني محمدا وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن وبري كان بهما واستخفيا عني وأخاف أن يشقّا العصا وأن يلقيا بين أهل هذا البيت شرّا لا يصلح أبدا ، فأخبرني عنهما. فقال له جعفر : والله لقد نهيتهما فلم يقبلا ، فتركتهما كراهة أن أطلع على أمرهما ، وما زلت خاطبا في جعلك مواظبا على طاعتك. قال صدقت ، ولكنك تعلم أنني أعلم أن أمرهما لن يخفى عنك ولن تفارقني إلا أن

٣٤٢

تخبرني به. فقال له : يا أمير المؤمنين أفتأذن لي أن أتلو آية من كتاب الله عليك فيها منتهى عملي وعلمي. قال : هات على اسم الله. فقال جعفر : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

قال : فخرّ أبو جعفر ساجدا ثم رفع رأسه فقبّل بين عينيه وقال : حسبك ، ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء حتى كان من أمر إبراهيم ومحمد ما كان.

ومنهم الفاضل المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» (ص ٩١ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة) قال :

أرسل إليه أبو جعفر ذات يوم رزام بن قيس يدعوه للقائه ـ فذكر مثل ما تقدم عن «المختصر».

دعاء له عليه‌السلام

لدفع شر المنصور

رواه جماعة من الأعلام في كتبهم :

فمنهم العلامة أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي القيرواني المغربي المالكي المولود سنة ٢٥١ والمتوفى سنة ٣٣٣ في كتابه «المحن» (ص ٣٦٣ ط دار المغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٣) قال :

قال أبو العرب : بلغني أن أبا جعفر المنصور بعث في طلب أبي عبد الله جعفر بن محمد فأتي به إليه من المدينة ، فأتى الفضل بن الربيع حاجب أبي جعفر فقال لأبي عبد الله : إن أمير المؤمنين متغيظ عليك ، فدخل وهو يحرك شفتيه ، فلما رآه أبو جعفر نهض إليه واعتنقه وأجلسه معه ، ثم عانقه وقال له : يا أبا عبد الله ما هذا الذي يبلغني عنك ، لقد هممت ، فقال له : يا أمير المؤمنين إن أيوب ابتلي فصبر ، وإن سليمان

٣٤٣

أعطي فشكر ، وأنت من ذلك النسيج ، قال : فيرفع إليّ أن الأموال تجبى إليك بلا سوط ولا عصى ، ثم أمر بالرافع فأحضر ، فقال أبو عبد الله : أحقا ما رفعت إلى أمير المؤمنين قال : نعم ، فاستحلفه يا أمير المؤمنين. قال أبو عبد الله رد اليمين عليه ، فقال له أبو جعفر: أحلف ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو ، فقال له أبو عبد الله رضي‌الله‌عنه : ليس هو كذا ، إن العبد إذا مجّد الله في يمينه أمهله بالعقوبة ، ولكن قل : أنا بريء من الله والله بريء مني وأنا خارج من حول الله وقوته راجع إلى حول نفسي وقوتها ، قال : فحلف ، فو الله ما رفع إلا ميتا ، فراع ذلك أبا جعفر وقال : انصرف يا أبا عبد الله فلست أسألك بعدها عن شيء ، فخرج جعفر وتبعه الفضل بن الربيع فسأله : ما الذي كان يحرك به شفتيه ، فلم يفعل ، فسأله رجل من أصحابه عما قال. فقال : قلت : اللهم بك أستفتح وبك أستنتج وبنبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتوجه ، اللهم ذلّل لي حزونته وكل حزونة ، وسهّل لي صعوبته وكل صعوبة ، اللهم أعطني منه من الخير ما أرجو واصرف عني منه من الشر فوق ما أحذر ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومنهم العلامة أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوى المشتهر بابن الشيخ في كتاب «ألف با» (ج ١ ص ٤٨٥ ط عالم الكتب ، بيروت) قال :

ورأيت في كتاب محمد بن شبل ولم أروه ، أنه لما دخل على أبي جعفر حرك شفتيه ، فلما رآه أبو جعفر نهض إليه فاعتنقه وأجلسه معه ، ثم عاتبه وقال له : قد رفع إليّ أن الأموال تجبى إليك بلا سوط ولا عصى ـ فذكر مثل ما تقدم عن كتاب «المحن» وزاد في آخر الدعاء : العلي العظيم.

٣٤٤

طرف من كلماته عليه‌السلام

وصيته لابنه موسى الكاظم

عليهما‌السلام

ذكرها جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الفاضل المعاصر أبو بكر جابر الجزائري في كتابه «العلم والعلماء» (ص ٣٢٩ ط دار الكتب العلمية ، بيروت) قال :

قال جعفر بن محمد لابنه : يا بني اقبل وصيتي ، واحفظ مقالتي فإنك إن تحفظها تعش سعيدا وتمت حميدا. يا بني إنه من قنع بما قسم الله له استغنى ، ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ، ومن لم يرض بما قسم الله عزوجل له اتهم الله تعالى في قضائه ، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره ، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه. يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها ، ومن داخل السفهاء حقّر ، ومن خالط العلماء وقّر ، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بني قل الحق لك وعليك ، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه.

ومنهم الفاضل المعاصر الشريف علي بن الدكتور محمد عبد الله فكري الحسيني

٣٤٥

القاهري المولود بها سنة ١٢٩٦ والمتوفى بها أيضا ١٣٧٢ في «أحسن القصص» (ج ٤ ص ٢٨٢ ط دار الكتب العلمية في بيروت) قال :

قال بعض شيعة جعفر الصادق : دخلت عليه ، وموسى ولده بين يديه ، وهو يوصيه بهذه الوصية ، فحفظتها ، فكان مما أوصى به أن قال : يا بني اقبل وصيتي ـ فذكر الوصية مثل ما تقدم عن كتاب «العلم والعلماء» باختلاف قليل ، وفيه : «ومن استصغر زلة نفسه استصغر زلة غيره» و «انكشفت عورته» ، وليس فيه «عورات بيته» وأيضا فيه «ومن واصل السفهاء» وفيه «لك وعليك» ، ثم زاد بعد قوله عليه‌السلام «بمعادنه» : فإن للجود معادن ، وللمعادن أصولا ، وللأصول فروعا ، وللفروع ثمرا ، ولا يطيب ثمر إلا بفروع وأصل ، ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيب. يا بني إذا زرت فزر الأخيار ، ولا تزر الأشرار ، فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها ، وشجرة لا يخضر ورقها ، وأرض لا يظهر عشبها.

ومنهم الفاضل المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» (ص ١٨٣ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة) قال :

ويوصي الإمام ابنه موسى الكاظم فيقول : يا بني ، من رضي بما قسمه الله له استغنى ، ومن مدّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ـ فذكر مثل ما تقدم عن كتاب «العلم والعلماء» بتفاوت يسير. وليس فيه «ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه» وفيه «يا بني إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك ، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك».

وفيه أيضا :

يا بني كن لكتاب الله تاليا ، وللإسلام فاشيا ، وبالمعروف آمرا ، وعن المنكر ناهيا ، ولمن قطعك واصلا ، ولمن سكت عندك مبتدئا ، ولمن سألك معطيا ، وإياك والنميمة

٣٤٦

فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال ، وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.

كلامه عليه‌السلام في القرآن

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم العلامة أبي محمد عبد الحق بن الفقيه الحافظ أبي بكر عبد الملك بن عطية الغرناطي المالكي المتوفى سنة ٥٤٣ (ط السنة المحمدية بالقاهرة) قال :

وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم صار الشعر والخطب يمل ما أعيد منها والقرآن لا يملّ؟ فقال : لأن القرآن حجة على أهل الدهر الثاني كما هو حجة على أهل الدهر الأول ، فكل طائفة تتلقاه غضّا جديدا ، ولأن كل امرئ في نفسه شيء أعاده وفكر فيه تلقى منه في كل مدة علوما غضة ، وليس هذا كله في الشعر والخطب.

كلام آخر له عليه‌السلام

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري ، جار الله ، المتوفى سنة ٥٣٨ في كتابه «إعجاز سورة الكوثر» (ص ٥٣ ط دار البلاغة ، بيروت) قال :

عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : والله لقد تجلى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكنهم لم يبصروه.

ومنهم الفاضل المعاصر عبد الغني نكدمي في «حدائق المتقين فيما ينفع المسلمين» (ص ٤٤ ط دار الكتاب النفيس ، بيروت) قال :

أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي‌الله‌عنه قال ـ فذكر مثل ما تقدم عن

٣٤٧

الزمخشري ، إلا أن فيه «ولكنهم لا يبصرون».

ومنهم الفاضل المعاصر محمد علي البازوري في «الغيب والشهادة من خلال القرآن» (ج ١ ص ٢٦ ط ١ دار القاري ، بيروت سنة ١٤٠٧) قال :

قال جعفر بن محمد الصادق ـ فذكر مثل ما تقدم عن الزمخشري ، وفيه «ولكن لا يبصرون».

ومنهم العلامة شهاب الدين أحمد الخفاجي المصري في «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» (ج ٢ ص ١٤٢ ط دار الفكر ، بيروت) قال :

كما روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : ففي كل قراءة يتجلى له الله في مرآة كلامه.

كلام آخر له عليه‌السلام

رواه جماعة من الأعلام في كتبهم :

فمنهم الفاضل المعاصر عبد الغني نكدمي في «حدائق المتقين فيما ينفع المسلمين» (ص ٤٤ ط دار الكتاب النفيس ، بيروت) قال :

وقال رضي‌الله‌عنه ، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه؟ فلما سرّي عنه قيل له في ذلك ، فقال : «ما زلت أردد الآية على قلبي ، حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته».

ومن كلامه عليه‌السلام

في خلق الذباب

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

٣٤٨

فمنهم الفاضل المعاصر الدكتور علي عبد الله الدفاع أستاذ الرياضيات في ظهران في كتابه «إسهام علماء العرب والمسلمين في الليميا» (ص ١٠٢ ط مؤسسة الرسالة ، بيروت) قال:

ينقل لنا إبراهيم الزين في كتابه قصة ظريفة حدثت بين الإمام جعفر الصادق والخليفة العباسي أبو جعفر المنصور هي : أبو عبد الله جعفر الصادق كان إذا التقى بأبي جعفر المنصور يقول الحق تصريحا وتلميحا. ويروى أن ذبابا حام حول وجه المنصور حتى أضجره ، وأبو عبد الله في المجلس ، فقال : يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ فقال الصادق رضي‌الله‌عنه : ليذل به الجبابرة (١).

__________________

(١) قال الفاضل المعاصر الشيخ محمد أبو زهرة في «تاريخ المذاهب الإسلامية» ص ٧٠٨ ط دار الفكر العربي:

وكان المنصور يدعوه إلى لقائه كلما ذهب إلى الحج ، وأحيانا يدعوه ليستمع إليه مجلا محترما ، وأحيانا يدعوه ليذكر له شكوكه أو ظنونه متهما ، وفي كلتا الحالتين يخرج وقد زال الريب من قلبه ، ويطمئن إلى أنه لا يعمل للفتنة ولا يبتغيها ، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يساوره الريب وتجري بقلبه الظنون ، ويتقول الذين يحيطون به عليه الأقاويل.

ولقد دعاه مرة إلى بغداد عند ما بلغه أنه يجبى الزكاة من شيعته وأنه كان يمد بها إبراهيم ومحمدا أولاد عبد الله بن الحسن عند ما خرجا عليه. فلما حضر مجلس المنصور قال : يا جعفر ابن محمد ، ما هذه الأموال التي يجبيها إليك المعلى بن خنيس؟ فقال أبو عبد الله الصادق : معاذ الله ما كان شيء من ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال : ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق؟ فقال : نعم أحلف بالله أنه ما كان من ذلك شيء. فقال أبو جعفر : لا ، بل تحلف بالطلاق والعتاق ، فقال أبو عبد الله : أما ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلا هو؟ فقال أبو جعفر : لا تتفقه علي ، فقال أبو عبد الله : وأين يذهب الفقه مني يا أمير المؤمنين؟ قال له : دع عنك هذا ، فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتى يواجهك .. فأتوا بالرجل ، وسألوه بحضرة جعفر ، فقال : نعم هذا صحيح ، وهذا جعفر بن محمد الذي قلت فيه ما قلت ، فقال أبو عبد الله : تحلف أيها الرجل أن هذا الذي رفعته صحيح ... وقال جعفر : قل أيها الرجل : أبرأ

٣٤٩

__________________

إلى الله من حوله وقوته ، وألجأ إلى حولي وقوتي اني لصادق فيما أقول ، فقال المنصور : احلف بما استحلفك به أبو عبد الله ، وحلف الرجل بهذه اليمين.

وقال راوي الخبر : فلم يستقم الكلام حتى أجذم وخر ميتا ، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه ، وقال : يا أبا عبد الله ، سر من غد إلى حرم جدك إن اخترت ذلك ، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك ، فو الله لا قبلت قول أحد بعدها أبدا.

وأبو عبد الله جعفر الصادق كان إذا التقى بأبي جعفر المنصور يقول الحق تصريحا وتلميحا. ويروى أن ذبابا حام حول وجه المنصور حتى أضجره ، وأبو عبد الله في المجلس ، فقال : يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ فقال الصادق رضي‌الله‌عنه : ليذل به الجبابرة ، وإن هذا التلويح بما كان عليه أبو جعفر من استبداد ، وما اتسم به حكمه من شدة.

وقد كتب إليه المنصور قائلا : لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فأجابه الصادق : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا نراها نقمة فنعزيك.

فكتب : تصحبنا لتنصحنا. فأجابه : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك.

وانتهت المكاتبة عند هذا. وقال المنصور بعد الكتاب الأخير : والله لقد ميز عندي من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة ، وإنه ممن يريد الآخرة ، ولا يريد الدنيا.

وهكذا نجد أبا جعفر بالنسبة للإمام الصادق بين الشك والإجلال ، وبين الاتهام والتقدير ، يثير الاتهام احترام الناس للصادق وافتتان الناس به ، ويطفئه انصراف الإمام الميمون المبارك إلى الآخرة وتركه شئون الدنيا وأهلها ، وانتهى أمره إلى الإجلال والتقدير ، وربما ذهب عنه الوسواس بعد أن استقر ملكه ، واستقام أمر الدولة له ، ولم يعد له منافس.

ويروى أنه حزن عند ما بلغته وفاته ، وبكى حتى اخضلت لحيته ، وقد قال اليعقوبي في تاريخه :

قال إسماعيل بن علي : دخلت على أبي جعفر يوما ، وقد اخضلت لحيته بالدموع ، وقال لي : أما علمت ما نزل بأهلك؟ فقلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : فإن سيدهم وعالمهم

٣٥٠

ومنهم الفاضل المعاصر الشريف علي بن الدكتور محمد عبد الله فكري الحسيني القاهري المولود بها سنة ١٢٩٦ والمتوفى بها أيضا ١٣٧٢ في «أحسن القصص» (ج ٤ ص ٢٨٣ ط دار الكتب العلمية في بيروت) قال :

وقال أحمد بن عمر بن مقدام الرازي وقع الذباب على وجه المنصور فذبّه ، فعاد حتى أضجره ـ فذكر مثل ما تقدم.

كلامه عليه‌السلام

للمنصور العباسي أيضا

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الحافظ محمد بن حبان البستي المتوفى سنة ٣٥٤ في «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» (ص ٢٧٦ ط دار الكتب العلمية ، بيروت) قال :

ولقد حدثنا عمرو بن محمد ، حدثنا الغلابي ، حدثنا ابن عائشة ، عن أبيه قال : بعث أبو جعفر إلى جعفر بن محمد قال : إني أستشيرك في أمر قد باينت أهل المدينة مرة بعد أخرى فلا أراهم يرجعون ولا يعتبون ، وقد رأيت أن أبعث فأحرق نخلها وأغور عيونها فما ترى؟ فسكت جعفر. قال : مالك لا تتكلم؟ قال : إن أذنت لي تكلمت. قال : قل. قال : يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطي فشكر ، وإن أيوب ابتلي فصبر ، وإن يوسف قدر فغفر ، وقد جعلك الله من النسل الذي يعفون ويصفحون. قال : فطفئ

__________________

وبقية الأخيار منهم توفي. فقلت : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : جعفر بن محمد. فقلت : أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال الله بقاءه ، فقال لي : إن جعفرا ممن قال الله فيهم : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وكان ممن اصطفى الله ، وكان من السابقين بالخيرات.

٣٥١

غضبه وسكن.

ومن كلام له عليه‌السلام

قاله للمنصور أيضا

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الفاضل المعاصر الشيخ عبد العزيز البدري البغدادي في كتابه «الإسلام بين العلماء والحكام» (ص ١٠٨ ط المكتبة العلمية في المدينة المنورة) قال :

وهذا الإمام جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه يقول لأبي جعفر المنصور حين استدعاه في إحدى المرات ، ناصحا له : لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرم الله عليه الجنة ، وجعل مأواه النار ، فان النمام شاهد زور ، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس ، فقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ، ونحن لك أنصار وأعوان ، لملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالمعروف والإحسان وأمضيت في الرعية أحكام القرآن ، وأرغمت بطاعتك الله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة وكثرة علمك ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل وإنما الواصل من إذا قطعته رحمة وصلها ، فصل رحمك يزد الله في عمرك ، ويخفف عنك الحساب يوم حشرك (لقد صدق الصادق رحمه‌الله تعالى فإن العلماء مع الحكام ما أمر الحكام بالمعروف والإحسان وأمضوا في الرعية أحكام القرآن وأرغموا لطاعتهم لله أنف الشيطان ومن هذه المعصية مشاركة العلماء للحكام في تولي المسئولية).

قال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك ، وتجاوزت عنك لصدقك ، فحدثني عن نفسك بحديث أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات.

٣٥٢

قال الصادق : عليك بالحلم ، فإنه ركن العلم. واملك نفسك عند أسباب القدرة ، فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا أو تداوى حقدا أو يحب أن يذكر بالصولة ، واعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم تكن عناية ما توصف به إلا العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر.

قال المنصور : وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت.

مناظرته عليه‌السلام مع المعتزلة

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» (ص ١٧٠ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة) قال :

قصد إليه في مجلسه ذات يوم نفر من المعتزلة يطلبون إليه بيعة «محمد بن عبد الله» النفس الزكية ، فطلب إليهم أن يختاروا واحدا منهم ليناظره ، فاختاروا زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد.

وظاهر أن تاريخ ذلك المجلس كان معاصرا لرفض الإمام الصادق أن يبايع يوم الأبواء قبل قيام الدولة العباسية سنة ١٣٣ ، فلقد كان عمرو بن عبيد من أنصارها ، له صلة خاصة بالمنصور ، واشتهر عنه أنه لم يبايع محمدا وقال : إنه لم يختبر عدله ، وربما كان ذلك المجلس في إثر مقتل الوليد بن يزيد سنة ١٢٦ ، أو فترة الحروب الأخيرة لبني مروان التي قامت على أثرها الدولة العباسية.

قال عمرو : قتل أهل الشام خليفتهم وضرب الله بعضهم بقلوب بعض وشتت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة وهو محمد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك ، فإنه لا غناء لنا عنك لفضلك.

٣٥٣

قال الصادق : إنا نسخط إذا عصى الله ، فإذا أطيع الله رضينا ، أخبرني يا عمرو : لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة فقيل لك ولها من شئت من كنت تولى؟قال عمرو : كنت أجعلها شورى بين المسلمين.

قال الصادق : بين كلهم؟ قال : نعم. قال : قريش وغيرهم؟ قال عمرو : العرب والعجم.

قال الصادق : يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أم تتبرأ منهما؟ قال : أتولاهما.

قال الصادق : يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز الخلاف عليهما ، وإن كنت تتولاهما فقد خالفتهما ، فقد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا ، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة فأخرج منها الأنصار ، ثم أوصى الناس بشيء ، وما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك.

قال عمرو : وما صنع؟

قال الصادق : أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة ولم يفرغوا ولم يبايعوا أن يضرب أعناق الستة ، وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الإثنين ، أفترضون بهذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟

قال : لا.

قال الصادق : أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعو إليه ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف منهم رجلان ، أفمضيتم إلى المشركين؟

قال : نعم.

قال الصادق : فتفعلون ما ذا؟

قال عمرو : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.

قال الصادق : فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا أهل الكتاب؟

٣٥٤

قال عمرو : سواء.

وبعد محاورة في شأن الجزية والصدقات أقبل على عمرو والناس وقال : اتق الله يا عمرو ، وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله ، فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلم بكتاب الله وسنة رسول الله أن رسول الله قال : ومن ضرب بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف (١).

__________________

(١) قال الفاضل المعاصر الشيخ محمد أبو زهرة في «تاريخ المذاهب الإسلامية» ص ٧١٧ ط دار الفكر العربي:

كان الإمام جعفر الصادق يعيش في عصر وجدت فيه آراء منحرفة حول الوحدانية ، فمن الناس من كان يتوهم أن لله تعالى يدا وأن لله تعالى وجها ويتصور الله سبحانه على صورة إنسان ، وهؤلاء هم الحشوية ، وهم بقية من بقايا الوثنيين. وقد تصدى لهم الإمام جعفر الصادق ، فأرشدهم وهداهم. والمعتزلة يعدونه إماما من أئمتهم ، ويعتبرون العترة النبوية على مثل آرائهم. والحق أن آراءهم في التنزيه لله سبحانه وتعالى متلاقية مع آرائهم في الجملة ، وهم قد وصفوا الله تعالى بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا يشبه أحدا من خلقه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، فلا ولد ولا مولود ، ولا حلول في جسم إنسان كائنا من كان ، وليس له يد ولا لسان ، ولا شيء مما يشبه الإنسان ... وكل نص ورد في القرآن فيه عبارة اليد أو الوجه فهو من المجاز المشهور الذي لا يحتاج إلى تأويل ، ولم تجر حوله مناقشة من السلف ، فما فهم أحد من السلف أن لله يدا من قوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بل فهموا جميعا من ذلك السلطان ، وتوثيق العهد ، وأنهم إذ عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد عاهدوا الله سبحانه وتعالى.

وينسب الشيعة إلى الإمام جعفر رسالة في التوحيد ، قد دونها تلميذه المفضل بن عمرو ، وقد أخذها عنه في أربعة مجالس. والرسالة تتجه إلى إثبات وجود الله تعالى ، وإثبات وحدانيته بأدلة مشتقة من الموجودات : الأحياء والجماد ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والنجوم والكواكب. وفي كل مجلس من المجالس الأربعة يبتدئ الكلام بأوصاف الله تعالى. ولنذكر مثلا بعض المجلس الرابع منها ، فهو يقول في افتتاحه : منا التحميد والتسبيح والتعظيم للاسم الأقدس ، والنور الأعظم العلي العلّام ذي الجلال والإكرام ، ومنشئ الأنام ،

٣٥٥

مكالمته عليه‌السلام

مع أبي حنيفة

رواها جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم الفاضل المعاصر الدكتور أحمد علي طه ريان الأستاذ المساعد بكلية الشريعة

__________________

ومغني العوالم والدهور ، وصاحب السر المستور ، والغيب المحظور ، والاسم المخزون ، والعلم المكنون ... وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه ، ومؤدي رسالته الذي بعثه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيي عن بينة.

والرسالة فيها يثبت الإرادة الإلهية ، وأن العالم نشأ بقدرة الله تعالى القاهرة ، ويثبت العلم الأزلي ، ويثبت النظام الكوني المحكم ، والحكم الباهرة في الآفاق الكونية التي يمتحن الله بها عباده.

وقال الفاضل المعاصر المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» ص ٢٢٣ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة :

يقول هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، فعظم ذلك عليّ ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة وأتيت المسجد ، وإذا بحلقة عظيمة فيها عمرو والناس يسألونه ، فقعدت في آخر القوم على ركبتي ، ثم قلت : أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة. قلت : ألك عين؟ قال : نعم. فقلت : ألك أنف؟ ألك لسان؟ ألك أذن؟ قال : نعم. قلت : ألك قلب؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس. قلت : أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال : لا. قلت : لا بد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم. فقلت : يا أبا مروان ، والله تعالى لم يزل جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح وتتيقن به مما شكت فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم ، لا يقيم لها إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه شكك وحيرتك؟ فسكت ، ثم التفت إلي وقال : أنت هشام بن الحكم ... فضحك الإمام وقال : من علمك هذا؟ قال : شيء أخذته منك. قال : هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.

٣٥٦

والقانون في جامعة الأزهر في «ملامح من حياة مالك بن أنس» (ص ١٥ ط دار الاعتصام ، القاهرة) قال :

روى الخطيب البغدادي بسنده إلى ابن شبرمة قال : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن علي ، وسلمت عليه وكنت له صديقا ثم أقبلت على جعفر ، وقلت : أمتع الله بك ، هذا رجل من أهل العراق له فقه وعقل.

فقال جعفر : لعله الذي يقيس الدين برأيه ، ثم أقبل عليّ فقال : أهو النعمان؟

فقال له أبو حنيفة : نعم أصلحك الله.

فقال له جعفر : اتق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإن أول من قاس إبليس ، إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين.

ثم قال جعفر : هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ فقال له أبو حنيفة : لا وفي حديث رزقويه : نعم.

فقال له جعفر : أخبرنى عن الملوحة في العينين ، وعن المرارة في الأذنين ، وعن الماء في المنخرين ، وعن العذوبة في الشفتين ، لأي شيء جعل ذلك؟ قال أبو حنيفة : لا أدري.

قال جعفر : إن الله تعالى خلق العينين ، فجعلهما شحمتين وجعل الملوحة فيهما منّا منه على ابن آدم ، ولو لا ذلك لذابتا فذهبتا ، وجعل المرارة في الأذنين منا منه عليه ولو لا ذلك لهجمت الدواب وأكلت دماغه ، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ، ويجد من الريح الطيبة ومن الريح الرديئة ، وجعل العذوبة في الشفتين ليعلم ابن آدم مطعمه ومشربه.

ثم قال جعفر له : أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ فقال أبو حنيفة : لا أدري.

فقال جعفر : «لا إله إلا الله» فلو قال لا إله ثم أمسك كان مشركا ، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان.

٣٥٧

ثم قال له جعفر : ويحك ، أيهما أعظم عند الله ، قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال أبو حنيفة : بل قتل النفس.

قال له جعفر : إن الله قد رضي في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربع ، فكيف يقوم لك القياس؟

ثم قال : أيهما أعظم عند الله ، الصوم أم الصلاة؟ قال : بل الصلاة.

قال : فما بال المرأة تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟

ثم قال جعفر له : اتق الله يا عبد الله ولا تقس ، فإنا نقف غدا نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله تبارك وتعالى فنقول : قال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول أنت وأصحابك : قسنا ورأينا ، فيفعل الله تعالى بنا وبكم ما يشاء.

ومنهم الأمير أحمد حسين بهادر خان الحنفي البريانوي الهندي في «تاريخ الأحمدي» (ص ٣٢٧ ط بيروت) قال :

وفي حياة الحيوان للدميري قال ابن شبرمة : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق رضي‌الله‌عنه فقلت : هذا رجل فقيه من أهل الكوفة ـ فذكر مثل ما تقدم عن الأستاذ ريان إلى قوله تعالى (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) الآية وزاد قول الإمام عليه‌السلام : «فأخطأ بقياسه فضلّ» ثم قال :

وفي تاريخ ابن خلكان قال : وحكي أن جعفر الصادق سأل أبا حنيفة رضي‌الله‌عنهما فقال : ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟ فقال : يا بن رسول الله ما أعلم فيه ، فقال له : أنت تتداهى ولا تعلم أن الظبي لا يكون له رباعية.

ومنهم الفاضل المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» (ص ١٧٩ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة) قال :

ويقول أبو حنيفة : استأذنت عليه فحجبني ، وجاء قوم من أهل الكوفة استأذنوا لهم

٣٥٨

فدخلت معهم ، فلما صرت عنده قلت :

يا بن رسول الله لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فإني تركت فيها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم!

فقال : لا يقبلون مني.

فقلت : ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول الله؟

فقال الصادق : أنت أول من لا يقبل مني ، دخلت بغير إذني ، وجلست بغير أمري ، وتكلمت بغير رأيي ، وقد بلغني أنك تقول بالقياس.

فقلت : نعم أقول به.

فقال : ويحك يا نعمان أول من قاس إبليس حين أمر بالسجود لآدم فأبى وقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أيهما أكبر يا نعمان القتل أم الزنا؟ قلت : القتل. قال : فلم جعل الله في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة؟ أيقاس لك هذا؟ قلت : لا. قال : فأيهما أكبر البول أو المني؟ قلت : البول. قال : فلما ذا أمر في البول بالوضوء وأمر في المني بالغسل ، أيقاس لك هذا؟ قلت : لا.

قال : أيهما أكبر الصلاة أم الصوم؟ قلت : الصلاة. قال : فلم وجب على الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ قلت : لا.

قال : فأيهما أضعف المرأة أم الرجل؟ قلت : المرأة. قال : فلم جعل الله للرجل سهمين في الميراث وللمرأة سهما؟ أيقاس ذلك؟ قلت : لا.

قال : وقد بلغني أنك تقرأ آية من كتاب الله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أنه الطعام الطيب والماء البارد في اليوم الصائف. قلت : نعم. قال : لو دعاك رجل وأطعمك وسقاك ماء باردا ثم امتن عليك ، ما كنت تنسبه إليه؟ قلت : البخل. قال : أفبخل علينا؟ قلت : فما هو؟ قال : حبنا أهل البيت.

طعم أبو حنيفة يوما مع الإمام الصادق فرفع الإمام يده حمدا لله ثم قال : اللهم هذا منك ومن رسولك. قال أبو حنيفة : يا أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا؟ قال الإمام : ان

٣٥٩

الله يقول في كتابه (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فقال أبو حنيفة : لكأني ما قرأتها قط في كتاب ولا سمعتها إلا في هذا الموقف.

ومن كلامه عليه‌السلام

لسفيان الثوري

رواه جماعة من أعلام العامة في كتبهم :

فمنهم العلامة أبو الفرج معافى بن زكريا النهرواني الجريري المتوفى سنة ٣٩٠ في كتابه «الجليس الصالح الكافي» (ج ١ ص ٥٨٣ ط بيروت سنة ١٤٠٢) قال :

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان أبو الحسن البزاز ، قال : حدثنا أبو غسان ، عن عبد الله بن محمد بن يوسف بالقلزم ، قال : حدثني عبد الله بن محمد اليماني ، عن علي بن يوسف المدائني ، قال : سمعت سفيان الثوري ، يقول : دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي رضي‌الله‌عنهم ، فقلت : يا بن رسول الله أوصني. فقال : يا سفيان لا مروءة لكذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا خلّة لبخيل ، ولا أخا لملول ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق.

قلت : يا بن رسول الله زدني ، قال : يا سفيان كفّ عن محارم الله تكن عابدا ، وارض بما قسم الله لك تكن مسلما ، واصحب الناس بما تحب أن يصحبوك به تكن مؤمنا ، ولا تصحب الفاجر فيعلّمك من فجوره ، وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى.

فقلت : يا بن رسول الله زدني. قال : يا سفيان من أراد عزا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان ، فليخرج من ذل معصية الله تعالى إلى طاعة الله عزوجل.

قلت : يا بن رسول الله زدني. قال : يا سفيان أدبني أبي بثلاث وأتبعني بثلاث ، قلت: يا بن رسول الله ما الثلاث التي أدبك بهن أبوك؟ قال : قال لي أبي : من يصحب صاحب السوء لا يسلم ، ومن يدخل مداخل السوء يتهم ، ومن لا يملك لسانه يندم. ثم

٣٦٠