نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين ، وفيه من السواري الكبار ألف سارية ، وفيه مائة وثلاثة عشر ثريا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح ، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه ، وبقبلته صناعات تدهش العقول ، وعلى فرجة المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها ، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة اثنان أخضران واثنان لازورديان ، ليس لها قيمة لنفاستها ، وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا مثله في حسن صنعته ، وخشبه ساج وآبنوس وبقمّ وعود قاقلي ، ويذكر في تاريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين ، وكان يعمل فيه ثمانية صناع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي ، فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا ، وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده ، وبهذا الجامع مصحف يقال : إنه عثماني ، وللجامع عشرون بابا مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرمة تخريما عجيبا بديعا يعجز البشر ويبهرهم ، وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة ، وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي (١) ، وفيه من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته ، وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر ، مكتوب على الواحد اسم محمد ، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف ، وعلى الثالث صورة غراب نوح ، والجميع خلقة ربانية ، وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة ، عجيبة المرأى ، فاقت قناطر الدنيا حسنا ، وعدد قسيّها سبعة عشر قوسا ، سعة كل قوس منها خمسون شبرا وبين كل قوسين خمسون شبرا ، وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن نحيط بها وصفا (٢) ، انتهى ملخصا.

وهو وإن تكرر بعضه مع ما قدمته فلا يخلو من فائدة زائدة ، والله الموفق.

وما ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مر ، ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك ، كما أشار إليه هو في أمر الصومعة ، وكذا ما ذكره في عدد السواري ، إلا أن يقال : ما تقدم باعتبار الصغار والكبار ، وهذا العدد الذي ذكره هنا إنما هو للكبار فقط ، كما صرح به ، والله تعالى أعلم.

وأما الثريات فقد خالف في عددها ما تقدم ، مع أن المتقدم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس ، ونحن جلبنا النقل من مواضعه ، وإن اختلفت طرقه ومضموناته.

__________________

(١) ذراع ينسب إلى الرشاش الذي اتخذ طوله وحدة قياس الأطوال (طبقات الزبيدي ص ٢٨٤).

(٢) في ب : أن يحيط بها وصف.

٨١

وقال في المغرب ـ عند تعرضه لذكر جامع قرطبة ـ ما نصه : اعتمدت فيما نقلته (١) في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال ، فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره.

عن الرازي أنه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا ، فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور ، وكانوا يسمونها بسنت بنجنت (٢) ، وابتنوا في ذلك الشطر مسجدا جامعا ، وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى ، وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة ، واقتنع المسلمون بما في أيديهم ، إلى أن كثروا ، وتزيدت عمارة قرطبة ، ونزلها أمراء العرب ، فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنّون بها ، حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقة لتلاصق تلك السقائف ، وقصر أبوابها ، وتطامن سقفها ، حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس ، واستولى على إمارتها ، وسكن دار سلطانها قرطبة ، وتمدّنت به ، فنظر في أمر الجامع ، وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه ، فأحضر أعاظم النصارى ، وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه ، فأبوا من بيع ما بأيديهم ، وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم (٣) التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به ، فتم الأمر على ذلك ، وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة ، فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير (٤) الزيادة فيه ، وإنما الحاجة في وصفه بكماله ، وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي (٥) من قصيدة : [الطويل]

وأنفق في دين الإله ووجهه

ثمانين ألفا من لجين وعسجد

توزّعها في مسجد أسّه التّقى

ومنهجه دين النّبيّ محمّد

ترى الذّهب النّاري فوق سموكه

يلوح كبرق العارض المتوقّد

__________________

(١) في ب ، ه : فيما أنقله في هذا ...

(٢) في ب : بشنت بنجنت.

(٣) في ه : كنائسهم.

(٤) في ه : لا حاجة في تفسير الزيادات فيه.

(٥) في ه : البلوني.

٨٢

قال : وكمل سنة سبعين ومائة ، ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضا وما جدّده فيه ، وأنه بناه من خمس فيء أربونة ، ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس ، قال : وهلك قبل أن يتم الزخرفة ، فأتمها ولده محمد بن عبد الرحمن ، ثم رمّ المنذر (١) بن محمد ما وهى منه ، وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة ، قال : ولما ولي الحكم المستنصر بن الناصر ـ وقد اتسع نطاق قرطبة ، وكثر أهلها ، وتبين الضيق في جامعها ـ لم يقدّم شيئا على النظر في الزيادة ، فبلغ الجهد ، وزاد الزيادة العظمى ، قال : وبها كملت محاسن هذا الجامع ، وصار في حدّ يقصر (٢) الوصف عنه ، وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق ، حسبما فعله والده الناصر في قبلة جامع الزهراء ، لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب ، فقال له الفقيه أبو إبراهيم : يا أمير المؤمنين ، إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم ، منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت ، متأسّين (٣) بأوّل من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهم ، رحمهم الله تعالى! وإنّما فضل من فضل بالاتباع ، وهلك من هلك بالابتداع ، فأخذ الخليفة برأيه ، وقال : نعم ما قلت ، وإنما مذهبنا (٤) الاتباع.

قال ابن بشكوال : ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين دينارا ودرهمين ونصف.

ثم ذكر الصومعة نقلا عن ابن بشكوال فقال : أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة ٣٤٠ وأقام هذه الصومعة البديعة ، فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدّة من ثلاثة وأربعين يوما ، ولما كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصّومعة من أحد درجيها (٥) ، ونزل من الثاني ، ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة ، وانصرف ، قال :

وكانت الأولى ذات مطلع واحد ، فصير لهذه مطلعين ، فصل بينهما البناء ، فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها ، تزيد مراقي كل مطلع منها على مائة سبعا.

قال : وخبر هذه الصومعة مشهور في الأرض (٦) ، وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها.

__________________

(١) رمّ : أصلح. ووهى : ضعف.

(٢) في ب ، ه : يحسر الوصف.

(٣) في ه : مؤتسين.

(٤) في ه : وإنما مذهبي الاتباع.

(٥) في ه : أحد درجيه.

(٦) في ب ، ه : مشهور في الأندلس.

٨٣

قال ابن سعيد : قال ابن بشكوال هذا لأنه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية اللتين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن ، فهما أعظم وأطول ، لأنه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعا وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعا ، وعرضها في كل تربيع (١) ثمانية عشر ذراعا ، وذلك اثنان وسبعون ذراعا ، قال ابن سعيد : وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع ، وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة الفظيعة (٢) منجّدة غاية التنجيد ، وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس : الثنتان منها ذهب إبريز ، والثالثة منها وسطى بينهما من فضة إكسير (٣) ، وفوقها سوسنة من ذهب مسدّسة فوقها رمانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجوّ ، وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهرا.

وذكر ابن بشكوال في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها ، فلما قدم سليمان بن داود صلى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن : اردموا هذا الموضع وعدّلوا مكانه ، فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه ، ففعلوا ما أمرهم به ، وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور ، قال : ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة ، انتهى.

وذكر مصحف عثمان بن عثمان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال : هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، مما خطّه بيمينه ، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم ، انتهى.

وسنذكر فيه زيادة على هذا.

وأما الزهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لدين الله ، وقد تقدّم ذكره ، وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر ، قال ابن الفرضي وغيره : كان يعمل في جامعها حين شرع فيه من حذّاق الفعلة كلّ يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بنّاء ومائتا نجّار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع ، فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة من ثمانية وأربعين يوما ، وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصّنعة ، وطوله من القبلة إلى الجوف ـ حاشا

__________________

(١) في ب : كل تربيع فيها ثمانية ..

(٢) في ب : الحجارة المقطعة.

(٣) الإكسير : ما يلقى على الفضة أو نحوها فيحوله إلى ذهب خالص ، وذلك من خرافات أصحاب الكيمياء القديمة.

٨٤

المقصورة ـ ثلاثون ذراعا ، وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاث عشرة ذراعا (١) ، وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعا ، وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاث وأربعون ذراعا ، وعرضه من الشرق إلى الغرب إحدى وأربعون ذراعا ، وجميعه مفروش بالرخام الخمري ، وفي وسطه فوّارة يجري فيها الماء ، فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف ـ سوى المحراب ـ سبع وتسعون ذراعا (٢) ، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسع وخمسون ذراعا (٣) ، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا ، وعرضها عشرة أذرع في مثلها.

وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد ، فصنع في نهاية من الحسن ، ووضع في مكانه منه ، وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة ، وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

قال : وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي أجراها (٤) وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة ، في المناهر المهندسة (٥) ، وعلى الحنايا المعقودة ، يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة ، عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة لم يشاهد أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر ، مطلي بذهب إبريز ، وعيناه جوهرتان لهما وبيص (٦) شديد ، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه ، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبه ، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها ، ويستفيض على ساحاته وجنباته ، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه ، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر ، لبعد مسافتها ، واختلاف مسالكها ، وفخامة بنيانها ، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها ، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت ـ أعني القناة ـ إلى هذه البركة أربعة عشر شهرا ، وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة ، وكانت للناصر في

__________________

(١) في ب : ثلاثة عشر ذراعا.

(٢) في ب : سبعة وتسعون ذراعا.

(٣) في ب : تسعة وخمسون ذراعا.

(٤) كلمة : أجراها و : غير موجودة في ب.

(٥) مناهر : جمع منهر ، وهو شق في الحصن أو البناء يجري فيه ماء.

(٦) الوبيص ، بفتح الواو : البريق اللمعان. وقد جاء في ب ، ه : لهما وميض شديد.

٨٥

هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامة أهل مملكته ، ووصل المهندسين والقوّام بالعمل بصلات حسنة جليلة (١) جزيلة.

وأما مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم ، وذلك نحو من أربعين سنة.

ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أوّل جماعة صليت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان ، وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى ، ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة ، وأوّل من خطب (٢) به القاضي المذكور ، ولما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة ، وما دخل إليه قط أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر وجهبذ (٣) ، وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة ، إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبها ، بل يسمع به (٤) ، بل لم يتوهم كون مثله ، حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه ، والتحدث عنه ، والأخبار عن هذا تتسع جدا ، والأدلة عليه تكثر ، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرّد المشرف على الروضة المباهى بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب مصون (٥) وعمد كأنما أفرغت في القوالب ، ونقوش كالرياض ، وبرك عظيمة محكمة الصنعة ، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها ، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعدّه لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلّط عليها الفناء ، ولا تحتاج إلى الرّم ، لا إله إلا هو المنفرد بالكرم.

وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة أن مباني الزهراء (٦) اشتملت على أربعة آلاف سارية ، ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة ، ونيّف على (٧) ثلاثمائة سارية هو ستّ عشرة (٨) ، قال : منها ما جلب من مدينة رومة ، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية ، وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب ، وكلها ملبسة بالحديد

__________________

(١) جليلة : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : وأول خطيب به القاضي ..

(٣) في ب : تاجر جهبذ.

(٤) في ب : بل لم يسمع به ..

(٥) في ب ، ه : وذهب موضون.

(٦) في ب : مباني قصر الزهراء.

(٧) في ب ، ه : ونيف هو ثنتا عشرة على ..

(٨) هو ست عشرة : غير موجودة في ب.

٨٦

والنحاس المموه ، والله سبحانه أعلم فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس ، وأجلّه خطرا ، وأعظمه شأنا ، انتهى.

قلت : فسر بعضهم ذلك النيف في كلامه بثلاث عشرة ، والله أعلم.

وقال بعض من أرخ الأندلس : كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى ، ودخالتهم من اللحم كل يوم (١) ـ حاشا أنواع الطير والحوت ـ ثلاثة عشر ألف رطل ، وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار ، وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة ، انتهى.

وقيل : إن عدد الصبيان (٢) الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون ، وجعل بعض مكان الخمسين سبعة وثمانين.

وقال آخر : ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون ، والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم ، وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم ، انتهى.

ثم قال الأول : وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل ، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك ، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان ، انتهى.

وقال ابن حيان : ألفيت بخط ابن دحّون (٣) الفقيه ، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس : بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بعمارة (٤) الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستة آلاف صخرة ، سوى الصخر المصرف في التبليط ، فإنه لم يدخل في هذا العدد ، وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل ، وقيل أكثر منها : أربعمائة زوامل الناصر لدين الله (٥) ، ومن دواب الأكرية (٦) الراتبة للخدمة ألف بغل ، لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر ، يجب لها في الشهر ثلاثة آلاف مثقال وكان يرد الزهراء من الجير والجص (٧) في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل ، وكان فيها حمامان : واحد للقصر ، وثان للعامة.

__________________

(١) في ب : في كل يوم.

(٢) في ب ، ه : إن عدد الفتيان.

(٣) في ج : ابن دجون ، والصواب ما أثبتناه (انظر أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٦٩).

(٤) في ب ، ه : بنيان الزهراء.

(٥) الزوامل : جمع زاملة ، وهي ما يحمل عليه من الدواب.

(٦) في ب : الأكرياء.

(٧) في ب ، ه : الجيار. والجير : الجص ، والجيار الكلس قبل أن يطفأ.

٨٧

وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاما التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها ، لأنه توفي سنة خمسين ، فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال.

قال : وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس ، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وحسن بن محمد وعلي بن جعفر الإسكندراني (١) ، وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير ، انتهى.

وقال بعض ثقات المؤرخين : إنه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير ، وعلى كل سارية بثمانية دنانير (٢) ، قيل (٣) : وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية ، ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية ، وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية ، وسائرها من مقاطع الأندلس طرّكونة وغيرها ، فالرخام المجزع من ريّة ، والأبيض من غيرها ، والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس ، وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء ، وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام ، وقيل : من القسطنطينية مع ربيع الأسقف أيضا ، وقالوا : إنه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله ، وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر (٤) ، ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس ، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي مما عمل بدار الصناعة بقرطبة صورة أسد بجانبه (٥) غزال إلى جانبه تمساح ، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل ، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر ، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ، ويخرج الماء من أفواهها ، وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم ، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره ، وكان يخبز في أيامه (٦) في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة ، وقيل : أكثر ، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه.

__________________

(١) في ب : وحسن وعلي بن جعفر (بإسقاط : بن محمد).

(٢) في ب : دنانير سلجماسية.

(٣) في ه : قال.

(٤) في ه : إلى البحر.

(٥) في ه : إلى جانبه.

(٦) في ه : على أيامه.

٨٨

وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدخر ، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار ، وأما أخماس الغنيمة (١) فلا يحصيها ديوان.

وقد سبق هذا كله ، وإنما كررته لقول بعضهم إثر حكايته له ، ما صورته : وقيل : إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة ، وقيل : إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وسبعة أقفزة (٢) من الدراهم المذكورة ، واتصل بنيان الزهراء أيام الناصر خمسا وعشرين سنة شطر خلافته ، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها ، وكانت خمسة عشر عاما وأشهرا ، فسبحان الباقي بعد فناء الخلق ، لا إله إلا هو ، انتهى.

وقال ابن أصبغ (٣) الهمداني والفتح في المطمح : كان الناصر كلفا بعمارة الأرض ، وإقامة معالمها ، وانبساط مجاهلها (٤) ، واستجلابها من أبعد بقاعها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلوّ الهمة ، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره ، الذائع خبره ، المنتشر صيته في الأرض (٥) ، واستفرغ جهده (٦) في تنميقها ، وإتقان قصورها ، وزخرفة مصانعها ، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات ، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكير (٧) بالإنابة والرجوع ، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) ـ إلى قوله تعالى : (مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء الآية : ١٢٨ ـ ١٣٦] ثم وصله بقوله : فمتاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، وهي دار القرار ، ومكان الجزاء ، ومضى في ذم تشييد البنيان ، والاستغراق في زخرفته ، والإسراف في الإنفاق عليه ، بكل كلام جزل (٨) ، وقول فصل ، قال الحاكي : فجرى فيه طلقا ، وانتزع فيه قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) [التوبة : ١٠٩] إلى

__________________

(١) في ب : الغنائم.

(٢) في ه : ستة أقفزة.

(٣) في ج : ابن البديع ، وهو كما أثبتنا. انظر (أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٧٧ ، والمراقبة العليا ص ٦٩).

(٤) في ب : وانبساط مياهها.

(٥) في ب ، ه : المنتشر في الأرض أثره.

(٦) في ب ، ه : واستفرغ وسعه.

(٧) في ب : والتذكر.

(٨) في ب : بكلام جزل.

٨٩

آخر الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت ، والتحذير من فجأته ، والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية ، والحض على اعتزالها ، والرفض لها ، والندب إلى الإعراض عنها ، والإقصار عن طلب اللذات ، ونهى النفس عن اتباع هواها ، فأسهب في ذلك كله ، وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه ، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ، حتى أذكر من حضره من الناس وخشعوا ورقّوا واعترفوا وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة ، وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ ، وقد علم أنه المقصود به ، فبكى وندم على ما سلف له من فرطه ، واستعاذ بالله من سخطه ، إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرّعه به ، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر ، وقال : والله لقد تعمدني منذر بخطبته ، وما عنى بها غيري ، فأسرف علي ، وأفرط في تقريعي وتفزيعي (١) ، ولم يحسن السياسة في وعظي ، فزعزع قلبي ، وكاد بعصاه يقرعني ، واستشاط غيظا عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة ، فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرّف صاحب الصلاة بقرطبة ، ويجانب الصلاة بالزهراء ، وقال له الحكم : فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟! فزجره وانتهره ، وقال له : أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد ، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون ، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ، ولكنه أحرجني ، فأقسمت ، ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي ، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى ، فما أظننا نعتاض منه أبدا وقيل : إن الحكم اعتذر عما قال منذر ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إنه رجل صالح ، وما أراد إلا خيرا ، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك ، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت ، وفرش ذلك المجلس بأصناف فرش الديباج ، وأمر بالأطعمة ، وقد أحضر العلماء (٢) وغصّ بهم المجلس ، فدخل منذر في آخرهم ، فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه ، فقال (٣) : يا أمير المؤمنين ، إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس ، ولا يتخطى الرقاب ، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة ، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاما من كلام المنذر يأتي قريبا.

وقحط الناس آخر مدة الناصر ، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس ، فتأهب لذلك ، وصام بين يديه أياما ثلاثا تنفلا وإنابة ورهبة ، واجتمع له الناس في

__________________

(١) تفزيعي : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء.

(٣) في ب : وقال له ..

٩٠

مصلى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم ، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ، ويشاركهم في الخروج إلى الله والضّراعة له ، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ، ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا (١) ، وقام ليخطب ، فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه ، واستكانتهم من خيفة الله ، وإخباتهم له ، وابتهالهم إليه ـ رقت نفسه ، وغلبته عيناه ، فاستعبر وبكى حينا ، ثم افتتح خطبته بأن قال : يا أيها الناس ، سلام عليكم ، ثم سكت ووقف شبه الحصر ، ولم يك من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ، ثم اندفع تاليا قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤] ثم قال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه ، قال الحاكي : فضج الناس بالبكاء ، وجأروا بالدعاء ، ومضى على تمام خطبته ، ففزّع النفوس بوعظه ، وانبعث الإخلاص بتذكيره ، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر ، روّى الثرى ، وطرد المحل ، وسكن الأزل ، والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ، ومنه أن قال يوما ـ وقد سرح طرفه في ملأ الناس عند ما شخصوا إليه بأبصارهم ، فهتف بهم كالمنادي ـ : يا أيها الناس ، وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] إلى بعزيز ، فاشتد وجد الناس ، وانطلقت أعينهم بالبكاء ، ومضى في خطبته.

وقيل : إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء ، واشتدّ عزمه عليه ، فتسابق الناس للمصلى ، فقال للرسول ـ وكان من خواص الناس ـ : ليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له : ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا ، إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه ، لابس أخس الثياب ، مفترش التراب ، وقد رمّد به على رأسه وعلى لحيته ، وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول : هذه ناصيتي بيدك ، أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟ لن يفوتك شيء مني ، قال الحاكي : فتهلل وجه القاضي منذر عند ما سمع قوله ، وقال : يا غلام ، احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسّقيا ، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء ، وكان كما قال ، فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا.

وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه (٢) ، والمهابة في أقضيته ، وقوة الحكومة (٣) والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده ، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه.

__________________

(١) مخبتا : أخبت اطمأن إلى الله وتخشع إليه.

(٢) في المطمح : من ذوي الصلابة في أحكامه.

(٣) في ه : وقوة الخلوة.

٩١

وقال ابن الحسن النّباهي (١) ، وأصله في المطمح وغيره : ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء ، أن الناصر كان اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصّرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وفضة (٢) أنفق عليها مالا جسيما ، وقرمد سقفها به ، وجعل سقفها صفراء فاقعة ، إلى بيضاء ناصعة ، تستلب الأبصار بأشعة نورها ، وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته ، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة : هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين ، وإنك لأوحد في شأنك كله ، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ، ولا انتهى إلينا خبره ، فأبهجه قولهم وسره ، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس ، فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه ، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له : والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته ، وفضلك به على العالمين ، حتى ينزلك منازل الكافرين ، قال : فانفعل عبد الرحمن لقوله ، وقال له : انظر ما تقول ، وكيف أنزلني منزلتهم؟ قال : نعم ، أليس الله تعالى يقول (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف : ٣٣] الآية. فوجم الخليفة ، وأطرق مليّا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي : ثم أقبل على منذر وقال له : جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه ، وكثر في الناس أمثالك! فالذي قلت هو الحق ، وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى ، وأمر بنقض سقف القبيبة ، وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها ، انتهى ما حكاه ابن الحسن النّباهي.

ولنذكر هذه الحكاية وغيرها ، وإن خالف السياق ما سبق ، وهذا منقول من كلام الحجاري في «المسهب ، في أخبار المغرب» فإنه أتم فائدة ، إذ قال رحمه الله : دخل منذر بن سعيد يوما على الناصر باني الزهراء ، وهو مكب على الاشتغال بالبنيان ، فوعظه ، فأنشده عبد الرحمن الناصر (٣) : [الكامل]

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

ملك محاه حوادث الأزمان

__________________

(١) في ب : النّباهي (بضم النون مشددة).

(٢) في ب : قراميد مغشاة ذهبا وفضة.

(٣) المغرب : ج ١ ص ١٧٤. وفي ب : فأنشده عبد الرحمن الناصر.

٩٢

إنّ البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

قال : فما أدري أهذا شعره أم تمثل به؟ فإن كان شعره فقد بلغ به إلى غاية الإحسان وإن كان تمثل به فقد استحقه بالتمثل به في هذا المكان ، وكان منذر يكثر تعنيفه (١) على البنيان ، ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة ، واحتفل فيها احتفالا ظن أن أحدا من الملوك لم يصل إليه ، فقام خطيبا والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة ، فتلا قوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٣٣) [الزخرف : ٣٣] الآية وأتبعها بما يليق بذلك ، فوجم الملك ، وأظهر الكآبة ، ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه.

وحضر معه يوما في الزهراء ، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها. [الطويل]

سيشهد ما أبقيت أنّك لم تكن

مضيعا وقد مكّنت للدّين والدّنيا

فبالجامع المعمور للعلم والتّقى

وبالزّهرة الزّهراء للملك والعليا

فاهتز الناصر ، وابتهج ، وأطرق منذر بن سعيد ساعة ، ثم قام منشدا : [السريع]

يا باني الزّهراء مستغرقا

أوقاته فيها أما تمهل

لله ما أحسنها رونقا

لو لم تكن زهرتها تذبل

فقال الناصر : إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين ، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى ، فقال منذر : اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا ، انتهى.

ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال ، فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة ، وقلب ما كان فيها من منحة محنة ، وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول ، وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور ، فأساء التدبير ، ولم يميز بين الفتيل والنقير (٢) ، فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوّفه منه حتى ولاه عهده كما بينا نص العهد فيما سبق ، فأطبق الخاصة والعامة على بغضه ، وإضمار السوء له ، وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، فعند ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن

__________________

(١) في ب : تعنيته على البنيان.

(٢) الفتيل : الخيط من شق النواة أو البذرة. والنقير : الحفرة الصغيرة التي تكون في بذرة التمر ، وفي ب : القبيل والدبير.

٩٣

عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه ، وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل.

قال ابن الرقيق : ومن أعجب ما رئي (١) أنه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة ، وهدمت الزهراء ، وخلع خليفة وهو المؤيد ، وولي خليفة وهو المهدي ، وزالت دولة بني عامر العظيمة ، وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة (٢) ، وأقيمت جيوش من العامة ، ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون ، وكان ذلك كله على يد عشرة رجال فحامين وجزارين وزبالين ، وهم جند المهدي هذا ، انتهى.

وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا ، وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة : [البسيط]

قد قام مهديّنا ولكن

بملّة الفسق والمجون

وشارك النّاس في حريم

لولاه ما زال بالمصون

من كان من قبل ذا أجمّا

فاليوم قد صار ذا قرون

ومن شعر المهدي هذا وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس : [الكامل]

أهديت شبه قوامك الميّاس

غصنا رطيبا ناعما من آس

وكأنّما يحكيك في حركاته

وكأنّما تحكيه في الأنفاس

وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله.

ولقد كان قيامه مشؤوما على الدين والدنيا ، فإنه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وما حي معالمها ، حتى تفرقت الدولة ، وانتثر السلك ، وكثر الرؤساء (٣) ، وتطاول العدو إليها ، وأخذها شيئا فشيئا حتى محا اسم الإسلام منها ، أعادها الله تعالى!.

وقد ألم الولي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر ، فقال ما نصه (٤) : ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني ، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة ، وكان فيها المجلس الزاهر والبهو الكامل والمنيف ، فبنى هو إلى جانب

__________________

(١) في ب : ومن أعجب ما روي.

(٢) في ج : علاجة ، والصحيح ما أثبتناه وهو أبو حفص ابن عم المنصور بن أبي عامر ووزيره.

(٣) في ج : وكسر الرؤساء.

(٤) تاريخ ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٤.

٩٤

الزاهرة قصره العظيم ، وسماه «دار الروضة» وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر ، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ، ثم أخذ في بناء المستنزهات (١) ، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور ، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة ، ثم اختط مدينة الزهراء ، واتخذها لنزله ، وكرسيا لملكه ، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى ، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء ، متباعدة السياج ، ومسارح للطيور مظللة بالشباك ، واتخذ فيها دورا لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن ، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس ، انتهى.

وأما الزهراء فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر.

قال ابن خلدون في (٢) أثناء كلامه على المنصور ما صورته (٣) : وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة ، ونقل إليها جزءا من الأموال والأسلحة ، انتهى.

وقال غيره ، وأظنه صاحب المطمح : وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة ، وذلك عندما تكامل (٤) واستفحل أمره ، واتقد جمره (٥) ، وظهر استبداده ، وكثر حسّادة وأضداده (٦) وأنداده ، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان ، وخشي أن يقع في أشطان (٧) ، فتوثق لنفسه ، وكشف له ما ستر عنه في أمسه ، من الاعتزاز عليه ، ورفع الاستناد إليه ، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ، ويحله بأهله وذويه ، ويضم إليه رياسته ، ويتم به تدبيره وسياسته ، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه ، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة ، الموصوفة بالقصور الباهرة ، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم ، ونسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم ، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة ، وحشد الصناع والفعلة ، وجلب إليها الآلات الجليلة ، وسربلها بهاء يرد الأعين كليلة ، وتوسع في اختطاطها ، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها ، وبالغ في رفع أسوارها ، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها ، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة ، وصار بناؤها من الأنباء الغريبة ، وبنى معظمها في عامين.

__________________

(١) في ب ، ه : المنتزهات.

(٢) في : غير موجودة في ب.

(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٨.

(٤) تكامل و : غير موجودة في ب.

(٥) اتقد جمره : أي علا شأنه.

(٦) وأضداده : غير موجودة في ب.

(٧) أشطان : جمع شطن ، وهو الحبل الطويل.

٩٥

وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته ، فتبؤأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته ، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء (١) ، وأطلق بساحتها الأرحاء ، ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه ، وقوّاده وحجابه ، فابتنوا بها كبار الدور ، وجليلات القصور ، واتخذوا خلالها المستغلّات المفيدة ، والمنارة المشيدة ، وقامت بها الأسواق ، وكثرت فيها الأرفاق ، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها ، والحلول بأطرافها ، للدنوّ من صاحب الدولة ، وتناهى الغلوّ في البناء حوله ، وحتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة ، واستقرت في بحبوحتها الإمارة ، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي ، وصير ذلك هو الرسم العافي (٢) ، ورتب فيها جلوس وزرائه ، ورؤوس أمرائه ، وندب إليها كل ذي خطته (٣) ، ونصب ببابها كرسيّ شرطته ، وأجلس عليها واليا على رسم كرسي الخليفة ، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة ؛ وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات ، ويقصدها أصحاب الولايات ، وينتابها طلاب الحوائج ، وحذّر أن يعوج عنها إلى دار (٤) الخليفة عائج (٥) ، فاقتضيت إليها اللّبانات والأوطار ، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار ، وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد ، وانتظم بلبّة أمانيه المراد ، وعطل قصر الخليفة من جميعه ، وصيّره بمعزل من سامعه ومطيعه ، وسدّ باب قصره عليه ، وجدّ في خبر ألا يصل إليه ، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر ، ويبسط فيه النهي والأمر ، ويشرف منه على كل داخل ، ويمنع ما يحذره من الدواخل ، ورتب عليه الحرّاس والبوّابين ، والسمّار والمنتابين ، يلازمون حراسة من فيه ليلا ونهارا ، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا ، وقد حجر على الخليفة كل تدبير ، ومنعه من تملك قبيل أو دبير ، وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء ، معجوز الغناء ، خفي الذكر ، عليل الفكر ، مسدود الباب ، محجوب الشخص عن الأحباب ، لا يراه خاص ولا عام ، ولا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام ، ولا يعهد منه (٦) إلا الاسم السلطاني في السّكة والدعوة ، وقد نسخه ولبّس أبهته ، وطمس بهجته ، وأغنى الناس عنه ، وأزال أطماعهم منه ، وصيرهم لا يعرفونه ، وأمرهم أنهم لا يذكرونه ، واشتد ملك محمد بن

__________________

(١) الأهراء : جمع هريّ : وهو البيت الذي تخزن فيه الحبوب.

(٢) العافي : الدارس.

(٣) في ب : كل ذي خطة بخطته.

(٤) في ب : باب الخليفة.

(٥) عائج : اسم فاعل من عاج على المكان : مال إليه وعرّج.

(٦) في ب ، ه : ولا يعهد فيه.

٩٦

أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسّع مع الأيام في تشييد أبنيتها حتى كملت أحسن كمال ، وجاءته في نهاية الجمال ، تفاوت بناء (١) ، وسعة فناء ، واعتدال هواء ، رقّ أديمه ، وصقالة جوّ اعتلّ نسيمه ، ونضرة بستان ، وبهجة للنفوس فيها افتنان ، وفيها يقول صاعد اللغوي : [البسيط]

يا أيّها الملك المنصور من يمن

والمبتني نسبا غير الّذي انتسبا

بغزوة في قلوب الشّرك رائعة

بين المنايا تناغي السّمر والقضبا(٢)

أما ترى العين تجري فوق مرمرها

زهوا فتجري على أحفافها الطّربا(٣)

أجريتها فطما الزّاهي بجريتها

كما طموت فسدت العجم والعربا

تخال فيه جنود الماء رافلة

مستلئمات تريك الدّرع واليلبا(٤)

تحفّها من فنون الأيك زاهرة

قد أورقت فضّة إذ أورقت ذهبا

بديعة الملك ما ينفكّ ناظرها

يتلو على السّمع منها آية عجبا

لا يحسن الدّهر أن ينشي لها مثلا

ولو تعنّت فيها نفسه طلبا

ودخل عليه ابن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية ، والروض قد تفتحت أنواره ، وتوشحت أنجاده وأغواره ، وتصرّف فيها الدهر متواضعا ، ووقف بها السعد خاضعا ، فقال : [البسيط]

لا يوم كاليوم في أيّامك الأول

بالعامريّة ذات الماء والظّلل

هواؤها في جميع الدّهر معتدل

طيبا وإن حلّ فصل غير معتدل

ما إن يبالي الّذي يحتلّ ساحتها

بالسّعد أن لا تحلّ الشّمس بالحمل

وما زالت هذه المنية (٥) رائقة ، والسّعود بلبّتها متناسقة ، تراوحها الفتوح وتغاديها ، وتجلب إليها منكسرة أعاديها ، لا تزحف عنها راية إلا إلى فتح ، ولا يصدر عنها تدبير إلا إلى نجح ، إلى أن حان يومها العصيب ، وقيض لها من المكروه أوفر نصيب ، فتولت فقيدة ، وخلت من بهجتها كل عقيدة ، انتهى.

__________________

(١) في ب : نقاوة بناء.

(٢) السمر : الرماح. والقضب : جمع قضيب ، وهو السيف القاطع.

(٣) في ب : هوى فتجري على أضعافها الطربا.

(٤) اليلب : الترس.

(٥) الجذوة ص ٣٧٧.

٩٧

وقد حكى الحميدي في «جذوة المقتبس» (١) هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة ، فقال ـ بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء ـ : إن أبا المطرف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية ، فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد فتحتا (٢) وواحدة لم تفتح ، فقال يصف ذلك (٣) : [البسيط]

لا يوم كاليوم في أيّامنا الأول

بالعامريّة ذات الماء والظّلل

هواؤها في جميع الدّهر معتدل

طيبا ، وإن حلّ فصل غير معتدل

ما إن يبالي الّذي يحتلّ ساحتها

بالسّعد ألّا تحلّ الشّمس في الحمل(٤)

كأنّما غرست في ساعة وبدا السّ

وسان من حينه فيها على عجل

أبدت ثلاثا من السّوسان مائلة

أعناقهنّ من الإعياء والكسل

فبعض نوّارها للبعض منفتح

والبعض منغلق عنهنّ في شغل

كأنّها راحة ضمّت أناملها

من بعد ما ملئت من جودك الخضل

وأختها بسطت منها أناملها

ترجو نداك كما عوّدتها فصل

وقد ذكر ابن سعيد أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي ، فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات : [المجتث]

فالعامريّة تزهى

على جميع المباني

وأنت فيها كسيف

قد حلّ في غمدان(٥)

فقام صاعد ، وكان مناقضا له ، فقال : أسعد الله تعالى الحاجب الأجل! ومكن سلطانه! هذا الشعر الذي قاله قد أعدّه وتروّى (٦) فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالا ، فقال له المنصور : قل ليظهر صدق دعواك ، فجعل يقول من غير فكرة كثيرة (٧) : [المجتث]

يا أيّها الحاجب المع

تلي على كيوان

__________________

(١) الجذوة ص ٣٧٧.

(٢) في ب ، ه : تفتحتا.

(٣) يصف ذلك : غير موجودة في ب.

(٤) الحمل : منزلة للشمس تحلها أول الربيع.

(٥) سيف : أراد سيف بن ذي يزن. وغمدان : قصر في اليمن.

(٦) في ب : وروّى.

(٧) في ب ، ه : فكرة طويلة.

٩٨

ومن به قد تناهى

فخار كلّ يمان

العامريّة أضحت

كجنّة الرّضوان

فريدة لفريد

ما بين أهل الزّمان

ثم مر في الشعر إلى أن قال في وصفها : [المجتث]

انظر إلى النّهر فيها

ينساب كالثّعبان

والطّير يخطب شكرا

على ذرا الأغصان

والقضب تلتفّ سكرا

بميّس القضبان

والرّوض يفترّ زهوا

عن مبسم الأقحوان

والنّرجس الغضّ يرنو

بوجنة النّعمان

وراحة الرّيح تمتا

ر نفحة الرّيحان(١)

فدم مدى الدّهر فيها

في غبطة وأمان

فاستحسن المنصور ارتجاله ، وقال لابن العريف : مالك فائدة في مناقضة من هذا ارتجاله ، فكيف تكون رويته؟ فقال ابن العريف : إنما أنطقه وقرّب عليه المأخذ إحسانك ، فقال له صاعد : فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعدت عليك المأخذ ، فضحك المنصور وقال : غير هذه المنازعة أليق بأدبكما.

قلت : وقد ذكر مؤرخو الأندلس منى كثيرة بها : منها منية الناعورة السابقة ، ومنية العامرية هذه ، ومنية السرور ، ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة.

قال أبو الحسن بن سعيد : أخبرني أبي عن أبيه قال : خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوّار اللوز أبو بكر بن بقيّ الشاعر المشهور ، فجلسنا تحت سطر لوز قد نوّر ، فقال ابن بقيّ : [البسيط]

سطر من اللّوز في البستان قابلني

ما زاد شيء على شيء ولا نقصا

كأنّما كلّ غصن كمّ جارية

إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا

ثم قال : [الطويل]

عجبت لمن أبقى على خمر دنّه

غداة رأى لوز الحديقة نوّرا

__________________

(١) يمتار : يجمع لأهله الميرة ، أي الطعام والمؤونة.

٩٩

وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به ، وأنه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحلّ عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش ، وصاحب الأبنية لما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره ، قال : وكان له دخالة كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم ، حاشا الصيد والطير والحيتان ، وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء ، قال : وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة ، انتهى.

ومن المطمح : أن المنصور لما فرغ من بناء الزاهرة غزا غزوة وأبعد فيها الإيغال وغال فيها من عظماء الروم من غال (١) ، وحل من أرضهم ما لم يطرق ، وراع منهم ما لم يرع قط ولم يفرق (٢) ، وصدر صدرا سما به على كل حسناء عقيلة ، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة ، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد ، وشهد له فيها يوم مثله لم يشهد ، وكان ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده (٣) ، وحداه منتجعه ورائده ، وابن شهيد هذا أحد حجاب الناصر ، وله على ابن أبي عامر أياد محكمة الأواصر ، وهو الذي نهض به أول انبعاثه ، وشفى أمره زمن التياثة ، وخاصم المصحفي عنه بلسان من الحماية ألدّ ، وتوخاه بإحسان قلده من الرعاية ما قلد ، وأسمى رتبته ، وحلّى بإعظام جاهه لبّته (٤) ، وكان كثيرا ما يتحفه ، ويصله ويلطفه ، فلما صدر المنصور من غزوته هذه وقفل ، نسي متاحفته وغفل ، فكتب إليه ابن شهيد : [الخفيف]

أنا شيخ والشّيخ يهوى الصّبايا

يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا

ورسول الإله أسهم في الفي

ء لمن لم يخبّ فيه المطايا

فاجعلنّي فديت أشكر معرو

فك وابعث بها عذاب الثّنايا

فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم يكنفها ثلاث جوار ، كأنهن نجوم سوار ، وكتب إليه : [الخفيف]

قد بعثنا بها كشمس النّهار

في ثلاث من المها أبكار

فاتّئد واجتهد فإنّك شيخ

سلخ اللّيل عن بياض النّهار

__________________

(١) غال (يغول غولا) الرجل : أخذه من غير أن يعلم فقتله.

(٢) يفرق : يخاف خوفا شديدا.

(٣) النقرس : مرض مؤلم يصيب مفاصل الرجل لا سيما إبهامها.

(٤) في ب : بإعظام جيده ولبته.

١٠٠