نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨
١
٢

الباب الرابع

في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة ، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة ، والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزّهراء والعامرية الزاهرة ، ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة ، وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة.

قال ابن سعيد رحمه الله : مملكة قرطبة في الإقليم الرابع ، وإيالته للشمس ، وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش ، ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة (١) ، ولأجزائها خواصّ مذكورة في متفرقاتها ، وأرضها أرض كريمة النبات (٢) ، انتهى.

وقدّم رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال : إنما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريرا لسلطنة الأندلس ، ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة ، ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم ، لم يعدلوا عن هذه المملكة ، وتقلبوا منها في ثلاثة أقطار (٣) أداروا فيها خلافتهم : قرطبة ، والزهراء ، والزاهرة ، وإنما اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلا ، وقرطبة أعظم علما وأكثر فضلا بالنظر إلى غيرها من الممالك ، لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها.

ثم قسم ابن سعيد كتاب «الحلة المذهبة ، في حلى ممالك قرطبة». بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتابا : الكتاب الأوّل كتاب : «الحلة الذهبية ، في حلى الكورة القرطبية». الكتاب الثاني كتاب : «الدرر المصونة ، في حلى كورة بلكونة». الكتاب الثالث كتاب : «محادثة السير (٤) ، في حلى كورة القصير». الكتاب الرابع كتاب : «الوشي المصوّر ، في حلى كورة

__________________

(١) في ج : بسطائه.

(٢) في ب : وأرضها أرض كريمة النبات. وفي ه : وهي أرض كريمة النبات.

(٣) في ب ، ه : ثلاثة أقطاب.

(٤) في ب : محادثة السمير.

٣

المدوّر». الكتاب الخامس كتاب : «نيل المراد ، في حلى كورة مراد». الكتاب السادس كتاب :«المزنة ، في حلى كورة كزنة». الكتاب السابع كتاب : «الدر النافق ، في حلى كورة غافق». الكتاب الثامن كتاب : «النفحة الأرجة ، في حلى كورة إستجة». الكتاب التاسع كتاب : «الكواكب الدرّية ، في حلى الكورة القبرية». الكتاب العاشر كتاب : «رقة المحبة ، في حلى كورة إستبة». الكتاب الحادي عشر كتاب : «السّوسانة» (١) ، في حلى كورة اليسانة» انتهى.

قال رحمه الله تعالى : إن العمارة اتّصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة ، بحيث إنه كان يمشى فيها لضوء السرج الممتدّة (٢) عشرة أميال حسبما ذكره الشّقندي في رسالته ، ثم قال : ولكلّ مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختصّ به ، ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال : بين المدوّر وقرطبة ستة عشر ميلا ، وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلا ، وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلا ، وبين قرطبة وغافق مرحلتان ، وبين قرطبة وإستبة ستة وثلاثون ميلا ، وبين قرطبة وبلكونة مرحلتان ، وبين قرطبة واليسّانة أربعون ميلا ، وبين قرطبة وقبرة ثلاثون ميلا ، وبين قرطبة وبيّانة مرحلتان ، وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلا ، وكورة رندة كانت في القديم من عمل قرطبة ، ثم صارت من مملكة إشبيلية ، وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية ، انتهى.

ثم قسم رحمه الله تعالى كتاب «الحلة الذهبية ، في حلى الكورة القرطبية» إلى خمسة كتب : الكتاب الأول كتاب : «النّغم المطربة ، في حلى حضرة قرطبة». الكتاب الثاني كتاب : «الصّبيحة الغرّاء ، في حلي حضرة الزهراء». الكتاب الثالث كتاب : «البدائع الباهرة ، في حلى حضرة الزاهرة». الكتاب الرابع كتاب : «كتاب الوردة ، في حلى مدينة شقنده». الكتاب الخامس : (٣) كتاب : «الجرعة السّيّغة ، في حلى كورة وزغة» (٤).

وقال رحمه الله تعالى في كتاب «النغم المطربة ، في حلى حضرة قرطبة» : إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها ، وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصة ، وهي مختصّة بما يتعلق بذكر المدينة في نفسها ، وتاجا ، وهو مختصّ بالإيالة السلطانية ، وسلكا ، وهو مختص بأصحاب درر الكلام من النّثار والنظام ، وحلة ، وهي مختصّة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر ، ولا يجب إهمال تراجمهم ، وأهدابا ، وهي مختصة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه ، انتهى.

__________________

(١) في ب : اليسّانة.

(٢) في ب ، ه : السرج المتصلة.

(٣) في ب : الكتاب الخامس كتاب.

(٤) في ه : في حلى قرية وزغة.

٤

ثم فصّل رحمه الله تعالى ذلك كله بما تعدّدت منه الأجزاء وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكر ، ثم أردفته بكلام غيره ، فأقول : قال في كتاب أجار (١) : إن قرطبة ـ بالطاء المعجمة ـ ومعناه أجر ساكنها ، يعني عرّبت بالطاء ، ثم قال ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع ، انتهى.

وقال غيره : إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض (٢) طولا من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع ، واتصلت العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولا وفرسخين عرضا ، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول ، وفي العرض ستة ، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير ، وليس في الأندلس واد يسمّى باسم عربيّ غيره ، ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة ، فانحطّت ، واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطّامّة الكبرى عليها بأخذ العدوّ الكافر لها في ثاني وعشري شوّال سنة ستمائة وثلاث وعشرين (٣).

ثم قال هذا القائل : ودور قرطبة أعني المسوّر منها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ، ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع ، انتهى.

وعدد أرباضها أحد وعشرون ، في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمّامات ما يقوم بأهله ، ولا يحتاجون إلى غيره ، وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية ، في كل واحدة منبر وفقيه مقلّص (٤) تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له ، وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلا من حفظ الموطّأ (٥) ، وقيل : من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحفظ المدوّنة ، وكان هؤلاء المقلّصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة ، ويسلّمون عليه ، ويطالعونه بأحوال بلدهم. انتهى.

قال : وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار ، بالإنصاف ، وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا ، فالله أعلم ، وما أحسن قول بعضهم : [البسيط]

دع عنك حضرة بغداد وبهجتها

ولا تعظّم بلاد الفرس والصّين

فما على الأرض قطر مثل قرطبة

وما مشى فوقها مثل ابن حمدين

__________________

(١) هو الكتاب المعروف بجغرافية الإدريسي الذي ألفه لأجار ، وهو أحد ملوك صقلية النور منديين وأجار وهو رجار.

(٢) الأرباض : جمع ربض ، وهو ما حول المدينة من مساكن ، وضواحي المدينة.

(٣) في ب : ثالث عشرين شوّال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين.

(٤) المقلص والمقلس : الذي يلبس القلنسوة.

(٥) موطّأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه.

٥

وقال بعضهم : قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبى لها ثمرات كل جهة وخيرات كلّ ناحية ، واسطة بين الكور ، موفية على النهر ، زاهرة مشرقة ، أحدقت بها المنى فحسن مرآها ، وطاب جناها (١).

وفي كتاب «فرحة الأندلس» لابن غالب : أما قرطبة فإنه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين (٢) ، وتأويله القلوب المشككة.

وقال أبو عبيد البكري : إنها في لفظ القوط بالظاء المعجمة ، وقال الحجاري : الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها ، وقد يكسرها المشرقيون في الضبط ، كما يعجمها آخرون. انتهى.

وقال بعض العلماء : أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس ، وقطبها ، وقطرها الأعظم ، وأمّ مدائنها ومساكنها ، ومستقرّ الخلفاء ، ودار المملكة في النصرانية والإسلام ، ومدينة العلم ، ومستقرّ السنة والجماعة (٣) ، نزلها جملة من التابعين وتابعي التابعين (٤) ، ويقال : نزلها بعض من الصحابة ، وفيه كلام.

وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل ، طيّبة الماء والهواء ، أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كلّ جانب ، وبها المحرث العظيم الذي ليس له في بلاد الأندلس نظير (٥) ولا أعظم منه بركة.

وقال الرازي : قرطبة أم المدائن ، وسرّة الأندلس ، وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام ، ونهرها أعظم أنهار الأندلس ، وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصّنعة والإحكام ، والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه.

وقال بعضهم (٦) : هي أعظم مدينة بالأندلس ، وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه في كثرة أهل ، وسعة محلّ ، وفسحة أسواق ، ونظافة محالّ ، وعمارة مساجد ، وكثرة حمّامات وفنادق ، ويزعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد ، وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك ولا حقة به ، وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحالّ حسنة ، وفيها كان

__________________

(١) الجنى : كل ما يجنى من الشجر.

(٢) في ج : أما قرطبة فإنها لفظ اليونانيين.

(٣) في ب ، ه : ومقرّ السنة والجماعة.

(٤) في ج : وتابع التابعين.

(٥) في ب ، ه : الذي ليس في بلاد الأندلس مثله.

(٦) في ب ، ه : وقال ابن حوقل. وفي بعض النسخ : وقال ابن سعيد رحمه الله في المغرب.

٦

سلاطينهم قديما ، ودورهم داخل سورها المحيط بها ، وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على نهرها.

قال : وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشيا.

وقال الحجاري : وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ، ومجتمع علماء الأنام الأعلام (١) ، بها استقرّ سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدّية واليمانية ، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء ، إذ كانت مركز الكرماء ، ومعدن العلماء ، ولم تزل تملأ الصّدور منها والحقائب ، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب (٢) ، ولم تبرح ساحاتها مجرّ عوال ومجرى سوابق ، ومحطّ معال وحمى حقائق ، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد ، والزّور (٣) ، من الأسد ، ولها الداخل الفسيح ، والخارج الذي يمتّع البصر بامتداده فلا يزال مستريحا وهو من تردّد النظر طليح (٤).

وقال الحجاري : حضرة قرطبة منذ افتتحت (٥) الجزيرة هي كانت منتهى الغاية ، ومركز الراية ، وأمّ القرى ، وقرارة أولي الفضل والتقى ، ووطن أولي العلم والنهى ، وقلب الإقليم ، وينبوع متفجّر العلوم ، وقبة الإسلام ، وحضرة الإمام ، ودار صوب العقول ، وبستان ثمر الخواطر ، وبحر درر القرائح ، ومن أفقها طلعة نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر ، وبها أنشئت التأليفات الرائقة ، وصنفت التصنيفات الفائقة ، والسبب في تبريز القوم حديثا وقديما على من سواهم أنّ أفقهم القرطبيّ لم يشتمل قط إلا على البحث والطلب ، لأنواع العلم والأدب. انتهى.

وقال علي بن سعيد (٦) : أخبرني والدي أن السلطان الأعظم أبا يعقوب بن عبد المؤمن كان (٧) لوالده محمد بن عبد الملك بن سعيد : ما عندك في قرطبة؟ قال : فقلت له : ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها ، فقال السّلطان : إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة ملكهم لعلى بصيرة ، الدّيار الكثيرة المنفسحة والشوارع المتسعة ، والمباني الضخمة ، والنهر الجاري ، والهواء المعتدل ، والخارج النضر ، والمحرث العظيم ، والشّعراء

__________________

(١) الأعلام : ساقطة في ب ، وموجودة في أ ، ه.

(٢) الكتائب : جمع كتيبة : القطعة من الجيش.

(٣) الزّور : الصّدر.

(٤) الطليح : المتعب.

(٥) في ب : استفتحت

(٦) في ب : وقال الإمام علي بن سعيد.

(٧) في ب : قال.

٧

الكافية (١) ، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها ، قال : فقلت : ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.

ثم قال ابن سعيد : ومن كلام والدي في شأنها : هي من أحسن بلاد الأندلس مباني ، وأوسعها مسالك ، وأبرعها ظاهرا وباطنا ، وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين ، ولأهلها رياسة ووقار ، ولا تزال سمة العلم متوارثة فيهم ، إلا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولا ، وأشدهم تشنيعا وتشغيبا ، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم ، حتى إنّ السيد أبا يحيى بن يعقوب (٢) بن أبي عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له : كيف وجدت أهل قرطبة؟ قال : مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح ، وإن أثقلته به صاح ، ما ندري أين رضاهم فنقصده ، ولا أين سخطهم فنجتنبه (٣) ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامّتها شرّا من عامّة العراق ، وإنّ العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية ، وإني إن كلّفت العود إليها لقائل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين.

قال والدي : ومن محاسنها ظرف اللباس ، والتظاهر بالدين ، والمواظبة على الصلاة ، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم ، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها ، والتّستر بأنواع المنكرات ، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم ، وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا ، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب ، صار ذلك عندهم من آلات التّعيّن والرياسة ، حتى إنّ الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب ، وينتخب فيها ليس إلّا لأن يقال : فلان عنده خزانة كتب ، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره ، والكتاب الذي هو بخطّ فلان قد حصّله وظفر به.

قال الحضرمي : أقمت مرّة بقرطبة ، ولازمت سوق كتبها مدة أترقّب (٤) فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء ، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح (٥) ففرحت به أشدّ الفرح ، فجعلت أزيد في ثمنه ، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ ، إلى أن بلغ فوق حدّه ، فقلت له : يا هذا ، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي ، قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة ، فدنوت منه ، وقلت له : أعزّ الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب

__________________

(١) في ه : الشعرى الكافية.

(٢) أبا يحيى بن أبي يعقوب.

(٣) في ب ، ه : فنتجنبه.

(٤) في ب : أترقب فيها.

(٥) في ب : بخطّ جيد وتسفير مليح.

٨

تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حدّه ؛ قال : فقال لي : لست بفقيه ، ولا أدري ما فيه ، ولكني أقمت خزانة كتب ، واحتلفت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد ، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب ، فلما رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته ، ولم أبال بما أزيد فيه ، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير ، قال الحضرميّ : فأحرجني ، وحملني على أن قلت له : نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك ، يعطي الجوز من لا له أسنان (١) ، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب ، وأطلب الانتفاع به ، يكون الرزق عندي قليلا ، وتحول (٢) قلة ما بيدي بيني وبينه.

قال ابن سعيد : وجرت مناظرة بين يدي منصور بن عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر ، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه : ما أدري ما تقول ، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.

وسئل ابن بشكوال عن قصر قرطبة (٣) ، فقال : هو قصر أوليّ تداولته ملوك الأمم من لدن عهد موسى النبيّ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف ، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان (٤) ـ منذ فتح الله عليهم الأندلس بما فيها ـ في قصرها البدائع الحسان ، وأثروا فيه الآثار العجيبة ، والرياض الأنيقة (٥) ، وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة ، وتموّنوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم (٦) ، وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرّصاص تؤدّيها منها إلى المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرّخام الرّومية المنقوشة العجيبة.

قال : وفي هذا القصر القصاب العالية السموّ ، المنيفة العلوّ ، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها.

__________________

(١) في ب : من لا عنده أسنان.

(٢) تحول : تمنع ، تحجز.

(٣) في ب : ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة قال :

(٤) بنو مروان : بنو مروان بن الحكم الخليفة الأمويّ.

(٥) في ب ، ه : والرياض المونقة.

(٦) في ب ، ه : القصر المكرّم.

٩

قال : ومن قصوره المشهورة ، وبساتينه المعروفة (١) : الكامل ، والمجدّد ، والحائر (٢) ، والروضة ، والزاهر ، والمعشوق ، والمبارك ، والرشيق ، وقصر السرور ، والتاج ، والبديع.

قال : ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين ، وغياث الملهوفين ، والحكم بالحقّ الباب الذي عليه السّطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا ، وعلى هذا الباب باب حديد ، وفيه حلق لاطون (٣) قد أثبتت في قواعدها ، وقد صورت صورة إنسان فتح فمه ، وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج ، وكان الأمير محمد قد افتتحها ، فجلب حلقها إلى هذا الباب ، وله باب قبليّ أيضا ، وهو المعروف بباب الجنان ، وقدّام هذين البابين المذكورين على الرصيف المشرف على النهر الأعظم مسجدان مشهوران بالفضل كان الأمير هشام الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل ، وله باب ثالث يعرف بباب الوادي ، وله باب بشماليّه يعرف بباب قورية ، وله باب رابع يدعى بباب الجامع ، وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط ، وعدّد أبوابا بعد هذا طمست أيام فتنة المهديّ بن عبد الجبار.

وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب : باب القنطرة إلى جهة القبلة ، ويعرف بباب الوادي ، وبباب الجزيرة الخضراء ، وهو على النهر ، وباب الحديد ، ويعرف بباب سرقسطة ، وباب ابن عبد الجبار ، وهو باب طليطلة ، وباب رومية ، وفيه تجتمع الثلاثة الرّصف التي تشقّ دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طرّكونة إلى أربونة مارّة في الأرض الكبيرة ، ثم باب طلبيرة ، وهو أيضا باب ليون ، ثم باب عامر القرشيّ ، وقدّامه المقبرة المنسوبة إليه ، ثم باب الجوز (٤) ، ويعرف بباب بطليوس ، ثم باب العطارين ، وهو باب إشبيلية ، انتهى.

وذكر أيضا أنّ عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسّع (٥) والعمارة أحد وعشرون ربضا ، منها القبلية بعدوة النّهر : ربض شقندة ، وربض منية عجب ، وأما الغربية فتسعة : ربض حوانيت الرّيحان ، وربض الرقّاقين ، وربض مسجد الكهف ، وربض بلاط مغيث ، وربض مسجد الشّفاء ، وربض حمّام الإلبيري ، وربض مسجد السّرور ، وربض مسجد الرّوضة ، وربض السّجن القديم ، وأما الشمالية فثلاثة : ربض باب اليهود ، وربض مسجد أمّ سلمة ، وربض

__________________

(١) في ه : وبساتينه المعمورة.

(٢) في ب : وقصر الحائر.

(٣) اللّاطون : النحاس الأصفر ، وهو في الاسبانيةIaton.

(٤) في ج : باب الجور.

(٥) في ب ، ه : في التوسيع.

١٠

الرّصافة ، وأمّا الشرقية فسبعة. ربض شبلار (١) ، وربض قرن برّيل ، وربض البرج ، وربض منية عبد الله ، وربض منية المغيرة ، وربض الزاهرة ، وربض المدينة العتيقة.

قال : ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختصّ بالسّور دونها ، وكانت هذه الأرباض بدون سور (٢) ، فلما كانت أيام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع.

وذكر ابن غالب أنه كان دور هذا الحائط أربعة وعشرين ميلا (٣) ، وشقندة معدودة في المدينة لأنها مدينة قديمة كانت مسوّرة.

قال ابن سعيد في «المغرب» : ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظما ونثرا ما انتهى إليه الضبط ، من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهمّ ، ونوشّي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة ، وما يحتوي عليه نطاقها المذكور.

فأوّل ما نذكر من المنتزهات منتزه (٤) الخلفاء المروانية ، وهو قصر الرّصافة ، فنقول : كان هذا القصر مما ابتناه (٥) عبد الرحمن بن معاوية في أول أيامه لنزهه ، وسكناه أكثر أوقاته منية الرّصافة التي اتخذها بشمال قرطبة منحرفة إلى الغرب ، فاتخذ بها قصرا حسنا ، ودحا (٦) جنانا واسعة ، ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية ، وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفر رسولاه إلى الشأم من النوى المختارة (٧) والحبوب الغريبة ، حتى نمت بيمن الجدّ وحسن التربية في المدة القريبة أشجارا معتمّة (٨) أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس ، فاعترف بفضلها على أنواعها.

قال : وسماها باسم رصافة جده هشام بأرض الشام الأثيرة (٩) لديه ، ولميله في اختيار هذه (١٠) ، وكلفه بها ، وكثرة تردّده عليها ، وسكناه أكثر أوقاته بها ـ طار لها الذكر في أيامه ، واتصل من بعده في إيثارها.

__________________

(١) في بعض النسخ : سلار.

(٢) في ب : دون سور ، وفي ه : دون السور.

(٣) في ب : أربعة عشر ميلا.

(٤) في ب ، ج : منتزهات.

(٥) في ب : قال والدي رحمه الله : كان مما ابتناه بدل : فنقول : كان هذا القصر مما ابتناه.

(٦) دحا : بسط.

(٧) في ب : من النوى المختارة.

(٨) اعتمّ الشّجر : نما وطال.

(٩) الأثيرة : المفضّلة.

(١٠) في ب : وامتثله في اختيار رصافته هذه وكلفه بها.

١١

قال : وكلهم فضّلها ، وزاد في عمارتها ، وانبرى وصّاف الشعراء لها ، فتنازعوا في (١) ذلك فيما هو إلى الآن مشهور (٢) مأثور عنهم ، مستجاد منهم.

وقال ابن سعيد : والرّمّان السّفري الذي فاض على أرجاء الأندلس ، وصاروا لا يفضلون عليه سواه ، أصله من هذه الرّصافة. وقد ذكر ابن حيّان شأنه ، وأفرد له فصلا ، فقال : إنه الموصوف بالفضيلة ، المقدّم على أجناس الرّمّان بعذوبة الطعم ، ورقة العجم ، وغزارة الماء ، وحسن الصورة ، وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخته (٣) منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمّان الرّصافة المنسوبة إلى هشام ، قال : فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهيا به ، وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن ، ويقال : هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته ، قال : وهم يحملون الألوية بين يدي الخلفاء من بني أمية ، فأعطاه من ذلك الرمان جزءا فراقه حسنه وخبره ، فسار به إلى قرية بكورة ريّة ، فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجرا أثمر وأينع ، فنزع إلى عرقه ، وأغرب في حسنه ، فجاء به عمّا قليل إلى عبد الرحمن ، فإذا هو أشبه شيء بذلك الرّصافي ، فسأله الأمير عنه ، فعرّفه وجه حيلته ، فاستبرع استنباطه (٤) ، واستنبل همته ، وشكر صنعه ، وأجزل صلته ، واغترس منه بمنية الرّصافة وبغيرها من جنّاته ، فانتشر نوعه ، واستوسع الناس في غراسه ، ولزمه النسب إليه ، فصار يعرف إلى الآن بالرمان السّفري (٥).

قال : وقد وصف هذا الرمان أحمد بن محمد بن فرح (٦) الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له ، فقال : [المتقارب]

ولابسة صدفا أحمرا

أتتك وقد ملئت جوهرا

كأنّك فاتح حقّ لطيف

تضمّن مرجانه الأحمرا

حبوبا كمثل لثات الحبيب

رضابا إذا شئت أو منظرا

وللسّفر تعزى وما سافرت

فتشكو النّوى أو تقاسي السّرى

__________________

(١) في ب ، ه : فتناغوا فيه.

(٢) «مشهور» سقط من ب.

(٣) في ب : أجنيته.

(٤) استبرع استنباطه : وجده بارعا.

(٥) الرّمّان السّفريّ : نسبة إلى سفر بن عبيد الكلاعي.

(٦) في ب : أحمد بن فرج ، وفي ج : محمد بن روح.

١٢

بلى فارقت أيكها ناعما

رطيبا وأغصانها نضّرا

وجاءتك معتاضة إذ أتتك

بأكرم من عودها عنصرا

بعود ترى فيه ماء النّدى

ويورق من قبل أن يثمرا

هديّة من لو غدت نفسه

هديّته ظنّه قصّرا

وقال ابن سعيد : وأخبرني والدي قال : أخبرني الوشّاح المبرّز المحسن أبو الحسن المريني (١) قال : بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء الرّصافة ، إذا بإنسان رثّ الهيئة ، مجفوّ الطلعة ، قد جاء فجلس معنا ، فقلنا له : ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة؟ فقال: لا تعجلوا عليّ ، ثم فكر قليلا ورفع رأسه فأنشدنا : [الخفيف]

اسقنيها إزاء قصر الرّصافه

واعتبر في مآل أمر الخلافه

وانظر الأفق كيف بدّل أرضا

كي يطيل اللّبيب فيه اعترافه

ويرى أنّ كلّ ما هو فيه

من نعيم وعزّ أمر سخافه

كلّ شيء رأيته غير شيء

ما خلا لذّة الهوى والسّلافه

قال المرينيّ : فقبلت رأسه ، وقلت له : بالله من تكون؟ فقال : قاسم بن عبّود الرّياحيّ ، الذي يزعم الناس أنه موسوس أحمق ، قال : فقلت له : ما هذا شعر أحمق! وإن العقلاء لتعجز عنه ، فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك ، فنادم وأنشد ، وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا ، ويقول : اللهم غفرا. انتهى قال : ومن قصور (٢) خارج قرطبة قصر السيّد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن ، وهو على متن النهر الأعظم ، تحمله أقواس ، وقيل للسيّد : كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة؟ فقال : علمت أنهم لا يذكرون واليا بعد عزله ولا له عندهم قدر ؛ لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانية ، فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم.

قال ابن سعيد : وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر : [الطويل]

__________________

(١) هو أبو الحسن علي بن المريني ، وهو شاعر توفي زمن منصور بني عبد المؤمن (انظر المغرب ج ٢ ص ٢١٣).

(٢) في ب : ومن أبدع قصور.

١٣

ألا حبّذا القصر الّذي ارتفعت به

على الماء من تحت الحجارة أقواس

هو المصنع الأعلى الّذي أنف الثّرى

ورفّعه عن لثمه المجد والباس

فأركب متن النّهر عزّا ورفعة

وفي موضع الأقدام لا يوجد الرّاس

فلا زال معمور الجناب وبابه

يغصّ وحلّت أفقه الدّهر أعراس

وقال الفتح في قلائده ، لما ذكر الوزير ابن عمار (١) : وتنزه بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده بنو أمية بالصّفّاح والعمد ، وجري في إتقانه إلى غير أمد ، وأبدع بناؤه ، ونمّقت ساحاته وفناؤه ، واتّخذوه ميدان مراحهم ، ومضمار أفراحهم (٢) ، وحكوا به قصرهم بالمشرق ، وأطلعوه كالكوكب المشرق ، وأنشد فيه لابن عمّار : [الخفيف]

كلّ قصر بعد الدّمشق يذمّ

فيه طاب الجنى ولذّ المشمّ (٣)

منظر رائق ، وماء نمير

وثرى عاطر ، وقصر أشمّ

بتّ فيه واللّيل والفجر عندي

عنبر أشهب ومسك أحمّ (٤)

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي.

وذكر الحجاري في «المسهب» أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي ، اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجدّه أيام حجابته للخليفة الحكم المستنصر ، فاستعبر (٥) حين تذكر ما آل إليه (٦) حال جدّه مع المنصور بن أبي عامر ، واستيلائه على ملكه وأملاكه ، فقال : [الخفيف]

قف قليلا بالمصحفيّة واندب

مقلة أصبحت بلا إنسان

واسألنها عن جعفر وسطاه

ونداه في سالف الأزمان

جعفر مثل جعفر حكم الدّه

ر عليه بعسرة وهوان

ولكم حذّر الرّدى فصممنا

لا أمان لصاحب السّلطان

بينما يعتلي غدا خافضا من

ه انتساب لكفّة الميزان (٧)

__________________

(١) انظر قلائد العقيان صفحة ٨٤.

(٢) في ه : ومضمار انشراحهم.

(٣) لذ المشم : طابت الرائحة حتى استلذ بها شامّها.

(٤) أحمّ : أسود.

(٥) استعبر : جرت دموعه.

(٦) آل إليه : صار إليه.

(٧) في ب : منه اكتساب كلفّة الميزان. وفي ج : منه اكتئاب كلفّة الميزان.

١٤

ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثّم (١) ملك قرطبة.

قال ابن سعيد : أخبرني والدي عن أبيه قال : خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النّوّار أبو بكر بن بقيّ (٢) الشاعر المشهور ، فجلسنا تحت سطر من أشجار اللّوز قد نوّرت ، فقال ابن بقيّ : [البسيط]

سطر من اللّوز في البستان قابلني

ما زاد شيء على شيء ولا نقصا

كأنّما كلّ غصن كمّ جارية

إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا

ثم قال شعرا منه : [الطويل]

عجبت لمن أبقى على خمر دنّه

غداة رأى لوز الحديقة نوّرا

(٣) ولا أذكر بقية الأبيات ، قال : جدّي ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة ، فذكرته باجتماعه في منية الزبير ، فتنهّد وفكر ساعة وقال : اكتبوا عني ، فكتبنا : [الطويل]

سقى الله بستان الزّبير ، ودام في

ذراه مسيل النّهر ما غنّت الورق (٤)

فكائن لنا من نعمة في جنابه

كبزّته الخضراء طالعها طلق

هو الموضع الزّاهي على كلّ موضع

أما ظلّه ضاف أما ماؤه دفق

أهيم به في حالة القرب والنّوى

وحقّ له منّي التّذكّر والعشق

ومن ذلك النّهر الخفوق فؤاده

بقلبي ما غيّبت عن وجهه خفق

قال : فقلت له : جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي ، قال : ذلك لك ، قلت : وكيف ذلك؟ قال : تدفع لي هذا السيف الذي تقلدت به أتزوّد به إليه ، وأنفق الباقي فيه على ما تعلم ، قال : فقلت له : هذا السيف شرّفني به السلطان أبو زكرياء بن غانية ، ما لعطائه سبيل ، ولكن أعطيك قيمته ، فخرج وأتى بشخص يعرف قيمة السيوف ، فقدّره وجعل يقول : إنه سيف السلطان ابن غانية ، ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته ، ثم قبض ما قدّر به ، وأنشد ارتجالا : [الوافر]

__________________

(١) هو الزبير بن عمر أحد ولاة الملثمين سماه ابن سعيد صاحب قرطبة والحقيقة أنه كان واليا على غرناطة.

والزبير هذا هو الذي هجاه الشاعر المعروف بالأبيض. انظر المغرب ج ٢ ص ١٢٧.

(٢) أبو بكر بن بقيّ الطليطلي : أحد كبار الشعراء الوشاحين في عصر المرابطين. توفي سنة ٥٤٠ ه‍. انظر معجم الأدباء ١٩ / ٢١ ووفيات الأعيان ٥ / ٢٤٨ والمغرب ٢ / ١٩.

(٣) الدّنّ : وعاء الخمر الكبير. والنّور : الزهر.

(٤) في ب : مجاريه سيل النهر ما غنّت الورق. والورق : الحمائم البيض.

١٥

أطال الله عمر فتى سعيد

وبقّاه ورقّته السّعود

غدا لي جوده سببا لعودي

إلى وطني فها أنا ذا أعود

وألثم كفّه شكرا ويتلو

طريقي آي نعماه النّشيد

حباني من ذخائره بسيف

به لم يبق للأحزان جيد

والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة ، وقد ذكره الوزير أبو الوليد بن زيدون (١) في قصيد ضمنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه ، وكان قد فرّ من قرطبة أيام بني جهور ، فحضره في فراره عيد ذكّره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسية مع ولّادة التي كان يهواها ويتغزل فيها ، فقال : [الطويل]

خليليّ لا فطر يسرّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى(٢)

وستأتي هذه القصيدة في هذا الباب ، كما ستأتي قصيدة أبي القاسم بن هشام القرطبي التي أولها :

يا هبّة باكرت من نحو دارين (٣)

وفيها كثير من منتزهات قرطبة.

قال ابن سعيد : كان والدي كثيرا ما يأمرني بقراءتها عليه ، ويقول : والله لقد أنبأت عن فضل لهذا الرجل ، قال : وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها ، ويزين بها مجالسه ، ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها ، وإنه لجدير بذلك ، وإنها لمن كنوز الأدب.

ثم قال : والمرج النّضير المذكور بها هو مرج الخزّ ، أخبرني والدي أنه حضر في زمان الصّبا بهذا المرج على راحة ، ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقّشيّ والمسنّ بن دويدة (٤) المشهور بخفة الروح ، قال : فسبحت أمامنا إوز ، وجعلت تمرح وتنثر ما

__________________

(١) أبو الوليد بن زيدون : أمير شعراء الأندلس ، أكثر شعره في الغزل ، أحب ولادة بنت المستكفي آخر خلفاء بني أمية في الأندلس ، وقضى حياته يتغزل بها ولا ينساها رغم تنكرها له. له ديوان مطبوع ، ورسالة سميت رسالة ابن زيدون.

(٢) انظر ديوان ابن زيدون ص ١٠٢.

(٣) دارين : بلدة مشهورة بالمسك.

(٤) في ب : ابن دريدة.

١٦

عليها من الماء فوق المرج ، والمرج قد أحدق به (١) الوادي ، والشمس قد مالت عليه للغروب ، فقال لي أبو الحسين : بالله صف يومنا وحسن هذا المنظر ، فقلت : لا أصفه أو تصفه أنت ، فقال : ولك مني ذلك ، فأفكر كل منا على انفراد بعد ما ذكرنا ما نصف نثرا ، فقال : أبو الحسين الوقّشيّ : [البسيط]

لله يوم بمرج الخزّ طاب لنا

فيه النّعيم بحيث الرّوض والنّهر

وللإوزّ على أرجائه لعب

إذا جرت بدّدت ما بيننا الدّرر

والشّمس تجنح نحو البين مائلة

كأنّ عاشقها في الغرب ينتظر

والكأس جائلة باللّبّ حائرة

وكلّنا غفلات الدّهر نبتدر

قال : فقلت : [الطويل]

ألا حبّذا يوم ظفرنا بطيبه

بأكناف مرج الخزّ والنّهر يبسم

وقد مرحت فيه الإوزّ ، وأرسلت

على سندس درّا به يتنظّم

ومدّ به للشّمس فهو كأنّه

لثام لها ملقى من النّور معصم

أدرنا عليه أكؤسا بعثت به

من الأنس ميتا عاد وهو يكلّم

غدونا إليه صامتين سكينة

فرحنا وكلّ بالهوى يترنّم

فأظهر كل منا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطا وتتميما للمسرة ، ثم قلنا للمسنّ :

ما عندك أنت (٢) تعارض به هاتين القطعتين؟ قال : بهذا ، ورفع رجله وحبق (٣) حبقة فرقعت منها أرجاؤه ، فقال له أبو الحسين : ما هذا يا شيخ السوء؟ فقال : الطلاق يلزمه (٤) إن لم تكن أوزن من شعركما ، وأطيب رائحة ، وأغنّ صوتا ، وأطرب معنى ، فضحكنا منه أشد ضحك ، وجعلنا نهتزّ غاية الاهتزاز لموقع نادرته ، فقال : والدليل على ذلك أنكم طربتم لما جئت به أكثر مما طربتم من شعركم.

ثم قال ابن سعيد : ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق ، مقصود للفرجة ، يسرح فيه البصر ، وتبتهج فيه النفس ، أخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن

__________________

(١) أحدق به : أحاط به.

(٢) في ب : ما عندك أنت ما تعارض به.

(٣) حبق : ضرط.

(٤) في ب : الطلاق له لازم.

١٧

سعيد قال : خرجت مع الشريف الأصمّ القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء ـ وقد تدبج بالنوار (١) ـ فلما حركنا حسن المكان ، وتشوقنا إلى الأركان (٢) ، قال الشريف : لقد ذكرني هذا البسيط بسيط فحص السرادق ، فقلت له : فهل ثار في خاطركم نظم فيه؟ قال : نعم ، ثم أنشد : [الطويل]

ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق

ولا تسأموا من ذكر فحص السّرادق(٣)

مجرّ ذيول السّكر من كلّ مترف

ومجرى الكؤوس المترعات السّوابق(٤)

قصرت عليه اللّحظ ما دمت حاضرا

وفكري في غيب لمرآه شائقي

أيا طيب أيّام تقضّت بروضة

على لمح غدران وشمّ حدائق

إذا غرّدت فيها حمائم دوحها

تخيّلتها الكتّاب بين المهارق

وما باختيار الطّرف فارقت حسنها

ولكن بكيد من زمان منافق

قال أبو جعفر : فلما سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار (٥) ، وحركني ذلك إلى أن قلت في حوز مؤمل (٦) سيد منتزهات غرناطة ، ولم يذكر هنا ما قاله فيه ، وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا ، والله أعلم.

ومن منتزهات قرطبة السّدّ ، قال ابن سعيد : أخبرني والدي أن الشاعر المبرز أبا شهاب المالقي أنشده لنفسه واصفا يوم راحة بهذا السّد : [الطويل]

ويوم لنا بالسّدّ لو ردّ عيشه

بعيشة أيّام الزّمان رددناه

بكرنا له والشّمس في خدر شرقها

إلى أن أجابت ، إذ دعا الغرب ، دعواه

قطعناه شدوا واغتباقا ونشوة

ورجع حديث لو رقى الميت أحياه(٧)

على مثله من منزه تبتغى المنى

فلله ما أحلى وأبدع مرآه

شدتنا به الأرحا وألقت نثارها

علينا فأصغينا له وقبلناه

__________________

(١) في ب : بالأنوار.

(٢) في نسخة : إلى الأوطان ، وهو أفضل مما جاء في بقية النسخ.

(٣) العذيب وبارق : مكانان.

(٤) المترعات : المليئة.

(٥) الاستعبار : البكاء.

(٦) في ب : في جور مؤمل.

(٧) الاغتباق : شرب الغبوق. ورقى المريض : داواه بالرقية ، وهي كلام وأساليب تستعمل لشفاء المرضى.

١٨

لئن بان ؛ إنّا بالأنين لفقده

وبالدّمع في إثر الفراق حكيناه

(١) وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السّدّ ، وهي :

مطلع

في نغمة العود والسّلافه

والرّوض والنّهر والنّديم(٢)

أطال من لا مني خلافه

فظلّ في نصحه مليم

دور

دعني على منهج التّصابي

ما قام لي العذر بالشّباب

ولا تطل في المنى عتابي

فلست أصغي إلى عتاب

لا ترج ردّي إلى صواب

والكأس تفتر عن حباب

والغصن يبدي لنا انعطافه

إذا هفا فوقه النّسيم

والرّوض أهدى لنا قطافه

واختال في برده الرقيم

دور

يا حبّذا عهدي القديم

ومن به همت مسعدي

ريم عن الوصل لا يريم

مولّع بالتّودّد(٣)

ما تمّ إلّا به النّعيم

طوعا على رغم حسّدي

معتدل القدّ ذو نحافه

أسقمني طرفه السّقيم

ورام طرفي به انتصافه

فخدّ في خدّه الكليم

دور

غضّ الصّبا عاطر المقبّل

أحلى من الأمن والأمل

ظامي الحشا مفعم المخلخل

حلو اللّمى ساحر المقل

لكلّ من رامه توصّل

لم يخش ردّا بما فعل

أشكو فيبدي لي اعترافه

إن حاد عن نهجه القويم

__________________

(١) بان : بعد.

(٢) السلافة : الخمر.

(٣) لا يريم : لا يفارق.

١٩

لا أعدم الدّهر فيه رافه

فحقّ لي فيه أن أهيم

دور

لله عصر لنا تقضّى

بالسّدّ والمنبر البهيج

أرى ادّكاري إليه فرضا

وشوقه دائما يهيج

فكم خلعنا عليه غمضا

وللصّبا مسرح أريج(١)

ورد أطال المنى ارتشافه

حتّى انقضى شربه الكريم(٢)

لله ما أسرع انحرافه

وهكذا الدّهر لا يديم

دور

يا من يحثّ المطيّ غربا

عرّج على حضرة الملوك

وانثر بها إن سفحت غربا

من مدمع عاطل سلوك(٣)

واسمع إلى من أقام صبّا

واحك صداه لا فضّ فوك

بلّغ سلامي قصر الرّصافه

وذكّره عهدي القديم(٤)

وحيّ عنّي دار الخلافه

وقف بها وقفة الغريم

قال ابن سعيد : والمنبر المذكور في هذه الموشحة من منتزهات قرطبة ، والسّدّ هو الأرحا التي ذكرها في زجله قاسم بن عبّود الرياحي ، رويته عن والدي عن قائله ، وهو :

مطلع

بالله أين نصيب

من ليس لي فيه نصيب

محبوبا مخالف

ومعو رقيب

دور

حين نقصد مكانو

يقوم في المقام(٥)

__________________

(١) أريج : عطر.

(٢) الارتشاف : مصدر ارتشف. وارتشف الشيء : مصّه.

(٣) الغرب ـ بفتح وسكون الراء ـ الدلو العظيمة.

(٤) في ب : وذكرو ، وكأنّ الكلمة قد جاءت باللهجة الدارجة آنذاك ، وما تزال إلى يومنا هذا.

(٥) في ب : يقم ف المقام.

٢٠