نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

الناس من قرطبة ، فلما كان يوم ذلك الصنيع نشأت في السماء سحابة عمت الأفق ، ثم أتى المطر الوابل ، فاستبشر الناس ، وسر المنصور بن أبي عامر فقال الجزيري بديهة. أما الغمام إلخ.

وهو القائل على لسان نرجس العامرية : [الكامل]

حيّتك يا قمر العلا والمجلس

أزكى تحيّتها عيون النّرجس

زهر تريك بحسنها وبلونها

زهر النّجوم الجاريات الكنّس

ملّكن أفئدة النّدامى كلّما

دارت بمجلسهم مدار الأكؤس

ملك الهمام العامريّ محمد

للمكرمات وللنّهى والأنفس

قال ابن بسام (١) : ومن شعر الجزيري ما اندرج له أثناء مدحه (٢) الذي ملح فيه مخاطبته للمنصور على ألسنة أسماء كرائمه بزهر رياضه ، فمن ذلك عن بهار العامرية : [الكامل]

حدق الحسان تقرّ لي وتغار

وتضلّ في صفتي النّهى وتحار

طلعت على قضبي عيون تمائمي

مثل العيون تحفّها الأشفار(٣)

وأخصّ شيء بي إذا شبّهتني

درر تنطّق سلكها دينار

أهدى له قضب الزّمرّد ساقه

وحباه أنفس عطره العطّار

أنا نرجس حقّا بهرت عقولهم

ببديع تركيبي فقيل بهار

ومن أخرى عن بنفسج العامرية : إذا تدافعت الخصوم ـ أيد الله مولانا المنصور! ـ في مذاهبها ، وتنافرت في مفاخرها ، فإليه مفزعها ، وهو المقنع في فصل القضية بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها ، وعلمه بسرها وجهرها ، وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما ، والفخر بمشابههما ، كل مذهب ، وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا ، وأعذب من الغمام الذي يسقينا ، وإن كانا قد تشبها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت ، فإني أتشبه بأحسن ما زيّن الله به الإنسان وهو الحيوان الناطق ، مع أني أعطر منهما عطرا ، وأحمد خبرا ، وأكرم إمتاعا شاهدا وغائبا ويانعا وذابلا ، وكلاهما لا يمتع ، إلا ريثما يينع ، ثم إذا ذبل تستكره

__________________

(١) انظر الذخيرة ج ٤ ص ٣٣.

(٢) في ب : أثناء نثره.

(٣) في ب : عيون كمائمي.

٦١

النفوس شمه ، وتستدفع الأكف ضمه ، وأنا أمتع يابسا ورطبا ، وتدخرني الملوك في خزائنها وسائر الأطباء ، وأصرف في منافع الأعضاء ، فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي ، فلا غرو أن الوشي ضعيف ، والهوى لطيف ، والمسك خفيف ، وليس المجد يدرك بالصّراع ، وقد أودعت أيد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه ، وحضرت بنفسي لئلا أغيب عن حضرتهما ، فقديما فضل الحاضر وإن كان مفضولا ، ولذا قالوا : ألذ الطعام ما حضر لوقته ، وأشعر الناس من أنت في شعره ، فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل ، وأقول : [الكامل]

شهدت لنوّار البنفسج ألسن

من لونه الأحوى ومن إيناعه(١)

لمشابه الشّعر الأعمّ أعاره ال

قمر المنير الطّلق نور شعاعه

ولربّما جمع النّجيع من الطّلى

من صارم المنصور يوم قراعه

فحكاه غير مخالف في لونه

لا في روائحه وطيب طباعه

ملك جهلنا قبله سبل العلا

حتّى وضحن بنهجه وشراعه

في سيفه قصر لطول نجاده

وتمام ساعده وفسحة باعه

ذو همّة كالبرق في إسراعه

وعزيمة كالحين في إيقاعه(٢)

تلقى الزّمان له مطيعا سامعا

وترى الملوك الشّمّ من أتباعه

وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة : [الكامل]

وحديقة مخضرّة أثوابها

في قضبها للطّير كل مغرّد

نادمت فيها فتية صفحاتهم

مثل البدور تنير بين الأسعد

والجدول الفضّيّ يضحك ماؤه

فكأنّه في العين صفح مهنّد

وإذا تجعّد بالنّسيم حسبته

لمّا تراه مشبها للمبرد

وتناثرت نقط على حافاته

كالعقد بين مجمّع ومبدّد

وتدحرجت للنّاظرين كأنّها

درّ نثير في بساط زبرجد(٣)

وكان بحمام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله: [الوافر]

__________________

(١) الأحوى من كان لونه بلون الحديد.

(٢) الحين ، بفتح الحاء : الموت.

(٣) في ه : وترجرجت للناظرين.

٦٢

ودمية مرمر تزهى بجيد

تناهى في التّورّد والبياض(١)

ودمية مرمر تزهى بجيد

تناهى في التّورّد والبياض(١)

لها ولد ولم تعرف حليلا

ولا ألمت بأوجاع المخاض

ونعلم أنّها حجر ، ولكن

تتيّمنا بألحاظ مراض

وكان بسرقسطة في القصر المسمى بدار السرور أحد قصور المقتدر بن هود مجلس الذهب (٢) ، وفيه يقول ذو الوزارتين بن غند شلب (٣) يهجو وزيرا كان ينبز بتحقون : [الرمل]

ضجّ من تحقون بيت الذّهب

ودعا ممّا به واحربي

ربّ طهّرني فقد دنّسني

عار تحقون ألوف الذّنب(٤)

وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه : كتابي هذا من وادي الزيتون ، ونحن فيه محتلّون (٥) ، ببقعة اكتست من السندس الأخضر ، وتحلت بأنواع الزهر وتخايلت بأنهار تتخللها ، وأشجار تظللها ، تحجب أدواحها الشمس لالتفافها ، وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها ، وما شئتم من محاسن تروق وتعجب ، وأطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب ، في مثلها يعود الزمان كله صبا ، وتجري الحياة على الأمل والمنى ، وأنا فيها ـ أبقاكم الله سبحانه! ـ بحال من طاب غذاؤه ، وحسن استمراؤه ، وصحا من جنون العقار ، واستراح من مضض الخمار ، وزايلته وساوسه ، وخلصت من الخباط هواجسه ، ثم ذكر كلاما من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار.

فراجعه أبو الفضل بن حسداي (٦) برقعة قال في صدرها : إلى سيدنا الذي ألزمنا بامتنانه الشكر ، وكبيرنا الذي علمنا ببيانة السّحر ، وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحلّ ، ورمانا بدائه وانسل ، أبقاك الله تعالى لتوبة نصوح تمرها ، ويمين غموس تبرّها ، ورد أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذته من معرّسك بوادي الزيتون ، ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجة المفتون ،

__________________

(١) في ج : تزهو بجيد.

(٢) في ب : بدار السرور ، مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه ..

(٣) في ج : بن عبد شاب وأثبتنا ما في ه.

(٤) في ب : الموفي الذنب.

(٥) في ب : مختلفون.

(٦) هو حسداي بن يوسف بن حسداي أحد كتاب عصر الطوائف. (القلائد ص ١٨٣ ، والذخيرة القسم الثالث ص ١٥٣).

٦٣

وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته ، واهتزازك بلطيف بواكره وروحاته ، وسرورك (١) به وهو حوّ تلاعه ، مورودة هضابه وأجراعه ، وكل المشارب ما خلاه ذميم ، وماؤه الدهر خصر والمياه حميم ، وتلك عادة تلونك ، وسجية تحضرمك ، وشاكلة ملالك وسأمك ، وأشعر الناس عندك من أنت في شعره ، وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره ، فأين منك بساتين جلّق وجنانه ، ورياضة المونقة وخلجانه ، وقبابه البيض في حدائقه الخضر ، وجون (٢) العطر في جنانه النضر ، وما تضمّه حيطانه ، وتمجّه أنجاده وغيطانه ، من أمهات الراح التي هجرتها (٣) بزعمك ، وموارد (٤) الشّمول التي طلقتها برغمك ، وهيهات فو الله ما فارقتك تلك الأرجاع والمجاني ، ولا شاقتك تلك المنازل والمغاني. إلا تذكرا لما لدينا من طيب المعاهد ، وحنينا إلى ما عندنا من جميل المشاهد ، وأين من المشتاق عنقاء مغرب. ثم ذكر كلاما في جواب ما مر من الخمار لم يتعلق لي به غرض.

وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه :

ولما أكب الغمام إكبابا ، لم أجد منه إغبابا ، واتصل المطر اتّصالا ، لم ألف منه انفصالا ، أذن الله تعالى للصّحو أن يطلع صفحته ، وينشر صحيفته ، فقشعت الريح السحاب ، كما طوى السجلّ الكتاب ، وطفقت السماء تخلع جلبابها ، والشمس تميط (٥) نقابها ، وطلعة (٦) الدنيا تبتهج كأنها عروس تجلّت ، وقد تحلت ، ذهبت في لمّة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضا ، ونطوي للتفرج أرضا ، فلا أندفع (٧) إلا إلى غدير ، نمير ، قد استدارت منه في كل قرارة سماء ، سحائبها غماء ، وانساب في تلعة (٨) حباب ، جلده حباب ، فترددنا بتلك الأباطح ، نتهادى تهادي أغصانها ، ونتضاحك تضاحك أقحوانها ، وللنسيم ، أثناء ذلك المنظر الوسيم ، تراسل مشي ، على بساط وشي ، فإذا مر بغدير نسجه درعا ، وأحكمه صنعا ، وإن عثر بجدول شطب منه نصلا ، وأخلصه صقلا ، فلا ترى إلا بطاحا ، مملوءة سلاحا ، كأنما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول ، وسيف مسلول.

ومن فصل منها. فاحتللنا قبّة خضراء ممدودة أشطان الأغصان ، سندسية رواق الأوراق ، وما زلنا نلتحف منها ببرد ظل ظليل ، ونشتمل عليه برداء نسيم عليل ، ونجيل الطرف في نهر صقيل ، صافي لجين الماء ، كأنه مجرّة السماء ، مؤتلق جوهر الحباب ، كأنه من ثغور الأحباب ،

__________________

(١) في ب : وغرورك.

(٢) في ب : وجوه.

(٣) في ب : طلقتها.

(٤) في ب : وموادّ.

(٥) في ب ، ه : تحطّ.

(٦) في ب ، ه : وتطلعت الدنيا.

(٧) في ب ، ه : فلا ندفع.

(٨) في ب : في كل قلعة ..

٦٤

وقد حضرنا مسمع يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها ، ويغني لها مقترحها ومناها ، فصيح لسان النقر ، يشفي من الوقر ، كأنه كاتب حاسب ، تمشق يمناه ، وتعقد يسراه : [الوافر]

يحرّك حين يشدو ساكنات

وتنبعث الطّبائع للسّكون

وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة ، فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصنا ، فخاطبه أبو إسحاق برقعة ، منها : أطال الله بقاء سيدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء ، المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء ، ما انحذفت ياء يرمي (١) للجزم ، واعتلت واو يغزو لموضع الضم ، كتبت عن ودّ قديم هو الحال ، لم يلحقها انتقال ، وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال ، والله يجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة ، ويعصم هذا بعد من الحروف الجازمة ، وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل ، وتعدية فعل الفصل ، وعدولك عن باب ألف القطع ، إلى باب الوصل والجمع ، حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت ، ويدخل الانتقال حال الصمت ، فلا تتخيل أعزك الله أن رسم إخائك عندي ذو حسا (٢) قد درس عفاء ، ولا أن صدري دار مية أمسى من وده خلاء (٣) ، وإنما أنا فعل إذا ثنّي ظهر من ضمير وده ما بطن ، وبدا منه ما كمن ، وهنيئا أعزك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير ، وأن فعل سيفك ماض ما به للعوامل تأثير ، وأنت بمجدك جماع أبواب الظّرف ، تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف ، ودرس حروف العطف ، وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك ، وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك (٤) ، وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين ، وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين ، وتسوم ساكن الود أن يتحرك ومعتل الإخاء أن يصح ، وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة ، وتصير هذه النكرة معرفة ، فأنت أعزك الله مصدر فعل السرور والنيل (٥) ، ومنك اشتقاق اسم السودد (٦) والفضل ، وإنك وإن تأخر العصر بك كالفاعل وقع مؤخرا ، وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلا

__________________

(١) في ج : ياء يرى.

(٢) في ج : دوحة قد درس عفاء ، والصواب ذو حسا. واد جاء في شعر كثير من الشعراء ومن ذلك قول النابغة الذبياني :

عسا ذو حسا من فرتنا فالفوارع

فجنبا أريك فالتلاع الدوافع

(٣) في ب : من ودك خلاء ..

(٤) في ه : عتبك. وفي ج : عبدك.

(٥) في ب : والنبل.

(٦) في ب : السؤدد.

٦٥

مصغرا ، وللأيام علل تبسط وتقبض ، وعوامل ترفع وتخفض ، فلا دخل عروضك قبض ، ولا عاقب رفعك خفض ، ولا زلت مرتبطا بالفضل شرطك وجزاؤك ، جاريا على الرفع سروك الكريم وسناؤك ، حتى يخفض الفعل ، وتبنى على الكسر قبل ، إن شاء الله.

وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء : انتظم إخوانك ـ أعزك الله تعالى! ـ عقد شرب يتساقون في ودك ، ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك ، وما منهم إلا شره المسامع إلى رنّة حمامة ناد ، لا حمامة بطن واد ، والطّول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنان لسانا ، وصار لضمير صاحبه ترجمانا ، وهو على الإساءة والإحسان لا ينفك من إيقاع به ، من غير إيجاع له ، فإن هفا عركت أذنه وأدّب ، وإن تأبّى (١) واستوى بعج بطنه وضرب ، لا زلت منتظم الجذل ، ملتئم الأمل ، انتهى.

ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجع (٢) : [الطويل]

شراب الأماني لو علمت سراب

وعتبى اللّيالي لو عرفت عتاب

وهل مهجة الإنسان إلّا طريدة

يحوم عليها للحمام عقاب

يخبّ بها في كلّ يوم وليلة

مطايا إلى دار البلى وركاب

وكيف يغيض الدّمع أو يبرد الحشا

وقد باد أقران وفات شباب

أقلّب طرفي لا أرى غير ليلة

وقد حطّ عن وجه الصّباح نقاب

كأنّي ، وقد طار الصّباح ، حمامة

يمدّ جناحيه عليّ غراب

دعا بهم داعي الرّدى فكأنّما

تبارت بهم خيل هناك عراب(٣)

فها هم وسلم الدّهر حرب كأنّما

جثا بينهم طعن لهم وضراب(٤)

هجود ولا غير التّراب حشيّة

لجنب ولا غير القبور قباب

ولست بناس صاحبا من ربيعة

إذا نسيت رسم الوفاء صحاب

وممّا شجاني أن قضى حتف أنفه

وما اندقّ رمح دونه وكعاب

وأنّا تجارينا ثلاثين حقبة

فمات سباقا والحمام قصاب(٥)

كأن لم نبت في منزل القصف ليلة

نجيب بها داعي الصّبا ونجاب

__________________

(١) في ب ، ه : تأتي.

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٢١٧.

(٣) الخيل العراب : الكريمة السالمة من الهجنة.

(٤) في ب ، ه : جثا بهم ..

(٥) في ب : ثلاثين حجّة ففات ..

٦٦

إذا قام منّا قائم هزّ عطفه

شباب أرقناه بها وشراب

ولما تراءت للمشيب بريقة

وأقشع من ظلّ الشّباب سحاب

نهضنا بأعباء اللّيالي جزالة

وأرست بنا في النّائبات هضاب

فيا ظاعنا قد حطّ من ساحة البلى

بمنزل بين ليس عنه مآب

كفى حزنا أن لم يزرني على النّوى

رسول ولم ينفذ إليّ كتاب(١)

وأنّي إذا يمّمت قبرك زائرا

وقفت ودوني للتّراب حجاب

ولو أنّ حيّا كان جاور ميّتا

لطال كلام بيننا وخطاب(٢)

وأنّي إذا يمّمت قبرك زائرا

وقفت ودوني للتّراب حجاب

وأعرب عمّا عنده من جليّة

فأقشع عن شمس هناك ضباب

وقد أبعدنا عما كنا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام ، فنقول : قال بعض من أرخ الأندلس :

انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجدا ، ثم زادت بعد ذلك كثيرا كما سيأتي (٣) ذكره.

وقال بعضهم : كانت قرطبة قاعدة الأندلس ، وأم المدائن ، وقرارة الملك ، وكان عدد شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة ، وكانت عدة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيفا وثلاثين ، وكانت عدة دور الرعايا والسّواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار ، حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض.

ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحّدين ، قال : وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار. انتهى

وعدد أرباضها ثمانية وعشرون ، وقيل : أحد وعشرون : ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجدا ، وعدد الحمامات المبرزة للناس سبعمائة حمام ، وقيل :

ثلاثمائة حمام (٤).

وقال ابن حيان : إن عدة المساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد ، والحمامات تسعمائة حمام.

__________________

(١) في ب ، ج : ولم ينفذ إليك كتاب.

(٢) في ب : حاور ميتا ..

(٣) في ب : كما يأتي.

(٤) في ه : ستمائة حمام.

٦٧

وفي بعض التواريخ القديمة : كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدا : منها بشقندة ثمانية عشر مسجدا ، وتسعمائة حمام وأحد عشر حماما ، ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصا ، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها ، هكذا نقله في المغرب ، وهو أعلم بما يأتي ويذر ، رحمه الله تعالى!.

وقال بعض المؤرخين ـ بعد ذكره نحو ما تقدم (١) ـ : ووسط الأرباض قبة قرطبة التي تحيط (٢) بالسور دونها ، وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنها كانت من تحف قصر (٣) اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية. انتهى

ونحوه لابن الفرضي وغير واحد ، لكن خالفهم صاحب «المسالك والممالك» فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجدا ، وهو بعيد ، وقال قبله : إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع ، وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة ، وهي بالقوطية بالظاء المشالة ، وقيل : إن معنى قرطبة أجز فاسكنها (٤) قال : وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة ، وكانت جبايتها في أيام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين دينارا ، وسبق ما يخالف هذا ، ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي ، ومن الشعير سبعة آلاف مدي ، ومن الشعير سبعة (٥) آلاف وستمائة مدي وسبعة وأربعين مديا.

وقال بعض العلماء : أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة عشر ألف دارا وسبعة وسبعين دارا ، وهذه دور الرعية ، وأما دور الأكابر والوزراء والكتاب والأجناد وخاصة الملك فستون ألف دار وثلاثمائة دار سوى مصاري (٦) الكراء والحمامات والخانات ، وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون حانوتا ، ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران ، ومحيت آثار تلك القرى والبلدان ، انتهى ملخصا وسيأتي في رسالة الشّقندي ما هو أشمل من هذا.

ولما رقت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي (٧) بقرطبة وزيّن له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحّدين مرّاكش قال وذكر المنتزهات القرطبية : [البسيط]

__________________

(١) أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٧٢.

(٢) في ه : تختص.

(٣) في ه : قيصر.

(٤) في ب ، ه : اجر فاسكنها.

(٥) في ب : سبعا.

(٦) المصاري : جمع مصرية ، وهي غرفة علوية في البناء منعزلة ، تستعمل للخدم أو الكراء.

(٧) أبو القاسم عامر بن هشام القرطبي : شاعر بطال ، صلحت حاله بآخرة ، وتنسك. توفي سنة ٦٢٣ ه‍ (المغرب ج ١ ص ٧٥).

٦٨

يا هبّة باكرت من نحو دارين

وافت إليّ على بعد تحيّيني

سرت على صفحات النّهر ناشرة

جناحها بين خيريّ ونسرين

ردّت إلى جسدي روح الحياة وما

خلت النّسيم إذا ما متّ يحييني

لو لا تنسّمها من نشر أرضكم

ما أصبحت من أليم الوجد تبريني

مرّت على عقدات الرّمل حاملة

من سرّكم خبرا بالوحي يشفيني

عرفت من عرفه ما كنت أجهله

لمّا تبسّم في تلك الميادين(١)

نزوت من طرب لمّا هفا سحرا

وظلّ ينشرني طورا ويطويني

خلت الشّمال شمولا إذ سكرت بها

سكرا بما لست أرجوه يمنّيني

أهدت إليّ أريجا من شمائلكم

فقلت : قرّبني من كان يقصيني

وخلت من طمع أنّ اللّقاء على

إثر النّسيم وأضحى الشّوق يحدوني

فظلت ألثم من تعظيم حقّكم

مجرّ أذيالها والوجد يغريني

مسارح كم بها سرّحت من كمد

قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني

بين المصلّى إلى وادي العقيق وما

يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني

إلى الرّصافة فالمرج النّضير فوا

دي الدّير فالعطف من بطحاء عبدون

لباب عبد سقته السّحب وابلها

فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني

لا باعد الله عيني عن منازهه

ولا يقرّب لها أبواب جيرون

حاشا لها من محلات مفارقة

من شيّق دونها في القرب محزون

أين المسير ورزق الله أدركه

من دون جهد وتأميل يعنّيني

يا من يزيّن لي التّرحال عن بلدي

كم ذا تحاول نسلا عند عنّين

وأين يعدل عن أرجاء قرطبة

من شاء يظفر بالدّنيا وبالدّين

قطر فسيح ونهر ما به كدر

حفّت بشطّيه ألفاف البساتين(٢)

يا ليت لي عمر نوح في إقامتها

وأنّ مالي فيه كنز قارون

كلاهما كنت أفنيه على نشوا

ت الرّاح نهبا ووصل الحور والعين (٣)

__________________

(١) في ب : ما لست أجهله .. لما تنسّم.

(٢) ألفاف البساتين : جمع لفّ ، وهو البستان الكثيف الشجر.

(٣) في ب ، ه : ووصل الخرّد العين.

٦٩

وإنّما أسفي أنّي أهيم بها

وأنّ حظّي منها حظّ مغبون

أرى بعيني ما لا تستطيل يدي

له وقد حازه من قدره دوني

وأنكد النّاس عيشا من تكون له

نفس الملوك وحالات المساكين

يغضّ طرف التّصابي حين تبهته

قضبان نعمان في كثبان يبرين

قالوا الكفاف مقيم قلت ذاك لمن

لا يستخفّ إلى بيت الزّراجين

ولا يبلبله هبّ الصّبا سحرا

ولا يلطّفه عرف الرّياحين

ولا يهيم بتفّاح الخدود ورمّا

ن الصّدور وترجيع التّلاحين

لا تجتنى راحة إلّا على تعب

ولا تنال العلا إلّا من الهون

وصاحب العقل في الدنيا أخو كدر

وإنّما الصّفو فيها للمجانين

يا آمري أن أحثّ العيس عن وطني

لمّا رأى الرّزق فيه ليس يرضيني

نصحت لكنّ لي قلبا ينازعني

فلو ترحّلت عنه حلّه دوني

لألزمن وطني طورا تطاوعني

قود الأماني وطورا فيه تعصيني

مذلّلا بين عرفاني وأضرب عن

سير لأرض بها من ليس يدريني(٢)

هذا يقول غريب ساقه طمع

وذاك حين أريه البرّ يجفوني

إليك عنّي آمالي فبعدك يه

ديني وقربك يطغيني ويغويني

يا لحظ كلّ غزال لست أملكه

يدنو وما لي حال منه تدنيني

ويا مدامة دير لا ألمّ به

لو لا كما كان ما أعطيت يكفيني

لأصبرنّ على ما كان من كدر

لمن عطاياه بين الكاف والنّون

وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس «كنز الأدب» وقد أشرنا في الباب الأول إلى كثير مما يتعلق بقرطبة أعادها الله تعالى إلى الإسلام! فأغنى عن إعادته ، وإن كان ذكره هنا أنسب ، لأن ما تقدم إنما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس ، وهذا الباب لها بالاستقلال.

وأنشد أبو العاص غالب بن أمية الموروري (٣) لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الرّبض ملتفتا إلى القصر بديهة : [المنسرح]

__________________

(١) في ه : وزمان النهود.

(٢) في ب : مدلّلا.

(٣) غالب بن أمية بن غالب الموروري من شعراء القرن الرابع ، سكن قرطبة. (انظر الجذوة ص ٣٠٥ ، وبغية الملتمس ، رقم ١٢٧٥).

٧٠

يا قصر كم حويت من نعم

عادت لقى بعوارض السّكك(١)

يا قصر كم حويت من ملك

دارت عليه دوائر الفلك(٢)

ما شئت فابق فكلّ متّخذ

يوما يعود بحال متّرك

(٣) وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة (٤) : [الطويل]

أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت

حداتي وزمّت للفراق ركائبي(٥)

وقد غمضت من كثرة الدّمع مقلتي

وصارت هواء من فؤادي ترائبي

ولم يبق إلّا وقفة يستحثّها

وداعي للأحباب لا للحبائب

رعى الله جيرانا بقرطبة العلا

وجاد رباها بالعهاد السّواكب(٦)

وحيّا زمانا بينهم قد ألفته

طليق المحيّا مستلان الجوانب

أإخواننا بالله فيها تذكّروا

مودّة جار أو مودّة صاحب

غدوت بهم من برّهم واحتفائهم

كأنّي في أهلي وبين أقاربي

وأما مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه ، ولكن نذكر من (٧) أوصافه وننشر من أحواله ما لا بد منه ، فنقول :

قال بعض المؤرخين : ليس في بلاد الإسلام أعظم منه ، ولا أعجب بناء وأتقن صنعة ، وكلما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحدا ، ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله ، انتهى.

وكان الذي ابتدأ بناء هذا المسجد (٨) العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل ، ولم يكمل في زمانه ، وكمله ابنه هشام ، ثم توالى الخلفاء من بني أمية على الزيادة فيه ، حتى

__________________

(١) في ب : يا قصر كم قد حويت ..

(٢) في ب : يا قصر كم قد حويت ..

(٣) في ب : ابق بما شئت ... يعود يوما بحال ..

(٤) انظر قلائد العقيان في ترجمة القاضي عياض ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦.

(٥) زمت الركائب : أعدت للرحيل.

(٦) العهاد : أول مطر السنة.

(٧) في ه : ولنشر من أحواله ما لا بد منه ، وسقطت : ولكن نذكر من أوصافه.

(٨) في ب ، ه : بنيان هذا المسجد.

٧١

صار المثل مضروبا به ، والذي ذكره غير واحد أنه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء.

وقال بعض المؤرخين : إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم بنى القصر بقرطبة ، وبنى المسجد الجامع ، وأنفق عليه ثمانين ألف دينار ، وبنى بقرطبة الرّصافة تشبيها برصافة جده هشام بدمشق.

وقال بعض : إنه أنفق على الجامع ثمانين ألف دينار ، واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينار ، فالله تعالى أعلم.

وقال بعض المؤرخين (١) في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته : إنه لما تمهد ملكه شرع في تعظيم قرطبة ، فجدد مغانيها ، وشيد مبانيها ، وحصنها بالسور ، وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع ، ووسع فناءه ، وأصلح مساجد الكور ، ثم ابتنى مدينة الرّصافة منتزها (٢) له ، واتخذ بها قصرا حسنا ، وجنانا واسعة ، نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار ، انتهى.

وكانت أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب ، مثل الرمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مر ، وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا.

ولما ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامرية أعلاج النصارى مصفّدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها ، وهم كانوا يتصرفون في البنيان عوضا من رجّالة المسلمين ، إذ لالا للشرك وعزة للإسلام ، ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقل أصحابها عنها بنفسه ، فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له : إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها (٣) لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم ، فشطّط واطلب ما شئت ، فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له ، وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضا منها ، حتى أتى بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة ، فقالت : لا أقبل عوضا إلا دارا بنخلة ، فقال: تبتاع لها دار بنخلة ، ولو ذهب فيها بيت المال ، فاشتريت لها دار بنخلة ، وبولغ في الثمن ، وحكى ذلك ابن حيان أيضا.

__________________

(١) المؤرخين : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : متنزها له.

(٣) في ب : نريد ابتياعها.

٧٢

وقيل : إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحدا وستين ألف دينار ونيفا ، وكله من الأخماس.

وقال صاحب كتاب «مجموع المفترق» : وكان سقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا ، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة دراع وخمسة أذرع ، ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع ، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا ، وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعا ، فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعا ، وكان عدد بلاطه (١) أحد عشر بلاطا ، عرض أوسطها ستة عشر ذراعا ، وعرض كل واحد من اللذين يليانه غربا واللذين يليانه شرقا أربعة عشر ذراعا ، وعرض كل واحد من الستة الباقية إحدى عشرة (٢) ذراعا ، وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية عرض كل واحد عشرة أذرع ، وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفا ، وخدم فيه بنفسه ، وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمان (٣) وعشرون ذراعا ، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع ، وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع ، فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا ، وعدد أبوابه تسعة : ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا ، وأربعة في بلاطاته : اثنان شرقيان واثنان غربيان ، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان ، وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عمودا ، رخاما كلها ، وباب مقصورة الجامع ذهب ، وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء ، وثريّات المقصورة فضة محضة (٤) ، وارتفاع الصومعة اليوم ـ وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد ـ ثلاثة وسبعون ذراعا إلى أعلى القبة المفتحة التي يستدير (٥) بها المؤذن ، وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضة ، ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف ، فاثنان من التفافيح ذهب إبريز ، وواحدة فضة ، وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة ، ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج ، وهي إحدى غرائب الأرض.

وكان بالجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي خطّه بيده ، وعليه حلية ذهب مكللة بالدر والياقوت ، وعليه أغشية الديباج ، وهو على كرسي من (٦) العود الرّطب بمسامير الذهب.

__________________

(١) في ب : عدد بلاطاته.

(٢) في ب : أحد عشر ذراعا.

(٣) في ب : وثمانية.

(٤) فضة محضة : خالصة.

(٥) في ج : التي يستدبرها المؤذن.

(٦) من : زيادة في ه وحدها. ولا توجد في غيرها من النسخ.

٧٣

رجع إلى المنارة ـ وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعا ، وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمان عشرة (١) ذراعا ، انتهى بحروفه.

وفيه بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم ، إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب الخير (٢) والبر والقرب بنيان (٣) المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ، وذلك أنه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية ، وتناهى حالها في الجلالة ضاقت الأرباض وغيرها ، وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس ، فشرع المنصور في الزيادة بشرقيه حيث تتمكن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة ، فبدأ ابن أبي عامر في (٤) هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره ، وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في الإتقان والوثاقة ، دون الزخرفة ، ولم يقصر ـ مع هذا ـ عن سائر الزيادات جودة ، ما عدا زيادة الحكم. وأوّل ما عمله ابن أبي عامر تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن ، وصنع في صحنه الجبّ العظيم قدره الواسع فناؤه ، وهو ـ أعني ابن أبي عامر ـ هو الذي رتب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت ، فتطابق بذلك النوران ، وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية ، وقيل : أكثر ، وعدد ثريّات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا ، وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأسا ، وقيل : عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس ، وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع أو نحوها ، وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار ، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها ، يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد ، ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور ، والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا ، يحترق بعضها بطول الشهر ، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة ، وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصرفين مائة وتسعة وخمسين شخصا ، ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع أواق من العنبر الأشهب وثمان أواق من العود الرطب ، انتهى.

__________________

(١) في ب : ثمانية عشر ذراعا.

(٢) الخير و : زيادة في ه وحدها.

(٣) في ب : والقربة بنيان ..

(٤) في : زيادة في ه وحدها.

٧٤

وقال بعض المؤرخين : كان للجامع كل ليلة (١) جمعة رطل عود ، وربع رطل عنبر ، يتبخر به ، انتهى.

وقال ابن سعيد ، نقلا عن ابن بشكوال : طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعا ، الصحن المكشوف منه (٢) ثمانون ذراعا ، وغير ذلك مقرمد ، وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعا ، وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهوا ، وتسمى البلاطات ، وعدد أبوابه الكبار والصغار أحد وعشرون (٣) بابا في الجانب الغربي تسعة أبواب ، منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن ، وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب ، منها لدخول الرجال ثمانية أبواب ، وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب ، منها لدخول الرجال بابان كبيران ، وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهنّ ، وليس لهذا الجامع في القبليّ سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة ، وجميع هذه الأبواب ملبّسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة ، وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة (٤) بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألف وأربعمائة سارية وتسع سوار ، منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية ، وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال : إنه خطر بها على خمس (٥) بلاطات من الزيادة الحكمية ، وأطلق حفافيها على الستة الباقية ثلاثة من كل جهة ، فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسا وسبعين ذراعا ، وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين وعشرين ذراعا ، وارتفاعها في السماء إلى حدّ شرفاتها ثمان أذرع (٦) ، وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار ، ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقيّ وغربي وشماليّ ، ثم قال : وذرع المحراب (٧) في الطول من القبلة إلى الجوف ثمان أذرع (٨) ونصف ، وعرضه من الشرق إلى الغرب سبع أذرع ونصف ، وارتفاع قبوه في السماء ثلاث عشرة (٩) ذراعا ونصف ، والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك ، ومبلغ

__________________

(١) كلمة (ليلة) لا توجد في ه.

(٢) في ب ، ه : عنه.

(٣) في ب : واحد وعشرون.

(٤) في ب ، ه : الملصقة.

(٥) في ب : خمسة بلاطات ..

(٦) في ب : ثمانية أذرع.

(٧) ذرع المحراب : أي مقياسه بالذراع.

(٨) في ب : ثمانية أذرع ..

(٩) في ب : ثلاثة عشر ذراعا.

٧٥

النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم وقيل غير ذلك ، وعدد درجه تسع درجات صنعه الحكم المستنصر رحمه الله ، وذكر أن عدد ثريّات الجامع التي تسرج فيها المصابيح بداخل البلاطات خاصة ـ سوى ما منها على الأبواب ـ مائتان وأربع وعشرون ثريّا ، جميعها من لاطون (١) مختلفة الصنعة ، منها أربع ثريّات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلقة في القبة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة ، وفيها من السّرج ـ فيما زعموا ـ ألف وأربعمائة وأربعة (٢) وخمسون ، تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان ، تسقى كل ثريا منها سبعة أرباع في الليلة ، وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدة ابن أبي عامر مكملة (٣) بالزيادة المنسوبة ألف ربع ، منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعا ، قال : وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة ، انتهى. وفيه مخالفة لبعض ما تقدم.

وذكر بعضهم الزيت ـ ولكن قوله أولى بالاتباع ، لنقله عن ابن بشكوال ، ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكبر (٤) من غيره ، والله سبحانه أعلم ـ فقال : ألف ربع وثلاثون ربعا ، منها في رمضان خمسمائة ربع ، وفي الثريات التي من الفضة ـ وهي ثلاثة ـ اثنان وسبعون رطلا ، لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها. وقال في المنبر : إنه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل ، قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضة ، وسمرت بمسامير الذهب والفضة ، وفي بعضها نفيس الأحجار (٥) ، واتصل العمل فيه تسعة ، ثم قال : ودور الثريا العظيمة خمسون شبرا ، وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين ، كلها موشّاة بالذهب ، إلى غير ذلك من الغرائب.

وكتب الفقيه الكاتب أبو محمد إبراهيم ابن (٦) صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصه : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك ، ووفر من جزيل الكرامة قسمك ، ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرّة ، وأنامل الأيام تهدي إليك كل مسرّة ، لئن كان أعزك الله طريق الوداد بيننا عامرا ، وسبيل المحبة (٧) غامرا ، لوجب أن نفض ختمه ، ونرفض كتمه ، لا سيما فيما يدرّ أخلاف الفضائل ، ويهز أعطاف الشمائل ، وإني شخصت إلى حضرة قرطبة ـ حرسها الله تعالى! ـ منشرح الصدر ، لحضور ليلة القدر ، والجامع ـ قدس الله تعالى بقعته

__________________

(١) اللّاطون : النحاس الأصفر.

(٢) في ب ، ه : ألف وأربعة وخمسون.

(٣) في ج : مكمل بالزيادة.

(٤) في ب : فيه أكثر.

(٥) نفيس الأحجار : ثمينها.

(٦) في ب : ابن صاحب ..

(٧) في ب ، ه : وسبيل الاتحاد غامرا.

٧٦

ومكانه ، وثبت أساسه وأركانه! ـ قد كسي ببردة الازدهاء ، وجلي في معرض البهاء ، كأن شرفاته فلول في سنان ، أو أشر في أسنان ، وكأنما ضربت في سمائه كلل ، أو خلعت على أرجائه حلل ، وكأن الشمس خلفت فيه ضياءها ، ونسجت على أقطارها أفياءها ، فترى نهارا قد أحدق به ليل ، كما أحدق بربوة سيل ، ليل دامس ، ونهار شامس ، وللذّبال (١) تألق كنضنضة الحيات (٢) ، أو إشارة السبابات في التحيات ، قد أترعت من السليط كؤوسها ، ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها ، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة ، أو كالثعابين العائمة ، عصبت بها تفاح من الصّفر ، كاللّقاح (٣) الصفر : بولغ في صقلها وجلائها ، حتى بهرت بحسنها ولألائها ، كأنها جليت باللهب ، وأشربت ماء الذهب ، إن سمتّها (٤) طولا رأيت منها سبائك عسجد ، أو قلائد زبرجد ، وإن أتيتها (٥) عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة ، ونجوما ولكنها ليست بسائرة ، تتعلق تعلق القرط من الذّفرى (٦) ، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى ، والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود ، وعرضت عليها عرض الجنود ، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد ، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد ، وقد قوبل منها مبيضّ بمحمر ، وعورض مخضر بمصفر ، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها ، وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها ، والطيب تفغم أفواحه ، وتتنسم أرواحه ، وقتار الألنجوج والند (٧) ، يسترجع من روح الحياة ما ندّ (٨) ، وكلما تصاعد وهو محاصر ، أطال من العمر ما كان تقاصر ، في صفوف مجامر ، ككعوب مقامر ، وظهور القباب مؤللة ، وبطونها مهللة ، كأنها تيجان ، رصّع فيها ياقوت ومرجان ، قد قوس محرابها أحكم تقويس ، ووشم بمثل ريش الطواويس ، حتى كأنه بالمجرة مقرطق ، وبقوس قزح ممنطق ، وكأن اللازورد حول وشومه ، وبين رسومه ، نتف من قوادم الحمام ، أو كسف من ظلل الغمام ، والناس أخياف (٩) في دواعيهم ، وأوزاع (١٠) في أغراضهم ومراميهم ،

__________________

(١) الذبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة.

(٢) النضنضة : نضنض لسانه : حركه ، ونضنض : قلق. وكلا المعنيين يمكن انطباقه على الحيات.

(٣) في ب : كاللّفّاح.

(٤) في ب : سامتها.

(٥) في ب : وإن جئتها.

(٦) الذفرى : الأذن.

(٧) الألنجوج : واليلنجج : العود الطيب الرائحة. والند : عود يتبخّر به.

(٨) الروح ، بفتح الراء وسكون الواو : الفرح والسرور ، وطيب الأيام. وندّ : غاب وابتعد.

(٩) أخياف : مختلفون.

(١٠) أوزاع : مختلفون.

٧٧

بين ركع وسجد ، وأيقاظ وهجد ، ومزدحم على الرقاب يتخطاها ، ومقتحم على الظهور يتمطاها ، كأنهم برد خلال قطر ، أو حروف في عرض سطر ، حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم ، تبادروا بالتكليم ، وتجاذبوا بالأثواب ، وتساقوا بالأكواب ، كأنهم حضور طال عليهم غياب ، أو سفر أتيح لهم إياب ، وصفيّك مع إخوان صدق ، تنكسب العلوم بينهم انسكاب الودق (١) ، في مكان كوكر العصفور ، أستغفر الله أو ككناس اليعفور (٢) ، كأن أقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين ، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين ، حتى صار عقدنا لا يحل ، وحدّنا لا يفل ، بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى ، ونتطلع صور التفصيل كيف تجلى ، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ، ويعمدون إلى قرع العمد بالدّرر ، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين ، وسرت نحوهم سرى القين ، توهموا أنها إلى أعطافهم واصلة ، وفي أقحافهم حاصلة ، ففروا بين الأساطين ، كما تفرّ من النجوم الشياطين ، كأنما ضربهم أبو جهم بعصاه ، أو حصبهم عمير بن ضابىء (٣) بحصاه ، فأكرم بها مساع تشوق إلى جنة الخلد ، ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتّلد ، تعظيما لشعائر الله ، وتنبيها لكل ساه ولاه ، حكمة تشهد لله تعالى بالربوبية ، وطاعة تذل لها كل نفس أبيّة ، فلم أرد أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى ، ولا مخبرا أشهى ، وإذ (٤) لم تتأمله عيانا ، فتخيله بيانا ، وإن كان حظ منطقي من الكلام ، حظ السفيح (٥) من الأزلام ، لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها ، وذمّة تقلدنا حمائلها ، يوجب قبول إتحافي سمينا وغثّا ، ولبس إلطافي جديدا ورثا ، لا زلت لزناد النبل موريا ، وإلى آماد الفضل مجريا ، والتحية العبقة الريّا ، المشرقة المحيّا ، عليك ما طلع قمر ، وأينع ثمر ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

وذكر ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع (٦) الذي يستقي (٧) لها الماء من بئر السانية ، وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء ، أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل

__________________

(١) الودق : المطر.

(٢) اليعفور : الغزال.

(٣) عمير بن ضابىء : هو الذي كسر أضلاع عثمان بن عفان يوم الدار.

(٤) في ب : إذا.

(٥) السفيح : قدح من قداح القمار لا نصيب له في الربح.

(٦) الذمة : العهد. وفي ب ، ه : أذمة ، وهي جمع ذمام.

(٧) في ب : بفناء الجامع يستسقي لها.

٧٨

والنهار ، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية ، أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير ، وألقاه الرخّامون (١) هنالك ، واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس ، فخفف ذلك من ثقلها ، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع ، وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته ، فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلك موثقة بالحديد المثقف محفوفة بوثاق الحبال قرن لجرّها سبعون دابة من أشد الدواب ، وسهلت قدامها الطرق والمسالك ، وسهل الله تعالى حملها واحدة بعد أخرى على هذه الصفة في مدة اثني عشر يوما ، فنصبت في الأقباء المعقودة لها ، قال : وابتنى المستنصر في غربي الجامع دار الصدقة ، واتخذها معهدا لتفريق صدقاته المتوالية ، وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي ، انتهى.

واعلم أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب ، حتى إنهم يقولون في الأحكام :

هذا مما جرى به عمل قرطبة ، وفي هذه المسألة نزاع كثير ، ولا بأس أن نذكر ما لا بد منه من ذلك ، قال الإمام ابن عرفة رحمه الله تعالى : في اشتراط الإمام على القاضي الحكم بمذهب معين ـ وإن خالف معتقد المشترط اجتهادا وتقليدا ـ ثلاثة أقوال : الصحة للباجي ، ولعمل أهل قرطبة ، ولظاهر شرط سحنون على مذهب من ولاه الحكم بمذهب أهل المدينة ، قال المازري : مع احتمال كون الرجل مجتهدا. الثاني : البطلان ، للطرطوشي ، إذ قال : في شرط أهل قرطبة هذا جهل عظيم. الثالث : تصح التولية ويبطل الشرط ، تخريجا على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس ، انتهى مختصرا.

قال ابن غازي : إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقا ، وابن شاس إنما نسب له التفصيل ، انتهى.

ولما ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس (٢) سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور ، قال بعده ما نصه : وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة بالأندلس ، ثم انتقل إلى المغرب ، فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح

__________________

(١) في ج : الرخاميون.

(٢) هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري التلمساني وهو جد المؤلف لهذا الكتاب (انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٦٩).

٧٩

بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما : [البسيط]

ليس التّكحّل في العينين كالكحل

سنح لنا بغض الجمود ، ومعدن التقليد : [الكامل]

الله أخّر مدّتي فتأخّرت

حتّى رأيت من الزّمان عجائبا

يا لله وللمسلمين ، ذهبت قرطبة وأهلها ، ولم يبرح من الناس جهلها ، ما ذاك إلا لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه ، والباطل لا زال يلقنه ويلقيه ، ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك ، وأسماؤها (١) كالعتمة ويثرب ، وكذا التنابز بالألقاب وغيره مما نهي عنه وحذر منه ، كيف لم تزل من أهلها ، وانتقلت إلى غيرهم مع تيسّر أمرها ، حتى كأنهم لا يرفعون بالدين رأسا ، بل يجعلون العادات القديمة أسا ، وكذلك محبة الشعر والتلحين والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب ، والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلا قولا ، ولا نحمله إلا كلّا ، انتهى.

وقال الحافظ ابن غازي ـ بعد ذكر كلام مولاي الجد ـ ما نصه : وحدثني ثقة ممن لقيت أنه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء بحضور مجلسه كان مما ألقاه إليهم منزع المقري (٢) هذا ، فبالغوا في إنكاره ، ورأوا أنه لا معدل (٣) عما عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثاق كالمتيطي من اعتماد أهل قرطبة ومن في معناهم انتهى.

وقال بعض المؤرخين ـ حين ذكر قرطبة ـ ما ملخصه : هي قاعدة بلاد الأندلس ، ودار الخلافة الإسلامية ، وهي مدينة عظيمة ، وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس ، في حسن المآكل والمشارب والملابس والمراكب ، وعلو الهمم ، وبها أعلام العلماء ، وسادات الفضلاء ، وأجلاد الغزاة ، وأنجاد الحروب ، وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضا ، وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز ، وكل مدينة مستقلة بنفسها ، وفيها ما يكفي أهلها من الحمامات والأسواق والصناعات وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد ، وهي في سفح جبل مطل عليها ، وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور

__________________

(١) في ب : وأسماءها.

(٢) في ج : مشرع المقري.

(٣) في ج : لا معوّل عما عول عليه.

٨٠