نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

يدير فيه كؤوس الرّاح ذو حور

يدير من لحظه ألحاط سحّار(١)

ولا مزيد في التفجع على الديار ، والتوجع للدمن والآثار ، على قول البحتري من قصيدة يرثي بها المتوكل : [الطويل]

محلّ على القاطول أخلق داثره

وعادت صروف الدّهر جيشا تغاوره(٢)

كأنّ الصّبا توفي نذورا إذا انبرت

تراوحه أذيالها وتباكره

وربّ زمان ناعم ثمّ عهده

ترقّ حواشيه ويونق ناضره

 تغيّر حسن الجعفريّ وأنسه

وقوّض بادي الجعفريّ وحاضره(٣)

تحمّل عنه ساكنوه فجاءة

فعادت سواء دوره ومقابره

إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى

وقد كان قبل اليوم يبهج زائره

ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره

ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره(٤)

وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت

على عجل أستاره وستائره

وأوحشه حتّى كأن لم يكن به

أنيس ولم تحسن لعين مناظره

كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة

بشاشتها والملك يشرق زاهره

ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها

وبهجتها والعيش غضّ مكاسره

فأين الحجاب الصّعب حيث تمنّعت

بهيبتها أبوابه ومقاصره

وأين عميد النّاس في كلّ نوبة

تنوب وناهي الدّهر فيهم وآمره

وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي : [الوافر]

ومرتبع حططت الرّحل فيه

بحيث الظّلّ والماء القراح

تخرّم حسن منظره مليك

تخرّم ملكه القدر المتاح

فجرية ماء جدوله بكاء

عليه ، وشدو طائره نواح

وهذا النوع من البكاء على الدمن ، والتأسف على ما فعلت بها أيدي الزمن ، كثير جدا ،

__________________

(١) في ب : يدير من طرفه ..

(٢) القاطول : نهر كان في موضع سامراء قبل عمرانها. وتغاوره : تغير عليه.

(٣) الجعفري : قصر المتوكل.

(٤) ريع : أفزع ، والسرب : القطيع من الحيوان. والأطلاء : جمع طلو ، وهو الصغير من الوحش. والجآذر : جمع جؤذر ، وهو ولد البقرة الوحشية.

٤١

لا يعرف الباحث عنه له حدا ، وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها ، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة ، وجعلناها نغبة (١) يشفي المشوق بها غليله ، وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنه لا يجدي ، ولا يدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي ، ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب ، المجرع لصاحبه الصاب والأوصاب (٢).

قال أبو عمر بن عبد البر : [الكامل]

عفت المنازل غير أرسم دمنة

حيّيتها من دمنة ورسوم

كم ذا الوقوف ولم تقف في منسك

كم ذا الطّواف ولم تطف بحريم

فكل الدّيار إلى الجنائب والصّبا

ودع القفار إلى الصّدى والبوم

(٣) انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار.

رجع إلى قرطبة ـ فنقول : وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمّة (٤) ، ونص محل الحاجة منه هنا : ثم كان الغزو إلى أم البلاد ، ومثوى الطارف والتّلاد ، قرطبة ، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل ، والكرسيّ الذي بعصاه رعي الهمل ، والمصر [المعمور (٥)] الذي في خطه (٦) الناقة والجمل ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل (٧) ، فخيم الإسلام في عقرتها المستباحة (٨) ، وأجاز نهرها المعيي على السباحة ، وعم دوحها الأشب بوارا ، وأدار المحلات بسورها سوارا ، وأخذ بمخنّقها حصارا ، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصارا ، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا (٩) ، فأعمال إلى المسلمين

__________________

(١) في ج : نبعة ، والنبغة : الجرعة.

(٢) الصاب : شجر مر الطعم. والأوصاب : جمع وصب ، وهو المرض ، والألم الدائم.

(٣) الجنائب : جمع جنوب ، وهي الريح التي تهب من ناحية الجنوب.

(٤) ثمة : هناك.

(٥) في ب : ما بين حاصرتين غير موجود.

(٦) في ب : الذي له في خطة.

(٧) العبشمية : النسبة إلى عبد شمس.

(٨) في ب : عقوتها المستباحة.

(٩) الانجحار : الدخول في الجحر.

٤٢

إصحارا ، حتى قرع بعض جهاتها غلابا جهارا ، ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا ، فلو لا استهلال الغوادي ، وأن أتى الوادي ، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي ، ولقضى تفثه العاكف والبادي. انتهى.

ومما كتب به لسان الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس ، ما صورته : المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد ، ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد ، ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد ، ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاف ودوام الإسعاد والإمداد ، ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفا يخرق حجاب المعتاد ، وامتعاضا يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد ، ويفتح أبواب الفتوح بأقاليد السيوف الحداد ، وينبئ عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد ، مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور ، ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيته وحسن قصده لطائف السرور ، ونستظهر بملكه المؤيد المؤمل ومجده المشهور ، ونتوعد منهما العدوّ بالحبيب المذخور والولي المنصور ، السلطان الكذا ابن (١) الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر ، قرير العين منشرح الصدر ، ولا زال حديث فخره سائرا مسير الشمس والبدر ، عظّم سلطانه الخليق بالتعظيم ، الواثق منه بالذخر الكريم ، المثني على مجده الصّميم العميم ، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير (٢) المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر ، سلام كريم ، بر عميم ، يخص مقامكم الأعلى ، وأخوّتكم الفضلى ، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله ربّ العباد ، وملهم الرشاد ، ومكيف الإسعاف والإسعاد ، الولي النصير الذي نلقي إلى التوكّل عليه مقاليد الاعتماد ، ونمد إلى إنجاده [وإمداده (٣)] أيدي الاعتداد ، ونرفع إليه أكفّ الاستمداد ، ونخلص لوجهه الكريم عمل الجهاد ، فنتعرّف عوارف الفضل المزداد ، ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا المنآد (٤) ، ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد ، ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد ، ونتفيّأ ظلال الجنة من تحت أوراق السيوف الحداد ، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله النبي الهاد ، رسول الملحمة المؤيد (٥) بالملائكة الشداد ، ونبي الرحمة الهامية العهاد ، أكرم الخلق بين الرائح والغاد ، ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التّناد ، الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد ، وببركته ننال أقصى الأمل والمراد ، وفي

__________________

(١) في ب : ابن السلطان.

(٢) في ب : ابن أمير.

(٣) في ب : ما بين حاصرتين غير موجود.

(٤) في ب ، ه : المياد. والمنآد : النازّ دما.

(٥) في بعض النسخ : المؤيدة.

٤٣

مرضاته نصل أسباب الوداد ، فنعود بالتّجر الرابح من مرضاة رب العباد ، ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد ، والرضا عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد ، دعائم الدين من بعده وهداة العباد ، أنجاد الأنجاد وآساد الآساد ، الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد (١) ، والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والأعداد ، حتى بوّءوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد ، وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد ، فأصبح الدين رفيع العماد ، منصور العساكر والأجناد ، مستصحب العز في الإصدار والإيراد ، والدعاء لمقامكم الأعلى بالسّعد الذي يغني عن اختيار الطوالع وتقويم الميلاد ، والنصر الذي تشرق أنباؤه في جنح ليل المداد ، والصنع الذي تشرع له أبواب التوفيق والسّداد ، من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر قد وطأ المهاد (٢) ، والخير واضح الأشهاد ، والحمد لله في المبدأ والمعاد ، والشكر له على آلائه المتصلة التّرداد ، ومقامكم الذخر الكافي العتاد ، والمردد المتكفل بالإنجاد ، وإلى هذا وصل الله سعدكم ، وحرس مجدكم ، ووالى نصركم وعضّدكم [وعددكم عددكم (٣)] وبلغكم من فضله العميم أملكم وقصدكم ، فإننا نؤثر تعريفكم بتافه المتزيدات ، ونورد عليكم أشتات الأحوال المتجدّدات ، إقامة لرسم الخلوص في التعريف بما قل ، ومودة خالصة في الله عز وجل ، فكيف إذا كان التعريف بما تهتز له (٤) منابر الإسلام ارتياحا لوروده ، وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده ، والمكيفات البديعة الصفات في وجوده ، وهو أننا قدمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أمّ البلاد الكافرة ، ومقر الحامية المشهودة (٥) والخيرات الوافرة ، والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم ، والركن الذي لا يتوقع صدمة صادم ، وقد اشتمل سورها من زعماء ملة الصليب على كل رئيس بئيس ، وهزبر خيس (٦) ، وذي مكر وتلبيس ، ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه ، وأتباع على المنشط والمكره تطيعه ، فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد ، وأذعنا في الجهات نفير الجهاد ، وتقدّمنا إلى الناس بسعة الأزواد ، وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والأعداد حقها من الاستعداد ، وأفضنا (٧) العطاء والاستلحاق والاستركاب في أهل الغناء وأبطال الجهاد و (٨) الجلاد ، فحشر الخلق في صعيد ، وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد ، وشمل الاستدعاء كل

__________________

(١) الحلوم : العقول والأطواد : الجبال.

(٢) في ب : واليسر وثيق المهاد.

(٣) هذه الزيادة غير موجودة في ب ، ه.

(٤) له : ساقطة في ب.

(٥) في ه : الحامية الشهيرة.

(٦) في ه : هزبر خسيس. والخيس ـ بكسر الخاء ـ الفيل.

(٧) في ج : وأقضينا.

(٨) الجهاد و : غير موجودة في ب.

٤٤

قريب وبعيد عن وعد ووعيد ، ورحلنا وفضل الله شامل ، والتوكل عليه كاف كافل ، وخيّمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم ، واستكملوا أسرابهم ، ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها ، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها ، وعندما حللنا قاشرة (١) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا ، ومستعيد حظه من مواقع (٢) جهادنا ، ومقتضى دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا ، قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته ، وتمسك بطاعته ، وشمله حكم جماعته ، فكان لقاؤنا إياه على حال أقرّت عيون المسلمين ، وتكفلت بإعزاز الدين ، ومجملها يغني عن التعيين ، والشرح والتبيين ، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم ، وأشك في حال اليقظة خيالهم ، من جموع تسدّ الفضا ، وأبطال تنازع أسد الغضى (٣) ، وكتائب منصورة ، ورايات منشورة ، وأمم محشورة ، تفضل عن مرأى العين ، وتردي العدوّ في مهاوي الحين (٤) ، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم ، واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم ، وإذا كثّر الله تعالى العدد نما وزكا ، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا ، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف ، وسمت الهوى (٥) إلى الاستشراف ، وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف ، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا ، ولا يجد الاعتبار (٦) عندها دخلا ، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها ، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها ، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها ، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع ، وافرة الجموع ، واستجنّت (٧) من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر ، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر ، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع ، والمصال والمصاع ، وخالطوهم هبرا بالسيوف ، ومباكرة بالحتوف ، فتركوهم حصيدا ، وأذاقوهم وبالا شديدا ، وجدّلوا منهم جملة وافرة ، وأمة كافرة ، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة ، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة ، واقتحم المسلمون الوادي سيما (٨) في غمره ، واستهانة في سبيل الله بأمره ، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها ، وتعلّقوا بأوائل الأسوار ففرعوها ، فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال ، وتيسير الآلات وترتيب الرجال ،

__________________

(١) قاشرة : من أحواز لبلة بالأندلس.

(٢) في ب : لواحق جهادنا.

(٣) في ه ، ب : وأبطال تقارع أسود الغضى.

(٤) الحين ، بفتح الحاء : الهلاك.

(٥) في ب : الهوادي.

(٦) في ه : ولا يجد الاختيار.

(٧) استجنّت : اتخذت جنة وحافظا ودرعا.

(٨) في ب : سبحا.

٤٥

لدخل البلد ، وملك الأهل والولد ، لكن أجار الكفار من الليل كافر (١) ، وقد هلك منهم عدد وافر ، ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر (٢) ، والعزم ظافر ، ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا ، والتوكل على الله للبلاغ ضمينا ، ونزلنا من ضفّته القصوى منزلا عزيزا مكينا ، بحيث يجاور سورها طنب القباب ، وتصيب دورها من بين الخيمات (٣) بوارق النّشاب ، وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب ، مقيمة أسواق الطعان والضّراب ، فآبت بصفقة الخسر والتباب (٤) ، ولما شرعنا في قتلها ، ورتبنا أشتات النّكايات لنكالها ، وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها ، أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد ، وساوى النجد من طوفانه الوهد ، وعظم به الجهد ، ووقع الإبقاء على السلاح ، والكفّ بالضرورة عن الكفاح ، وبلغ المقام عليها ، والأخذ بمخنّقها والثّواء لديها ، خمسة أيام لم تخل فيها الأسوار من اقتراع ، ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع ، وأنفذت مقاتل الستائر أنقابا ، وارتقب الفتح الموعود ارتقابا ، وفشت في أهلها الجراح والعيث الصّراح ، وساءهم المساء بعزة الله والصّباح ، ولو لا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح ، والله بعدها الفتّاح ، وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران ، وتسليط النيران ، وعقر الأشجار ، وتعفية الآثار ، وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار ، وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار ، ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حدادا ، ونكس من طغاتها أجيادا فاعتادت الذلّ اعتيادا ، وألفت الهون قيادا ، وكادت أن تستباح عنوة لو لا أن الله تعالى جعل لها ميعادا ، وأتى القتل من أبطالها ، ومشاهير رجالها ، ممن يبارز ويناطح ، ويماسي بالناس ويصابح ، على عدد جمّ أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم ، ونبهت علاماتهم على نباهاتهم (٥) ، وظهر إقدام المسلمين في المعتركات ، وبروزهم (٦) بالحدود المشتركات ، وتنفيلهم الأسلاب ، وقودهم الخيل المسوّمة قود الغلاب ، وكان القفول ، وقد شمل الأمن والقبول ، وحصل الجهاد المقبول ، وراع الكفر العزّ الذي يهول (٧) ، والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول ، وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها ، والمنازل التي استباحوها وانتهبوها ، بحورا بعد منها الساحل ، وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل ، فصيروها صريما (٨) ، وسلطوا عليها النار غريما ، وحلوا بظاهر حصن أندوجر (٩) وقد أصبح مألف أذمار

__________________

(١) الليل الكافر : الأسود المعتم.

(٢) السافر : الظاهر البادي.

(٣) في ب ، ه : المخيمات.

(٤) التباب : الهلاك.

(٥) في ب : علاماتها على نبهائهم.

(٦) في ه : وبذرهم.

(٧) يهول : يفزع ويخيف.

(٨) الصريم : أراد الأرض التي لا نبات فيها.

(٩) أندوجر : حصن قريب من قرطبة على نهر الوادي الكبير.

٤٦

غير أوشاب ، ووكر طير (١) نشاب ، فلما بلونا مراسه صعبا ، وأبراجه ملئت حرسا شديدا وشهبا ، ضننّا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه ، فسلّطنا العفاء على ساحه ، وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه ، وسلطنا النار على حزونه (٢) وبطاحه ، وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه ، وانصرفنا بفضل الله والمناجل دامية ، والأجور نامية ، وقد وطئنا المواطىء التي كانت على الملوك قبلنا بسلا (٣) ، ولم نترك بها حرثا يرفد ولا نسلا ، ولا ضرعا يرسل رسلا ، والحمد لله الذي يتم (٤) النعيم بحمده ، ونسأله حلة النصر (٥) فما النصر إلا من عنده ، عرّفناكم بهذه الكيفيات ، الكريمة الصفات ، والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات ، علما بأنها لديكم من أحسن الهديات الودّيات ، ولما نعلمه لديكم من حسن النيات وكرم الطّويّات ، فإنكم سلالة الجهاد المقبول ، والرّفد المبذول ، ووعد النصر المفعول ، ونرجو الله عز وجل أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهادية ، إلى المعاينة في نصر الملة المحمدية ، وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام ، على عبدة الأصنام ، ويتم النعمة على الأنام ، وودنا لكم ما علمتم يزيد على ممرّ الأيام ، والله يجعله في ذاته لكم متصل الدوام ، مبلّغا إلى دار السلام ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، ويضاعف الآلاء عندكم ، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.

ومن هذا المنحى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه ونصه : المقام الذي أحاديث سعادته لا تملّ على الإعادة والتكرار ، وسبيل مجادته ، الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار ، وأخبار صنائع الله لملكه ، ونظم فرائد الآمال في سلكه ، تخلدها أقلام الأقدار ، بمداد الليل في قرطاس النهار ، وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات (٦) الأقمار ، وتجعلها هجّيرى حملاء الأسفار (٧) ، وحداة القطار في مسالك الأقطار ، مقام محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة ، ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة ، ونطرّز بأعلام ثنائه صحائف المجادة ، ونشكر الله أن وهب لنا من أخوته المضافة إلى المحبة والودادة ، ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوة الولادة ، وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد ، بيت القصيد ، ووسطى القلادة ، ومجلي الكمال الذي تبارى بميدان بأسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة ، ولا زالت آماله القاصية

__________________

(١) في ب : طيور.

(٢) الحزون : جمع حزن ، الأرض الصعبة.

(٣) بسلا : أراد : محرمة.

(٤) في ب : يتمم.

(٥) في ب ، ه : صلة النصر.

(٦) في ه : صحائف.

(٧) الهجّيرى : العادة ، الدأب ، الشأن.

٤٧

تنثال طوع الإرادة ، ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى والزيادة (١) ، معظّم سلطانه العالي ، المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي ، المسرور بما يسنيه الله له من الصنع المتوالي ، والفتح المقدّم والتالي ، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر ، أيد الله أمره ، وأسعد نصره (٢) ، سلام كريم يتأرّج في الآفاق شذا طيبه ، وتسمع في ذروة الودّ بلاغة خطيبه ، ويتضمن نوره سواد المداد ، عند مراسلة الوداد ، فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه ، ورحمة الله وبركاته ، أما بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب ، مهما استصعبت ، وميسّر الأمور بمحكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت ، مخمد نيران الفتن ما التهبت ، وجامع كلمة الإسلام وقد تصدعت وتشعّبت ، ومسكن رجفان الأرض بعد ما اضطربت ، ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت ، اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتّبت ، منهي كل نفس إلى ما خطت الأقلام عليها وكتبت ، ونفت وأوجبت وشاءت وأبت ، ومجازيها يوم العرض بما كسبت ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لما تألفت وتألّبت (٣) ، وجالب الحنف إليها عند ما أجلبت (٤) ، رسول الملحمة إذا الليوث وثبت ، ونبي الرحمة التي هيأت النجاة وسبّبت ، وأبلغت النفوس المطمئنة من السعادة ما طلبت ، ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت ، بلطائفه التي راضت وهذّبت ، وقادت إلى الجنة العليا واستجبلت ، وأدّت عن الله وأدبت ، الذي بجاهه نستكشف الغمّاء إذا أطنبت (٥) ، ونستوكف النّعماء (٦) إذا أخلفت البروق وكذبت ، ونتحابّ في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت (٧) ، والرضا عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقت لمزية (٨) المرضية واستوجبت لما انتمت إلى كماله وانتسبت ، وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقربت ، وإلى نصرته في حياته انتدبت ، والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت ، وخلفته في أمته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت ، فتداعت لمجاهدة الكفار وانتدبت ، وأبعدت المغار وأدربت (٩) ، حتى بلغ ملك أمته أقاصي البلاد التي

__________________

(١) في ب : وزيادة.

(٢) في ب ، ه : وأسعد عصره.

(٣) تألبت : تجمعت.

(٤) أجلبت : ضجت ، واختلطت أصوات بعضها بالآخر.

(٥) في ب : طنّبت.

(٦) نستوكف : أصلها : استوكف الماء : استقطره وطلب جريانه ، وهنا شبه النعماء بالغيث.

(٧) في ه : ثبتت. ولعله تصحيف لأن المعنى يدل على أن الكاتب اعتمد ثبوت الحديث النبوي.

(٨) في ب : المزية.

(٩) أدرب في الغزو : جاوز الدرب ووصل إلى الأعداء.

٤٨

نبت (١) ، فكسرت الصّلب التي نصبت ، ونفّلت التيجان التي عصبت ، ما همت السحب وانسحبت ، وطلعت الشمس وغربت ، والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلما جهّزت الكتائب وتكتّبت ، والفتح المبين كلما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت ، والصنائع التي مهما حدّقت فيها العيون تعجبت ، أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت ، حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت ، فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا (٢) ما سألت الألسن السائلة واستوعبت ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت ، وفتحت وسلبت ، وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعد ما كلبت ، ومراعي الآمال قد أخصبت ، والحمد لله حمدا يجلو وجوه الرضا بعد ما احتجبت ، ويفتح أبواب المزيد فكلما استقبلها الأمل رحّبت ، والشكر لله شكرا يقيّد شوارد النعم مما أبقت وما هربت ، وإلى هذا وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء ، وعرفكم عوارف الآلاء على الولاء ، فإننا لما ورد علينا كتابكم البر الوفادة الجمّ الإفادة الجامع بين الحسنى والزيادة ، جالي غرة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة ، وواهب المنن المتاحة وواصف النعم المعادة ، فوقفنا (٣) من رقّه المنشور على تحف سنية ، وأمانيّ هنية ، وقطاف للنصر جنيّة ، ضمنت سكون البلاد وقرارها ، وأن الله قد أذهب الفتن وأوارها وأخمد نارها ، ونضح عن وجه الإسلام عارها ، وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها ، فأصبح الشتيت (٤) مجتمعا ، وجنح الجناح مرتفعا ، والجبل المخالف خاشعا متصدّعا ، وأصحب (٥) في القياد من كان متمنّعا (٦) ، فاستوثقت الطاعة ، وتبجّحت (٧) السنة والجماعة ، وارتفعت الشناعة ، وتمسكت البلاد المكرهة بأذيال وليها لما رأته ، وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعد ما أنكرته ، أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه ، لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه ، وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شانه ، وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لنا وبيانه ، رأينا أن لا نكل ذلك

__________________

(١) نبت : بعدت.

(٢) أغيا ما سألت الألس : أي غايته ومنتهاه.

(٣) في ج : فأوقفنا. وفي نسخة أخرى : فوافقنا.

(٤) الشتيت : المشتت ، المتبدّد.

(٥) أصحب : انقاد.

(٦) في ه : ممتنعا.

(٧) تبجّحت : باهت وافتخرت.

٤٩

إلى اليراع (١) ، ونفرده فيه بالاجتماع ، وما يتعاطاه من منّة الذراع (٢) ، وأن نشدّ بردء من المشافهة أزره ، ونعضد بمعين من اللسان أمره ، فعيّنّا لذلك من يفسّر منه المجمل ويمهد المقصد المعمل ، حتى يجمع بين أغراض البر ، والعلن منه والسر ، ويقيم شتّى الأدلة على الوداد المستقر ، ووجّهنا في غرض الرسالة به إليكم ، واخترنا لشرحة بين يديكم ، خطيب الوفود ، وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود ، الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحجاج (٣) ـ وصل الله حفظه! ـ وأجزل من الحمد واللطف حظّه! ـ وهو البطل الذي لا يعلّم الإجالة في الميدان ولا يبصّر بوظائف ذلك الشان ، ومرادنا منه أن يطيل ويطيب ، ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرّطيب ، ويقرر ما عندنا لمقامكم من التشيع الذي قام على الحب المتوارث أساسه ، واطرد حكمه وأنتج قياسه ، وليجعل تلو مقصد الهناء ، بمجلسكم الباهر السناء ، الصارف إلى الجهاد في سبيل الله والفناء ، وجه التهمّم والاعتناء ، على مر الآناء ، ما تجدد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء ، وإن كان رسولكم ـ أعزه الله تعالى! ـ قد شارك في السرى والسير ويمن الطّير ، وأغنى في الحكاية عن الغير ، فلا سرف في الخير ، وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظرا للحشود التي نفدت معدّات أزوادها ، وشابت بهشيم الغلّة المستغلّة مفارق بلادها ، وإشفاقا لفساد أقواتها ، بفوات أوقاتها ، رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر تلك الزروع ، المائلة الفروع ، الهائلة الروع ، على همّ ممض ، وأسف للمضاجع مقضّ ، إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها ، وحلاق إهابها ، ونفض أغوارها ، ونهب شوارها ، وإذاعة أسرارها ، وهي البحور المتلاطمة ، إذا حطمتها الرياح الحاطمة ، واللجج الزاخرة ، إذا حركتها السوافي الماخرة ، تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق ، والركائب الراكضة أن تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق ، قد جللها الربيع أرزاقا تغص بها الخزائن والأطباق ، وحبوبا مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق ، ولو اعتصت على انتسافها الآفاق ، فخففنا في سبيل الله غزو تلك الأقطار المخالفة ، بمحق الصائفة ، وإعانة تلك الطائفة ، بكلوم المجاع الجائفة (٤) ، خفوفا لم نقنع فيه بالاستنابة ، حرصا على استئصال الصّبابة ، وأعفينا الرجل من اتصال الكد ، وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها

__________________

(١) اليراع : القلم.

(٢) منة الذراع : قوته.

(٣) هو محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن خلف أبو البركات السلمي البلفيقي قاضي الجماعة بغرناطة ، إمام صالح أديب عالم. ولد سنة ٦٨٠ ه‍. ونشأ بالمرية وقرأ القراءات بالأندلس وتوفي في سنة ٧٧٠ ه‍. (غاية النهاية في طبقات القراء ج ٢ ص ٢٤٥ ـ ٢٣٦ وتاريخ قضاة الأندلس ص ١٦٤).

(٤) الجائفة : النافذة إلى الجوف.

٥٠

بالرد ، وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف الجبال نسفا (١) ، ونعم الأرض زلزالا وخسفا ، ونستقري مواقع البذر احتراقا ، ونخترق أجوابها المختلفة (٢) بحب الحصيد اختراقا ، ونسلط عليها من شرر النار أمثال الجمالات الصفر مدت من الشّواظ أعناقا (٣) ، ونوسع القرى الواسعة قتلا واسترقاقا ، وندير على مستديرها كؤوس الحتوف دهاقا (٤) ، وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن العيون أحمت سبيكته فاستحالت ، وأذابت صفيحته فسالت ، وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين ، وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقبة المحيّا (٥) معصبة الجبين ، وخضنا أحشاء الغريرة (٦) نعمّ أشتات النّعم انتسافا ، وأقوات أهلها إتلافا ، وآمال سكانها إخلافا ، وقد بهتوا لسرعة الرجوع ، ودهشوا لوقوع الجوع وتسبيب تخريب الربوع ، فمن المنكر البعيد ، أن يتأتى بعد عمرانها المعهود ، وقد اصطلم الزرع واجتثّ العود ، وصار إلى العدم منها الوجود ، ورأوا من عزائم الإسلام خوارق تشذ عن نطاق العوائد ، وعجائب تستريب فيها عين المشاهد ، إذ اشتمل هذا العام ، المتعرف فيه من الله تعالى الإنعام ، على غزوات أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميرا ، وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزا جهيرا ، وضويقت كراسيّ الملك تضييقا كبيرا ، وأذيقت وبالا مبيرا ، ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوبا ، وبأسا مشبوبا ، والثقة بالله قد ملأت نفوسا مؤمنة وقلوبا ، والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعم التي أثقلت الأكتاد ، وأبهظت الطّوق المعتاد ، وأبهجت المسيم والمرتاد (٧) ، فبالشكر يستدر فريدها (٨) ، ويتوالى تجديدها ، وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة ، والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة ، مراحل ختمنا بالتعريج على حرب جيّان حربها ، ففللنا ثانية غربها وجدّدنا كربها واستوعبنا حرقها وخربها ، ونظمنا البلاد في سلك البلاء ، وحثثنا في إنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء ، فلم نترك بها ملقط طير ، فضلا عن معاف عير ، ولا أسأرنا لفلها المحروب بلالة خير ، وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد ، والعدّة والعدد ، وفيها الخصام واللّدد ، قد لبست الحداد حريقا ، وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقا ، ولم نترك لها مضيفة؟؟؟ تخالط ريقا ، ولا نعمة تصون من الفراق فريقا ، وما كانت تلك النعم لو لا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع ، ومدركه البعيد الشاسع ، لتتولى الأيدي البشرية تغريبها ولا ترزأ كثيرها ، ولا لتمتاح بالاغتراف غديرها ، بل لله القدرة جميعا ، فقدرته لا تتحامى ريعا ولا

__________________

(١) في ب ، ه : ننسف جبال النعم نسفا.

(٢) في ج : المحترقة.

(٣) الشواظ : اللهب الذي لا دخان فيه.

(٤) دهاقا : ملأى.

(٥) منقبة المحيا : لابسة النقاب.

(٦) في ب ، ه : الغرنتيرة.

(٧) في ج : المشيم.

(٨) في ب : مزيدها.

٥١

حمى مريعا منيعا ، وعدنا والعود في مثلها أحمد ، وقد بعد من شفاء النفوس الأمد ، ونسخ بالسرور الكمد ، ورفعت من عز الإسلام العمد ، والحمد لله حمد الشاكرين ، ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين ، عرفناكم به ليسر دينكم المتين ، ومجدكم الذي راق منه الجبين ، والله يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، ويبلغكم أملكم من فضله ، وقصدكم بمنه وطوله (١) ، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف ، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف ، فنقول :

قد شاع وذاع على ألسنة الجم الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقية وغيرها أن في جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقا ، على عدد أيام السنة ، وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق ، إلى أن يتم الدور ثم تعود ، وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس ، ولو كان كما شاع لذكروه وتعرضوا له ، لأنه من أعجب ما يسطر ، مع أنهم ذكروا ما هو دونه ، فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك ، وستأتي في الباب السابع رسالة الشقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطّم والرّم (٢) ، وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة ، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا ، على أن رسالة الشّقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه ، لأنا لم نرد أن نخل منها بحرف ، فأتينا بها بلفظها ، وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه ، والعذر واضح للمنصف المغضي ، والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي ، بمنه وكرمه.

وقال صاحب «نشق الأزهار» : إن في جامع قرطبة تنّورا من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح ، وفيه أشياء غريبة ، من الصنائع العجيبة ، يعجز عن وصفها الواصفون ، قيل : أحكم عمله في سبع سنين ، وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر ، مكتوب على الواحد اسم محمد ، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف ، وعلى الثالث صورة غراب نوح عليه الصلاة والسلام ، الثلاثة خلقها الله تعالى ولم يصنعها صانع ، انتهى.

قلت : لم أر أحدا من محققي المؤرخين للأندلس وثقاتهم ذكر هذا ، على قلة اطلاعي ، وهو عندي بعيد ، لأنه لو كان لذكره الأئمة.

وقد حكى القاضي عياض (٣) في الشفاء أشياء وجد عليها اسم نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر هذا ،

__________________

(١) الطّول : النفل والغنى.

(٢) يقال : فيها الطم والرّم : أي كل شيء.

(٣) القاضي عياض : هو عياض بن موسى ، اليحصبي ، السبتي ، المالكي ، محدث حافظ مؤرخ ناقد مفسر فقيه أصولي ، عالم بالنحو شاعر خطيب توفي في مراكش سنة ٥٤٣ ه‍ (معجم المؤلفين ٨ / ١٦).

٥٢

ويستبعد أن يكون بجامع قرطبة ولا يذكره ، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.

وقال في موضع آخر من هذا الكتاب : إن دور قرطبة أربعة عشر ميلا ، وعرضها ميلان ، وهي على النهر الكبير ، وعليه جسران ، وبها الجامع الكبير الإسلامي ، وبها الكنيسة المعظمة بين النصارى ، وبهذه المدينة معدن الفضة ومعدن الشاذنج ، وهو حجر من شأنه أن يقطع الدم ، وكان يجلب منها البغال التي تباع كل واحدة منها بخمسمائة دينار من حسنها وعلوّها الزائد ، انتهى.

رجع إلى أخبار البنيان ـ ولا خفاء أنه يدل على عظم (١) قدر بانيه ، ولذلك قال أمير المؤمنين الناصر المرواني باني الزهراء رحمه الله تعالى حسبما نسبهما له بعض العلماء وبعض ينسبهما لغيره ، وسيأتيان في ترجمة نور الدين بن سعيد (٢) عليّ منسوبين : [الكامل]

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إنّ البناء إذا تعاظم قدره

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

وتذكرت هنا قصيدة قالها بعض الشاميين ، وهو الأديب الفاضل الشيخ أسد بن معين الدين ، مما يكتب على أبراج دار الحسيب النسيب ، الشهير البيت ، الكبير الحي والميت ، القاضي عبد الرحمن بن الفرفور الدمشقي ، وضمنها بيتي الناصر المذكورين : [الكامل]

زر مجلسا أضحى أعزّ مكان

ومحلّ أهل العلم والعرفان

المجد خيّم في ذرى أبراجه

والسّعد عبد الباب طول زمان

كالخلد مرفوع البناء ، وأرضه

مفروشة بالدّرّ والعقيان(٣)

بيت به فخر البيوت لأنّه

بيت القصيد ومنزل الضّيفان

مغنى فسيح فيه معنى مفصح

عن قدر بانيه بغير لسان

قد قال بعض ذوي الفضائل قبلنا

قولا بديعا واضح التبيان

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إنّ البناء إذا تعاظم قدره

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

قد شاده من ساد أهل زمانه

بالأصل والإفضال والرّجحان

ورث السّيادة كابرا عن كابر

وسما برفعته على كيوان

__________________

(١) في ه ، ب : على عظيم قدر بانيه.

(٢) كلمة (سعيد) : موجودة في ه وغير موجودة في ج.

(٣) العقيان : الذهب الخالص.

٥٣

قاضي القضاة ومفخر العصر الّذي

قد جاء فيه سابق الأقران

في العلم بحر لا ينال قراره

في الحكم مثل مهنّد وسنان

يروي عطاء عن يديه قد اقتفى

آثار آباء ذوي إحسان

لا زال يبقى شائدا بيت العلا

وعدوّه في الوهن والنّقصان(١)

يا أيّها المولى الّذي يجري مع الإق

بال والإسعاد طلق عنان(٢)

دم شامخ المقدار مرتفع البنا

والنّاس تحت رضاك كالغلمان

متمتّعا ببنيك سادات الورى

في عزّ ربّ دائم السّلطان

ما رجّع القمريّ في تغريده

في الرّوض فوق منابر الأغصان(٣)

وكان القاضي عبد الرحمن بن فرفور المذكور عالي الهمة ، تضيق يده عما يريد ، فلذلك كان كثيرا ما يبث شكواه في الطروس والدفاتر ، ويعتب على الزمان الذي أخنى على أهل الأدب وقطع آمالهم بحسامه الباتر ، ويرحم الله القائل : [الكامل]

هذا زمان دريهمي لا غيره

فدع الدّفاتر للزّمان الفاتر

فمن نظم المذكور وقد أبطأ بجزء استعاره من بعض إخوانه ، فكتب إليه معتذرا ، وأدمج شكوى الزمان الذي كان من شماتة الأعداء به حذرا : [السريع]

أبطأت في ذا الجزء يا سيّدي

كتابة من جور دهر بغيض

صابرته فالجسم منّي لقى

تجلّدا والقلب منّي مريض(٤)

فإذ أبى إلّا تلافيّ وقد

أحلّني منه محلّ النّقيض

واقتادني قسرا إلى مصرع

قد رقّ منه اللّحم والعظم هيض(٥)

سلّمت للأقدار مستسرعا

لباب مولى ذي عطاء عريض

جموم صبر كنت أسطو به

على روايا الدّهر بالهمّ غيض

__________________

(١) الوهن : الضعف.

(٢) البيت وارد في ب هكذا. والأصح وزنا التالي :

يا أيها المولى الذي يجري مع ال

إقبال ....

(٣) القمري : نوع من الحمام حسن الصوت.

(٤) لقى : ملقى.

(٥) هيض العظم : كسر.

٥٤

فلا تلم يا صاح من بعد ذا

إذا تمثّلت بحال الجريض(١)

ورأيت بخطه رحمه الله تعالى مما نسبه جده القطب الخيضري الحافظ لإبراهيم بن نصر الحموي ثم المصري المعروف بابن الفقيه : [مجزوء الرمل]

يا زمانا كلّما حا

ولت أمرا يتمنّع

إن تعصّبت فإنّي

باصطباري أتقنّع

وهذه تورية بديعة للغاية في التعصب والتقنع ، مع حلاوة النظم وجودة السبك وخفة الوزن ، والله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان ، ويعاملنا وإياهم بمحض الفضل والامتنان ، ويكفينا شجون دهر جرى بنا طلق العنان!!.

رجع إلى ما كنا فيه ـ وكنت وقفت في كلام بعض العلماء على أن البيتين السابقين المنسوبين إلى أمير المؤمنين الناصر المرواني ـ رحمه الله تعالى! ـ قالهما في الزهراء التي بناها ، وسيأتي ذكرها قريبا ، وقال الشيخ سيدي محيي الدين بن العربي في المسامرات : قرأت على مدينة الزهراء بعد خرابها وصيرورتها مأوى الطير والوحش ، وبناؤها عجيب في بلاد الأندلس ، وهي قريبة من قرطبة ، أبياتا تذكر العاقل ، وتنبه الغافل ، وهي : [الطويل]

ديار بأكناف الملاعب تلمع

وما إن بها من ساكن وهي بلقع(٢)

ينوح عليها الطّير من كلّ جانب

فيصمت أحيانا وحينا يرجّع(٣)

فخاطبت منها طائرا متغرّدا

له شجن في القلب وهو مروّع

فقلت : على ما ذا تنوح وتشتكي؟

فقال : على دهر مضى ليس يرجع

ثم قال : وأخبرني بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء أن الناصر ماتت له سرّيّة ، وتركت مالا كثيرا ، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين ، وطلب في بلاد الإفرنج أسيرا فلم يوجد ، فشكر الله تعالى على ذلك ، فقالت له جاريته الزهراء ـ وكان يحبها حبا شديدا ـ : اشتهيت لو بنيت لي به مدينة تسميها باسمي ، وتكون خاصة لي ، فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل ، وشمال قرطبة ، وبينها وبين قرطبة اليوم ثلاثة أميال أو نحو ذلك ، وأتقن بناءها ، وأحكم الصنعة فيها ، وجعلها مستنزها ومسكنا للزهراء وحاشية أرباب دولته ،

__________________

(١) الجريض : الغصة. والشاعر هنا يشير إلى المثل القائل : حال الجريض دون القريض.

(٢) البلقع : القفر ، الخالية التي لا شيء فيها.

(٣) رجع الطائر : ردد صوته في حلقه.

٥٥

ونقش صورتها على الباب ، فلما قعدت الزهراء في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر ذلك الجبل الأسود ، فقالت : يا سيدي ، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي ، فأمر بزوال ذلك الجبل ، فقال بعض جلسائه : أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه ، لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفرا ولا قطعا ، ولا يزيله إلّا من خلقه ، فأمر بقطع شجره وغرسه تينا ولوزا ، ولم يكن منظر أحسن منها ، ولا سيما في زمان الأزهار وتفتح الأشجار (١) وهي بين الجبل والسهل ، انتهى ببعض اختصار.

وقال ابن خلكان في ترجمة المعتمد بن عباد ما صورته : الزهراء ـ بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الراء ، وبعدها همزة ممدودة (٢) ـ وهي من عجائب أبنية الدنيا ، وأنشأها أبو المظفر (٣) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب بالناصر ، أحد ملوك بني أمية بالأندلس ، بالقرب من قرطبة ، في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ، ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل ، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع ، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع ، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية (٤) وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب ، وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثا : فثلث للجند ، وثلث مدخر ، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء ، وكانت جباية الأندلس يومئذ (٥) خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن الستوق والمستخلصة (٦) سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألف دينار ، هي من أهول ما بناه الإنس ، وأجلّه خطرا ، وأعظمه شأنا ، ذكر ذلك كله ابن بشكوال في تاريخ الأندلس ، انتهى كلامه.

وحكى في المطمح (٧) أن الوزير الكبير الشهير أبا الحزم بن جهور قال وقد وقف على قصور الأمويين التي تقوّضت أبنيتها ، وعوّضت من أنيسها بالوحش أفنيتها : [الخفيف]

قلت يوما لدار قوم تفانوا :

أين سكّانك العزاز علينا؟

فأجابت : هنا أقاموا قليلا ،

ثمّ ساروا ، ولست أعلم أينا

__________________

(١) في ب : في زمان تفتح الأزهار وتفتح الأشجار ، وفي بعض النسخ : وتفتح الأزهار.

(٢) في ب : ممدودة سراية.

(٣) في الأصول وابن خلكان : أبو المظفر ؛ والصواب : أبو المطرّف.

(٤) وثلاثمائة سارية : غير موجودة في ه.

(٥) يومئذ : غير موجودة في ب.

(٦) في ب ، ه : ومن السوق والمستخلص.

(٧) المطمح ص ١٥.

٥٦

وفيه أن أبا عامر بن شهيد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث (١) آس ، وعرشت بسرور وائتناس ، وقرع النواقيس يبهج (٢) سمعه ، وبرق الحميا يسرج لمعه (٣) ، والقس قد برز في عبدة المسيح ، متوشحا بالزنانير أبدع توشيح ، قد هجروا الأفراح ، واطّرحوا النعم كل اطّراح ، لا يعمدون إلى ماء بآنية إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح ، وأقام بينهم يعملها حميا ، كأنما يرشف من كأسها شفة لميا وهي تنفح له بأطيب عرف (٤) ، كلما رشفها أعذب رشف ، ثم ارتجل ، بعد ما ارتحل ، فقال : [الكامل]

ولربّ حان قد شممت بديره

خمر الصّبا مزجت بصرف عصيره

في فتية جعلوا السّرور شعارهم

متصاغرين تخشّعا لكبيره

والقسّ مما شاء طول مقامنا

يدعو بعود حولنا بزبوره

يهدي لنا بالرّاح كلّ مصفر

كالخشف خفّره التماح خفيره(٥)

يتناول الظّرفاء فيه وشربهم

لسلافه ، والأكل من خنزيره

رجع إلى أنباء (٦) الزهراء ـ قال بعض من أرخ الأندلس : كان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل ، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة ، وكان من الرجال (٧) من له درهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة ، وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستة آلاف صخرة سوى الآجر والصخر غير المعدل ، انتهى ، وسيأتي في الزهراء مزيد كلام.

وقال ابن حيان : ابتدأ الناصر بناء الزهراء أول يوم من محرم سنة ٣٢٥ ، وجعل طولها من شرق إلى غرب ألفين وسبعمائة ذراع ، وتكسيرها تسعمائة ألف ذراع وتسعون ألف ذراع ، كذا نقله بعضهم ، وللنظر فيه مجال ، قال : وكان يثيب (٨) على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير سوى ما كان يلزم على قطعها (٩) ونقلها ومؤنة (١٠) حملها ، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية ، والمجزّع من رية ، والوردي والأخضر من إفريقية من إسفاقس وقرطاجنّة ،

__________________

(١) أضغاث : جمع ضغث ، وهو قبضة من عشب مختلط رطبه بيابس.

(٢) في ب : يهيج.

(٣) في ب ، ج : يسرع لمعه.

(٤) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة العطرة.

(٥) الخشف : ولد الغزالة أول ما يولد.

(٦) في ب ، ه : رجع إلى بناء الزهراء.

(٧) في ه : الرحالة.

(٨) في ه : يثبت.

(٩) في ب : كان يلزمه من النفقة على قطعها ..

(١٠) في ب : ومؤونة حملها ..

٥٧

والحوض المنقوش المذهب من الشام ، وقيل : من القسطنطينية ، وفيه نقوش وتماثيل وصور (١) على صور الإنسان ، وليس له قيمة ، ولما جلبه أحمد الفيلسوف ـ وقيل غيره ـ أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس ، ونصب عليه اثني عشر تمثالا ، وبنى في قصرها المجلس المسمى بقصر الخلافة ، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ في جرمه لصافي (٢) لونه المتلونة أجناسه ، وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها أليون ملك القسطنطينية ، وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة ، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق ، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس (٣) المرصع بالذهب وأصناف الجواهر. قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي ، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر (٤) المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار ، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدا من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور ، ويأخذ بمجامع القلوب ، حتى يخيل لكل من في المجلس أن المحل قد طار بهم ، ما دام الزئبق يتحرك ، وقيل : إن هذا المجلس كان يدور ويستقبل الشمس ، وقيل : كان ثابتا على صفة هذا الصهريج ، وهذا المجلس لم يتقدم لأحد بناؤه في الجاهلية ولا في الإسلام ، وإنما تهيأ له لكثرة الزئبق عندهم ، وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن ، وبها من المرمر والعمد كثير ، وأجرى فيها المياه ، وأحدق بها البساتين ، وفيها يقول الشاعر السميسر (٥) : [السريع]

وقفت بالزّهراء مستعبرا

معتبرا أندب أشتاتا

فقلت : يا زهرا ألا فارجعي

قالت : وهل يرجع من ماتا؟

فلم أزل أبكي وأبكي بها

هيهات يغني الدّمع هيهاتا

كأنّما آثار من قد مضى

نوادب يندبن أمواتا

انتهى كلام هذا المؤرخ ملخصا ، وسيأتي ما يوافق جلّه ، ويخالف قلّه ، والله سبحانه يعلم الأمر كله ، فإنه ربما ينظر المتأمل هذا الكتاب فيجد في بعض الأخبار تخالفا ، فيحمل ذلك

__________________

(١) وصور : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : الصافي.

(٣) الآبنوس : شجر في إفريقية الاستوائية ، خشبه أسود صلب ثقيل.

(٤) في ه : في سمك المجلس.

(٥) كذا في ب ، ه. وفي ج : الشميس والصواب ما أثبتناه.

٥٨

على الغلط ، وليس كذلك ، وإنما السبب الحامل لذلك جلب كلام الناس بعباراتهم ، والناقد البصير لا يخفاه مثل هذا ، وربما يقع التكرار ، وذلك من أجل ما ذكر ، والله أعلم.

وتذكرت بما وصفه من مجلس الناصر ما حكاه غير واحد عن القصر العظيم الذي شاده ملك طليطلة المأمون ابن ذي النّون بها ، وذلك أنه أتقنه إلى الغاية ، وأنفق عليه أموالا طائلة ، وصنع في وسطه بحيرة ، وصنع في وسط البحيرة قبة من زجاج ملوّن منقوش بالذهب ، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون ، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطا بها ويتصل بعضه ببعض ، فكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب (١) خلف الزجاج لا يفتر من الجري ، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء ولا يصله ، وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب ، وبينما هو فيها مع جواريه ذات ليلة إذ سمع منشدا ينشد :[الطويل]

أتبني بناء الخالدين ، وإنّما

مقامك فيها لو علمت قليل(٢)

لقد كان في ظلّ الأراك كفاية

لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل

فنغص عليه حاله ، وقال : إن لله وإنا إليه راجعون ، أظن أن الأجل قد قرب ، فلم يلبث بعدها غير شهر وتوفي ، ولم يجلس في تلك القبة بعدها ، وذلك سنة ٤٦٧ ، تجاوز الله تعالى عنه! هكذا حكاه بعض مؤرخي المغرب.

وقد ذكر في غير هذا الموضع من هذا الكتاب حكاية هذه القبة بلفظ ابن بدرون شارح العبدونية فليراجع.

وتذكرت هنا قول أبي محمد المصري في صفة قصر طليطلة : [الكامل]

قصر يقصّر عن مداه الفرقد

عذبت مصادره وطاب المورد

نشر الصّباح عليه ثوب مكارم

فعليه ألوية السّعادة تعقد

وكأنّما المأمون في أرجائه

بدر تمام قابلته أسعد

وكأنّما الأقداح في راحاته

درّ جماد ذاب فيه العسجد(٣)

وله في صفة البركة والقبة عليها : [السريع]

__________________

(١) في ه : من ماء سكب خلف الزجاج.

(٢) في ب ، ه : بقاؤك فيها لو علمت قليل.

(٣) العسجد : الذهب.

٥٩

شمسيّة الأنساب بدريّة

يحار في تشبيهها الخاطر

كأنّما المأمون بدر الدّجى

وهي عليه الفلك الدائر

وكان ملوك الأندلس في غاية الاحتفال بالمجالس والقصور ، وللوزير الجزيري (١) ـ رحمه الله تعالى! ـ في وصف مجلس للمنصور بن أبي عامر ما يشهد لذلك ، وهو قوله:[الكامل]

وتوسّطتها لجّة في قعرها

بنت السّلاحف ما تزال تنقنق

تنساب من فكّي هزبر إن يكن

ثبت الجنان فإنّ فاه أخرق

صاغوه من ندّ وخلّق صفحتي

هاديه محض الدّرّ فهو مخلّق(٢)

للياسمين تطلّع في عرشه

مثل المليك عراه زهو مطرق

ونضائد من نرجس وبنفسج

وجنيّ خيريّ وورد يعبق

ترنو بسحر عيونها وتكاد من

طرب إليك بلا لسان تنطق

وعلى يمينك سوسنات طلعت

زهر الرّبيع فهنّ حسنا تشرق(٣)

فكأنّما هي في اختلاف رقومها

رايات نصرك يوم بأسك تخفق

في مجلس جمع السّرور لأهله

ملك إذا جمعت قناه يفرّق

حازت بدولته المغارب رفعة

فغدا ليحسدها عليه المشرق(٤)

ومن هذه القصيدة.

أمّا الغمام فشاهد لك أنّه

لا شكّ صنوك أو أخوك الأوثق

وافى الصنيع فحين تمّ تمامه

في الصّحو أنشأ ودقه يتدفّق(٥)

وأظنّه يحكيك جودا إذ رأى

في اليوم بحرك زاخرا يتفهّق

وكان السبب في هذه الأبيات أن المنصور صنع في ذلك الأوان صنيعا لتطهير ابنه عبد الرحمن ، وكان عام قحط ، فارتفع السعر بقرطبة ، وبلغ ربع الدقيق إلى دينارين ، فجلا

__________________

(١) الوزير الجزيري : هو أبو مروان عبد الملك بن إدريس أحد كتاب الدولة العامرية. توفي مقتولا سنة ٣٩٤ ه‍ (الجذوة ص ٢٦١).

(٢) في ب ، ه : مطوّق.

(٣) في ب : سوسنات أطلعت.

(٤) في ب : المغارب عزة.

(٥) الودق : المطر.

٦٠