نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المخصوصة بالسلطنة ، لقرب قلعة الجبل منها ، فأمور السلطنة كلها فيها أيسر ، وأكثر ، وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والنساء ، إلا أن في هذا الوقت لما اعتنى السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط ، وانتقل إليها كثير من الأمراء ، وضخمت أسواقها ، وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة ، فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه ذلك.

إلى أن قال : وهي الآن عظيمة آهلة ، يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلا خالق الكل جلّ وعلا ، وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيما (١) ولا عذابا ، ولا يطالب برفيق له إذا مات ، فيقال له : ترك عندك مالا ، فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر ، والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها ، وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه ، يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان (٢) وما أشبه ذلك ، بخلاف غيرها من بلاد المغرب ، وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلا المغاربة ، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة [الحرب](٣) والبحر ، وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف ، وهم في القدوم عليها بين حالين : إن كان المغربي غنيا طولب بالزكاة وضيّق عليه (٤) ، وإن كان مجردا فقيرا حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول.

وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال ، وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيرا من البلاد ، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول : [بحر السريع]

من فضّل النرجس وهو الذي

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام في خدمته النرجس

وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه الرمان والموز ، أمّا التفاح والإجاص فقليل غال ، وكذلك الخوخ ، وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون

__________________

(١) الترسيم : وضع المشكوك في سيره أو المشكوك في ولائه للحاكم تحت المراقبة.

(٢) المردان : جمع أمرد ، وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته بعد.

(٣) ساقطة في ب.

(٤) في ب ، ه : «وضيقت عليه السعاة» والسعاة : جمع ساع وهو الذي يحصل الزكاة هنا.

٤٦١

الأخضر والأصفر ، وأما العنب والتين فقليل غال ، ولكثرة ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل ، ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء ، وعامتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من الحنطة ، حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسبب ذلك (١) ، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه ، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولا تبرج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب ، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة فرأيت فيه من ذلك العجائب ، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب ، وذلك في بعض الأحيان ، وهو ضيق ، عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم التهكم والطرب والمخالفة ، حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب ، وللسّرج في جانبيه بالليل منظر ، وكثيرا ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل ، وفي ذلك أقول : [مخلع البسيط]

لا تركبن في خليج مصر

إلا إذا أسدل الظلام

فقد علمت الذي عليه

من عالم كلّهم طغام (٢)

صفان للحرب قد أطلّا

سلاح ما بينهم كلام

يا سيدي لا تسر إليه

إلا إذا هوّم (٣) النيام

والليل ستر على التصابي

عليه من فضله لثام

والسّرج قد بدت (٤) عليه

منها دنانير لا ترام

وهو قد امتدّ والمباني

عليه في خدمة قيام

لله كم دوحة جنينا

هناك أثمارها الأثام

قال المقريزي : وفيه تحامل كثير ، انتهى.

ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه ، والله تعالى الموفق.

قال ابن سعيد : ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة بالسوداء ، كل درهم منها ثلاث من الدراهم الناصرية ، وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء ، ومخاصمة بين الفريقين ، وكان بها قديما الفلوس ، فقطعها الملك الكامل ، فبقيت الآن مقطوعة منها ، وهي في الإقليم الثالث ، وهواؤها رديء ، لا سيما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة ، وأيضا فرمد العين

__________________

(١) ساقطة في ب.

(٢) الطغام : أراذل الناس.

(٣) هوّم : نام نوما خفيفا.

(٤) في ب : «مدّدت».

٤٦٢

فيها كثير ، والمعايش فيها معتذرة نزرة ، لا سيما أصناف الفضلاء ، وجوامك (١) المدارس قليلة كدرة ، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج ، والنصارى بها يمتازون بالزنّار في أوساطهم ، واليهود بعمائم صفر ، ويركبون البغال ، ويلبسون الملابس الجليلة ، ويأكل أهل القاهرة البطارخ ، ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية ، وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين ، ولهن في الطبخ صنائع عجيبة ، ورياسة متقدمة ، ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة ، انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أبي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى :

وقال رحمه الله : [المجتث]

كم ذا تقيم بمصر

معذّبا بذويها

وكيف ترجو نداهم (٢)

والسحب تبخل فيها

وقال رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]

لابن الزبير مكارم أضحت بها

طير المدائح في البلاد تغرّد

إن قيدوه وبالغوا في عصره

فالكرم يعصر والجواد يقيّد (٣)

ولنذكر بعض أخبار والده ، فإنه ممن رحل إلى المشرق وتوفي بالإسكندرية ، وقد ذكر ابنه أبو الحسن في «المغرب» وغيره من أخباره العجائب ، ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك ، سوى ما تقدم ، فنقول :

من أخباره أنه لما اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي بن تقي (٤) وجّه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشدا : [بحر الكامل]

أكذا يجوز القطر لا يثني على

أرض توالى جدبها من بعده

الله يعلم أنها ما أنبتت

زهرا ولا ثمرا بمدة فقده

عرّج عليها ساعة يا من له

حسب يفوق العالمين بمجده

__________________

(١) الجوامك : جمع جومك ، وهو راتب الموظف.

(٢) الندى : الكرم ، الجود.

(٣) في ه : «يعقد».

(٤) في ب ، ه : «ابن مبقّى» ، وفي ج : «ابن بقي».

٤٦٣

وانثر عليها من أزاهرك التي

تشفي المتيّم من لواعج وجده

والله ما ذاكرت فكرك ساعة

إلا وأقبس خاطري من زنده

قال موسى : فارتجلت للحين : [بحر السريع]

أنت الذي تعرف كيف العلا

وتبتدي في سبل المجد

بدأت بالفضل المنير الذي

أكمل بدر الشكر والحمد

والله ما أبصرتكم ساعة

إلّا بدا لي طالع السعد

وانصرفت معه إلى منزله : [بحر المجتث]

فلم أزل في كرامه

ليست كظل غمامه

ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدّما على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة مع أحد الأدباء (١) ، منه :

أفاتح من قلبي بعلياه واثق

وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودا

وثقت بما لي من ذمام تشيّعي

بآل سعيد وابتغيت (٢) به السّعدا

وبالحبّ يدنو كل من أقصت النوى

برغم حجاب للنوى بيننا مدّا

يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه ، أن أهجم على مفاتحته شافعا (٣) في موصّلها إليه ، واثقا بالفرع لعلم الأصل ، مؤمّلا للإفضال بتحقق الفضل ، إن لم تقض باجتماع بيننا الأيام ، فلا تجري بالمشافهة (٤) بيننا إلا (٥) ألسن الأفلام ، ويوحي بعضنا إلى بعض بسور الوداد ، والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدرا ، وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكرا ، فكلّ يثني بالذي علمت سعد (٦) ، ويصف من خلالك ما يقضي

__________________

(١) القاضي أبو عبد الله محمد بن عسكر ، هو محمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني. كان قاضي مالقة ، وكان من أهل المعرفة بالأحكام والقيام على النوازل. له جملة تواليف منها : المشرع الروي في الحديث ، والتكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام (انظر تاريخ قضاة الأندلس ١٢٣).

(٢) في ب : «فابتغيت».

(٣) شافعا : متوسلا.

(٤) في ب : «من المشافعة».

(٥) ساقطة في ب.

(٦) إشارة إلى قول الأخطل :

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلا بالذي علمت سعد

٤٦٤

ذلك المجد ، ولما كان إحسانك يبشر [به] الصادر والوارد ، ويحرض عليه الغائب والشاهد ، مدّ أمله نحوك موصل هذه المفاتحة ، وليس له وسيلة ولا بضاعة إلا الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة ، وهو من شتتت خطوب هذا الزمان شمله ، وأبانت نوائبه صبره وفضله ، وما طمح ببصره إلا إلى أفقك ، ولا وجّه رجاءه إلا نحو طرقك ، والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه (١) ، وأعنقت من الحمد ركائبه ، دمت غرة في الزمن البهيم ، مخصوصا بأفضل التحية والتسليم ، انتهى.

وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم ، وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة ، ومن شعره : [بحر السريع]

أهواك يا بدر وأهوى الذي

يعذلني فيك وأهوى الرقيب

والجار والدار ومن حلّها

وكلّ من مرّ بها من قريب

وكلّ مبد شبها منكم

وكل من يلفظ باسم الحبيب

رجع ـ قال ابنه علي : لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية ، رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماما في الغربة ، فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه ، وهي هذه ، وكفى بها دليلا على ما اختبر وعلم : [بحر السريع]

أودعك الرحمن في غربتك

مرتقبا رحماه في أوبتك (٢)

وما اختياري كان طوع النوى

لكنني أجري على بغيتك

فلا تطل حبل النوى إنني

والله أشتاق إلى طلعتك

من كان مفتونا بأبنائه

فإنني أمعنت في خبرتك

فاختصر التوديع أخذا ، فما

لي ناظر يقوى على فرقتك

واجعل وصاتي نصب عين ولا

تبرح مدى الأيام من فكرتك

خلاصة العمر التي حنّكت

في ساعة زفّت (٣) إلى فطنتك

فللتّجاريب أمور إذا

طالعتها تشحذ (٤) من غفلتك

__________________

(١) أثنت حقائبه : كناية عن إرادة الرحيل.

(٢) أوبتك : عودتك.

(٣) في ه : «رفت إلى فطنتك».

(٤) تشحذ : تحفّز وتقوي.

٤٦٥

فلا تنم عن وعيها ساعة

فإنها عون إلى يقظتك

وكلّ ما كابدته في النوى (١)

إياك أن يكسر من همّتك

فليس يدرى أصل ذي غربة

وإنما تعرف من شيمتك

وكلّ ما يفضي لعذر فلا

تجعله في الغربة من إربتك (٢)

ولا تجالس من فشا جهله

واقصد لمن يرغب في صنعتك

ولا تجادل أبدا حاسدا

فإنه أدعى إلى هيبتك

وامش الهوينى (٣) مظهرا عفّة

وابغ رضا (٤) الأعين عن هيئتك

أفش التحيّات إلى أهلها

ونبّه الناس على رتبتك

وانطق بحيث العيّ (٥) مستقبح

واصمت بحيث الخير في سكنتك (٦)

ولا تزل مجتمعا طالبا

من دهرك الفرصة في وثبتك

وكلما أبصرتها أمكنت

ثب واثقا بالله في مكنتك

ولج على رزقك من بابه

واقصد له ما عشت في بكرتك

وايأس من الود لدى حاسد

ضدّ ونافسه على خطّتك

ووفّر الجهد فمن قصده

قصدك لا تعتبه في بغضتك

ووفّ كلّا حقّه ولتكن

تكسر عند الفخر من حدّتك

ولا تكن تحقر ذا رتبة

فإنه أنفع في غربتك

وحيثما خيمت فاقصد إلى

صحبة من ترجوه في نصرتك

وللرّزايا (٧) وثبة ما لها

إلا الذي تدخر (٨) من عدّتك

ولا تقل أسلم لي وحدتي

فقد تقاسي الذل في وحدتك

ولتزن الأحوال وزنا ولا

ترجع إلى ما قام في شهوتك

ولتجعل العقل محكّا وخذ

كلا بما يظهر في نقدتك

__________________

(١) النوى : البعد ، والفراق.

(٢) الإربة : الغرض والحاجة.

(٣) في ب : «الهوينا».

(٤) في ب : «رضى».

(٥) العي : العجز في النطق عن إظهار المراد.

(٦) في ب : «سكتتك».

(٧) الرزايا : جمع رزية والرزيئة : وهي المصيبة الشديدة.

(٨) في ب : تذخر.

٤٦٦

واعتبر الناس بألفاظهم

واصحب أخا يرغب في صحبتك

بعد اختبار منك يقضي بما

يحسن في الأخدان (١) من خلطتك

كم من صديق مظهر نصحه

وفكره وقف على عثرتك (٢)

إياك أن تقربه ، إنّه

عون مع الدّهر عل كربتك

واقنع إذا ما لم تجد مطمعا

واطمع إذا أنعشت (٣) من عسرتك

وانم نموّ النّبت قد زاره

غبّ الندى واسم إلى قدرتك

وإن نبا دهر فوطّن له

جأشك وانظره إلى مدّتك

فكل ذي أمر له دولة

فوفّ ما وافاك في دولتك

ولا تضيّع زمنا ممكنا

تذكاره يذكي (٤) لظى حسرتك

والشر مهما اسطعت لا تأته

فإنه حوب (٥) على مهجتك

يا بني الذي لا ناصح له مثلي ، ولا منصوح لي مثله [قد](٦) قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة ، إن شاء الله تعالى وإنّ أخفّ منه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم قول الأول : [المتقارب]

يزين الغريب إذا ما اغترب

ثلاث فمنهنّ حسن الأدب

وثانية حسن أخلاقه

وثالثة اجتناب الرّيب

وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة ، لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم ، ولا يفارقك بر ولا كرم ، ولله در القائل : [بحر الطويل]

يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا

وإن لم يكن في قومه بحسيب

إذا حلّ أرضا عاش فيها بعقله

وما عاقل في بلدة بغريب

وما قصر القائل حيث قال : [بحر المنسرح]

__________________

(١) الأخدان : جمع خدن ، وهو الصديق والصاحب ، للمذكر والمؤنث.

(٢) العثرة : الكبوة والسقوط.

(٣) في ب ، ه : «وأطمع إذا نفست من عسترك».

(٤) يذكي النار : يوقدها ويسعرها.

(٥) الحوب : الألم والوجع.

(٦) «قد» ساقطة في ب.

٤٦٧

واصبر على خلق من تعاشره

وداره فاللبيب من دارا (١)

واتخذ الناس كلهم سكنا

ومثّل الأرض كلّها دارا

واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر ، وسلّم الكرم والصبر : [بحر الكامل]

ولو ان أوطان الديار نبت بكم

لسكنتم الأخلاق والآدابا

إذ حسن الخلق أكرم نزيل ، والأدب أرحب منزل ، ولتكن كما قال بعضهم (٢) في أديب متغرّب : وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد ، وإليه قصد ، غير مستريب (٣) بدهره ، ولا منكر شيئا من أمره ، وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلما ، وهبّ في روض أخلاقه هبوب النسيم ، وحلّ بطرفه حلول (٤) الوسن (٥) ، وانزل بقلبه نزول المسرة ، حتى يتمكن لك وداده ، ويخلص فيك اعتقاده ، وطهر من الوقوع [فيه] لسانك ، وأغلق سمعك ، ولا ترخّص في جانبه لحسود لك منه ، يريد إبعادك عنه ، لمنفعته ، أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك ، ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ، ولا تتمهد بدوام رقدته ، فقد ينبهه الزمان ، ويغير منه القلب واللسان ، ولذا قيل : إذا أحببت فأحبب هونا ما ، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوّا والعدوّ صديقا ، وإنما العاقل من جعل عقله معيارا ، وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله ، وجعل نصب ناظره قول أبي الطيب : [بحر الوافر]

ولما صار ودّ الناس خبّا (٦)

جزيت على ابتسام بابتسام

وفي أمثال العامة : من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل ، فاحتذ بأمثلة (٧) من جرّب ، واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال ، فإنها خلاصة عمرهم ، وزبدة تجاربهم ، ولا تتكل على عقلك ، فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك ، ويقع عليك رخيصا ، وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة فاستفد منه ، ولا تضيع قوله ولا فعله (٨) ، فإن فيما تلقاه تلقيحا لعقلك ، وحثّا لك واهتداء ، وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع : [الكامل]

__________________

(١) في ب : «دارى».

(٢) في ب ، ه : «كما قال أحدهم».

(٣) مستريب : متشكك.

(٤) في ب ، ه : «محلّ الوسن».

(٥) الوسن : النعاس.

(٦) خبّا : الخبّ : الخبث ، والخداع ، والغش.

(٧) في ب : «فاحتذ مثله».

(٨) في ب : «فعله ولا قوله».

٤٦٨

فالحرّ يخدع بالكلام الطيب

فقد قال أحدهم : ما قيل أضرّ من هذا البيت على أهل التجمل ، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه ، حتى تتدبره ، فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك فراع (١) ذلك عندك ، وإلا فانبذه نبذ النواة ، فليس لكل أحد يتبسم ، ولا كل شخص يكلم ، ولا الجود مما يعم به ، ولا حسن الظنّ وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ، ولله در القائل : [بحر الطويل]

 ما لي لا أوفي البريّة قسطها

على قدر ما يعطي وعقلي ميزان

وإياك أن تعطى من نفسك إلا بقدر ، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء ، ولا الكفء بمعاملة الأعلى ، ولا تضيع عمرك فيمن يملك بالمطامع (٢) ، ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة ، واسمع قول الأول : [المتقارب]

وبع آجلا منك بالعاجل

وأقلل من زيارة الناس ما استطعت ، ولا تجفهم بالجملة ، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء ، ولا تقل أيضا أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحدا ، وأستريح من الناس ، فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة ، وإذا علم عدو لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه ، فازدراك الصديق وجسر عليك العدوّ ، وإياك أن يغرك صاحب واحد عن أن تدخر (٣) غيره للزمان ، وتطيعه في عداوة سواه ، ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها ، وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعتك عن غيره ، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدّة لكان ذلك أولى وأصوب ، وسلني فإني خبير ، طال والله ما صحبت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه ، ولا أعتدّ إلا إياه ، منخدعا بسرابه (٤) ، موثوقا في حبائل خطابه ، إلى أن لا يحصل لي منه غير العضّ على البنان ، وقول لو كان ولو كان ، ولا يحملنك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد ، وتعجل المكافأة ، وليكن حسن الظن بمقدار (٥) ، واصبر بمقدار (٦) ما ، والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال ، وفي الوجوه دلالات وعلامات ، وأصغ إلى القائل : [الخفيف]

__________________

(١) في ب ، ه : «قواه ذلك عندك».

(٢) كذا في ب ، ه : أما في ج فجاء : «فيمن يعاملك».

(٣) في ب : «تذخر».

(٤) السراب : الذي تراه في الصحراء فتحسبه ماء.

(٥) في ب : «بمقدار ما».

(٦) في ب : «بقدر».

٤٦٩

ليس ذا وجه من يضيف ولا يق

يري(١) ولا يدفع الأذى عن حريم

فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فولّ وجهك عنه قبلة ترضاها ، ولتحرص جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا ربّ حشمة ونعمة ، ومن نشأ في رفاهية ومروءة ، فإنك تنام معه في مهاد العافية ، وإن الجياد على أعراقها تجري ، وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة ، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان : أشرب مصعب (٢) الخمر؟ فقال عبد الملك ، وهو عدوّ له محارب له على الملك : لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه [بحر الكامل].

والفضل ما شهدت به الأعداء

يا بني ، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغيّر ، وقد قيل : اصحب من شئت فإنك مفارقه ، فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل ، فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه ، فلذلك قال الأول : [بحر الطويل]

ولما مضى سلم بكيت على سلم

وإياك والبيت السائر : [بحر الوافر]

وكنت إذا حللت بدار قوم

رحلت بخزية (٣) وتركت عارا

واحرص على ما جمع قول القائل : ثلاثة تبقي لك الودّ في صدر أخيك ، أن تبدأه بالسلام ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه ، واحذر كل ما بينه لك القائل : كلّ ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإنك إذا غرسته يقلعك ، وقول الآخر : ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن ، وقول الآخر : ابن آدم ذئب مع الضعف ، أسد مع القوّة ، وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره ، فيحكى أن ابن المقفّع خطب من الخليل (٤) صحبته ، فجاوبه : إن الصحبة رقّ ، ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك ، واستمل من عين من تعاشره ، وتفقّد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه ، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن

__________________

(١) يقري : يجعل الزاد لضيفه.

(٢) مصعب : هو مصعب بن الزبير وكان عدوا لعبد الملك بن مروان وجرت بينهما معركة كان النصر فيها لعبد الملك وقتل مصعب.

(٣) الخزية : العيب والعار.

(٤) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وكان عالما في اللغة والأدب والنحو إضافة إلى وضعه علم العروض.

٤٧٠

لا تبينه ، فإن الكلام سلاح السلم ، وبالأنين يعرف ألم الجرح ، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك ، وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار ، وتسلم للأقدار : [المنسرح]

واقبل من الدهر ما أتاك به

من قرّ عينا بعيشه نفعه

إذ الأفكار تجلب الهموم ، وتضاعف الغموم ، وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب ، يستريب به الصاحب ، ويشمت العدوّ المجانب ، ولا تضر بالوساوس إلا نفسك ، لأنك تنصر بها الدهر عليك ، ولله در القائل : [بحر الوافر]

إذا ما كنت للأحزان عونا

عليك مع الزمان فمن تلوم؟

مع أنه لا يردّ عليك الفائت الحزن ، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن ، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم ، وعشقته الغموم ، من صغره إلى كبره ، لا تراه أبدا خليا من فكره ، حتى [لقد](١) لقب بصدر الهم ، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة ، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ، ويتنكد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم ، وينشد : [بحر المتقارب]

توقع زوالا إذا قيل تم

وينشد : [بحر الطويل]

وعند التّناهي يقصر المتطاول (٢)

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب ، ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعا ، ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا لك ، وقصدا لتصغير قدرك عندك ، وتزهيدا لك فيه ، فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك ، وتركن إلى العلم الذي مدحوه ، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه ، فبقي مخبل المشي [كما قيل](٣) : [بحر الكامل]

حسد القطا وأراد يمشي مشيها

فأصابه ضرب من العقّال (٤)

__________________

(١) ساقطة في ب.

(٢) للمعري :

فإن كنت تبغي العز فابغ توسطا

وعند التناهي يقصر المتطاول

(٣) ما بين حاصرتين سقط من ب ، ه.

(٤) البيت ساقط من ب.

٤٧١

فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها

فلذاك سمّوه أبا مرقال]

(١) ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ، ويقول : ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يرتاح (٢) فيه ، فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون منمن صحبه الحرمان ، واستحقّت طلعته للهوان ، وأبرموا على الناس بالسؤال ، فمقتوهم ، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس ، وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم ، وتعذير أمورهم ، ولا تزل هذين البيتين من فكرك : [بحر مجزوء الرمل]

لن إذا ما نلت عزا

فأخو العز يلين

فإذا نابك دهر

فكما كنت تكون(٣)

ولا قول الآخر : [بحر مجزوء الكامل]

ته (٤) وارتفع إن قيل أقتر

وانخفض إن قيل أثرى

كالغصن يسفل ما اكتسى

ثمرا ويعلو ما تعرّى

ولا قول الآخر : [بحر البسيط]

الخير يبقى وإن طال الزمان به

والشرّ أخبث ما أوعيت (٥) من زاد

واعتقد في الناس ما قاله القائل : [بحر الطويل]

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو (٦) لا يعدم على الغي لائما

[وقريب منه قول القائل : [بحر المتقارب]

بقدر الصّعود يكون الهبوط

فإياك والرتب العاليه

وكن في مكان إذا ما سقطتّ

تقوم ورجلاك في عافيه](٧)

وتحفظ بما تضمنه قول الآخر (٨) : [بحر السريع]

__________________

(١) البيت ساقط (من ب).

(٢) في ب ، ه : يستراح فيه).

(٣) لن : فعل أمر من لان ، أي دمثت أخلاقه وسهل.

(٤) ته : فعل أمر من تاه ، أي تكبّر وفخر.

(٥) أوعيت : جمعت وحفظت.

(٦) يغوي : يضل ويفسد.

(٧) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٨) البيت منسوب لكعب بن زهير.

٤٧٢

ومن دعا الناس إلى ذمّه

ذموه بالحق وبالباطل

ولله در القائل (١) : [بحر الكامل]

ما كل ما فوق البسيطة (٢) كافيا

فإذا اقتنعت فكل شيء كافي

والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم ، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم ، والفطن يقنع بالقليل ، ويستدل باليسير ، والله سبحانه خليفتي عليك ، لا رب سواه.

نجزت الوصية وتكفيك عنوانا على طبقته في النثر.

وله رسالة كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن مهنئا له بالخلافة حين بويع بها بمراكش ، وكان إذ ذاك بإشبيلية ، وكان قبل ذلك كاتبا له ومختصا به :

الحضرة العلية ، السامية السنية ، الطاهرة القدسية ، حضرة الإمامة ، وجنة دار الإقامة ، مدّ الله على الإسلام ظلالها ، وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها ، وهنأ المؤمنين باستقبال إمارتها ، وأدام لهم بركة خلافتها ، عبد أياديها ، وخديم ناديها ، المتوسّل بقديم الخدمة ، المتوصل بعميم النعمة وكريم الحرمة ، المنشد بلسان المسرّة ، حين أطلع الزمان هذه الغرّة : [بحر المتقارب]

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها (٣)

موسى بن محمد بن سعيد بن محمد لا زال هذا الأمر العلي محمودا سعيدا ، ولا برح يستزيد ترقيا وصعودا.

سلام الله الكريم ، يخص حضرة الإجلال والتعظيم ، والتقديس والتفخيم ، ورحمته وبركاته ، وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله ، وحلّى بهذه الولاية السعيدة أحواله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الكريم ، الذي أدحض (٤) الله تعالى به الكفر

__________________

(١) البيت لأبي فراس.

(٢) البسيطة : أراد الأرض.

(٣) البيتان لأبي العتاهية (انظر ديوانه تحقيق شكري فيصل ص ٢١٦).

(٤) في ب ، ه : «دحض».

٤٧٣

وضلاله ، وعلى آله وصحبه الطاهرين الذين سمعوا أقواله ، وامتثلوا أفعاله ، والرضا (١) عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله به على الدين الحنيفي ظلاله ، وأذهب عنه طواغيته وضلاله ، والدعاء للمقام العالي الكريم ، بالسعد المتوالي والنصر الجسيم ، وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه ، ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه : [بحر البسيط]

فهذه رتبة ما زلت أرقبها

فاليوم أبسط آمالي وأحتكم

ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء دارا ، والهلال للبشير سوارا ، والنجوم عقدا ، والصباح بندا ، حتى أسرّ كل أحد بشكله ، وأقابل كل شخص بمثله : [بحر الطويل]

ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم

فإنّي لم أخدمك إلا لأخدما

وما بعد الخلافة رتبة ، ودون ثبير (٢) تنحط كل هضبة ، فالحمد لله رب العالمين ، وهنيئا لعباده المؤمنين ، حيث نظر لهم نظر رحمة ، فأسبل عليهم هذه النعمة : [بحر الكامل]

ولقد علمت بأن ذلك معصم

ما كان يتركه بغير سوار (٣)

والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وإلى من يشير بآياته ، فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته ، لقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقا وغربا غرته ، ولقد اجتمعت آراء السداد ، حتى أتت الإسلام بالمراد ، فأخذ القوس باريها ، وحل بالدار بانيها ، هنيئا زادك الرحمن [لطفا و](٤) خيرا ، ولا برحت المسرات تسير إليك سيرا ، وهل يصلح النور إلا للمقل ، وهل يليق بالحسن إلا الحلل ، فالآن مهّد الله البرين ، وأفاض العدل على العدوتين ، وقدّم للنظر من لا يعزب (٥) عن حفظه مكان ، ولا يختصّ بحفظه إنسان دون إنسان ، خليفة له النفس العمرية ، والآراء العمرية ، والفراسة الإياسية (٦) ، ولا ينبئك مثل خبير ، فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير ، ولعمري لقد صار (٧) الصباح في إشراق النهار ، ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة والمسار ، وشملت الناس هذه البشائر ، وعمت كل باد وحاضر ، وأصاخوا لتاليها إصاخة المجدبين لمرتادهم ، وأهطعوا (٨) لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم ، وأما العبد قد أخذ بحظه ، حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه. [المتقارب]

__________________

(١) في ب : «والرضى».

(٢) ثبير : اسم جبل.

(٣) البيت لأبي تمام (انظر ديوانه ج ٢ ص ٢٠٩).

(٤) ساقطة في ب.

(٥) يعزب : يبعد.

(٦) الفراسة الإياسية : نسبة إلى إياس ، وقد اشتهر بعلم الفراسة.

(٧) في ب ، ه لقد عاد.

(٨) أهطعوا له : نظروا إليه.

٤٧٤

ومن فرح النفس ما يقتل

(١) وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم ، ويحسد عليها الهلال والنجم ، بل يسلمان لما استحقته من المراتب ، ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب ، أقر الله بها عيون المسلمين ، وأفاض سحبها على الناس أجمعين ، وحفظها بعينه التي لا تنام ، ووقف على خدمتها الليالي والأيام.

ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله : [بحر الكامل]

بشرى ويسرى قد أنار المظلم

نجما وقد وضح الصباح المعلم

ورنت (٢) عيون الأمن وهي قريرة

وبدت ثغور السعد وهي تبسّم

فارحل لتونس واعتقد أعلام من

قوي الضعيف به وأثرى المعدم

حيث المعالي والمعاني والندى

والفضل والقوم الذين هم هم

أجروا إلى الغايات ملء عنانهم (٣)

سبقا وبذّهم الجواد المنعم

ساد الإمام الملك يحيى سادة

أعطى الورى لهم القياد وسلموا

إن الإمارة مذ غدا يقتادها

يقظى وأجفان الحوادث نوّم

لله منك مبارك ذو فطنة

بزغت فأحجم عندها من يقدم

يقظان لا وان (٤) ولا متقاعس(٥)

كالدهر يبني ما يشاء ويهدم

إن صال فالليث الهصور المقدم

أو سال فالغيث المغيث المثجم (٦)

أعلى منار الحق حين أماله

قوم تبرأت المنابر منهم

أعلى الإله مكانه وزمانه

والنصر يقدم والسعادة تخدم

وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بن عبد المؤمن ، حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية ، وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم : [بحر البسيط]

__________________

(١) عجز بيت لأبي الطيب المتنبي ، وصدره : فلا تنكرن لها صرعه.

(٢) رنت : نظرت.

(٣) ملء العنان : أراد بكامل حريتهم وقوّتهم.

(٤) الواني : المتخاذل.

(٥) المتقاعس : المتراخي والمبطىء.

(٦) ثجمت السماء : تساقط مطرها بسرعة. والغيث المثجم : المتساقط بسرعة.

٤٧٥

الحزم والعزم موجودان والنظر

واليمن والسعد مضمونان والظّفر

والنور فاض على أرجاء أندلس

والزور ليس له عين ولا أثر

حثّ الركاب إلى هذا الجناب فقد

ضلوا فما تنفع الآيات والنّذر

واعزم كما عزم المأمون إذ نشرت

أرض العراق فزال البؤس والضرر

ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرّين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه ، ورفع له قصيدة منها : [بحر الطويل]

لقاء به للبر والشكر مجمع

إلى يومه كنا نخب ونوضع (١)

لقد يسّر الرحمن صعب مرامه

فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع

وله أيضا : [بحر السريع]

يا منعما قد جاءني بره (٢)

من غير أن أجري له ذكرا

إنّى أحب الخير ما جاءني

عفوا ، ولم أعمل (٣) به فكرا

وله في غلام واعظ ، وهو من حسناته : [المجتث]

وشادن ظل للوع

ظ تاليا لين جمع

متّعت طرفي بمرآ

ه في خفارة سمعي

وله من أبيات : [بحر الطويل]

ومن عجب أنّ الليالي تغيرت

ولكنها ما غيرت مني العهدا

ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر بن الجد ، وأبو بكر بن زهر ، وغيرهما ، وحضر حصار طليطلة مع منصور بن عبد المؤمن ، وكتب لملك البرين أبي محمد عبد الواحد ، وكتب أيضا عن مأمون بن عبد المؤمن ، وكتب أخيرا عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية ، رحم الله تعالى الجميع!

رجع إلى أبي الحسن بن سعيد :

قال رحمه الله تعالى : حضرت ليلة أنس مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد

__________________

(١) الخبب والإيضاع : ضربان من السير.

(٢) البر : الإحسان.

(٣) في ب ، ه : «ولم أغمر به فكرا».

٤٧٦

الغسّاني ، فاحتاجت الشمعة أن تقطّ (١) ، فتناول قطها غلام ببنانه ، فقلت : [بحر المتقارب]

ورخص (٢) البنان (٣) تصدّى لأن

يقطّ السراج بمثل العنم (٤)

فقال :

ولم يهب النار في لمسه

ولا احتاج في قطّه للجلم (٥)

فقلت :

وما ذاك إلا لسكناه في

فؤادي على ما حوى من ضرم

فقال :

تعوّد حرّ لهيب به

فليس به من أوار (٦) ألم

وأنشد في «المغرب» للغساني المذكور في خسوف القمر مما قاله ارتجالا : [بحر الوافر]

كأن البدر لما أن علاه

خسوف لم يكن يعتاد غيره

سجنجل (٧) غادة قلبته لما

أراها شبهها حسدا وغيره

وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها : وعند حامل هذه الأحرف ـ سلّمه الله تعالى! ـ كنه خبري ، واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري ، لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري ، وأني لا أزال أنشد حيث تذكري وتفكري : [بحر البسيط]

يا نائيا قد نأى عني بمصطبري

وثاويا في سواد القلب والبصر

إذا تناسيت عهدا من أخي ثقة

فاذكر عهودي فما أخليك من فكري

واردد عليّ تحياتي بأحسنها

تردد عليّ حياتي آخر العمر

ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد ، فإنها لا يشق غبارها ، ومنها قوله رحمه الله تعالى : سمعت كثيرا من السماع المشرقي ، فلم يهزني مثل قول الشريف الشمس المكي : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) تقط الشمعة : تقطع.

(٢) الرخص : الناعم.

(٣) البنان : أطراف الأصابع.

(٤) العنم : شجرة صغيرة دائمة الخضرة لها ثمر أحمر تتخذ للصباغ.

(٥) الجلم : ما يجز به الشعر أو الصوف أو غيره.

(٦) الأوار : حر النار.

(٧) السجنجل : المرآة.

٤٧٧

مقل بالدمع غرقى

وفؤاد طار خفقا

وتجن وتثن

شق جيب الصبر شقا

يا ثقاتي خبروني

عن حديث اليوم حقا

أكذا كل محب

فارق الأحباب يشقي؟

لا وعيش قد تقضّى (١)

وغرام قد تبقّى

ونعيم في ذراكم (٢)

قد صفا دهرا ورقّا

ونسيم من حماكم

حمل الوجد فرقّا

برسالات صبابا

ت على المشتاق تلقى

وغصون ناعمات

بمياه الدنّ (٣) تسقى

ووجوه فقن (٤) حسنا

فملأن الأرض عشقا

لو رضيتم بي عبدا

ما رضيت الدهر عتقا

وقال : ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار ، وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدّر له الاجتماع به : [بحر الخفيف]

أسأل الله أن يديم لك الع

ز ويبقيك ما أردت البقاء

كلّ يوم أرجو النعيم بلقيا

ك فألقى بالبعد عنك شقاء

علم الدهر أنني أشتكيه

لك إذ نلتقي فعاق اللقاء

فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان ، وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتبا أغنته مدة عن شكوى الزمان ، انتهى.

وقال أيضا : ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي : [بحر الرمل]

وأصبح شعري متهما في مكانه

وفي عنق الحسناء يستحسن العقد

ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج : [بحر الكامل]

__________________

(١) تقضّى : مضى.

(٢) الذّرى : القمة.

(٣) الدن : وعاء ضخم للخمر.

(٤) في ب ، ه : «ووجوه فضن حسنا».

٤٧٨

مرّ مدحي ضائعا في لؤمه

كضياع السيف في كفّ الجبان

ومن تأليف النور بن سعيد كتاب «عدة المستنجز ، وعقلة المستوفز» وذكر فيه أنه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة ٦٦٦ ، وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع ، وذكر فيه أنه لما دخل الإسكندرية لم يكن عنده آكد من السؤال عن الملك الناصر ، فأخبر بحاله ، وما جرى له مع التتر حتى قتلوه بعد الأمان ، ثم ساق في دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير : وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصمّ عنه الأسماع ، وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله : [بحر مجزوء الكامل]

واها لعقرب صدغه

لو لم تكن للماه تحمي (١)

ولغفل (٢) خط عذاره

لو بت أعجمه (٣) بلثمي

وابن عمه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله :

والغصن فيه الماء مطّرد

والماء فيه الغصن منعكس

ثم قال ، لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما ، ما نصه : قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق : قبلت يده ، وجعلت أدعو له ، وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة ، فأضرب عن ذلك ، وقال لي : فيم تتغزل اليوم؟ ثم أنشدني قوله في مملوك فقد له (٤) في هذه الكائنة : [بحر الكامل]

والله ما أبكي لملك مضى

ولا لحال ظاعن أو مقيم

وإنما أبكي وقد حق لي

لفقد من كنت به في نعيم

يطلع بدرا ينثني بانة

يمر فيما رمته كالنسيم

في خاطري أبصره خاطرا

فألتوي مثل التواء السقيم

يا عاذلي (٥) دعني وما حلّ بي

فما سوى الله بحالي عليم

__________________

(١) اللمى : سمرة أو سواد في باطن الشفة يستحسن.

(٢) الغفل : بضم الغين وسكون الفاء ـ المهمل من النقط والشكل.

(٣) أعجمه : أنقطه.

(٤) في ب ، ه : «مملوك فقده».

(٥) العاذل : اللائم.

٤٧٩

إن مت من حزن له أسترح

وإن أعش عشت بهمّ عظيم

قال : ثم إنه سار نحو هولاكو ، فلما مر بحلب ونظر إلى معاهده على غير ما يعهد قال :

[بحر الطويل]

مررت بجرعاء الحمى (١) فتلفتت

لحاظي إلى الدار التي رحلوا عنها

ولو كان عندي ألف عين وقمت في

معالمها عمري لما شبعت منها

وصنع في نعيها أشعارا يغني بها المسمعون ، ثم رحل إلى صحراء يوشن (٢) في جهة طريق أرمينية ، فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب ، فأنزله ، وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظفر قطز صاحب مصر سنة ٦٥٨ ، فقتلوه ، وخلعوا عظم كتفه ، وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك ، انتهى باختصار.

__________________

(١) جرعاء الحمى : شدتها.

(٢) في ب ، ه : «صحراء يوش».

٤٨٠