نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

فدع ذا وخذها شائبات قرونها

عروبا لعوبا جائزا حكمها بكرا

ولو غادرت أوصافها متردّما

لشنفت من أشعارها أذن الشعرا (١)

ألا فاحجبنها عن صديق معمم

فإن قصارى العمر أن يبكي العمرا

ومن كان ذا حجر ونبل ورقة

فلا يخلون إلا على الخمرة الحمرا

قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى

ولا ألفت وصلا ولا عرفت هجرا

ولا ضمّخت نضخ العبير وإن غدت

تؤخره لونا وتفضحه نشرا

فإن خلتها بنت الظليم (٢) أظلها

فقد فرش الإذخر (٣) من تحتها تبرا (٤)

لها نسب بين الثريا أو الثرى

وسل برباها المزن (٥) والغصن النضرا

فشربا دهاقا وانتشاقا ولا ترم

عن البيت فترا أو تقيم به شهرا

وله في الخشكلان : (٦) [بحر المجتث]

هو الأهلّة لكن

تدعونه خشكلانا

فإن تفاءلت صحف

تجد حبيبك لانا

انتهى باختصار.

وحظي المذكور جدّا عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص ، ولما مات السلطان المذكور ، وحدثت فتنة بموته واختلاف ، ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة ، وقاتل ابن الأبار القضاعي ـ سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور ، وقبض على دياره وأمواله ، وصيره كالمحبوس ، فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة ، فأحضره ، وسأله فأخبره بأن أباه صنع دارا عظيمة تحت الأرض ، وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدّة وذخيرة لسلطانه ، ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري ، وأوصاني أنه إذا انتقل إلى جوار به ، إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه ، أنه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنه يصلح لأمور المسلمين ، فأطلعه على هذه الذخائر ، فربما

__________________

(١) في ب : «الشعرى».

(٢) الظليم : ذكر النعام.

(٣) الإذخر : نبات طيب الرائحة.

(٤) التبر : الذهب.

(٥) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة ذات المطر.

(٦) الخشكلان : أصلها فارسي ، وهو نوع من الخبز يصنع على شكل هلالي.

٤٤١

فنيت الأموال بالفتنة ، فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة ، ففرح السلطان ، وبادر إلى تلك الدار ، فرأى ما ملأ عينه ، وسر قلبه ، وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه ، وبدر الأموال بين يديه ، وأعاده إلى أحسن أحواله ، وجعله وزيرا لديه ، كما كان أبوه مفوضا أموره إليه ، وقال السلطان : إن من أوجب شكر الله علي أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعية الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه ، وأمر بالنداء فيهم ، وأحضرهم وكل من حلف على شيء قبضه وانصرف.

وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته (١) فكتب لأبي عبد الله الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله : [بحر الوافر]

ليحضر كلّ ليث ذي منال

زكا فرعا لإسداء النّوال

غدا يوم الخميس فما شغلنا

بأسد الوحش عن أسد الرجال

وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده ، وقيل : بل سلم عليه الموحدون يوم عيد بتونس ، وفيهم شاب [مليح] وسيم اسم جده النعمان ، فسأله السلطان عن اسمه ، وأعجبه حسنه ، فخجل واحمر وجهه ، وازداد حسنا ، فقال السلطان هذا المصراع : [بحر الكامل]

كلّمته فكلمت (٢) صفحة خدّه

وسأل من الحاضرين الإجازة ، فلم يأتوا بشيء ، فقال السلطان مجيزا شطره :

فتفتحت فيها شقائق (٣) جده

وهذا من البديع (٤) مع ما فيه من التورية والتجنيس.

ومما نسبه له أبو حيان بسنده إليه : [بحر الكامل]

ما لي عليك سوى الدّموع معين

إن كنت تغدر في الهوى وتخون

من منجدي (٥) غير الدموع وإنها

لمغيثة مهما استغاث حزين

الله يعلم أن ما حملتني

صعب ولكن في رضاك يهون

__________________

(١) المتصيدات : رحلات الصيد.

(٢) كلمت : جرحت.

(٣) الشقائق : زهر أحمر يسمى أيضا : شقائق النعمان.

(٤) في ب ، ه : «وهذا من البدائع».

(٥) منجدي : معيني ومساعدي.

٤٤٢

وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل ، حتى إنه كتب له صاحب مكة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف ، كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير ، وسرد نصها ، وهي من الغرائب.

ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرّح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله ، حتى قيل : إنهم كانوا ألف ألف ، فكتب إليه أهل مصر من نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها : [بحر السريع]

قل للفرنسيس إذا جئته

مقالة من ذي لسان فصيح

إلى أن قال : [بحر السريع]

دار ابن لقمان على حالها

ومصر مصر والطّواشي صبيح

والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها ، فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس ، فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر : [بحر الخفيف]

أفرنسيس ، تونس أخت مصر

فتأهّب لما إليه تصير

لك فيها دار ابن لقمان قبر

وطواشيك منكر ونكير

فقضى الله سبحانه وتعالى أنه مات في حركته لتونس ، وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط ، ويقال : إنه دس إليه سيفا مسموما من سلّه أثر فيه سمه ، وقلده رسولا إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره ، وقال للرسول : إن الفرنسيس رجل كثير الطمع ، ولو لا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره ، وإنه سيرى السيف ، ويكثر النظر إليه ، فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبله ، وقل له : هذا هدية مني إليك ، لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له ، ويحرم علينا أن نمسكه ، لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام ، وتكراره النظر إليه دليل على حبه له ، ففرح النصراني بذلك ، وأسرع الرسول العود إلى سلطانه ، فسلّ النصرانيّ السيف ، فتمكن فيه السم بالنظر ، فمات في الحين ، وفرّج الله تعالى عن المسلمين.

رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد :

قال ابن العديم في تاريخ حلب : أنشدني شرف الدين أبو العباس (١) أحمد بن يوسف

__________________

(١) أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي. تعلم بالقاهرة وعاد إلى بلده تيفاش وتولى القضاء فيها ، ثم رحل إلى المشرق وألف كتاب «فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب».

٤٤٣

التيفاشي بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه في محاسن المغرب وسماه «المغرب» : [بحر الخفيف]

سعد الغرب وازدهى الشرق عجبا

وابتهاجا بمغرب ابن سعيد

طلعت شمسه من الغرب تجلى

فأقامت قيامة التقييد

لم يدع للمؤرّخين مقالا

لا ولا للرواة بيت نشيد

إن تلاه على الحمام تغنّت

ما على ذا في حسنه من مزيد

وأنشد [ني] أبو العباس التّيفاشي لنفسه فيه : [بحر البسيط]

يا طيب الأصل والفرع الزكي كما

يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر

ومن خلائقه مثل النسيم إذا

يهفو على الزهر حول النهر في السحر

ومن محيّاه والله الشهيد إذا

يبدو إلى بصري أبهى من القمر

أثقلت ظهري ببر لا أقوم به

لو كنت أتلوه قرآنا مع السور

أهديت لي الغرب مجموعا بعالمه

في قاب قوسين (١) بين السمع والبصر

كأنني الآن قد شاهدت أجمعه

بكل من فيه من بدو ومن حضر

نعم ولاقيت أهل الفضل كلهم

في مدّتي هذه والأعصر الأخر

إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري

فقد رددت عليّ الصدر من عمري

وكنت لي واحدا فيهم جميعهم

ما يعجز الله جمع الخلق في بشر

جزيت أفضل ما يجزى به بشر

مفيد عمر جديد الفضل مبتكر

ومن نظم أبي الحسن بن سعيد قوله : [بحر الكامل]

وعشيّة بلغت بنا أيدي النوى

منها محاسن جامعات للنّخب

فحدائق ما بينهن جداول

وبلابل فوق الغصون لها طرب

والنخل أمثال العرائس لبسها

خز وحليتها قلائد من ذهب

ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله : [بحر الخفيف]

حادي العيس (٢) كم تنيخ المطايا

سق فروحي من بعدهم في سياق

__________________

(١) قاب قوسين : قريب جدا.

(٢) حادي العيس : سائقها ، والعيس : النوق.

٤٤٤

حلب إنها مقر غرامي

ومرامي وقبلة الأشواق

لا خلا جوسق (١) وبطياس (٢) والسع

داء من كل وابل (٣) غيداق (٤)

كم بها مرتع لطرف وقلب

فيه يسقى المنى بكأس دهاق (٥)

وتغنّي طيوره لارتياح

وتثنّى غصونه للعناق

وعلوّ الشهباء (٦) حيث استدارت

أنجم الأفق حولها كالنطاق

وقوله أيضا في حماة : [بحر الطويل]

حمى الله من شطّي حماة مناظرا

وقفت عليها السمع والفكر والطّرفا

تغنى حمام أو تميل خمائل

وتزهى مبان تمنح الواصف الوصفا

تغني أن أعصي التّصوّن والنهى

بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا

إذا كان فيها النهر عاص (٧) فكيف لا

أحاكيه عصيانا وأشربها صرفا

وأشدو لدى تلك النواعير شدوها

وأغلبها رقصا وأشبهها غرفا

تئن وتذري دمعها فكأنها

تهيم بمرآها وتسألها العطفا

وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه : [بحر الطويل]

وداع كما ودّعت فصل ربيع

يفضّ ضلوعي (٨) أو يفيض دموعي

لئن قيل في بعض يفارق بعضه

فإني قد فارقت منك جميعي

قال : فأرسل إلي إحسانا ، واعتذر ولسان الحال ينشد عنه : [بحر الوافر]

أحبّك في البتول وفي أبيها

ولكنّي أحبّك من بعيد

وقوله ، وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو : [بحر الرجز]

انظر إلى مركبنا منقذا

من العدا من بعد إحراز

أفلت منهم فغدا طائرا

كطائر أفلت من بازي

وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية : [بحر الطويل]

__________________

(١) جوسق : اسم مكان.

(٢) بطياس : اسم مكان.

(٣) الوابل : المطر الشديد.

(٤) الغيداق : الغزير.

(٥) الدهاق من الكؤوس : الممتلئة الطافحة.

(٦) الشهباء : هي مدينة حلب ويقال : حلب الشهباء.

(٧) عاص : أراد نهر العاصي الذي يمر بحماة ويسقي أرضها.

(٨) يفض ضلوعي : يكسرها.

٤٤٥

رفيقي جاوزنا حدود مواطن

صحبنا بها الأيام طلقا محيّاها

وما إن تركناها لجهل بقدرها

ولكن ثنت عنا أعنّة سقياها

فسرنا نحثّ السير عنها لغيرها

إلى أن يمنّ الله يوما بلقياها

وكان وصوله الإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة.

وقال رحمه الله تعالى : أخذت مع والدي يوما في اختلاف مذاهب الناس ، وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره ، فقال : متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف ـ أعني المغرب ـ ولا يعترض أتعبت نفسك باطلا (١) ، وطلبت غاية لا تدرك ، وأنا أضرب لك مثلا : يحكى أن رجلا من عقلاء الناس كان له ولد ، فقال له يوما : يا أبي ، ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل؟ ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم ، فقال : يا بني ، إنك غرّ (٢) لم تجرّب الأمور ، وإن رضا (٣) الناس غاية لا تدرك ، وأنا أوقفك على حقيقة ذلك ، وكان عنده حمار ، فقال له : اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيا ، فبينما هو (٤) كذلك إذ قال رجل : انظر ، ما أقلّ هذا الغلام بأدب! يركب ويمشي أبوه ، وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا ، فقال له : انزل أركب أنا وامش أنت خلفي ، فقال شخص آخر : انظر هذا الشخص ، ما أقلّه بشفقة! ركب وترك ابنه يمشي ، فقال له : اركب معي ، فقال شخص : أشقاهما الله تعالى! انظر كيف ركبا على الحمار ، وكان في واحد منهما كفاية ، فقال له : انزل بنا ، وقدّماه وليس عليه راكب ، فقال شخص : لا خفّف الله تعالى عنهما! انظر كيف تركا الحمار فارغا وجعلا يمشيان خلفه ، فقال : يا بني ، سمعت كلامهم ، وعلمت أن أحدا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان ، انتهى.

وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه : الحمد (٥) لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب ، وأفضل ما انتخب ، إذ هو ذخر لا يخاف كساده ، وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده ، ولله درّ القائل : [بحر الطويل]

__________________

(١) في ب ، ه : «أتبعت نفسك باطلا».

(٢) الغرّ : الحدث السن الذي تنقصه التجارب.

(٣) في ب : «رضى».

(٤) في ب ، ه : «فبينما هما كذلك».

(٥) في ب : «والحمد».

٤٤٦

رأيت جميع الكسب يفقده الفتى

وتبقى له أخلاقه والتأدّب

إذا حل في أرض أقام لنفسه

بآدابه قدرا به يتكسّب

وأومأ كلّ نحوه ، ولعله

إلى غير أهل للنباهة ينسب

وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة : [الطويل]

فأثبتّ في كل المواطن همّة

إلى طلب العلم الذي كان مطّرح (١)

وصيّرت من قد كان بالنظم جاهلا

يحاوله كيما تجود لك المدح

وقال أيضا في الخطبة : وبعد ، فهذا كتاب راحة قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار ، وكل عناء سهل إذا أنجح القصد ، وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة ، ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة ، وأول من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جدّ والدي عبد الملك بن سعيد ، وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر ، إلى أن استبدّ بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وقصده في سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري (٢) وصنف له كتاب «المسهب ، في غرائب المغرب» في نحو ستة أسفار ، وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه ، وهو سنة ثلاثين وخمسمائة ، ثم ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري ، وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد ، وأضافا له ما استفاداه ، ولم يزل يزيد إلى أن استبدّ به محمد ، فاعتنى به أشد اعتناء ، ثم استبد به والدي ـ وكان أعلمهم بهذا الشأن ـ وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوما وقد نوّه به ابن هود وهو ملك الأندلس وولّاه الجزيرة الخضراء ، فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها ، وأخبار رؤسائها ، الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن ، فأرسل إليه راغبا في استعارتها ، فأبى ، وقال : علي يمين أن لا تخرج عن منزلي ، وقال : إن كانت له حاجة يأتي على رأسه ، وكان جاهلا ، فلما سمع والدي ضحك فقال لي : سر معي إليه ، فقلت له : ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة؟ فقال : إني لا أمشي له ، ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم ، أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم؟ قلت : لا ، قال : فإن الأثر ينوب عن العين ، فمشينا

__________________

(١) اطّرحه : رماه ناحية.

(٢) هو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الكندي الحجاري الأندلسي المالكي المتوفي سنة ٥٨٤ ه‍. له : حديقة في علم البديع ، والمسهب في أخبار أهل المغرب (كشف الظنون ج ٥ ص ٤٥٧).

٤٤٧

إلى منزل الرجل ، فو الله ما أنصفنا في اللقاء ، فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي ، وشكره ، وقال : هذه فائدة لم أجدها عند غيرك ، فجزاك الله تعالى خيرا! ثم انفصل وقال : ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية ، وإن هذا والله أوّل السعادة ، وعنوان نجاحها.

والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها : قلعة بني سعيد ، وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير ، وهو عين لها ، وقال الملّاحي في تاريخه : إنها تعرف بقلعة يحصب ، قبيل : من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس ، وبها كما مر صنف الحجاري كتاب (١) «المسهب» لصاحبها عبد الملك بن سعيد.

وفي بني سعيد يقول الحجاري : [بحر مجزوء الكامل]

قوم لهم في فخرهم

شرف الحديث مع القديم

ورثوا الندى والبأس وال

عليا كريما عن كريم

من كلّ وضّاح به

يجلى دجى الليل البهيم (٢)

وكان أوّل من دخل الأندلس من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار (٣) ، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه ، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس ، وكان إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق ، وإنما ركن إليه في محاربه عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمّار بصفّين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه ، وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما.

وقال الحجاري : أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد (٤) صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين لنفسه ، فيما يليق بجنسه : [بحر مخلع البسيط]

__________________

(١) في ه : «كتابه».

(٢) البهيم : المظلم.

(٣) عمار : هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم. صحابي جليل مشهور ، من السابقين الأولين. قتل مع علي في صفين سنة ٣٧ ه‍ (تقريب التهذيب ج ٢ ص ٤٨).

(٤) في ج : «بكر بن محمد بن سعيد».

٤٤٨

إن لم أكن للعلاء أهلا

بما تراه فمن يكون

وكل ما أبتغيه دوني

ولي على همتي ديون

ومن يرم ما يقلّ عنه

فذاك من فعله جنون

فرع بأفق السماء سام

وأصله راسخ مكين

ومن نظمه قوله أيضا : [المجتث]

الله يعلم أني

أحبّ كسب المعالي

وإنما أتوانى

عنها لسوء المآل

تحتاج للكد والبذ

ل واصطناع الرجال (١)

دع كل من شاء يسمو

لها بكل احتيال

فحالهم بانعكاس

فيها وحالي حالي

ولما ذكر ابن سعيد في «المغرب» ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال : بماذا أصفه؟ ولو أن النجوم تصير لي نثرا لما كنت أنصفه ، وكفاك أني اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة ، فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه ، ولما فارقته لم أشعر إلا برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس ، وفيها قصيدة فريدة منها : [بحر الكامل]

إيه أبا الحسن استمع شدوي فقد

يصغي الحمام إذا الحمام ترنّما

ثم سرد بعضا من القصيدة ، وستأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، بزيادة على ما ذكر منها في المغرب.

رجع ـ وجد بخطه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب «المغرب» ما نصه : أجزت الشيخ القاضي الأجلّ أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التّيفاشي ، أن يروي عن مصنّفي هذا ، وهو «المغرب ، في محاسن المغرب» ويرويه من شاء ثقة بفهمه ، واستنامة إلى علمه ، وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني ، ويرويه من شاء ، وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السّفر ، انتهى.

__________________

(١) في ج : «واصطفاف الرجال».

٤٤٩

وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات ، وكان ظريفا أديبا : [بحر مجزوء الكامل]

لهفي على غصن ذوى

أفقدته لما استوى

ريّان من ماء الصبا

ومن المدامع ما ارتوى

لا تعذلوني إن نطق

ت الدهر فيه عن الهوى

كم ضل صاحبه بسح

ر اللحظ منه وكم غوى

أنا لا أفيق الدهر في

ه من الصبابة والجوى

إن الهوى حيّا وميت

ا لا يزال به سوى (١)

كم قد نويت به النعي

م فقدّر الله النوى

دار السلام (٢) حويت من

كلّ المحاسن قد حوى

مجموع حسن قد توى (٣)

في جنة وبها ثوى

وولد أبو الحسن علي بن موسى بن محمد يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة ، وهو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد (٤) بن عمار بن ياسر ، رضي الله تعالى عنه! وقال في «المغرب» لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد ، ما ملخصه (٥) : لو لا أنه والدي لأطنبت في ذكره ، ووفيته من الوصف حق قدره ، لكن كفاه وصفا ما أثبتّ (٦) له في هذه الترجمة ، وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب ، وكون كل من اشتغل بهذا التأليف نهرا وهو بحر ، واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده ، بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب ، وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته ، ويستمد القطر (٧) من درّته ، ومما

__________________

(١) في ب : «سوا».

(٢) دار السلام : بغداد.

(٣) توى : هلك.

(٤) كل النسخ متفقة هنا على «عبد الله بن سعيد بن عمار» وقد سبق أنه عبد الله بن سعد بن عمار».

(٥) في ب ، ه : «ما محصله».

(٦) في ب : «أثبته».

(٧) القطر ـ بفتح القاف وسكون الطاء ـ المطر.

٤٥٠

شاهدت من عجائبه أنه عاش سبعا وستين سنة ولم أره يوما تخلى عن (١) مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده ، حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك ، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب ، فقلت له : يا سيدي ، أفي هذا اليوم لا تستريح؟ فنظر إلي كالمغضب وقال : أظنك لا تفلح أبدا ، أترى الراحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب «المغرب» على غرضي ، قال : فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذّ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن ، ولو لا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه ، وكان أولع الناس بالتجول في البلدان ، ومشاهدة الفضلاء ، واستفادة ما يرى وما يسمع ، وفي تولّعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول : [بحر البسيط]

يا مفنيا عمره في الكأس والوتر

وراعيا في الدّجى للأنجم الزهر

يبكى حبيبا جفاه أو ينادم من

يهفو لديه كغصن باسم الزهر

منعّما بين لذات يمحقها

ولا يخلد من فحر ولا سير

وعاذلا لي فيما ظلت أكتبه

يبدي التعجب من صبري ومن فكري

يقول مالك قد أفنيت عمرك في

حبر وطرس عن الأغصان والحبر

وظلت تسهر طول الليل في تعب

ولا تني (٢) أمد الأيام في ضجر

أقصر فإني أدري بالذي طمحت

لأفقه همتي واسأل عن الأثر

واسمع لقول الذي تتلى محاسنه

من بعد ما صار مثل الترب كالسور

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة ، وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير (٣)

وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين وخمسمائة ، وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوّال عام أربعين وستمائة.

وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة ، وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة.

وكان محمد بن عبد الملك وزيرا جليلا ، بعيد الصيت ، عالي الذكر ، رفيع الهمة ، كثير الأموال ، وذكره ابن صاحب الصّلات (٤) في كتابه «تاريخ الموحّدين» ونبه على مكانته منهم في

__________________

(١) في ب : «يخلي مطالعة كتاب. وفي ه : «يتخلى من».

(٢) لا تني : لا تفتر.

(٣) في ب : «انتهى».

(٤) في ب : «الصلاة».

٤٥١

الحظوة والأخذ في أمور الناس ، وأثنى عليه ، وذكره السهيلي في «شرح السيرة الشريفة» (١) حيث ذكر الكتاب الموجّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أدفونش (٢) مكرما مفتخرا به ، والقصة مشهورة ، ومدحه الرصافي بقصيدة أوّلها : [بحر الكامل]

ذهنا يفيض وخاطرا متوقدا

ما ذا عسى يثنى على علم الندى

ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها [الكامل] :

لمحلّك الترفيع والتعظيم

ولوجهك التقديس والتكريم

حلف لا يسمعها ، وقال : عليّ إجازتك ، ولكن طباعي لا تحمل مثل هذا ، فقال له الرصافي : ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك؟ فقال له : دعني من خداعك ، أنا وما أعلمه من قلبي.

وأنشد له في الطالع السعيد : [بحر الطويل]

فلا تظهرن ما كان في الصّدر كامنا

ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر

ولا تبحثن في عذر من جاء تائبا

فليس كريما من يباحث في العذر

وولي للموحدين أعمالا كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة ، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة ، وكان من شيوخها وأعيانها ، وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلا في دار الملك ، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح شوش عليه (٣) نباح الكلاب ، فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسن سنة ٥٩٣ ، ثم رضي عنهما ، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ منه (٤) ، فصرفه عليه ، ولم ينقص منه شيئا ، وغرم له ما فات منه ، وهذا مما يدل على قوة سعد محمد بن عبد الملك المذكور ونباهة قدره ، وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي (٥) له ، وهو ممن يمدح الخلفاء في ذلك العصر ـ رحمه الله تعالى ـ.

وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة ، وتوفي بحضرة مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة. قال الحجاري : لما مات يحيى بن غانية الملثّم ملك الأندلس بحضرة

__________________

(١) كتاب الروض الأنف.

(٢) في ب ، ه : «أذفونش».

(٣) «عليه» ساقطة في ب.

(٤) في ب : «له».

(٥) أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي. شاعر أكثر من مدح الخلفاء (انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٩٧ والتكملة ص ٥٢٠).

٤٥٢

غرناطة ، وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد ، بادر الفرار لغرناطة عند ما سمع بموته إلى قلعته ، وثار بها ، وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة بن العنبر ، فوجده قد فاته.

وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب «المغرب ، في أخبار المغرب» ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك ، ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد ، ثم أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب ، وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية.

ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب «الكمائم» (١) وهو : فأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس ، وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن ، وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص ، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ، ثم لما فتحها قسم المنازل على القبائل ، ونسب المدينة إليه ، فقيل : فسطاط عمرو ، وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر ، فاتخذوها سرير السلطنة ، وتضاعفت عمارتها ، فأقبل الناس من كل جانب إليها ، وقصروا أمانيهم عليها ، إلى أن رسخت بها دولة بني طولون ، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع ، وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة ، وهي مدينة مستطيلة يمر النيل مع طولها ، وتحطّ في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد ، وبها منتزهات ، وهي في الإقليم الثالث ، ولا ينزل فيها مطر إلا في النادر ، وترابها ينتن الأرجل ، وهو قبيح اللون ، تستكدر منه أرجاؤها ، ويسوء بسببه هواؤها ، ولها أسواق ضخمة إلا أنها ضيقة ، ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة ، ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط ، وفرّط في الاعتناء بها بعد الإفراط ، وبينهما نحو ميلين ، وأنشدت فيها للشريف العقيلي (٢) : [بحر الطويل]

أحنّ إلى الفسطاط شوقا وإنني

لأدعو لها أن لا يحل بها القطر

وهل في الحيا من حاجة لجنابها

وفي كل قطر من جوانبها نهر

تبدت عروسا والمقطّم تاجها

ومن نيلها عقد كما انتظم الدر

وقال عن كتاب إجار : والفسطاط هو قصبة مصر ، والجبل المقطم شرقيها ، وهو متصل

__________________

(١) كتاب الكمائم للبيهقي.

(٢) الشريف العقيلي : هو أبو الحسن علي بن الحسين بن حيدرة من شعراء القرن الرابع. أكثر شعره في الوصف (انظر المغرب ج ١ ص ٢٠٥).

٤٥٣

بجبل الزمرذ (١) ، وقال عن كتاب ابن حوقل : الفسطاط مدينة عظيمة (٢) ، ينقسم النيل لديها ، وهي كبيرة ، ومقدارها نحو فرسخ ، على غاية العمارة والطيب واللذة ذات رحاب في محالّها ، وأسواق عظام فيها ضيق ، ومتاجر فخام ، ولها ظاهر أنيق ، وبساتين نضرة ، ومنتزهات على ممر الأيام خضرة ، وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة ، إلا أنها أقل من ذلك ، وهي سبخة الأرض ، غير نقية التربة ، وتكون الدار بها سبع طبقات وخمسا وستا ، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ، ومعظم بنيانهم بالطوب ، وأسفل دورهم غير مسكون ، وبها مسجدان للجمعة ، بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط ، والآخر على الموقف بناه ابن طولون ، وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده ، وتعرف بالقطائع ، كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان رقّادة ، وقد خربتا في وقتنا هذا ، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة.

قال ابن سعيد : لما استقررت بالقاهرة تشوّقت (٣) إلى معاينة الفسطاط ، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية ، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة ، لا عهد لي بمثلها في بلد ، فركب منها حمارا ، وأشار إلي أن أركب حمارا آخر ، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلفته في بلاد المغرب ، فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر ، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة (٤) يركبونها ، فركبت ، وعند ما استويت راكبا أشار المكاري إلى الحمار ، فطار بي ، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ، ودنس ثيابي ، وعاينت ما كرهته ، ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده ، وقلة رفق المكاري ، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج ، فقلت : [بحر المتقارب]

لقيت بمصر أشدّ البوار

ركوب الحمار وكحل الغبار

وخلفي مكار يفوق الريا

ح لا يعرف الرفق مهما استطار

أناديه مهلا فلا يرعوي

إلى أن سجدت سجود العثار

وقد مد فوقي رواق الثرى

وألحد فيها ضياء النهار

فدفعت إلى المكاري أجرته ، وقلت له : إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي ومشيت

__________________

(١) في ه : «الزمرد».

(٢) في ب : «حسنة».

(٣) في ب : «تشوفت».

(٤) أصحاب البزة والشارة الظاهرة : أراد العلماء وكبار الرجال.

٤٥٤

إلى أن بلغتها ، وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين ، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة ، وتأملت أسوارا مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة ، ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان مشتتة (١) الوضع ، غير مستقيمة الشوارع ، قد بنيت من الطوب الأدكن (٢) والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة ، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ، ويغض طرف الظريف ، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال ، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة ، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والرّوايا (٣) التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع ، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مرّاكش ، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء ، غير مزخرف ، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه ، وتنبسظ فيه ، وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق ، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك ، والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك ، وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل ، قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا ، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع ، وفي زواياه العنكبوت قد عظم نسجه في السقف والأركان والحيطان ، والصبيان يلعبون في صحنه ، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة ، إلا أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه ، ولقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس (٤) دون منظر يوجب ذلك فعلمت أن ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ساحته عند بنائه ، واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن ، وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ، ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب ، ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل ، فرأيت ساحلا كدر التربة (٥) ، غير نظيف ولا متسع الساحة ، ولا مستقيم الاستطالة ، ولا عليه سور أبيض ، إلا أنه مع ذلك كثير العمارة

__________________

(١) في ب ، ه : «متشتتة الوضع».

(٢) الطوب : الآجر. والأدكن : المائل إلى السواد.

(٣) الروايا : جمع روية ، وهي المزادة فيها الماء.

(٤) في ه : «الارتياح والحسن».

(٥) في ب ، ه : «كرير التربة».

٤٥٥

بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل ، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقا ، والنيل هنالك ضيق ، لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته (١) قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط ، وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل ، وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدا من الفسطاط إلى الجزيرة ، وهو غير طويل ، ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة (٢) جسر آخر من الجزيرة إليه ، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب ، لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان ، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان ، وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل ، فقلت : [بحر الطويل]

نزلنا من الفسطاط أحسن منزل

بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد

وقد جمعت فيه المراكب سحرة (٣)

كسرب قطا أضحى يرفّ على ورد (٤)

وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي

ويطرب أحيانا ويلعب بالنرد

حلا ماؤه كالرّيق ممن أحبّه

فمدت عليه حلة من حلى الخد

وقد كان مثل النهر من قبل مده

فأصبح لما زاده المد كالورد

وقلت هذه لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه ، وإنه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض ، فإذا كان عباب النيل صار أحمر ، وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط. (٥) [بحر الرمل]

حبّذا الفسطاط من والدة

جنّبت أولادها درّ الجفا (٦)

يرد النيل إليها كدرا

فإذا مازج أهليها صفا

لطفوا فالمزن لا تألفهم

خجلا لما رأتهم ألطفا

ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط ، حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة ، وبينهما نحو ميلين ، والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام ، وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة ورعاية (٧) قدر الصحبة وكثرة الممازحة (٨) والألفة ما يطول ذكره.

__________________

(١) في ج : قلعة.

(٢) في ه : «ببر الجزيرة».

(٣) سحرة : آخر الليل قبيل الفجر.

(٤) الورد : الماء الذي يورد للشرب.

(٥) هو علم الدين أيدمر المحيوي التركي. له ديوان شعر (انظر فوات الوفيات ج ١ ص ١٤٠).

(٦) في ب ، ه : «جنبت أولادها دار الجفا».

(٧) في ب ، ه : «برعاية قدر الصحبة».

(٨) في ب : «الممازجة».

٤٥٦

وأمّا ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي فإنه فوق ما يوصف ، وبه مجمع ذلك ، لا بالقاهرة ، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد.

وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى ، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند ، كما أن جميع زي الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط ، وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية ، والخراب في الفسطاط كثير ، والقاهرة أجد وأعمر وأكثر زحمة ، باعتبار انتقال السلطان إليها ، وسكنى الأجناد فيها ، وقد نفخ روح الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن ، لمجاورتها للجزيرة الصالحية ، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة ، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر ، انتهى.

قال المقريزي : يعني ابن سعيد ما بني على شقة (١) مصر من جهة النيل ، انتهى.

وقال ابن سعيد المذكور في «المغرب ، من حلى المغرب» ما ملخصه : الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة ، وبها مقياس النيل ، وكانت منتزها لأهل مصر ، فاختارها الملك الصالح بن الملك الكامل سرير السلطنة (٢) ، وبنى فيها قلعة مسورة ساطع اللون محكم البناء عالي السّمك لم تر عيني أحسن منه ، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها ، والمختار بستان الإخشيد وقصره ، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار ، منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي : [بحر الوافر]

أرى سرج الجزيرة من بعيد

كأحداق تغازل في المغازل

كأن مجرة الجوزاء خطّت

وأثبتت المنازل في المنازل

قال : وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط ، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدري اللون ، ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور [هذه] القلعة ، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها ، وهو من أعظم السلاطين في البناء ، وأبصرت بهذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله (٣) ، لا يقدّر ما أنفق عليه ، وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوري والمجزّع ما يذهل الأفكار ، ويستوقف الأبصار ، ويفضل عما

__________________

(١) في ب ، ه : «على شفة مصر».

(٢) في ب ، ه : «سريرا لسلطنته».

(٣) في ب : «ولا يقدّر».

٤٥٧

أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان ، وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر ، قال : وقد تفرجت كثيرا في طرف (١) هذه الجزيرة مما يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات ، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات ، وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة ، ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب ، انتهى.

وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة : [بحر الكامل]

انظر إلى سور الجزيرة في الدّجى

والبدر يلثم منه ثغرا أشنبا

تتضاحك الأنوار في جنباته

فتريك فوق النيل أمرا معجبا

بينا تراه مفضّضا في جانب

أبصرت منه في سواه مذهبا

لله مرأى ما رآه ناظري

إلا خلعت له المقام تطربا

وقال في «المغرب» نقلا عن بعضهم ما صورته : وأما مدينة القاهرة ، فهي الحالية الباهرة ، التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها ، واتخذوها قطبا لخلافتهم ومركزا لأرجائها ، فنسي الفسطاط ، وزهد فيه بعد الاغتباط ، وسميت القاهرة لأنها (٢) تقهر من شذ [عنها] ورام مخالفة أميرها. قال ابن سعيد : هذه المدينة اسمها أعظم منها ، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته ، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين ، وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط : [بحر الطويل]

وسارت مسير الشمس في كل بلدة

وهبّت هبوب الريح في البر والبحر

لا سيما وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية (٣) إلى جانب القيروان ، وعاين المهدية مدينة جدّه عبيد الله المهدي ، لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة ، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ، ولله در القائل :

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إن البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدل على عظيم الشان

وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور ، وقد عاينت فيها إيوانا

__________________

(١) في ج : «في طرق هذه الجزيرة».

(٢) في ب : «انتهى».

(٣) في ب ، ه : «المدينة المنصورية».

٤٥٨

يقولون إنه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن ، وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار ، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة ، والمكان المعروف بالقاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطاني ، لأن هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ، ولكن ذلك أمد قليل ، ثم تسير منه إلى أمد ضيق ، وتمرّ في ممر كدر خرج بين الدكاكين ، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور ، وتسخن منه العيون ، ولقد عاينت يوما وزير الدولة وبين يديه الأمراء ، وهو في موكب جليل ، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة ، وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ، ووقف الوزير وعظم الازدحام ، وكان في موضع طباخين ، والدخان في وجه الوزير ، وعلى ثيابه ، وقد كاد يهلك المشاة ، وكدت أهلك في جملتهم ، وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال ، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضوء بينها ، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ منها حالا في ذلك ، ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري ، وتدركني وحشة عظيمة ، حتى أخرج إلى بين القصرين.

ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل ، لئلا يصادرها ويأكل ديارها ، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس ، وجوّها لا يبرح كدرا مما تثيره (١) الأرض من التراب الأسود ، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها : [بحر المتقارب]

يقولون سافر إلى القاهره

ومالي بها راحة ظاهره

زحام وضيق وكرب وما

تثير بها أرجل سائره

وعند ما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا ، وجوّا مغبرا ، فتنقبض نفسه ، ويفر أنسه ، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة ، لا سيما أرض القرط والكتان ، وقلت : [بحر الطويل]

سقى الله أرضا كلما زرت روضها

كساها وحلّاها بزينته القرط

__________________

(١) في ب ، ه : «بما تنثره الأرض».

٤٥٩

تجلّت عروسا والمياه عقودها

وفي كل قطر من جوانبها قرط

وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي : [بحر الكامل]

ما زالت الأمحال تأخذه

حتى غدا كذؤابة النّجم

وقلت في نوّار الكتان (١) على جانبي الخليج : [بحر البسيط]

انظر إلى النهر والكتان يرمقه

من جانبيه بأجفان لها حدق

رأته سيفا عليه للصّبا شطب

فقابلته بأحداق بها أرق

وأصبحت في يد أرواح تنسجها

حتى غدت حلقا من فوقها حلق

فلم تزرها (٢) ووجه الأرض مصطبح

أو عند صفوته (٣) إن كنت تغتبق (٤)

وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل ، لأنها دائرة كالبدر ، والمناظر فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم وقدرتهم ، فيكون لها بذلك منظر عجيب ، وفي ذلك قيل : [بحر البسيط]

انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت

بها المناظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها

كواكب قد أداروها على القمر

ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوة (٥) فقلت : [بحر البسيط]

انظر إلى بركة الفيل التي فجرت (٦)

لها الغزالة (٧) فجرا من مطالعها

وخلّ طرفك مجنونا ببهجتها

يهيم وجدا وحبّا في بدائعها

والفسطاط أكثر أرزاقا ، وأرخص أسعارا من القاهرة ، لقرب النيل من الفسطاط ، والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك ، ويباع ما يصل فيها بالقرب منها ، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة ، لأنه يبعد عن المدينة ، والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراما وحشمة من الفسطاط ، لأنها أجلّ مدارس ، وأضخم خانات ، وأعظم ديارا لسكنى الأمراء فيها ، لأنها

__________________

(١) في ب ، ه : «نور الكتان».

(٢) في ب : «فقم فزرها».

(٣) في ب : «صفرته».

(٤) اغتبق : شرب الغبوق وهو ما يشرب مساء.

(٥) في ب ، ه : «بالغدو».

(٦) فجرت : شقت.

(٧) الغزالة : الشمس.

٤٦٠