نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

لأشغال الموحدين أبا العلاء (١) إدريس بن علي بن أبي العلاء بن جامع ، فاشتمل علي ، وأولاني من البر ما قيّدني وأمال قلبي إليه ، مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة ، فلم يزل ينهض بي ، ويرفع أمداحي للملك ، ويوصّل إليه رسائلي ، منبّها على ذلك ، مرشحا ، إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره ، وكان يقرأ بين يديه كتب المظالم ، فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك ، فنبه الوزير علي ، وارتهن فيّ ، مع أني كنت من كتّاب الملك ، فقلدني قراءة المظالم المذكورة ، وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخر ، فأنعم بها ، فوجد الوشاة مكانا متسعا للقول ، فقالوا وزوروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا ، وظهر منه مخايل التغيير ، فجعلت أداريه وأستعطفه ، فلم ينفع فيه قليل ولا كثير ، إلى أن سعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية ، ثم سعى في تأخيري ، فأخرت عن الكتابة وعن قراءة (٢) المظالم ، فانفردت بالكتابة للوزير المذكور ، وفوض إليّ جميع أموره ، وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة ، ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة. [بحر الطويل]

فرد عليّ العيش بعد ذهابه

وآنسني بعد انفرادي من الأهل

وقالوا (٣) إذا ما الوبل فاتك فاقتنع

بما قد تسنّى عندك الآن من طلّ(٤)

ووالله ما نعماه طلّ وإنما

تأدّبه غيث يجود على الكل

رآني أظمأ في الهجيرة ضاحيا

فرق وآواني إلى الماء والظل

ولم أزل عنده في أسرّ حال ما لها تكدير إلا ما يبلغني من أن ابن عمي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبّته ، وخفت أن يطول ذلك ، فيسمع منه ، ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني ، فرغبت له في أن يرفع للملك أني راغب في السّراح إلى المشرق برسم الحج :

[بحر المتقارب]

ومن بلّه الغيث في بطن واد

وبات فلا يأمننّ السيولا

فلم يسعفني في ذلك ، ولامني على تخوّفي ، وقلة ثقتي بحمايته ، فرفعت له هذه القصيدة : [بحر الطويل]

هل الهجر إلا أن يطول التجنّب

ويبعد من قد كان منه التقرّب

__________________

(١) في ج : «أبا العلى».

(٢) في ه : «وعن كتاب المظالم».

(٣) في ب : «وقال».

(٤) الوبل : المطر الغزير. والطلّ : المطر الخفيف وفي القرآن الكريم (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ).

٤٠١

وتقطع رسل بيننا ورسائل

ويمنع لقيانا نوى وتحجب

ولو أنني أدري لنفسي زلة

جعلت لكم عذرا ولم أك أعتب

ولكنكم لما ملكتم (١) هجرتم

وذنّبتم في الحب من ليس يذنب

إلى الله أشكو غدركم وملالكم

وقلبا له ذاك التعذب يعذب

فلو أنه يجزيكم بفعالكم

لكان له عنكم مراد ومطلب(٢)

ولكن أبى أن لا يحن لغيركم

وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب

فهلا رعيتم أنه في ذراكم

غريب ، وليس الموت إلا التغرب

لزمتك لما أن رأيتك كاملا

جمالا وإجمالا وذاك يحبّب

وإني لأخشى أن يطول اشتكاؤه

لمن إن أتى مكرا فليس يثرب(٣)

فلم أسع إلا لارتياح وراحة

وغيري وقد آواه غيرك يتعب

فأنت الذي آويتني ورحمتني

وذو الرحم الدنيا لناري يحطب

فما مر يوم لا يريد مصيبة

عليك ، وبالتدبير منك يخيّب(٤)

وهبك ثبوتا لا تحيل أما ترى

مجر حبال في الحجارة يرسب(٥)

وهبك (٦) له سدا فكم أنت حاضر

أحاذر خرقا منه أن يتسببوا

وإما إن أرى إلا الفرار مخلصا

وما راغب في الضيم من عنه يرغب

فأنهى (٧) إلى الأمر العليّ شكيّتي

وأن خطوب الدهر نحوي تخطب

ولا تطمعوني في الذي لست نائلا

فلا أنا عرقوب ولا أنا أشعب(٨)

ألا فلتمنّوا بالسّراح فإنه

لراحة من يشقى لديكم وينصب

سلوا الكأس عني إذ تدار فإنني

لأتركها هما ودمعي أشرب

__________________

(١) في ب : «مللتم».

(٢) في ب ، ه : «مراد ومذهب». والمراد : اسم مكان من الفعل راد. أي مكان طلب الشيء.

(٣) يثرب : يلوم.

(٤) في ب ، ه : «فما مرّ يوم لا يدير مصيبة».

(٥) في ب ، ه : «وهبه ثبوتا لا يحيل».

(٦) في ب : «وهبه».

(٧) في ب : «فأنه».

(٨) عرقوب : مضرب المثل بعدم الوفاء بالوعد. وأشعب مضرب المثل بالطمع.

٤٠٢

ولا أسمع الألحان حين تهزني

ولو كان نوحا كنت أصغي وأطرب

فديتكم كم ذا أهون بأرضكم

أهذا جزاء للذي يتغرب

أبخل على أن ما سواك يصيخ لي

فهل لي مما كدّر العيش مهرب(١)

تقلص عني كلّ ظلّ ولم أجد

كما كنت ألقى (٢) من أودّ وأصحب

أذو طمع في العيش يبقى وحوله

مدى الدهر أفعى لا تزال وعقرب

أجزني (٣) لأنجو (٤) بالفرار فإنه

وحقّك من نعماك عندي يحسب

فلا زلت يا خير الكرام مهنأ

فعيشي منه الموت أشهى وأطيب

وصانك من قد صنت في حقه دمي

وغيرك من ثوب المروءة يسلب

ولم يزل الوزير ـ لا أزال الله عنه رضاه! يحمى جانبي ، إلى أن أصابتني فيه العين ، فأصابه (٥) الحين (٦) ، [فقلت في ذلك] : [بحر الطويل]

وطيّب نفسي أنه مات عند ما

تناهى ولم يشمت به كل حاسد

ويحكم فيه كل من كان حاكما

عليه ويعطى الثأر كل معاند

وقلت أرثيه : [بحر الطويل]

بكت لك حتى الهاطلات السواكب

وشقت جيوبا فيك حتى السحائب(٧)

فكيف بمن دافعت عنه ومن به

أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب

ألا فانظروا دمعي فأكثره دم

ولا تذهبوا عني فإني ذاهب

وقولوا لمن قد ظل يندب بعده

وفاؤك لو قامت عليك النوائب(٨)

لعمرك ما في الأرض واف بذمّة

أيصمت إدريس ومثلي يخاطب

دعوتك يا من لا أقوم بشكره

فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب

أيا سيدا قد حال بيني وبينه

تراب حوت ذكراك منه الترائب(٩)

لمن أشتكي إن جار بعدك ظالم

علي وإن نابت جنابي النوائب

__________________

(١) يصيخ لي : يصغي إليّ.

(٢) في ب : «ألفي».

(٣) في ج : «أجرني».

(٤) في ب : «أنجد».

(٥) في ب : أصابه الحين : مات.

(٦) الحين : الموت.

(٧) الهاطلات : أراد السحب الكثيرة المطر.

(٨) في ب : «النوادب».

(٩) الترائب : أراد الصدر.

٤٠٣

لمن أرتجي عند الأمير بمنطق

تحف به حولي المنى والمواهب

وهي طويلة ، ومنها قبيل الختم :

وقد كنت أختار الترحّل قبل أن

يصيبك سهم للمنية صائب

ولكن قضاء الله من ذا يردّه

فصبرا فقد يرضى الزمان المغاضب

ومنها ، وهو آخرها :

وإنّي لأدري أن في الصبر راحة

إذا لم تكن فيه عليّ مثالب(١)

وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره

عليك فلطف الله نحوي آئب(٢)

قال رحمه الله تعالى : ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني فيهما وحشة ، وأثار [لي] تذكر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضا خصيبا ، وصحبت بها الزمان غلاما ولبست الشباب [بردا] (٣) قشيبا (٤) ، فقلت : [بحر مجزوء الرمل]

هذه مصر فأين المغرب؟

مذ نأى عني فعيني (٥) تسكب

فارقته النفس جهلا إنما

يعرف الشيء إذا ما يذهب

أين حمص؟ أين أيامي بها؟

بعدها لم ألق شيئا يعجب

كم تقضّى لي بها من لذة

حيث للنهر خرير مطرب

وحمام الأيك تشدو حولنا

والمثاني في ذراها تصخب(٦)

أي عيش قد قطعناه بها

ذكره من كل نعمى أطيب

ولكم بالمرج لي من لذة

بعدها ما العيش عندي يعذب

والنواعير التي تذكارها

بالنوى عن مهجتي لا تسلب

ولكم في شنتبوس من منى

قد قضيناه ولا من يعتب(٧)

حيث هاتيك الشراجيب التي

كم بها من حسن بدر معصب(٨)

وغناء كلّ ذي فقر له

سامع غصبا ولا من يغصب

__________________

(١) المثالب : جمع مثلبة ، وهي العيب والمسبة.

(٢) يؤوب : يرجع ـ وآيب : راجع.

(٣) «بردا» ساقطة من ب.

(٤) قشيبا : جديدا.

(٥) في ب : «دموعي».

(٦) الأيك : الشجر الكثير الملتف. والمثاني : أراد آلات الطرب. وذراها ـ بفتح الذال ـ ساحاتها.

(٧) شنتبوس : منتزه في بلاد المغرب.

(٨) البيت غير موجود في بعض النسخ. والشراجيب : جمع شرجب وأراد هنا سور الجسر.

٤٠٤

بلدة طابت وربّ غافر

ليتني ما زلت فيها أذنب

أي حسن النيل من نهر بها

كل نغمات لديه تطرب

كم به من زورق قد حله

قمر ساق وعود يضرب

لذة الناظر والسمع على

شمّ زهر وكؤوس ١ تشرب

كم ركبناها فلم تجمح بنا

ولكم من جامح إذ يركب

طوعنا حيث اتجهنا لم نجد

تعبا منها إذا ما نتعب

قد أثارت عثيرا (١) يشبهه

نثر سلك فوق بسط ينهب

كلما رشنا ٣ لها أجنحة

من قلاع ظلت منها تعجب

كطيور لم تجد ريا لها

فبدا للعين منها مشرب

بل على الخضراء (٢) لا أنفكّ من

زفرة في كل حين تلهب(٤)

حيث للبحر زئير حولها

تبصر الأغصان منه ترهب

كم قطعنا الليل فيها مشرقا

بحبيب ومدام يسكب

وكأن البحر ثوب أزرق

فيه للبدر طراز مذهب

وإلى الحوز (٣) حنيني دائما

وعلى شنّيل دمعي صيّب(٦)

حيث سلّ النهر عضبا (٤) وانثنت

فوقه القضب (٥) وغنّى الربرب(٦)

وتشفّت أعين العشاق من

حور عين بالمواضي تحجب

ملعب للهو مذ فارقته

ما ثناني نحو لهو ملعب

وإلى مالقة يهفو هوى

قلب صب بالنوى لا يقلب

أين أبراج بها قد طالما

حثّ كأسي في ذراها كوكب

حفت الأشجار عشقا حولنا

تارة تنأى وطورا تقرب

__________________

(١) العثير ـ بوزن درهم ـ الغبار.

(٢) الخضراء : أراد الجزيرة الخضراء ، وكان ابن سعيد قد قضى فيها جانبا من حياته.

(٣) في ب : «الحور».

في ب «إلى الحور حنيني دائما» والحور : هو حور مؤمل منتزه بغرناطة وشنيل نهر غرناطة.

(٤) العضب : السيف الصارم القاطع. شبّه به النهر.

(٥) والقضب : جمع قضيب وهو الغصن هنا.

(٦) والربرب : جماعة البقر الوحشي وأراد القينات المغنيات.

٤٠٥

جاءت الريح بها ثم انثنت

أتراها حذرت من ترقب

وعلى مرسية أبكي دما

منزل فيه نعيم معشب

مع شمس طلعت في ناظري

ثم صارت في فؤادي تغرب

هذه حالي ، وأمّا حالتي

في ذرى (١) مصر ففكر متعب(٢)

سمعت أذني محالا ، ليتها

لم تصدّق ويحها من يكذب

وكذا الشيء إذا غاب انتهوا

فيه وصفا كي يميل الغيّب

ها أنا فيها فريد مهمل

وكلامي ولساني معرب

وأرى الألحاظ تنبو عند ما

أكتب الطرس أفيه عقرب(٣)

وإذا أحسب في الديوان لم

يدر كتابهم ما أحسب

وأنادي مغربيا ، ليتني

لم أكن للغرب يوما أنسب

نسب يشرك فيه خامل

ونبيه ، أين منه المهرب؟

أتراني ليس لي جدّ له

شهرة أو ليس يدرى لي أب

سوف أثنى راجعا لأغرّني (٤)

بعد ما جرّبت برق خلّب (٥)

وقال بقرمونة (٦) متشوقا إلى غرناطة : [بحر الطويل]

أغثني إذا غنى الحمام المطرب

بكأس بها وسواس فكري ينهب

ومل ميلة حتى أعانق أيكة

وألثم ثغرا فيه للصّبّ مشرب

ولم أر مرجانا ودرّا خلافه

يطيف به ورد من الشهد أعذب

فديتك من غصن تحمله نقا

تطلع أعلاه صباح وغيهب(٧)

__________________

(١) في ب : «ذرا».

(٢) ذرى مصر : أراد أرضها.

(٣) تنبو : تتجافى والطرس : الصحيفة.

(٤) في ب : «لا غرّني».

(٥) البرق الخلّب : الذي يطمع فيه بالمطر وليس فيه مطر.

(٦) قرمونة : بالأندلس في الشرق من إشبيلية. بينها وبين استجة خمسة وأربعون ميلا ، وهي مدينة كبيرة (صفة جزيرة الأندلس ص ١٥٨).

(٧) النقا : كثيب الرمل ، وأراد به هنا الردف على عادة العرب في تشبيه عجيزة المرأة بالكثيب. والغيهب : الظلام الشديد ، وأراد به هنا الشعر الأسود.

٤٠٦

وجنّته جنات عدن وفي لظى

فؤادي ومالي من ذنوب تعذب

ويعذلني العذال فيه وإنني

لأعصي عليه من يلوم ويعتب

لقد جهلوا هل عن حياتي أنثني

إذا نمّقوا أقوالهم وتألبوا

يقولون لي قد صار ذكرك مخلقا

وأصبح كل في هواه يؤنب

وعرضك مبذول وعقلك تالف

وجسمك مسلوب ومالك ينهب

فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا

وفخري لا أرضى بها حين يغضب

جنون أبى أن لا يلين لعازم

بسحر بآيات الرّقى ليس يذهب

فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم

يخن من إذا قربته يتقرب

وكم دونه من صارم ومثقف

فيا من رأى بدرا بهذين يحجب(١)

على أنه يستسهل الصعب عندما

يزور فلا يجدي حمى وترقّب

وكم حيلة تترى (٢) على إثر حالة

وذو الود من يحتال أو يتسبب

على أنه لو خان عهدي لم أزل

له راعيا ، والرعي للصب أوجب

فأين زمان لم يخني ساعة

به وهو منّي في التنعم أرغب

ولا فيه من بخل ولا بي قناعة

كلانا بلذات التواصل معجب

ويا رب يوم لا أقوم بشكره

على أنني ما زلت أثني وأطنب

على نهر شنّيل وللقضب حولنا

منابر ما زالت بها الطير تخطب

وقد قرعت منه سبائك فضة

خلال رياض بالأصيل تذهّب(٣)

شربنا عليها قهوة ذهبية

غدت تشرب الألباب أيان تشرب

كأن ياسمينا وسط ورد تفتحت

أزاهره أيان في الكأس تسكب

إذا ما شربناها لنيل مسرة

تبسّم عن در لها فتقطب(٥)

__________________

(١) المثقف : الرمح.

(٢) تترى : تتتابع.

(٣) السبائك : جمع سبيكة : كتلة من الذهب أو الفضة مصبوبة على شكل معين. والأصيل : الوقت قبل الغروب. وتذهّب : تلوّن بلون الذّهب.

(٤) القهوة : الخمر.

(٥) تقطب : تعبس.

٤٠٧

أتت دونها الأحقاب حتى تخالها

سرابا بآفاق الزجاجة يلعب

نعمنا بها واليوم قد رق برده (١)

إلى أن رأينا الشمس عنا تغرّب

فقالوا ألا هاتوا السراج فكل من

درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب

وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم

فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب

كواكب أمست بين شرب ولم نخل

بأن النجوم الزهر تدنو وتغرب

ظللنا عليها عاكفين وليلنا

نهار إلى أن صاح بالأيك مطرب

فلم نثن عن دين الصّبوح عناننا

إلى أن غدا من ليس يعرف يندب (٢)

صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى

علينا وذاك السكر أشهى وأعجب

وكم ليلة في إثر يوم وعذّلي

وعذّل من يصغي لقولي خيّب

فيا ليت ما ولى معاد نعيمه

وأي نعيم عند من يتغرب

قال : وقلت بإشبيلية ذاكرا لوادي الطّلح ، وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار ، كثير مترنم الأطيار ، وكان المعتمد بن عباد كثيرا ما ينتابه مع رميكيّته (٣) ، وأولي أنسه ومسرته : [بحر السريع]

سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا

هل سخّرت لي في زمان الصّبا

كانت رسولا فيه ما بيننا

لن نأمن الرّسل ولن نكتبا

يا قاتل الله أناسا إذا

ما استؤمنوا خانوا ، فما أعجبا

هلا رعوا أنا وثقنا بهم

وما اتخذنا عنهم مذهبا

يا قاتل الله الذي لم يتب

من غدرهم من بعد ما جرّبا

واليمّ لا يعرف ما طعمه

إلا الذي وافى لأن يشربا(٤)

دعني من ذكر الوشاة الألى

لما يزل فكري بهم ملهبا

واذكر بوادي الطلح عهدا لنا

لله ما أحلى وما أطيبا

بجانب العطف وقد مالت الأغ

صان والزهر يبثّ الصّبا(٥)

__________________

(١) رقّ برده : كان لطيفا ناعما.

(٢) عذّل : جمع عاذل ، وجموع عاذل ، عذّل وعذّال. وخيّب : جمع خائب.

(٣) الرميكية : زوجة المعتمد بن عباد. ولها قصص طريفة معه.

(٤) اليم : لجة البحر.

(٥) يبث : ينشر ، والصبا : الريح الشرقية ، وهي ريح ناعمة منعشة.

٤٠٨

والطير مازت (١) بين ألحانها

وليس إلا معجبا مطربا

وخانني من لا أسمّيه من

شح أخاف الدهر أن يسلبا

قد أترع (٢) الكأس وحيّا بها

وقلت أهلا بالمنى مرحبا

أهلا وسهلا بالذي شئته

يا بدر تمّ مهديا كوكبا

لكنني آليت (٣) أسقى بها

أو تودعنها ثغرك الأشنبا

فمجّ لي في الكأس من ثغره

ما حبّب الشرب وما طيبا

فقال ها لثمي نقلا (٤) ولا

تشمّ إلّا عرفي الأطيبا(٥)

فاقطف بخدّي الورد والآس وال

نسرين لا تحفل بزهر الربا(٦)

أسعفته غصنا غدا مثمرا

ومن جناه ميسه قربا

قد كنت ذا نهي وذا إمرة

حتى تبدّى فحللت الحبا(٧)

ولم أصن عرضي في حبه

ولم أطع فيه الذي أنّبا

حتى إذا ما قال لي حاسدي

ترجوه والكوكب أن يغربا

أرسلت من شعري سحرا له

ييسر المرغب والمطلبا

وقال عرّفه بأني سأح

تال فما أجتنب المكتبا

فزاد في شوقي له وعده

ولم أزل مقتعدا مرقبا(٨)

أمدّ طرفي ثم أثنيه من

خوف أخي التنغيص أن يرقبا

أصدّق الوعد وطورا أرى

تكذيبه والحر لن يكذبا

أتى ومن سخّره بعد ما

أيأس بطئا كاد أن يغضبا

قبلت في الترب ولم أستطع

من حصر اللّقيا سوى مرحبا

__________________

(١) مازت : نوّعت.

(٢) أترع : ملأ.

(٣) آليت : حلفت.

(٤) في ب : «نقلا».

(٥) ها : اسم فعل أمر بمعنى خذ. والنقل : ما يؤكل أثناء الشراب من لوز وغيره.

(٦) في ب : «الربى».

(٧) حلّ الخبا : كناية عن خلع ثوب الوقار والحياء.

(٨) المرقب : المكان المرتفع يجلس فيه للمراقبة.

٤٠٩

هنأت ربعي إذ غدا هالة

وقلت يا من لم يضع أشعبا

بالله مل معتنقا لاثما

فمال كالغصن ثنته الصّبا

وقال ما ترغب قلت اتئد (١)

أدركت إذ كلمتني المأربا

فقال لا مرغب عن ذكر ما

ترغبه قلت إذا مركبا

فكان ما كان فو الله ما

ذكرته دهري أو أغلبا

قال : وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدّمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية : [بحر الخفيف]

أنا لون الشباب والخال أهدي

ت لمن قد كسا الزمان شبابا

ملك العالمين نجم بنى أي

وب ، لا زال في المعالى مهابا! (٢)

جئت ملأى من الثناء عليه

من شكور إحسانه والثّوابا

لست ممن له خطاب ولكن

قد كفاني أريج عرفي خطابا

قال : ولما أنشد أبو عبد الله بن الأبّار كاتب ملك إفريقية لنفسه (٣) : [بحر الكامل]

لله دولاب يدور كأنه

فلك ولكن ما ارتقاه كوكب

هامت به الأحداق لما نادمت

منه الحديقة ساقيا لا يشرب

نصبته فوق النهر أيد قدّرت

ترويحه الأرواح ساعة ينصب

فكأنه وهو الطليق مقيّد

وكأنه وهو الحبيس مسيب(٤)

للماء فيه تصعّد وتحدّر

كالمزن يستسقي البحار ويسكب

حلف أبو عبد الله بن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئا ، فقال : [بحر الطويل]

ومحنيّة الأضلاع تحنو على الثرى

وتسقي نبات الترب ، درّ الترائب

تعدّ من الأفلاك أن مياهها

نجوم لرجم المحل ذات ذوائب

__________________

(١) اتئد : تمهل ـ تأنّ.

(٢) في ج : «لا زال في المعالي شهابا».

(٣) هذا أبو عبد الله بن الأبّار القضاعي مؤلف الحلة السيراء (انظر كتاب الحلة السيراء تحقيق عبد الله أنيس الطباع).

(٤) مسيّب : متروك يذهب حيث يشاء.

٤١٠

وأعجبها رقص الغصون ذوابلا

فدارت بأمثال السيوف القواضب(١)

وتحسبها والروض ساق وقينة

فما برحا ما بين شاد وشارب

وما خلتها تشكو بتحنانها الصّدا (٢)

ومن فوق متنيها اطراد المذانب

فخذ من مجاريها ودهمة (٣) لونها

بياض العطايا في سواد المطالب

ثم كلفت في أن أقول في ذلك ، وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول : [بحر الطويل]

وذات حنين لا تزال مطيفة

تئن وتبكي بالدموع السواكب

كأن أليفا بان عنها فأصبحت

بمربعه كالصّبّ بعد الحبائب

إذا ابتسمت فيها الرياض شماتة (٤)

ترعها بأمثال السيوف القواضب(٥)

فكم رقصت أغصانها فرمت لها

نثارا كما بددت حلي الكواعب(٦)

لقد سخطت منها الثغور وأرضت ال

قدود ولم تحفل بتثريب (٧) عائب

شربت على تحنانها ذهبيّة (٨)

ذخيرة كسرى في العصور الذواهب

فهاجت لي الكأس ادّكار مغاضب

فحاكيتها وجدا بذاك المغاضب(٩)

فلا تدع التبريز في كثرة الهوى

فلو لاي كانت فيه إحدى العجائب

قال : وقلت بغرناطة [البحر الرمل] :

باكر اللهو ومن شاء عتب

لا يلذّ العيش إلا بالطّرب

ما توانى من رأى الزهر زها

والصّبا تمرح في الروض خبب(١٠)

__________________

(١) السيوف القواضب : السيوف القاطعة.

(٢) في ب : «الصدى». والصداء : العطش الشديد.

(٣) الدهمة : السواد. وقد أخذ معنى البيت من أبي تمام وضمن الشطر الثاني كله :

وأحسن نور من تفتحته الصبا

بياض العطايا في سواد المطالب

(٤) في ب : «شماتة».

(٥) السيوف القواضب : القاطعة.

(٦) الكواعب : جمع كاعب ، وهي الفتاة نهد ثدياها.

(٧) التثريب : اللوم.

(٨) الذهبية : أراد الخمرة.

(٩) ادّكار : تذكار.

(١٠) الخبب : نوع من السير.

٤١١

وشذاه صانه حتّى اغتدى

بين أيدي الريح غصبا ينتهب

يا نسيما عطّر الأرجاء ، هل

بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب؟

هم أعلّوه وهم يشفونه

لا شفاه الله من ذاك الوصب (١)!

خلع الروض عليه زهره

حين وافى من ذراكم فعل صبّ

فأبى إلا شذاه فانثنى

حاملا من عرفه ما قد غصب

لست ذا نكر لأن يشبهكم

من بعثتم ، غير ذا منه العجب

غالب الأغصان في بدأته

ثم لما زاد أعطته الغلب

فبكى الطلّ (٢) عليها رحمة

أو بكى من وعظ طير قد خطب

كلّ هذا قد دعاني للّتي

ملكت رقي على مر الحقب (٣)

قهوة (٤) أبسم من عجب لها

عندما تبسم عجبا عن حبب (٥)

حاكت الخمر فلما شعشعت (٦)

قلت ما للخمر بالماء التهب

وبدت من كأسها لي فضّة

ملئت إذ جمدت ذوب الذهب

اسقنيها (٧) من يدي مشبهها

بالذي يحويه طرف وشنب (٨)

لا جعلت الدهر نقلي غير ما

لذّ لي من ريق ثغر كالضّرب (٩)

لا جعلت الدهر ريحاني سوى

ما بخدّيه من الورد انتخب

لم أزل أقطع دهري هكذا

وكذا أقطع منه المرتقب

حبّذا عيش قطعناه لدى

معطف الخابور ما فيه نصب

مع من لم يدر يوما ما الجفا

من أراح الصب فيه من تعب

__________________

(١) الوصب : المرض.

(٢) الطل : المطر الخفيف.

(٣) الحقب : جمع حقبة ، وهي فترة من الزمن غير محددة الوقت.

(٤) القهوة : الخمر.

(٥) الحبب : ما يعلو الماء من فقاقيع.

(٦) شعشع الخمر : مزجها بالماء.

(٧) في ب : «سقّنيها».

(٨) الشنب : صفاء الأسنان وابيضاضها.

(٩) الضرب : العسل الأبيض.

٤١٢

كل ما يصدر منه حسن

لم يذقني في الهوى مر الغضب

أي عيش سمح الدهر به

كل نعمى ذهبت لما ذهب

قال : ودخلت بتونس مع أبي العباس الغسّاني حماما ، فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان ، فقلت مخاطبا له : [بحر السريع]

دخلت حماما وقصدي به

تنعيم جسم فغدا لي عذاب

قلت لظى فاعترضت حوره

وقلت عدن فنهاني التهاب

وأنت في الفضل إمام فكن

في الحكم ممن حاز فصل الخطاب

فقال : [بحر السريع]

لا تأمن الحمام في فعله

فليس ما يأتيه عندي صواب

فما أرى أخدع منه ولا

أكذب إلا أن يكون السراب(١)

يبدي لك الغيد كحور الدمى (٢)

ويلبس الشيخ برود (٣) الشباب

ظن به النار فلا جنة

للحسن إلا ما حوته الثياب

ومن فوائده ـ أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى ـ في كتابه المحلى بالأشعار (٤) نقلا عن القرطبي (٥) قضية بناء الهودج بروضة مصر ، وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة ، وذلك أنه يقال : إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله ، للبدوية التي غلب عليه حبها ، بجوار البستان المختار ، وكان يتردد إليه كثيرا وقتل وهو متوجه إليه ، وما زال منتزها للخلفاء من بعده.

وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن ميّاح من بني عمها ، وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر ، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك ، والاختصار منه أن يقال : إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات ، وصارت له عيون في البوادي ، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم ، شاعرة جميلة ، فيقال : إنه تزيا

__________________

(١) السراب : ما يبدو شبيها بالماء عن بعد.

(٢) الدمى : جمع دمية ، وهي التمثال من العاج.

(٣) البرود : جمع برد ، وهو الثوب.

(٤) لعله أراد : القدح المعلّى في التاريخ المحلّى.

(٥) في ب : «القرطي».

٤١٣

بزي بداة الأعراب ، وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها ، وبات هنالك ، وتحيل حتى عاينها هناك ، فما ملك صبره ، ورجع إلى مقر ملكه ، وأرسل إلى أهلها يخطبها ، وتزوجها ، فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت ، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء ، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة ، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج ، وكان غريب الشكل ، على شط النيل ، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربّيت معه ، يعرف بابن ميّاح ، فكتبت إليه من قصر الآمر : [بحر الرمل]

يا ابن ميّاح إليك المشتكى

مالك من بعدكم قد ملكا

كنت في حيي طليقا آمرا

نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر موصد

لا أرى إلا حبيسا ممسكا

كم تثنينا كأغصان النقا

حيث لا نخشى علينا دركا(١)

فأجابها فقال : [بحر الرمل]

بنت عمي والتي غذّيتها

بالهوى حتى علا واحتبكا(٢)

بحت بالشكوى وعندي ضعفها

لو غدا ينفع منّا المشتكى

مالك الأمر إليه يشتكى

هالك ، وهو الذي قد أهلكا

قال : وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطول.

وكان من عرب طيىء في عصر الآمر طراد بن مهلهل ، فقال وقد بلغته هذه الأبيات : [بحر المتقارب]

ألا بلّغوا الآمر المصطفى

مقال طراد ونعم المقال

قطعت الأليفين عن ألفة

بها سمر الحمى حول الرحال(٣)

كذا كان آباؤك الأكرمون

سألت فقل لي جواب السؤال

فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات : جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله ، فطلب في أحياء العرب فلم يوجد ، فقيل : ما أخسر صفقة طراد ، باع عدة أبيات بثلاثة أبيات (٤).

__________________

(١) في ب ، ه : «أغصان اللوى».

(٢) في ب : «واحتنكا».

(٣) في ب : «بها سمر الحيّ حول الرحال».

(٤) في نسخة : «باع أبيات الحي بثلاثة أبيات» وهو المعنى.

٤١٤

وكان بالإسكندرية مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد ، له مروءة عظيمة ، ويحتذي أفعال البرامكة ، وللشعراء فيه أمداح كثيرة ، ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصّلت وغيرهما ، وكان له بستان يتفرّج فيه ، به جرن كبير من رخام ، وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره ، وكان يرى في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره ، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر ، فسألت الآمر في حمل الجرن إليها ، فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن ، فلم يجد بدّا من حمله من البستان ، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج (١) ، فقلق ابن حديد ، وصارت في قلبه حزازة (٢) من أخذ الجرن ، فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة ، حتى قالت البدوية : هذا الرجل أخجلنا (٣) بكثرة تحفه ، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا ، فلما قيل له عنها هذا القول قال : مالي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عز غير ردّ السّقيّة التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم تردّ إلى مكانها ، فتعجبت من ذلك ، وردتها عليه ، فقيل له : قد حصلت في حد أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر ، فقال : أنا أعرف بنفسي ، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه ، وقد بلغها الله تعالى أملها.

وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر ، وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلّده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وأضاف إليها الأعمال البحرية ، ووصل إلى الثغر ـ وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور ، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن الشمع فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا وقد أحضر حقّا مختوما ، ففك عنه ، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف (٤) بلور فيه ثلاثة بيوت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر : بيت دهن ممسك ، وبيت دهن بكافور ، وبيت دهن بعنبر طيب ، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته ، فعند ما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته ، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه ، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه ، وكان [من](٥) جواب المؤتمن : وقد قبلته منك لا لحاجة إليه ، ولا نظر في قيمته ، بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها ، وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار.

__________________

(١) في ب : «وتركيبه هنالك».

(٢) في نسخة : حرارة.

(٣) في ب : «أخلجنا».

(٤) في ب : «مراق».

(٥) في ب : «ساقطة».

٤١٥

فانظر رحمك الله تعالى إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار ، ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه ، فماذا تكون ثيابه وحلي نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات؟ وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضى الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبّهتها إلا يسير حقير.

وما زال الخليفة الآخر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع القعدة سنة ٥٢٤ يريد الهودج ، وقد كمن له عدة من النزارية (١) على رأس الجسر من ناحية الروضة ، فوثبوا عليه ، وأثخنوه بالجراحة ، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة (٢) ، فمات بها ، وقيل : قبل أن يصل إليه ، وقد خرب هذا الهودج ، وجهل مكانه من الروضة ، ولله عاقبة الأمور ، نقل ذلك كله الحافظ المقريزي ، رحمه الله تعالى!.

قال النور بن سعيد ، ومن خطه نقلت : لما نزلنا بتلّعفر (٣) حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التّلّعفري ، فقال : أنا أدركته ، وكان كثير التجول ، وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده : [بحر السريع]

يبتهج الناس إذا عيّدوا

وعند سرّائهم أكمد

لأنني أبصر أحبابهم

ومقلتي محبوبها تفقد

قال : وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصا ، وشعرا ، وصدق فيما قاله.

وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري : [بحر الخفيف]

لك ثغر كلؤلؤ في عقيق

ورضاب كالشّهد (٤) أو كالرّحيق(٥)

__________________

(١) النزارية : فرقة ترى تسلسل الإمامة في الخلفاء الفاطميين حتى نزار بن المستنصر ولا يرون إمامة من بعده ، وتطعن في إمامة المستعلي. وفي ابن خلكان : فكمن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على قتله في السكة التي يمر فيها إلى فرن هناك ، فلما مرّ بهم وثبوا عليه.

(٢) العشاري : ضرب من السفن. ومنظرة اللؤلؤة : متنزه الخلفاء الفاطميين وكانت بها قصورهم.

(٣) تلعفر : أصلها تل أعفر أو تل يعفر ، فغير مع الزمن طلبا للخفة. وهو اسم قلعة وربض بين سنجار والموصل في وسط واد فيه نهر جار. وهي على جبل منفرد ، حصينة محكمة (معجم البلدان ج ٢ ص ٣٩) وفيها شهاب الدين التلعفري الشاعر وهو محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة. كان خليعا مقامرا. توفي سنة ٦٧٥ ه‍.

(٤) الشهد : العسل.

(٥) الرحيق : الخمر.

٤١٦

وجفون لم يمتشق سيفها إلا

لمغرى بقدّك الممشوق (١)

تهت عجبا بكل فن من الحسن

جليل وكل معنى دقيق

وتفردت بالجمال الذي خ

لّاك مستوحشا بغير رفيق

باللحاظ التي بها لم تزل تر

شق قلبي بالقوام الرّشيق

لا تغر بالغوير إذ تتثنّى

فيه أعطاف كل غصن وريق

واثن محمّر ورد خدّيك واستر

ه وإلّا ينشقّ قلب الشفيق

قال ابن سعيد : وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك ، وكونهم يقدمونه ، ويقبلون على شعره ، وعهدي به لا ينشد أحد قبله في مجلس الملك الناصر ، على كثرة الشعراء ، وكثرة من يعتني بهم ، ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة ، فإنه كان كثيرا ما ينشده ، وينوه به ، والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب «الغرة الطالعة (٢) ، في فضلاء المائة السابعة» وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنه ، وما فارقه غرامه ودنّه ، انتهى.

ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب قال ما نصه : وكان من أعظم السلاطين دهاء ، وحزما ، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له ، ويحكى أنه بشّره شخص بأن أميرا من أمراء الأفضل بن صلاح الدين فسد عليه ، فأعطاه مالا جزيلا ، وأرسل مستخفيا إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل ، ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد ، قال : وكان يمنع حتى يوصف بالبخل ، ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسّماح ، وكان صلاح الدين ـ وهو السلطان ـ يأخذ برأيه ، وقدم له أحد المصنفين كتابا مصوّرا في مكايد الحروب ومنازلة المدن ، وهو حينئذ على عكّا محاصرا للفرنج ، فقال له : ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر ، وكان كثير المداراة والحزم ، ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصّه قال له يوما ، وهو على سماطه يأكل : يا خوند ، ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي ، وكلمه بدالّة السن وقدم الصحبة قبل الملك ، فقال لمماليكه : انظروا وسطه ، فحلّوا (٣) الكمران وقال : خذوا الصرة التي فيه ، فوجدوا صرّة ، فقال : افتحوها ، ففتحوها فإذا فيها ذرور ، فقال العادل : كل من هذا

__________________

(١) امتشق السيف : استلّه ، والممشوق المعتدل.

(٢) في ب : «الشقيق.

(٣) في ب : «فجسّوا».

٤١٧

الذرور ، فتوقف ، وعلم أنه مطّلع على أنه سم ، فقال : كيف نسبتني إلى قلة الوفاء ، وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم ، وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار ، فلا أنا أمكنتك من نفسي ، ولا أشعرتك ، لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به ، وتركتك على حالك ، وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة ، ثم قال : ردوا سمه إلى كمرانه ، لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي ، فجعل يقبل الأرض ويقول : هكذا والله كان ، وأنا تائب لله تعالى ، ثم إن الشيخ جدّد توبة ، واستأنف أدبا آخر وخدمة أخرى ، وكانت هذه الفعلة من إحدى عجائب العادل.

قال : وكان كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجّه في الخفية إليهنّ ، حتى يمسكن أزواجهنّ عن الحركة ، وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره.

ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين (١) باليمن ، وخطب لنفسه بالخلافة ، وكتب له أن يبايعه ويخطب له في بلاده ، كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توجيه عسكر له في البر والبحر ، وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره ، فضحك وقال : من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤنة ، أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده ، فضلا عن أن يتطرق فساده لبلادي ، ثم إنه وجه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم : أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي ، فكيف يسوغ له؟ وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه ، فاحذروا أن تهلكوا معه ، واتعظوا بالآية (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣] وما لهذا عقل يدبر به نفسه ، فكيف يفضل عن تدبير خاصته إليكم (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) [ص : ٨٨] فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه ، وعادت البلاد للعادل ، وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر : قد كفينا المؤنة بأيسر شيء من المال ، ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته.

وكان ـ على ما بلغه من عظمة السلطان ، واتساع الممالك ـ يحكي ما جرى له من زمان خلوّه من ذلك ، ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم ، واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق ومن نوادره الحارّة (٢) معه أنه سمعه

__________________

(١) في ه : «ظفركين». وفي نسخة «طغرلكين».

(٢) في ج : نوادره الحاضرة منه.

٤١٨

يوما وهو يقول في وضوئه : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ، ولا تحاسبني حسابا عسيرا ، فقال له : يا خوند على أي شيء يحاسبك حسابا عسيرا؟ إذا قال لك : أين أموال الخلق التي أخذتها؟ فقل له : تراها بأمانتها في الكرك ، وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات ، سميت بذلك لأن من رآها يتحسر إذا نظرها ، ولا يستطيع على شيء منها بحيلة ، وهي خواب (١) مفروعة من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظرين ليشتهر ذلك في الآفاق.

وقال العادل مرة ، وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممن ذكر في كتاب «المستجاد ، في حكايات الأجواد» : إنما هذا كذب مختلق من الورّاقين ومن المؤرخين ، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال فقال خضير : يا خوند ، ولأي شيء لا يكذبون عليك؟.

قال ابن سعيد : من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية.

قال ابن سعيد : ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب (٢) «المعاجم» وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه ، وخرّج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السّلفي ، وتمثل فيه عند وفاته : [بحر الوافر]

ألام على بكائي خير ملك

وقلّ له بكائي بالنّجيع

به كان الشباب جميع عمري

ودهري كله زمن الربيع

ففرّق بيننا زمن خؤون

له شغف بتفريق الجميع

قال ابن سعيد : ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق ، وكان أنشأها للشافعية ، وهي في نهاية الحسن ، وبها خزانة كتب ، فيها تاريخ ابن عساكر ، وذيل هذا التاريخ واختصره أبو شامة ، سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق.

وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة ، منهم الكامل والمعظم والأشرف ، وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء ، انتهى.

__________________

(١) خواب : جمع خابية ، وهي الجرة الكبيرة.

(٢) في ب : «تاج المعاجم. هو كتاب تاج المعاجم لإسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي القوصي وهذا الكتاب فيمن لقيه المؤلف من المحدثين.

٤١٩

وقال ابن سعيد ، في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعيد المرذغاني (١) ، وهو من بيت وزارة ورياسة (٢) بدمشق : إن من شعره قوله : [بحر الخفيف]

كيف طابت نفوسكم بفراقي

وفراق الأحباب مرّ المذاق

لو علمتم بلوعتي وصبابا

تي ووجدي وزفرتي واحتراقي

لرثيتم للمستهام (٣) المعنّى

ووفيتم بالعهد والميثاق

قال ابن سعيد : وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب «تاج المعاجم» ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال : أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر ، لأمر ضاق به صدره ، فهتف به هاتف في النوم ، وأنشده : [بحر الكامل]

يا أحمد اقنع بالذي أعطيته

إن كنت لا ترضى لنفسك ذلّها

ودع التكاثر في الغنى لمعاشر

أضحوا على جمع الدراهم ولّها

واعلم بأن الله جلّ جلاله

لم يخلق الدنيا لأجلك كلّها

فانثنى عزمه عن الحركة ، ثم بلغ ما أمّله دون سفر.

وقال ابن سعيد ، في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشقي المعروف بدفترخوان ، وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر : إنه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب ، وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول ، فينال من خيره ، وكتب له مرة وقد أظل الشتاء (٤) في دمشق فقال : [بحر المجتث]

مولاي جاء الشتاء

والكيس منه خلاء (٥)

لا زال يجري بما تر

تضي علاك القضاء

وكلّ كاف إليه

يحتاج فيه التواء (٦)

__________________

(١) كثر الاختلاف في هذه النسبة. ففي ه : المرذغاني. وفي ه : المردغاني وفي بعض النسخ : المزدغاني.

(٢) في ب : «ورئاسة».

(٣) المستهام : شديد العشق.

(٤) وفي بعض النسخ : وقد أطلّ الشتاء.

(٥) في ب ، ه : «والكيس منها خلاءء.

(٦) يشير إلى قول ابن سكرة :

جاء الشتاء وعندي من حوائجه

سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا

كنّ وكيس وكانون وكأس طلا

بعد الكباب وكسّ ناعم وكسا

٤٢٠