نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

حتى إذا ما الصبح لاح عموده

قبسا وحان من الظلام ذهوب

ساءلتها خجلا أما لك حاجة

عندي؟ فقالت : ساخر وحروب

قالت حرامك (١) إذ أردت وداعها

قرن وفيه عوارض وشعوب

وذكرها ابن دحية بمخالفة لما سردناه (٢).

قال عتبة التاجر : وجهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون ، فلقيته بالعراق ، فسألني عن هذه (٣) هل أحفظها للغزال؟ قلت : نعم ، فاستنشدنيها ، فأنشدته إياها ، فسربها (٤) ، وكتبها ، قال عتبة : ونلت بها حظا عنده.

والبهنانة : المرأة الطيبة النفس والأرج ، كما في الصحاح ، وقيل : اللينة في منقطها (٥) وعملها ، وقيل : الضحاكة المتهللة ، والرعبوب : السّبطة البيضاء ، والسبطة : الطويلة.

وقال سامحه الله تعالى : [بحر السريع]

سألت في النّوم أبي آدما

فقلت والقلب به وامق(٦)

ابنك بالله أبو حازم؟!

صلّى عليك المالك الخالق

فقال لي : إن كان منّي ومن

نسلي فحوّا أمّكم طالق

وقال رضي الله تعالى عنه : [بحر الوافر]

أرى أهل اليسار إذا توفّوا

بنوا تلك المقابر بالصخور

أبوا إلا مباهاة وفخرا

على الفقراء حتى في القبور

فإن يكن التفاضل في ذراها

فإن العدل فيها في القعور

رضيت بمن تأنّق في بناء

فبالغ فيه تصريف الدهور

ألمّا يبصروا ما خربته الد

هور من المدائن والقصور

لعمر أبيهم لو أبصروهم

لما عرف الغنيّ من الفقير

__________________

(١) في ب : «حرّ أمك».

(٢) انظر يحيى بن الحكم الغزال لمحمد صالح البنداق ص ١٨٠.

(٣) في ب : «القصيدة».

(٤) في ب : «فسرّ بها».

(٥) في ب : «منطقها».

(٦) الوامق : الشديد المحبة.

٣٨١

ولا عرفوا العبيد من الموالي

ولا عرفوا الإناث من الذكور

ولا من كان يلبس ثوب صوف

من البدن المباشر للحرير

إذا أكل الثّرى هذا وهذا

فما فضل الكبير على الحقير

وقال رضي الله تعالى عنه (١) : [بحر الخفيف]

لا ، ومن أعمل المطايا إليه

كلّ من يرتجي إليه نصيبا

ما أرى ههنا من الناس إلا

ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا

أو شبيها بالقط ألقى بعيني

ه إلى فارة يريد الوثوبا

وقال رضي الله تعالى عنه : [بحر الكامل]

قالت أحبّك قلت كاذبة

غرّي بذا من ليس ينتقد

هذا كلام لست أقبله

الشيخ ليس يحبه أحد

سيّان قولك ذا وقولك إن

الريح نعقدها فتنعقد

أو أن تقولي النار باردة

أو أن تقولي الماء يتقد

وحكى أبو الخطاب بن دحية في كتاب «المطرب» أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قرب (٢) الخمسين ، وقد وخطه الشيب (٣) ، ولكنه كان مجتمع الأشد (٤) ، فسألته زوجة الملك يوما عن سنه ، فقال مداعبا لها : عشرون سنة ، فقالت : وما هذا الشيب؟ فقال : وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قطّ مهرا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله ، فقال في ذلك ، واسم الملكة تود : [بحر السريع]

كلّفت يا قلبي هوى متعبا

غالبت منه الضّيغم الأغلبا(٥)

إني تعلقت مجوسيّة

تأبى لشمس الحسن أن تغربا

أقصى بلاد الله في حيث لا

يلفي إليه ذاهب مذهبا

يا تود يا رود الشباب التي

تطلع من أزرارها الكوكبا(٦)

__________________

(١) انظر يحيى بن الحكم الغزال لمحمد صالح البنداق ص ١٨٤.

(٢) في ب : «قارب».

(٣) وخطه الشّيب : خالط سواد رأسه.

(٤) مجتمع الأشد : قويّا.

(٥) الضيغم : الأسد. والأغلب : الأسد أيضا ، الغليظ العنق.

(٦) الرود : أراد الفتاة الشابة الجميلة الممشوقة.

٣٨٢

يا بأبي الشخص الذي لا أرى

أحلى على قلبي ، ولا أعذبا(١)

إن قلت يوما إنّ عيني رأت

مشبهه أم أعد أن أكذبا

قالت أرى فوديه قد نوّرا

دعابة توجب أن أدعبا(٢)

قلت لها : ما باله؟ إنه

قد ينتج المهر كذا أشهبا

فاستضحكت عجبا بقولي لها

وإنما قلت لكي تعجبا

قال : ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت ، وأمرته بالخضاب ، فغدا عليها وقد اختضب وقال [بحر الكامل] :

بكرت تحسّن لي سواد خضابي

فكأن ذاك أعادني لشبابي

ما الشيب عندي والخضاب لواصف

إلا كشمس جلّلت بضباب

تخفي قليلا ثم يقشعها الصّبا

فيصير ما سترت به لذهاب

لا تنكري وضح المشيب فإنما

هو زهرة الأفهام والألباب

فلديّ ما تهوين من زهو (٣) الصبا

وطلاوة الأخلاق والآداب

وحكى ابن حيان في «المقتبس» أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجّه شاعره الغزال إلى ملك الروم ، فأعجبه حديثه ، وخف على قلبه ، وطلب منه أن ينادمه ، فامتنع من ذلك ، واعتذر بتحريم الخمر ، وكان يوما جالسا عنده ، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها ، وهي كالشمس الطالعة حسنا ، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها ، وجعل الملك يحدثه وهولاه عن حديثه ، فأنكر ذلك عليه ، وأمر الترجمان بسؤاله ، فقال له : عرّفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه ، فإني لم أر قط مثلها ، وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها ، وأنها شوقته إلى الحور العين ، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده ، وسرّت الملكة بقوله ، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان ، وتجشّم المكروه فيه ، وتغيير خلق الله ، مع خلوّه من الفائدة ، فقال للترجمان : عرفها أن فيه أكبر فائدة ، وذلك أن الغصن إذا زبر قوي (٤) ، واشتد ، وغلظ ، وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقا ضعيفا ، فضحكت وفطنت لتعريضه ، انتهى.

__________________

(١) بأبي : أفدي بأبي.

(٢) الفودان : مثنى فود ، وهو الشعر الذي على جانب الرأس مما يلي الأذنين.

(٣) في ب : «شأن».

(٤) زبر الغصن : هذّبه بالقطع وشذّبه.

٣٨٣

ومن شعر الغزال قوله : [بحر الكامل]

يا راجيا ودّ الغواني ضلّة

وفؤاده كلف بهنّ موكّل

إن النساء لكالسّروج حقيقة

فالسّرج سرجك ريثما لا تنزل

فإذا نزلت فإنّ غيرك نازل

ذاك المكان وفاعل ما تفعل

أو منزل المجتاز أصبح غاديا

عنه وينزل بعده من ينزل

أو كالثمار مباحة أغصانها

تدنو لأول من يمر فيأكل

أعط الشبيبة لا أبا لك حقّها

منها ، فإنّ نعيمها متحوّل

وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع

عند النساء بكل ما تستبدل

وقال : [بحر مجزوء الرمل]

قال لي يحيى وصرنا

بين موج كالجبال

وتولتنا رياح

من دبور وشمال(١)

شقت القلعين وابنتّ (٢)

ت عرا تلك الحبال(٣)

وتمطّى ملك المو

ت إلينا عن حيال

فرأينا الموت رأي ال

عين حالا بعد حال

لم يكن للقوم فينا

يا رفيقي رأس مال

ومنها :

وسليمى ذات زهد

في زهيد في وصال

كلما قلت صليني

حاسبتني بالخيال

والكرى قد منعته

مقلتي أخرى الليالي

وهي أدرى فلماذا

دافعتني بمحال

أترى أنا اقتضينا

بعد شيئا من نوال

__________________

(١) الدبور : الريح الغربية.

(٢) في ب : «وأنبتت». أنبتت : انفضحت وتقطعت.

(٣) في ب : «عرى».

٣٨٤

وله : [بحر الكامل]

من ظن أن الدهر ليس يصيبه

بالحادثات فإنه مغرور

فالق الزمان مهوّنا لخطوبه

وانجرّ حيث يجرك المقدور

وإذا تقلبت الأمور ولم تدم

فسواء المحزون والمسرور

وعاش الغزال أربعا وتسعين سنة ، وتوفي في حدود الخمسين والمائتين ، سامحه الله تعالى!.

وكان الغزال أقذع (١) في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب (٢) ، فذكر ذلك لعبد الرحمن ، فأمر بنفيه ، فدخل العراق ، وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة ، فوجدهم يلهجون بذكره ، ولا يساوون شعر أحد بشعره ، فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس (٣) ، واستهجنوا أشعارهم ، فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس ، فقال لهم : من يحفظ منكم قوله : [بحر الطويل]

ولما رأيت الشّرب أكدت سماؤهم

تأبّطت زقّي واحتبست عنائي(٤)

فلما أتيت الحان ناديت ربّه

فثاب خفيف الروح نحو ندائي

قليل هجوع العين إلا تعلّة

على وجل مني ومن نظرائي

فقلت أذقنيها فلما أذاقها

طرحت عليه ريطتي وردائي(٥)

وقلت أعرني بذلة أستتر بها

بذلت له فيها طلاق نسائي

فو الله ما برت يميني ولا وفت

له غير أني ضامن بوفائي

فأبت إلى صحبي ولم أك آئبا

فكلّ يفدّيني وحقّ فدائي

فأعجبوا بالشعر ، وذهبوا في مدحهم له ، فلما أفرطوا قال لهم : خفضوا عليكم ، فإنه لي ، فأنكروا ذلك ، فأنشدهم قصيدته التي أولها [بحر الطويل] :

تداركت في شرب النبيذ خطائي

وفارقت فيه شيمتي وحيائي

فلما أتمّ القصيدة بالإنشاد خجلوا ، وافترقوا عنه.

__________________

(١) أقذع في الهجاء : أفحش.

(٢) في ج : «بابن زرياب».

(٣) أزرى به : ازدراه وعابه وحطّ من قيمته.

(٤) الشرب : بفتح الشين وسكون الراء ـ جماعة الشاربين. والزقّ : وعاء من جلد توضع فيه الخمرة.

(٥) الريطة : الثوب الرقيق.

٣٨٥

وحكي أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١] فلما رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها ، فأناب إلى الله ، فعاد إلى حاله.

وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء (١) كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها ومرت عليهم قصيدته التي أولها : [بحر الطويل]

لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم

إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم

حتى انتهى القارئ إلى قوله :

تجاف عن الدنيا فما لمعجّز

ولا عاجز إلا الذي خطّ بالقلم

فقال له الغزال ، وكان في الحلقة ، وهو إذ ذاك حدث نظام متأدب ذكي القريحة : أيها الشيخ ، وما الذي يصنع مفعّل مع فاعل؟ فقال له : كيف تقول؟ فقال : كنت أقول : فليس لعاجز ولا حازم ، فقال له عباس : والله يا بني لقد طلبها عمّك فما وجدها.

وأنشد يوما قوله من قصيدة : [بحر الطويل]

بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشى (٢)

بكفي حتى آب خاويه من بقري(٣)

فقال له بكر بن عيسى الشاعر : أما والله يا أبا العلاء ، لئن كنت بقرت الحشى (٤) لقد وسخت يديك بفرثه (٥) ، وملأتهما بدمه ، وخبثت (٦) نفسك بنتنه ، وخشمت أنفك (٧) بعرفه ، فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه.

١٦٦ ـ ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق ، المحلي بجواهره صدور المهارق (٨) ، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي.

متمم كتاب «المغرب ، في أخبار المغرب» قال فيه : وأنا أعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما

__________________

(١) الجزيرة الخضراء : بالأندلس ، بينها وبين مدينة قلشانة أربعة وستون ميلا (صفة جزيرة الأندلس ص ٧٣).

(٢) في ب : «الحشا».

(٣) بقر الشيء بقرا : شقّه.

(٤) في ب : «الحشا».

(٥) الفرث : السرجين ما دام في الكرش.

(٦) في ب : «خبّثت نفسك».

(٧) خشم الأنف : تغيرت ريحه.

(٨) المهارق : جمع مهرق وهو الصحيفة البيضاء.

٣٨٦

اعتذر به ابن الإمام في كتاب «سمط الجمان» وبما اعتذر به الحجاري في كتاب «المسهب» وابن القطّاع في «الدرة الخطيرة» وغيرهم من العلماء.

فمن نظمه عند ما ورد الديار المصرية : [بحر الكامل]

أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى

ما بينها وجها لمن أدريه

عودي على بدئي ضلالا بينهم

حتى كأني من بقايا التّيه

ويح الغريب توحّشت ألحاظه

في عالم ليسوا له بشبيه

إن عاد لي وطني اعترفت بحقه

إن التغرّب ضاع عمري فيه

وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص : [بحر الكامل]

الأفق طلق والنسيم رخاء

والروض وشّت برده الأنداء(١)

والنهر قد مالت عليه غصونه

فكأنما هو مقلة وطفاء(٢)

وبدا نثار الجلّنار بصفحه

فكأنما هو حيّة رقطاء

والشمس قد رقمت طرازا فوقه

فكأنما هي حلة زرقاء(٣)

تدعوك حيّ على الصّبوح فلا تنم

فعلى المنام لدى الصباح عفاء(٤)

وله [أيضا] : [بحر الخفيف]

كم جفاني ورمت أدعو عليه

فتوقفت ثم ناديت قائل

لا شفى الله لحظه من سقام

وأراني عذاره وهو سائل

وله من قصيدة كتب بها إلى ملك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السّبتي شافعا لشخص رغب في خدمته : [بحر الكامل]

بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد

لا فارقتك كفاية وعطاء

__________________

(١) الأنداء : جمع ندى ، وهو المطر.

(٢) المقلة الوطفاء : العين الكثيرة شعر الأهداب.

(٣) في ب : «كؤوسك».

(٤) الصبوح : أراد ما يشرب من الخمر عند الصباح.

٣٨٧

ما كلّ من طلب السعادة نالها

وطلاب ما يأبى القضاء شقاء

ومنها :

وقد استطار بأسطري نحو الندى

من أنهضته لنحوك العلياء

طلب النباهة في ذراك فما له

إلا لديك تأمّل ورجاء(١)

وهو الذي بعد التجارب أحمدت

أحواله وجرى عليه ثناء

لا يقرب الدنس المريب كواصل

هجرته خوفا أن يشان الراء

[قد مارس الحرب الزبون زمانه

وجرت عليه شدة ورخاء] (٢)

وعلاك تقضي أن يسود بأفقها

لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء

وقوله من قصيدة : [بحر الكامل]

ألف التغرّب والتوحّش مثل ما

ألف التوحّش والنفور ظباء

حجّابه ألفوا التهجّم والجفا

فهم لكل أخي هدى أعداء

مهما يرم طلب إليه تقربا

بعدت بذاك البدر عنه سماء

لكنني ما زلت أخدع حاجبا

ومراقبا حتى ألان حباء(٣)

والأرض لم تظهر محجب نبتها

حتى حبتها الديمة الوطفاء(٤)

قيل : وهذا معنى لم يسمع من غيره ، وقوله في خسوف البدر : [بحر الكامل]

شان الخسوف البدر بعد جماله

فكأنه ماء عليه غثاء(٥)

أو مثل مرآة لخود قد قضت

نظرا بها فعلا الجلاء غشاء

وله من قصيدة عتاب يقول فيها : [بحر الكامل]

ولقد كسبت بكم علا لكنها

نظرا بها فعلا الجلاء غشاء

__________________

(١) الذرى : ساحة الدار.

(٢) هذا البيت غير موجود في ه. والحرب الزبون : الشديدة المتدافعة.

(٣) الحباء : العطاء.

(٤) حبتها : أعطتها. والديمة : المطر الذي يسقط بهدوء دون برق أو رعد.

(٥) الغثاء : الزبد.

٣٨٨

فغدوت ما بين الصحابة أجربا

كلّ يحاذر مني الأعداء

ولقد أرى أن النجوم تقلّ لي

حجبا وأصغر أن أحلّ سماء

فليهجروا هجر الفطيم لدرّه

ويساعدوا الزمن الخؤون (١) جفاء

فلقد شكوت لهم إحالة ودّهم

إذ لم أكن أرضى بهم خدماء(٢)

إيه فذكرهم أقلّ ، وإنما

أومي إليك فتفهم الإيماء

لو لم يكن قيد (٣) لما فتكت ظبا

أنت الذي صيرتهم أعداء

ولو انني أرجو ارتجاعك لم أطل

شكوى ولم أستبعد الإغضاء

لكن رأيتك لا تميل سجيّة

نحوي ولا تتكلّف الإصغاء

إن لم يكن عطف فمنّوا بالنّوى

إن الكريم إذا أهين تناءى

وقوله : [بحر الكامل]

ولكم سرينا في متون ضوامر

تثني أعنتها من الخيلاء(٤)

من أدهم كالليل حجّل بالضحى

فتشقّ غرّته عن ابن ذكاء(٥)

أو أشهب يحكي غدائر أشيب

خلعت عليه الشهب فضل رداء

أو أشقر قد نمّقته بشعلة

كالمزج ثار بصفحة الصّهباء

أو أصفر قد زيّنته غرّة

حتى بدا كالشمعة الصفراء

طارت ، ولكن لا يهاض جناحها

هبّت ، ولكن لم تكن برخاء

وقوله من أبيات في افتضاض بكر : [بحر الكامل]

وخريدة ما إن رأيت مثالها

حيّت من الألحاظ بالإيماء(٦)

فسألتها سمع الشكاة فأفهمت

أن الرقيب جهينة الأنباء

__________________

(١) الخؤون : الكثير الخيانة. صيغة مبالغة من اسم الفاعل.

(٢) إحالة ودّهم : تغيره وتبدله.

(٣) في ب : «قين». والظبا : جمع ظبة وهي حدّ السيف والسّنان.

(٤) سرينا : سرنا ليلا. والمتون : الظهور ، والضوامر : جمع ضامر وهو الفرس الذي ضمر بطنه ، والخيلاء : الكبر والإعجاب.

(٥) ذكاء : الشمس. وابن ذكاء : القمر.

(٦) الخريدة : أراد : البكر.

٣٨٩

وتبعتها وسألت منها قبلة

في خلوة من أعين الرقباء

فثنت علي قوامها بتعانق

أحيا فؤادا مات بالبرحاء(١)

ووجدتها لما ملكت عنانها

عذراء مثل الدرة العذراء

جاءت إلي كوردة محمرّة (٢)

فتركتها كعرارة صفراء(٣)

وسلبتها ما احمرّ منها صفوه

فجرى مذابا منجحا لرجائي

وقوله من أبيات : [بحر الكامل]

أحبابنا عودوا علينا عودة

ما منكم بعد التفرق مرغب

كم ذا أداريكم بنفسي جاهدا

وكأنما أرضيكم كي تغضبوا

وأزيد بعدا ما اقتربت إليكم

كالسّهم أبعد ما يرى إذ يقرب

وأجوب نحوكم المنازل جاهدا

ومع اجتهادي فاتني ما أطلب(٤)

كالبدر أقطع منزلا في منزل

فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب

وقوله من أبيات [البحر الطويل] :

سألتك يا من يستلان فيصعب

ومن يترضّى بالحياة فيغضب

أما خدّك البدر المنير فلم غدت

تحلّ به ضدّ القضية عقرب(٥)

وقوله ، وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز : [بحر الطويل]

أيا سارقا (٦) ملكا مصونا ولم يجب

على يده قطع وفيه نصاب(٧)

ستندبه الأقلام عند عثارها

ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب

وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب [بحر الخفيف] :

أنا لون الشباب والخال أهدي

ت لمن قد كسا الزمان شبابا

__________________

(١) البرحاء : الشدة.

(٢) في ب : «حمراء».

(٣) العرارة : واحدة العرار وهو نبت أصفر طيب الرائحة أو هو النرجس البرّي.

(٤) أجوب المنازل : أقطعها.

(٥) العقرب : منزلة من منازل القمر.

(٦) في أ : ساقا. وهو خطأ مطبعي والتصويب من ب.

(٧) النصاب : مقدار بينه الفقه لا يقطع السارق إلا إذا بلغه المسروق.

٣٩٠

ملك العالمين نجم بني أي

وب لا زال في المعالي شهابا

جئت ملأى من الثناء عليه

من شكور إحسانه والثوابا

لست ممّن له خطاب ولكن

قد كفاني أريج عرفي خطابا(١)

وقوله من قصيدة : [بحر السريع]

فالحمد لله على ساعة

قد قرّبتني من علا الصاحب

ولعيذر المولى على أنني

قد كنت من علياه في جانب

كمن أتى نافلة أولا

ثم أتى من بعد بالواجب(٢)

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

فإن كنت في أرض التغرّب غاربا

فسوف تراني طالعا فوق غارب(٣)

فصمصام عمرو حين فارق كفه

رموه ولا ذنب لعجز المضارب(٤)

وما عزة الضّرغام إلّا عرينه

ومن مكة سادت لؤي بن غالب

وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية : [بحر الطويل]

وأجرد تبري أثرت به الثرى

وللفجر في خصر الظلام وشاح(٥)

له لون ذي عشق وحسن معشّق

لذلك فيه ذلّة وقراح(٦)

عجبت له وهو الأصيل بعرفه

ظلام وبين الناظرين صباح

يقيد طير اللحظ والوحش عندما

يطير به نحو النجاح جناح

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

إذا ما غراب البين صاح فقل له

ترفّق رماك الله يا طير بالبعد

لأنت على العشاق أقبح منظرا

وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد

__________________

(١) الأريج : طيب الرائحة وتضوعها والعرف بفتح العين وسكون الراء ـ الرائحة الطيبة.

(٢) النافلة : ما يفعله المرء زيادة ، ولم يجب عليه.

(٣) الغارب : في الأصل سنام البعير ، وأراد : ذروة الشيء.

(٤) الصمصام : هنا الصمصامة ، سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي ولهذا السيف تاريخ طويل وشغل حيزا في الشعر والأدب.

(٥) التبريّ : أراد : يشبه لونه لون الذهب.

(٦) في ب : «دلّة».

٣٩١

تصيح بنوح ثم تعثر ماشيا

وتبرز في ثوب من الحزن مسودّ

متى نحت (١) صح البين وانقطع الرجا

كأنك من وشك الفراق على وعد

وقوله في غلام جميل الصورة أهدي تفاحة : [بحر مجزوء الرمل]

ناب ما أهديت عن عر

ف وعن ريق وخدّ

حبّذا تفاحة قد

أشبهت أوصاف مهدي

بتّ منها في سرور

فكأن قد بتّ عندي

وقوله من قصيدة : [بحر البسيط]

هذا الذي يهب الدنيا بأجمعها

وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر(٢)

إن هزّه المدح فالأموال في بدد

والغصن ما هزّ إلا بدّد الثمر(٣)

[فقلت لما بدا لي حسن منظره

لكنه زاد إشراقا : هو القمر] (٤)

متّع لحاظك في وجه بلا ضرر

إن كان شمسا يداه تحتها مطر

وقوله من أبيات : [بحر الكامل]

لي جيرة ضنّوا عليّ وجاروا

فنبت بي الأوطان والأوطار(٥)

ومن العجائب أنني مع جورهم

ما قرّ لي بعد الفراق قرار

وقوله : [بحر الكامل]

أنا شاعر أهوى التخلّي دون ما

زوج لكيما تخلص الأفكار

لو كنت ذا زوج لكنت منغّصا

في كل حين رزقها أمتار(٦)

دعني أرح طول التغرب خاطري

حتى أعود ويستقر قرار

كم قائل (٧) قد ضاع شرخ شبابه

ما ضيّعته بطالة وعقار(٨)

__________________

(١) في ب : «لحت».

(٢) في ه : «يلفى وهو يعتذر» تصحيفا ، ويلفي : يوجد.

(٣) في بدد ـ مفرقة موزعة. وبدّد الثمر : فرّق.

(٤) هذا البيت غير موجود في ه.

(٥) ضنوا : بخلوا. ونبت بي الأوطان : بعدت. والأوطار : جمع وطر وهو الغرض والقصد.

(٦) أمتار : جمع الميرة أي الطعام.

(٧) في ب : «لي».

(٨) شرخ الشباب : قوته ونشاطه. والعقار ـ بضم العين ـ الخمر.

٣٩٢

إذ لم أزل في العلم أجهد دائما

حتى تأتّت هذه الأبكار

مهما أرم من دون زوج لم أكن

كلّا ورزقي دائما مدرار(١)

وإذا خرجت لفرجة هنيتها

لا ضيعة (٢) ضاعت ولا تذكار (٣)

وقوله من قصيدة : [بحر الكامل]

ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في ال

دنيا وأن أمسي غريبا معسرا

أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما

أقصاه راميه المجيد ليخبرا

وقوله سامحه الله تعالى : [بحر مخلع البسيط]

وافى عليّ لنا بسيف

والبين قد حان والوداع(٤)

فقال شبّه فقلت شمس

قد مد من نورها شعاع(٦)

وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي ، وقد هزم ابن هود (٥) : [بحر الكامل]

لله فرسان غدت راياتهم

مثل الطيور على عداك تحلّق

السمر تنقط ما تسطّر بيضهم

والنقع يترب والدماء تخلق

وقال ارتجالا بمحضر زكي الدين بن أبي الأصبغ (٧) وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة ، وقد مضى حدهم (٨) على بسيط نرجس : [بحر السريع]

يا واطئ النرجس ما تستحي

أن تطأ الأعين بالأرجل

فتهافتوا بهذا البيت ، وراموا إجازته ، فقال ابن أبي الإصبع (٩) مجيزا : [بحر السريع]

__________________

(١) الكل : العالة على غيرة. ومدرار : كثير.

(٢) في ب : «صنعة».

(٣) في ب ، ه : «لا صفة ضاعت ولا تذكار».

(٤) البين : هنا البعد.

(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ١٧٧.

(٦) السمر : الرماح والبيض : السيوف والنقع : الغبار.

(٧) في ب : «الإصبع».

(٨) في ب : «أحدهم».

(٩) في ب : «الإصبع».

٣٩٣

فقلت دعني لم أزل محرجا

على لحاظ الرّشإ الأكحل(١)

وكان أمثل ما حضرهم ، ثم أبوا أن يجيزه غيره ، فقال : [بحر السريع]

قابل جفونا بجفون ولا

تبتذل الأرفع بالأسفل(٢)

وقوله في الجزيرة الصالحية (٣) بمصر ، وهي الشهيرة الآن بالروضة : [بحر الطويل]

تأمّل لحسن الصالحية إذ بدت

مناظرها مثل النجوم تلالا(٤)

وللقلعة الغراء كالبدر طالعا

تفجّر صدر الماء عنه هلالا

ووافى إليها النيل من بعد غاية

كما زار مشغوف يروم وصالا(٥)

وعانقها من فرط شوق بحسنها

فمدّ يمينا نحوها وشمالا

جرى قادما بالسعد فاختط حولها

من السعد إعلاما بذلك دالا

وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر : [بحر الوافر]

وقد أرسلته نحو الأعادي

كما جردت من غمد حساما

وقوله في قوس : [بحر الخفيف]

أنا مثل الهلال في ظلم النّق

ع سهامي تنقضّ مثل النجوم

تقصر القضب والقنا عن مجالي

عند رجمي بها لكل رجيم(٦)

قد كستها الطيور لما رأتها

كافلات لها برزق عميم

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

وأشقر مثل البرق لونا وسرعة

قصدت عليه عارض الجود فانهمى

ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة ، فنقول :

قال لسان الدين : علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن

__________________

(١) الرشأ : ولد الغزالة.

(٢) ابتذل : امتهن.

(٣) الصالحية : نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب سابع ملوك الأيوبيين بمصر. ولم يورد ياقوت الصالحية هذه في معجم البلدان تحت هذا الاسم.

(٤) وتلالا : أصلها : تتلألأ. حذف إحدى التاءين ثم خفف الهمزة.

(٥) المشغوف : الشغف : أقصى الحب وأقواه. والمشغوف : المحب المغرم.

(٦) القضب : جمع قضيب : السيف. والقنا : أراد الرماح.

٣٩٤

سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله (١) بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي ، المدلجي (٢) ، من أهل قلعة يحصب ، غرناطي ، قلعي (٣) ، سكن تونس ، أبو الحسن بن سعيد ، وهذا الرجل وسطى عقد بيته ، وعلم أهله ، ودرة قومه ، المصنف ، الأديب ، الرحالة ، الطرفة ، الأخباري ، العجيب الشأن في التجوّل في الأقطار ، ومداخلة الأعيان ، للتمتّع (٤) بالخزائن العلمية ، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية ، أخذ من أعلام إشبيلية كأبي علي الشّلوبين ، وأبي الحسن الدباج وابن عصفور وغيرهم ، وتواليفه كثيرة : منها «المرقصات والمطربات» و «المقتطف ، من أزاهر الطرف» و «الطالع السعيد ، في تاريخ بني سعيد» تاريخ بيته وبلده (٥) ، والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار ، وهما «المغرب ، في حلى المغرب» و «المشرق ، في حلى المشرق» وغير ذلك مما لم يتصل إلينا ، فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه تخلف كتابا يسمى «المرزمة» يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلا الله تعالى ، وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله ، فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل بن مالك ، فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه : [بحر المنسرح]

كأنما النهر صفحة كتبت

أسطرها ، والنسيم ينشئها

لما أبانت عن حسن منظرها

مالت عليها الغصون تقرؤها

فطرب وأثنى عليه.

ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة ، ومازج الأدباء ، ودوّن كثيرا من نظمه ، ودخل القاهرة ، فصنع له أدباؤها صنيعا في ظاهرها ، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس ، وكان فيهم أبو الحسين (٦) الجزار فجعل يدوس النرجس برجله ، فقال أبو الحسن : [بحر السريع]

يا واطئ النرجس ما تستحي

أن تطأ الأعين بالأرجل

__________________

(١) في ب : «بن سعد».

(٢) المدلجي : نسبة إلى مدلج ، وهي قبيلة من كنانة.

(٣) قلعة يحصب : بلد بالأندلس (معجم البلدان ج ٤ ص ٣٩١) والقلعي : نسبة إليها.

(٤) في ب : «والتمتع».

(٥) في ب : «بلده وبيته».

(٦) في ج ، ه : «أبو الحسن».

٣٩٥

فتهافتوا بهذا البيت ، وراموا إجازته ، فقال ابن أبي الأصبغ : [بحر السريع]

فقال دعني لم أزل محنقا

على لحاظ الرشإ الأكحل

وكان أمثل ما حضرهم ، ثم أبوا أن يجيزه غيره ، فقال : [بحر السريع]

قابل جفونا بجفون ، ولا

تبتذل الأرفع بالأسفل

ثم استدعاه سيف الدين بن سابق إلى مجلس بضفّة النيل مبسوط بالورد ، وقد قامت حوله شمامات نرجس ، فقال في ذلك : [بحر السريع]

من فضّل النرجس فهو الذي

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام في خدمته النرجس

ووافق ذلك مماليك الترك وقوفا في الخدمة ، على عادة المشارقة فطرب الحاضرون.

ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيرا وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم ، ورحل صحبة كمال الدين بن العديم (١) إلى حلب ، فدخل على الناصر صاحب حلب ، فأنشده قصيدة أولها : [بحر الكامل]

جد لي بما لقي (٢) الخيال من الكرى

لا بد للضيف الملمّ من القرى(٣)

فقال كمال الدين : هذا رجل عارف ، ورّى بمقصوده من أول كلمة ، وهي قصيدة طويلة ، فاستجلسه (٤) السلطان ، وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته ، وأخبره أنه جمع كتابا في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق ، وأخبره أنه سماه «المشرق ، في حلى المشرق» وجمع مثله فسماه «المغرب ، في حلى المغرب» فقال : نعينك بما عندنا من الخزائن ، ونوصلك إلى ما ليس عندنا كخزائن الموصل وبغداد ، وتصنف لنا ، فخدم على عادتهم ، وقال : أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس ، ثم قال له السلطان مداعبا : إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور ، وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر ، فإن كنت ترضى به ، وإلا لم نعلم به أحدا غيرنا (٥) ، وهو البلبل ، فقال : قد رضي المملوك يا خوند ، فتبسّم السلطان. وقال له أيضا

__________________

(١) ابن العديم : هو عمر بن أحمد كمال الدين أبو القاسم.

(٢) في ب : «ألقى».

(٣) الضيف الملمّ : الضيف الزائر. والقرى ـ بكسر القاف ـ ما يقدم للضيف من الألطاف.

(٤) استجلسه : طلب إليه أن يجلس.

(٥) في ه : «وإلا لم يعلمه غيرنا».

٣٩٦

يداعبه : اختر واحدة من ثلاث : إمّا الضيافة التي ذكرتها أوّل شعرك ، وإمّا جائزة القصيدة ، وإمّا حق الاسم ، فقال : يا خوند المملوك مما لا يختنق بعشر لقم [لأنه مغربي أكول] فكيف بثلاث؟ فطرب السلطان وقال : هذا مغربي ظريف ، ثم أتبعه من الدنانير والخلع [الملوكية] (١) والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف.

ولقي بحضرته عون الدين العجمي ، وهو بحر لا تنزفه الدلاء (٢) ، والشهاب التّلّعفري ، والتاج ابن شقير ، وابن نجيم الموصلي ، والشرف بن سليمان الإربلي ، وطائفة من بني الصاحب ، ثم تحول إلى دمشق ، ودخل الموصل وبغداد ، ودخل مجلس السلطان المعظم (٣) بن الملك الصالح بدمشق ، وحضر مجلس خلوته ، وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها ، ثم رحل إلى البصرة ودخل أرّجان ، وحج ، ثم عاد إلى المغرب ، وقد صنف في رحلته مجموعا سماه ب «النفحة المسكية ، في الرحلة المكية» وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية (٤) من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر ، فنال الدرجة الرفيعة من حظوته.

حدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسن لجرّاء خدمة مالية أسندها إليه ، وقد كان بلاء (٥) منه قبل جفوة أعقبها انتشال وعناية ، فكتب إليه بنظم من جملته.

لا ترعني بالجفا ثانية

فرق له ، وعاد إلى حسن النظر إليه ، إلى أن توفي تحت بر وعناية.

مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة ، ووفاته بتونس في حدود خمسة وثمانين وستمائة ، انتهى باختصار.

وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام.

قلت : قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره المتعدد الأسفار ، ونقلت منه قوله من

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجود في ه.

(٢) لا تنزفه الدلاء : لا تستخرج ماءه كله. وهو كناية عن الغزارة.

(٣) في ب : «ابن».

(٤) إقليبية : حصن منيع بإفريقية قرب قرطاجة ، مطل على البحر (معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٧).

(٥) في ب : «بلا».

٣٩٧

قصيدة يهنئ ابن عمه الرئيس أبا عبد الله بن الحسين بقدومه من حركة هوّارة : [بحر الطويل]

أما واجب أن لا يحول وجيب

وقد بعدت دار وحان (١) حبيب(٢)

وليس أليف غير ذكر وحسرة

ودمع على من لا يرقّ صبيب

وخفق فؤاد إن هفا البرق خافقا

وشوق كما شاء الهوى ونحيب(٣)

ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى

وعذل مشوق في البكاء عجيب(٤)

ألا تعس اللوام في الحبّ قد عموا

وصمّوا ودائي ليس منه طبيب

يرومون أن يثني الملام صبابتي

ولست إلى داعي الملام أجيب

وفائي إذا ما غبت عنكم مجدّد

وغيري ذو غدر أوان يغيب

ولو لم يكن مني الوفاء سجيّة

لكنت لغير ابن الحسين أنيب

سموءل (٥) هذا العصر حاتم جوده

مهلّبه إن مارسته حروب(٦)

فتى سيّر الأمداح شرقا ومغربا

أبو دلف من دونه وخصيب(٧)

إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة

وإن نظم الأشعار قلت حبيب(٨)

وإن نثر الأسجاع قلت سميه

وإن سرد التاريخ قلت عريب(٩)

وما أحرز الصّوليّ آدابه التي

إذا ما تلاها لم يجبه أديب(١٠)

__________________

(١) في ب : «وخان».

(٢) حان حبيب : هلك.

(٣) هفا : أسرع.

(٤) يعذلني : يلومني.

(٥) في ب : «سموأل».

(٦) السموأل : هو السموأل بن عادياء صاحب حصن الأبلق الفرد مضرب المثل في الوفاء. وحاتم هو حاتم الطائي مضرب المثل في الكرم. والمهلب : هو المهلب بن أبي صفرة مضرب المثل في الشجاعة.

(٧) أبو دلف : أراد به القاسم بن عيسى العجلي ، أحد قواد الدولة العباسية في عصر المأمون وكان شجاعا جوادا ، والخصيب : أراد به الخصيب بن عبد الحميد عامل الخراج بمصر في زمن الرشيد العباسي وهو ممدوح أبي نواس.

(٨) ابن مقلة : هو محمد بن علي بن الحسين ، كان وزيرا للمقتدر العباسي وبه يضرب المثل في جودة الخط ، وحبيب : هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور.

(٩) سميه : أراد به أبا الفضل بن العميد الذي يقال فيه «بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» ، وعريب ـ بالعين مهملة ـ هو ابن محمد بن مطرف ، له مختصر تاريخ الطبري مع الاستدراك عليه وكتابة ما لم يصل إليه الطبري.

(١٠) الصولي : أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله ، الأديب البليغ الناظم الناثر النديم المصنف الراوية ، نادم الراضي والمكتفي والمقتدر العباسيين.

٣٩٨

ومنها :

وأما إذا ما الحرب أخمد نارها

ففيه تلظّي مارج ولهيب

فكم قارع الأبطال في كل وجهة

نحاها وكم لفّت عليه حروب

وكائن له بالغرب من موقف له

حديث إذا يتلى تطير قلوب

بمرّاكش سل عنه تعلم غناءه

وقد ساءهم يوم هناك عصيب

إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنه

مدير لغصن الخيزران لعوب

وإن جرّه أبصرت نجما مجرّرا

ذؤابته ، منه الكماة تذوب

يهيم به ما إن يزال معانقا

له راكعات ما تحوز كعوب

محمد ، لا تبد الذي أنت قادر

عليه ، وخف عينا علاك تصيب

نفوذ سهام العين أودى بمصعب

وطاح به بعد الشبوب شبيب

ألا فهنيئا أن رجعت لتونس

فأطلعت شمسا والسّفار غروب

كواكبها تبدو إذا ما تركتها

وقد جعلت مهما حضرت تغيب

إذا سدت في أرض فغيرك تابع

علاك ، ومهما ساد فهو مريب

ومنها :

كفاني أني أستظل بظلكم

ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب

فأصلك أصلي والفروع تباينت

بعيد على من رامه وقريب(١)

وحسبي فخرا أن أقول محمد

نسيب عليّ جل منه نصيب

تركت جميع الأقربين لقصده

على حين حانت فتنة وخطوب

رأيت به جنات عدن فلم أبل

إذا وصلتنا للخلود شعوب(٢)

فقبّلت كفا لا أعاب بلثمها

وأيدي الأيادي لثمهن وجوب

وكيف وليس الرأس كالرّجل ، فرّقت

شيات لعمري بيننا وضروب

ولو كان قدري مثل قدرك في العلا

لحق بأن يعلو الشباب مشيب

ولولا الذي أسمعت من مكر حاسد

أتاك بقول وهو فيه كذوب

__________________

(١) تباينت : تباعدت.

(٢) لم أبل.

٣٩٩

لما كنت محتاجا لقولي آنفا

تخليت من ذنب وجئت أتوب

إذا كنت ذا طوع وشكر وغبطة

فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب

لقد كنت معتادا ببشر فما الذي

تقلدته حتى يزال قطوب

أإن رفع السلطان سعيي بقربكم

أحلأ عن ورد لكم وأخيب(١)

فأحسب ذنبي ذنب صحر بدارها

ألي البرّ عند الخابرين معيب(٢)

وحاشاك من جور علي ، وإنما

أخاطب من أصفو (٣) له فيشوب

صحاب هم الداء الدفين فليتني

ولم أدن منهم ، للذئاب صحوب(٤)

كلامهم شهد ولكن فعلهم

كسمّ له بين الضلوع دبيب

سأرحل عنهم والتجارب لم تدع

بقلبي لهم شيئا عليه أثيب(٥)

إذا اغترب الإنسان عمن يسوءه

فما هو في الإبعاد عنه غريب

فدارك برأب منك ما قد خرقته

ليحسن مني مشهد ومغيب(٦)

ولا تستمع قول الوشاة فإنما

عدوهم بين الأنام نجيب

فياليت أني لم أكن متأدبا

ولم يك لي أصل هناك رسوب

وكنت كبعض الجاهلين محببا

فما أنا للهم الملمّ حبيب

وما إن ضربت الدهر زيدا بعمره

ولم يك لي بين الكرام ضريب(٧)

أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت

عداتي حتى حان منك وثوب

سأشكر ما أولى وأصبر للذي

توالى ، على أن العزاء سليب

فدم في سرور ما بقيت فإنني

وحقك مذ دب الوشاة كئيب

قال : وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر

__________________

(١) حلّأه عن الماء وغيره : تحليئا وتحلئه : حبسه عنه ومنعه.

(٢) صحر : هي ابنة لقمان. قيل إنه لما قتل زوجته لقيته ابنته صحر فقتلها دون ذنب وقال : وهل أنت إلا امرأة؟.

(٣) في ب : «أصفي».

(٤) صحوب : صيغة مبالغة لاسم الفاعل صاحب على وزن فعول.

(٥) أراد بأثيب : أجازي وأكافىء.

(٦) رأب الصدع : إصلاحه.

(٧) الضريب : المثل.

٤٠٠