نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله ، أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان ، ولذا تضعف استنباطاته وتعقّباته على أهل هذا الشأن ، وينفر من المنازعة ، والمباحثة والمراجعة ، قال : وهذا شأن من يقرأ بنفسه ، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه ، ولقد طال فحصي وتنقيري عمن قرأ عليه ، واستند في العلم إليه ، فلم أجد من يذكر لي شيئا من ذلك ، ولقد جرى يوما مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال : ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده جيان ، وأنه جلس في حلقة الأستاذ أبي علي الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما ، وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن ، وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن ، هذا حاصل ما ذكره أبو حيان.

قال بعض المحققين ، وهو العلامة يحيى العجيسي : وليس ذلك منه بإنصاف ، ولا يحمل على مثله إلا هوى النفس وسرعة الانحراف ، فنفيه المسند عنه والمتبع ، شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع ، ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه : نظم في هذا العلم كثيرا ونثر ، وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب ، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب ، وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة ، إذ هي مرتبة الأكابر النقاد ، وأرباب النظر والاجتهاد ، وقوله في موضع آخر من تذييله «لا يكون تحت السماء أنحى ممن عرف ما في تسهيله» وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه (١) ، ولا أن يحط عليه ، ولا أن يقع فيما وقع فيه ، فإنه مما يجرّيء على أمثاله الغبي والنبيه ، والحليم والسفيه ، وما هذا جزاء السلف من الخلف ، والدرر من الصدف ، والجيد من الحشف ، أو ما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله بن النحاس ، فإنه لا يذكره إلا بأحسن ذكر كما هو دأب خيار الناس ، ومن كلامه في نقله عنه ، وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول ، وإلى تلميذه أبي البقاء الحافظ (٢) المصري حيث يقول فيه ، أعني في أبي حيان : [الطويل]

هو الأوحد الفرد الّذي تمّ علمه

وسار مسير الشّمس في الشّرق والغرب

ومن غاية الإحسان مبدأ فضله

فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب

ومن غاية الإحسان ، في هذا الشان ، التصانيف التي سارت بها الركبان ، في جميع الأوطان ، واعترف بحسنها الحاضر والبادي ، والداني والقاصي ، والصديق والعدو ، فتلقاها بالقبول والإذعان ، فسامح الله تعالى أبا حيان! فإن كلامه يحقق قول القائل : كما تدين تدان ،

__________________

(١) غمصه : احتقره ، وتهاون بحقه.

(٢) الحافظ : ساقطة من ب.

٣٦١

ورحم الله تعالى ابن مالك! فلقد أحيا من العلم رسوما دلوسة (١) ، وبين معالم طامسة ، وجمع من ذلك ما تفرق ، وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق ، ورحم شيخه ثابت بن الخيار ، فإنه كان من الثقات الأخيار! وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي ـ بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة ـ وأصله من لبلة ، ويعد في أهل جيّان وتوفي بغرناطة سنة ٦٢٨ ، وكان أبو حيّان يغض من هذا الكتاب ويقول : ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد ، وكثيرا ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى بمنهج السالك (٢) ، ومن غضّه منه بالنظم في ملأ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين بن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفيا له ومتأسيا في تسويد القرطاس : [مجزوء الرجز]

ألفيّة ابن مالك

مطموسة المسالك

وكم بها مشتغل

أوقع في المهالك

ولا تغتر أنت بهذا الغرر ، فإنه ما كل سحاب أبرق ممطر ، ولا كل عود أورق مثمر ، وقيل معارضة للقوم ، وتنبيها لهم مما هم فيه من النوم : [مجزوء الرجز]

ألفيّة ابن مالك

مشرقة المسالك

وكم بها من مشتغل

علا على الأرائك

وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى : [الرجز]

يا عائبا ألفيّة ابن مالك

وغائبا عن حفظها وفهمها

أما تراها قد حوت فضائلا

كثيرة فلا تجر في ظلمها

وازجر لمن جادل من يحفظها

برابع وخامس من اسمها

يعني «صه» فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت ، انتهى ملخصا.

وقال أيضا عند ذكره مصنفات ابن مالك : وهي كما قيل غزيرة المسائل ، ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل ، وهي مع ذلك كثيرة الإفادة ، موسومة بالإجادة ، وليست هي (٣) لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه ، بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه ، انتهى.

__________________

(١) في ب : رسوما دارسة.

(٢) جاء في بغية الوعاة ج ١ ص ٤٨٢ : ثابت بن محمد بن يوسف بن حيان الكلاعي أبو الحسين الغرناطي. كان فاضلا نحويا ماهرا مقرئا ، معروفا بالزهد والفضل والجودة والانقباض.

(٣) هي : ساقطة من ب.

٣٦٢

واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم ، وكثير من أبياتها فيها بلفظها ، ومتبوعه فيها ابن معطي ، ونظمه أجمع وأوعب ، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب ، وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد ، واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق «المقدمة الأسدية» قال : وأما هذه ـ يعني الألفية ـ فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي ، ويقال : إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد ، ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة ، انتهى مختصرا.

وقال بعض من عرّف بابن مالك : هو مقيم أود ، وقاطع لدد (١) ، ومزين سماء موّهت الأصائل ديباجتها ، وشعشعت البكر زجاجتها ، وجاءت أيامه صافية من الكدر ، ولياليه وما بها شائبة من الكبر ، قد خلّقها العشي بردعه ، وخلفها الصباح بربعه ، فكان كل متعين حول مسجده ، وكل عين فاخرة بعسجده ، هذا وزمر الطلاب ، وطلبة الأجلاب ، لا تزال تزجي إليه القلاص (٢) ، وتكثر من سربه الاقتناص ، كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع كثرة الديانة والصلاح ، انتهى.

وقال بعض المغاربة : [الطويل]

لقد مزّقت قلبي سهام جفونها

كما مزّق اللّخميّ مذهب مالك

وصال على الأوصال بالقدّ قدّها

فأضحت كأبيات بتقطيع مالك

وقلّدت إذ ذاك الهوى لمرادها

كتقليد أعلام النّحاة ابن مالك

وملّكتها رقّي لرقّة لفظها

وإن كنت لا أرضاه ملكا لمالك

وناديتها يا منيتي بذل مهجتي

ومالي قليل في بديع جمالك

ويعني بقوله «بتقطيع مالك» مالك بن المرحّل السّبتي رحمه الله تعالى!.

ولما سئل ابن مالك عن قول النبي صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» هل هو بالراء أو بالنون؟ أنكر النون ، فقيل له : إن في الغريبين للهروي ، رواية بالنون ، فرجع عن قوله الأول ، وقال : إنما هو بالنون ، انتهى.

__________________

(١) اللدد : الخصومة الشديدة.

(٢) القلاص : جمع قلوص ، وهي الناقة الطويلة القوائم.

٣٦٣

وقد ذكر في المشارق النون والراء ، فقال «الحور بعد الكور» بالراء رواه العذري وابن الحذاء ، وللباقين بالنون ، معناه النقصان بعد الزيادة ، وقيل : من الشذوذ بعد الجماعة ، وقيل : من الفساد بعد الصلاح ، وقيل : من القلة بعد الكثرة ، كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت ، وحارها إذا نقضها فافترقت ، ويقال : حار إذا رجع عن أمر كان عليه ، ووهّم بعضهم رواية النون ، وقيل : معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير مما رجع إليه ، وقال عياض في موضع آخر بعد : الحور بعد الكور ، كذا للعذري ، والكون للفارسي والسجزي (١) وابن ماهان ، وقول عاصم في تفسيره «حار بعد ما كار» وهي روايته ، ويقال : إن عاصما وهم فيه ، انتهى.

والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلّكان ، لأن ابن الأثير سأل ابن خلكان عنها ، فسأل هو ابن مالك ، رحم الله تعالى الجميع!

وقد عرف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام ، وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد ، وأنه كان حادّ الذهن ، ذكيا ، إماما في النحو وعلم المعاني والمنطق ، جيد المشاركة في الفقه والتدريس ، وأنه تصدّر بعد والده للتدريس ، ومات شابا قبل الكهولة سنة ٦٨٦ ، ومن أجلّ تصانيفه شرحه على ألفية والده ، وهو كتاب في غاية الإغلاق (٢) ، ويقال : إنه نظير الرضي في شرح الكافية ، وللناس عليه حواش كثيرة ، رحمه الله تعالى أجمعين!

١٤٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي التدّميري (٣) ، ويعرف بالشهيد.

كان عظيم القدر جدا بالأندلس ، بعيد الأثر في الخير والصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى ، وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة ، وبرع بخصاله المحمودة ، فكان في نفسه فقيها ، عالما ، زاهدا ، خيّرا ، ناسكا ، متبتلا ، نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدّعة ، وطلب العلم في حدثان سنه (٤). ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقه وناظر ، وأخذ بحظ وافر من علم المسألة والجواب ، وكان أكثر علمه وعمله الورع ، والتشدد فيه ، والتحفظ بدينه ومكسبه ، ورسخ في علم السّنّة ، ثم ارتحل إلى المشرق ، فمرّ بمصر حاجّا ، فأقام بالحرمين ثمانية أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ ، ثم سار إلى

__________________

(١) في ه : والشجري.

(٢) أي أنه محكم إحكاما جيدا.

(٣) نسبة إلى تدمير ، من كور الأندلس ، سميت باسم ملكها تدمير (صفة جزيرة الأندلس ص ٦٢).

(٤) في حدثان سنة : في صغره.

٣٦٤

العراق ، فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه ، وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم ، ولبس الصوف ، وقنع ، وتورع جدا ، وأعرض عن الشهوات ، وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضة لها ، فأصبح عابدا متقشفا منيبا مخبتا (١) عالما عاملا منقطع القرين (٢) ، قد جرت منه دعوات مجابة ، وحفظت له كرامات ظاهرة ، ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة ، وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيا ، فنزل خارج مدينة مرسيّة تورّعا عن سكناها وعن الصلاة في جامعها ، فاتخذ له بيتا سقفه من حطب السّدر (٣) يأوي إليه ، واعتمر جنينة بيده يقتات منها ، وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر ، ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر ، وواصل الرّباط ، ونزل مدينة طلبيرة ، وكان يدخل منها في السرايا إلى بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانة ، ويعوّل على فرس له ارتبطه لذلك ، وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة ، يحدّث عنه فيها بحكايات عجيبة ، إلى أن استشهد مقبلا غير مدبر ، سنة ٣٧٩ ، أو في التي قبلها ، عن اثنتين وأربعين سنة ، وأبوه حي ، رحم الله تعالى الجميع!

١٤٦ ـ ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور.

مولده سنة ٥٩٠ بقيجاطة (٤) ، وكتب عنه الحافظ المنذري ، ومن شعره قوله : [بحر الطويل]

إذا كنت تهوى من نأت عنك داره

فحسبك ما تلقى من الشوق والبعد

فيا ويح صبّ قد تضرّم ناره

ووا حرّ قلب ذاب من شدة الوجد

١٤٧ ـ ومنهم أبو عبد الله ـ ويقال : أبو حامد ـ محمد بن عبد الرحيم ، المازنيّ ، القيسي ، الغرناطي.

ولد سنة ٤٧٣ ، ودخل الإسكندرية سنة ٥٠٨ ، وسمع بها من أبي عبد الله الرازي ، وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم ، وحدّث بدمشق ، وسمع أيضا بها وببغداد ، وقدمها سنة ٥٥٦ ، ودخل خراسان ، وأقام بها مدة ، ثم رجع إلى الشام ، وأقام بحلب سنين ، وسكن دمشق ، وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى ، ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى

__________________

(١) المخبت : المتواضع.

(٢) منقطع القرين : منقطع النظير والمثيل.

(٣) السّدر : بكسر السين وسكون الدال : شجر النبق.

(٤) قيجاطة : مدينة بالأندلس من عمل جيان (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ١٦٥).

٣٦٥

ما لا يليق ، وصنف في ذلك كتابا سماه «تحفة الألباب» وكان حافظا عالما أديبا ، وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر ، وزنّه (١) بالكذب ، وقال ابن النجار : ما علمته إلا أمينا.

ومن شعره قوله : [بحر الرمل]

تكتب العلم وتلقي في سفط

ثم لا تحفظ؟ لا تفلح قط

إنما يفلح من يحفظه

بعد فهم وتوقّ من غلط

وقوله : [بحر البسيط]

العلم في القلب ليس العلم في الكتب

فلا تكن مغرما باللهو واللعب

فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به

فالعلم لا يجتنى إلا مع التعب

توفي بدمشق في صفر سنة ٥٦٥.

١٤٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ، القرطبي ، من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رحل قبل الأربعين ومائتين ، فحجّ ، وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزّمن ونصر بن عليّ الجهضمي ، ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي ، وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام ، وبمكة من محمد بن يحيى العدني ، وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزّاق والبرقي وغيرهما ، وأدخل الأندلس علما كثيرا من الحديث واللغة والشعر ، وكان فصيحا جزل المنطق ، صارما ، ألوفا (٢) ، منقبضا عن السلطان ، أراده على القضاء فأبى ، وقال : إباية إشفاق لا إباية عصيان ، فأعفاه ، وكان ثقة مأمونا ، وتوفي في رمضان سنة ٢٨٦ عن ثمان وستين سنة ، رحمه الله تعالى!.

١٤٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج ، القرطبي.

سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه ، وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال ، ورحل سنة ٢٧٤ ، فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام بن داود الرعيني ، وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله بن أحمد بن حنبل.

قال الحميدي : حدّث بالمغرب وبالمشرق ، وصنف السنن ، وممن روى عنه خالد بن

__________________

(١) زنّه : اتّهمه.

(٢) في نسخة ب : أنوفا.

٣٦٦

سعيد ، وقال لنا أبو محمد بن حزم : مصنّف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات ، وتوفي في ذي القعدة سنة ٣٣٠ ، بقرطبة ، رحمه الله تعالى!.

١٥٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون [بن مروان] (١) ، اللخمي ، الرصافي ، القرطبي ، الحداد.

سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ ، وحج سنة ٤٤٩ (٢) سنة ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه ، وسمع بمكة من ابن الأعرابي ، وبمصر من ابن الورد ، وأبي علي بن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة ، وكان رجلا صالحا ، عدلا ، حدث وكتب عنه الناس ، وعلت سّنه ، وتوفي بشوال سنة ٣٩٤ ، وولد فيما أظن سنة ٣٠٢ ، وكانت وفاته بقرطبة ، وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه ، وممن أخذ عنه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٥١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك ، الخزرجي ، السعدي ، القرطبي.

روى عن أبي الحسن علي بن هشام ، وروى عنه أبو القاسم بن بشكوال وقدم مصر وحدث بها ، وممن سمع منه بهاء بن وردان وأبو الرضا (٣) القيسراني في آخرين ، واستوطن مصر ، وتوفي سنة ٥٨٨.

١٥٢ ـ ومنهم أبو بكر بن السرّاج ، النحوي ، بتشديد الراء.

وهو محمد بن عبد الملك بن محمد بن السّرّاج الشّنتمري ، أحد أئمة العربية المبرزين فيها ، ويكفيه فخرا أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي ، وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد النفطي ، وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر ، وقدم مصر سنة ٥١٥ ، وأقام بها ، وأقرأ الناس العربية ، ثم انتقل إلى اليمن ، وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار ، وله تواليف منها «تنبيه الألباب ، في فضل الإعراب» وكتاب في العروض ، وكتاب «مختصر العمدة» لابن رشيق وتنبيه أغلاطه.

__________________

(١) ساقطة في نسخة ب.

(٢) سنة ٣٣٩ في نسخة ب.

(٣) أبو الرضى في نسخة ب.

٣٦٧

قال السّلفي : كان من أهل الفضل الوافر ، والصلاح الظاهر ، وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو ، وكثيرا ما كان يحضر عندي ـ رحمه الله تعالى! مدة مقامي بالفسطاط ، توفي بمصر سنة ٥٤٩ ، وقيل : سنة خمس وأربعين ، وقيل : خمسين وخمسمائة ، برمضان ، والأول أثبت.

١٥٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد العنسي ، ويكنّى أيضا أبا القاسم ، الغرناطي.

سمع من الجلّة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد : منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد بن داود بدمشق ، وكتب الحديث وعني بالرواية أتم عناية ، وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة.

١٥٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع ، بالدال المهملة ، وقيل : بالراء.

قرطبي ، سمع عبد الملك بن حبيب ، ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره (١) ، وكان زاهدا فاضلا ، وتوفي سنة ٢٨١ ، رحمه الله تعالى!.

١٥٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد ، المعافري ، القرطبي.

ولد بقرطبة سنة ٣٥٨ ، ودخل مصر فسمع من أبي بكر بن المهندس وأبي بكر البصري ، وروى عن أبي عبد الله بن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة ، ولقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد في رحلته سنة ٣٨١ فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها ، وحج من عامه ، ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة ٣٨٢ ، وكان معتنيا بالأخبار والآثار ، ثقة فيما رواه وعني به ، خيّرا ، فاضلا ، دينا ، متواضعا ، متصاونا ، مقبلا على ما يعنيه ، صاحب حظ من الفقه ، وبصر بالمسائل ، ودعي إلى الشورى بقرطبة فأبى ، ومات سنة ٤٣٩.

وعابد جده بالباء الموحدة ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٥٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد (٢) ، الأنصاري البلنسي.

أخذ القراءات عن جماعة من أهل بلده ، وخرج حاجّا سنة ٥٧١ ، فجاور بمكة ، وسمع

__________________

(١) الحارث بن مسكين هو أبو عمر الحارث بن مسكين ، مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان. كان فقيها على مذهب مالك بن أنس وكان ثقة في الحديث مثبتا (وفيات الأعيان ج ٢ ص ٥٦).

(٢) في بغية الوعاة : سنة ٥٣٠ وكذلك في (ب).

٣٦٨

بها وبالإسكندرية من السّلفي ، وعاد إلى بلده سنة ٥٩٦ ، وحدّث وكان من أهل الصلاة والفضل والورع ، كثير البر ، ومفاداة الأسرى ، ويحترف بالتجارة ، ومولده بعد سنة ٥٢٠ (١) ، ومات سنة ٥٩٨ بمرسية ، رحمه الله تعالى!.

١٥٧ ـ ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة ، القرطبي ، المالكي ، الحافظ.

ولد سنة ٤٧٩ ، وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد بن رشد ، والحديث عن ابن عتاب ، وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان ، وأخذ الأدب عن [مولانا] (٢) أبي الحسين سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي ، وعن مالك بن عبد الله العتبي ، وخرج من قرطبة في الفتنة بعد ما درس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله ، وأقام بالإسكندرية خوفا من بني عبد المؤمن بن علي ، ثم قال : كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ، ثم سافر إلى مصر بعد ما روى عنه السّلفي ، وأقام بها مدة ، ثم قال : والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدين ، ثم سافر إلى الصعيد ، وحدّث في قوص بالموطإ ، ثم قال : والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد ، فمضى إلى مكة ، وأقام بها ، ثم قال : وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج؟ ما أنا إلا هربت منه إليه! ثم دخل اليمن ، فلما رآها قال : هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن ، فتوجه إلى الهند ، فأدركه (٣) وفاته بها سنة ٥٥١ ، وقيل : بل مات بزبيد من مدن اليمن ، وكان من جلة العلماء ، الحفاظ متقنا متفننا في المعارف كلها جامعا لها ، كثير الرواية ، واسع المعرفة ، حافل الأدب ، من كبار فقهاء المالكية ، يتصرف في علوم شتى حافظا للآداب ، عارفا بشعراء الأندلس ، وكان علمه أوفر من منقطه ، ولم يرزق فصاحة ولا حس إيراد (٤).

قال ابن نقطة : خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين.

١٥٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل ، السلمي ، المرسي.

قال ابن النجار : ولد بمرسية سنة ٥٧٠ ، وقال غيره : في التي قبلها ، وخرج من بلاد المغرب سنة ٦٠٧ ، ودخل مصر ، وسار إلى الحجاز ، ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد ، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنّظامية ، ثم سافر إلى خراسان ، وسمع بنيسابور وهراة ومرو ، وعاد إلى بلاد بغداد ، وحدّث بكتاب السنن الكبرى (٥) للبيهقي عن

__________________

(١) في ه ، وغاية النهاية ج ٢ ص ١٧٩ : ابن هاجر وفي التكملة ص ٥٥٩ : ابن ماجه.

(٢) ساقطة في ب.

(٣) في ب : «فأدركته».

(٤) في ب : «والله أعلم».

(٥) في ب : «السنن الكبير».

٣٦٩

منصور بن عبد المنعم الفراوي ، وبكتاب غريب الحديث للخطابي ، وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي ، وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزّعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة ٦٥٥ ، ودفن بتل الزعقة ، وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة ، وله فهم ثاقب ، وتدقيق في المعاني ، مع النظم والنثر المليح ، وكان زاهدا ، متورعا ، حسن الطريقة ، متدينا ، كثير العبادة ، فقيها ، مجردا ، متعففا ، نزه النفس ، قليل المخالطة لأوقاته ، طيب الأخلاق ، متوددا ، كريم النفس ، قال ابن النجار : ما رأيت في فنه مثله ، وكان شافعي المذهب ، وله كتاب تفسير القرآن سماه «ري الظمآن» كبير جدا ، وكتاب «الضوابط الكلية» في النحو ، وتعليق على الموطأ ، وكان مكثرا شيوخا وسماعا ، وحدّث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز ، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتبا في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه ، وكان كريما. قال أبو حيان : أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة ، وكان ضعيفا ، فقال له : خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط ، فرفعت ذلك ، فوجدت تحته أكثر (١) من أربعين دينارا ذهبا ، فأخذتها.

١٥٩ ـ وقال الجمال اليغموري : أنشدني لنفسه بالقاهرة : (٢) [بحر الكامل]

قالوا فلان قد أزال بهاءه

ذاك العذار وكان بدر تمام

فأجبتهم بل زاد نور بهائه

ولذا تضاعف فيه فرط غرامي

استقصرت ألحاظه فتكاتها (٣)

فأتى العذار يمدها بسهام

ومن شعره قوله : [بحر الكامل]

من كان يرغب في النّجاة فما له

غير اتباع المصطفى فيما أتى

ذاك السبيل المستقيم ، وغيره

سبل الغواية والضلالة والرّدى

فاتبع كتاب الله والسنن التي

صحت ، فذاك إذا اتبعت هو الهدى

ودع السؤال بكم وكيف فإنه

باب يجرّ ذوي البصيرة للعمى

__________________

(١) في ب : «نحوا».

(٢) في معجم الأدباء : فمن شعره ، أي شعر السلمي المرسي. (انظر ج ١٨ ـ ص ٢١٢).

(٣) فتكاتها : جمع فتكة. اسم مرة من الفعل فتك.

٣٧٠

الدين ما قال النبي وصحبه

والتابعون ومن مناهجهم قفا(١)

١٥٩ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله ، البنتي ، الأندلسي ، الأنصاري.

قدم مصر ، وأقام بالقرافة (٢) مدة ، وكان شيخا صالحا زاهدا فاضلا ، وتوجه إلى الشام فهلك.

قال الرشيد العطار : كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم ، ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة ، وكان يتكلم بألسنة شتى.

ومن شعره قوله : [بحر الطويل]

إذا قلّ منك السّعي فالعزم ناشد

وكلّ مكان في مرائك واحد

توجّه بصدق واتّق المين واقتصد

تجئك رهينات النجاح المقاصد

والبنتي ـ بضم الباء ، وسكون النون ـ نسبة إلى بنت حصن بالأندلس ، ويقال «بونت» بزيادة واو.

١٦٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ، الخولاني ، الباجي ، ثم الإشبيلي ، المعروف بابن القوق.

سمع بقرطبة من جماعة ، ورحل إلى المشرق سنة ٢٦٦ ، فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره ، وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد ، وكان فقيها في الرأي ، حافظا له ، عاقدا للشروط ، قال ابن الفرضي : كان رجلا صالحا ، ورعا ثقة ، وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه ، وكان يقول إذا حدث عنه : كان من معادن الصدق ، توفي سنة ٣٠٨.

١٦١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ، اللوشي ، الطبيب.

اشتغل بالطب ، وبرع فيه ، وأقام بمصر مدة ، وبها مات في عشر الستين وستمائة.

١٦٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون ، العذري ، القرطبي.

رحل سنة ٣٣٧ ، فدخل مصر والبصرة ، وعني بعلم الطب ، ودبر مارستان مصر ، ثم

__________________

(١) قفا منهجه : تبعه.

(٢) القرافة : خطة بالفسطاط من مصر ، وفيها مقبرة أهل مصر ، وفيها أبنية جليلة ومحالّ واسعة وسوق ومشاهد للصالحين. وبها قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه (معجم البلدان ج ٥٤ ص ٣١٧).

٣٧١

رجع إلى الأندلس سنة ٣٦٠ ، واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد ، وله في التكسير (١) كتاب حسن.

قال صاعد : تمهر في الطب (٢) ، ونبل فيه ، وأحكم كثيرا من أصوله ، وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة ، وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي ، وكان قبل أن يتطبب مؤدبا للحساب والهندسة ، وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي ، أنه لم يلق في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب ، ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها رحمه الله تعالى!.

١٦٣ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر (٣) ، الإيادي ، الأندلسي (٤).

صاحب البيت الشهير بالأندلس ، رحل المذكور إلى المشرق ، وتطبب به زمانا ، وتولى رياسة الطب ببغداد ثم بمصر ، ثم القيروان ، ثم استوطن مدينة دانية (٥) ، وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب ، واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى فاق أهل زمانه ، ومات في مدينة دانية ، رحمه الله تعالى!.

ووالده محمد بن مروان كان عالما بالرأي حافظا للأدب ، فقيها ، حاذقا بالفتوى ، متقدما فيها ، متقنا للعلوم ، فاضلا ، جامعا للدراية والرواية ، وتوفي بطلبيرة (٦) سنة ٤٢٢ ، وهو ابن ست وثمانين سنة ، حدث عنه جماعة من علماء الأندلس (٧) ، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل ، رحمه الله تعالى!.

وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه : إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه ، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه ، وتوفي ممتحنا (٨) من نغلة (٩) بين كتفيه سنة ٥٢٥ بمدينة قرطبة ، انتهى.

__________________

(١) التكسير : علم من علوم التنجيم.

(٢) في ه : «تمهر بالطب».

(٣) في السيوطي : «ابن زهير» محرفا.

(٤) انظر ترجمته في ابن أبي أصيبعة ج ٢ ص ٦٦.

(٥) دانية : مدينة بشرقي الأندلس ، حسنة لها ربض عامر ، وعليها سور حصين. (صفة جزيرة الأندلس ص ٧٦).

(٦) طلبيرة : هي أقصى ثغور المسلمين بالأندلس وهي مدينة كبيرة (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٨).

(٧) في ب : «الأندلس».

(٨) ممتحن : مبتليا.

(٩) النغلة : فساد الجرح.

٣٧٢

وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة ، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته : أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجل سامعا للنداء ، دافعا للتطاول والاعتداء ، لم ينظم الله تعالى بلبّتك الملك عقدا ، وجعل لك حلّا للأمور وعقدا ، وأوطأ لك عقبا ، وأصار من الناس لعونك منتظرا ومرتقبا ، إلا أن تكون للبرية حائطا ، وللعدل فيهم باسطا ، حتى لا يكون فيهم من يضام ، ولا ينال أحدهم اهتضام ، ولتقصر يد كل معتد في الظلام ، وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا ، وأوضحت له إلى الاستطالة سننا ، لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته ، ولا تمادى على غيه إلا حين لم تنهه أو نهيته ، ولما علم أنك لا تنكر عليه نكرا ، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكرا ، جرى في ميدان الأذية ملء عنانه ، وسرى إلى ما شاء بعدوانه ، ولم يراقب الذي خلقه ، وأمدّ في الحظوة عندك طلقه ، وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور ، ولتسكن بك الفلاة والغور (١) ، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق ، وأخفق به كلّ فريق ، وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وما تخفى عليه نجواك ، ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك (٢) ، وستقف بين يدي عدل حاكم ، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم ، قد علم كل قضية قضاها ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فبم تحتج معي لديه ، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه؟ أترى ابن زهر ينجيك في ذلك المقام ، أو يحميك من الانتقام ، وقد أوضحت لك المحجّة (٣) ، لتقرم عليك الحجة ، والله سبحانه النصير ، وهو بكل خلق بصير ، لا رب غيره ، والسلام (٤).

وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقا : [بحر الطويل]

أتاني ورحلي بالعراق عشية

ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا

نعيّ أطار القلب عن مستقرّه

وكنت على قصد فأغلطني القصدا

نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف ، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف ، لقد سام الردى منه حسنا وجمالا ووسامة ، وطوى بطيّه نجده وتهامه ، فعطل منه النّديّ والنّدى ، وأثكل فيه الهديّ والهدى ، كم فلّ السيوف طول قراعه ، ودل عليه الضيوف موقد ناره

__________________

(١) الغور : المطمئن المنخفض من الأرض.

(٢) مثواك : إقامتك.

(٣) المحجة : الطريق.

(٤) في ب : «انتهى».

٣٧٣

ببقاعه (١) ، وكم تشوف إليه السرير والمنبر ، وتصرف فيه الثناء المحبّر ، وكم راع البدر ليلة إبداره ، وروّع العدو في عقر داره ، وأي فتى غدا له البحر ضريحا ، وأعدى عليه الحين ماء وريحا ، فبدل من ظلل على ومفاخر ، بقعر بحر طامي اللجج زاخر ، وبدل من صهوات الخيل ، بلهوات اللجج والسّيل ، غريق حكى مقلتي في دمعها ، وأصاب نفسي في سمعها ، ومن حزن لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده ، ولا ثرى تروي به تهائمه ونجوده ، وقد آليت أن لا أودع الريح تحية ، ولا يورثني هبوبها أريحية ، فهي التي أثارت في الموج حنقا (٢) ، ومشت عليه خببا وعنقا (٣) ، حتى أعادته كالكثبان (٤) ، وأودعته قضيب بان ، فيا أسفا لزلال غاض في أجاج ، ولسلسال فاض عليه بحر عجّاج ، وما كان إلا جوهرا ذهب إلى عنصره ، وصدفا بان عن عين مبصره ، لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام (٥) ، وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام (٦) وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام ، ينحن فتى ما ذرّت الشمس إلا ضر أو نفع ، ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع ، فكم نعمنا بدنوه ، ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوّه ، وأقمنا بروضة موشيّة ، ووقفنا بالمسرات عشيّة ، وأدرناها ذهبا سائلة ، ونظرناها وهي شائلة ، لم نرم السهر ، ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر ، ولو غير الحمام (٧) زحف إليه جيشه ، أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه ، لفداه من أسرته كل أروع (٨) إن عاجله المكروه تثبطه ، أو جاءه الشر تأبطه ، ولكنها المنايا لا تردّها الصّوارم والأسل (٩) ، ولا تفوتها ذئاب الغضا العسّل (١٠) ، قد فرقت بين مالك وعقيل ، وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصّقيل ، انتهى.

وقد عرّفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع.

رجع إلى بيت بني زهر رحمهم الله تعالى ـ وأما أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور ، فهو عين ذلك البيت ، وإن كانوا كلهم أعيانا علماء رؤساء حكماء وزراء ، وقد نالوا المراتب العلية ، وتقدّموا عند الملوك ، ونفذت أوامرهم ، قال

__________________

(١) في ب : «بيفاعه».

(٢) الحنق : الغيظ.

(٣) الخبب والعنق : ضربان من السير السريع.

(٤) الكثبان : جمع كثيب ، وهو الرمل المتراكم.

(٥) يشام : يسلّ من غمده.

(٦) البشام : شجر طيب الرائحة صغير الورق لا ثمر له.

(٧) الحمام : الموت.

(٨) الأروع : الشهم الذكي.

(٩) الأسل : الرماح.

(١٠) العسل : من كان في لونة غبرة من الذئاب.

٣٧٤

الحافظ أبو الخطاب بن دحية في «المطرب ، من أشعار أهل المغرب» : كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين ، ومورد من الطّلب عذب معين ، وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب ، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب ، والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب ، مع سمو النسب ، وكثرة الأموال والنّشب (١) ، صحبته زمانا طويلا ، واستفدت منه أدبا جليلا ، وأنشد من شعره المشهور قوله : [بحر الكامل]

وموسّدين على الأكفّ خدودهم

قد غالهم نوم الصّباح وغالني

ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم

حتى سكرت ونالهم ما نالني

والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها

إني أملت إناءها فأمالني

ثم قال ابن دحية : وسألته عن مولده ، فقال : ولدت سنة سبع وخمسمائة ، قال : وبلغتني وفاته آخر سنة ٥٩٥ ، رحمه الله تعالى! انتهى.

وزعم ابن خلكان أن ابن زهر ألمّ في الأبيات المذكورة بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله: [بحر الكامل]

عاقرتهم مشمولة لو سالمت

شرّابها ما سمّيت بعقار

ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت

صرعى تداس بأرجل العصّار

لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت

منهم وصاحت فيهم بالثار

ومن المنسوب إلى أبي بكر بن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء ، [وهو من أجلّ كتبهم وأكبرها] [الخفيف] :

حيلة البرء صنعة لعليل

يترجّى الحياة أو لعليله(٢)

فإذا جاءت المنية قالت :

حيلة البرء ليس في البرء حيله

ومن شعره رحمه الله تعالى يتشوّق ولدا له صغيرا بإشبيلية وهو بمراكش : [المتقارب]

ولي واحد مثل فرخ القطاة

صغير تخلّفت قلبي لديه

وأفردت عنه فيا وحشتا

لذاك الشّخيص وذاك الوجيه

تشوّقني وتشوّقته

فيبكي عليّ وأبكي عليه

__________________

(١) النشب : العقار.

(٢) في ابن خلكان : حيلة البرء صنفت لعليل.

٣٧٥

وقد تعب الشوق ما بيننا

فمنه إليّ ومنّي إليه

وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلامة سيدي أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لما قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية ، وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ، ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ، ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدّة ، وفرشها بمثل فرشه ، وجعل فيها مثل آلاته ، ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار ، ثم احتال عليه حتى جاء [إلى] (١) ذلك الموضع ، فرآه أشبه شيء ببيته وحارته ، فاحتار لذلك ، وظنّ أنه نائم ، وأن ذلك أحلام ، فقيل له : ادخل البيت الذي يشبه بيتك ، فدخله ، فإذا ولده الذي تشوّق إليه يلعب في البيت ، فحصل له من السرور ما لا [مزيد عليه ، ولا] يعبر عنه ، هكذا هكذا وإلا فلا لا.

ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب : [بحر البسيط]

إني نظرت إلى المرآة قد جليت

فأنكرت مقلتاي كلّ ما رأتا

رأيت فيها شويخا لست أعرفه

وكنت أعهده من قبل ذاك فتى(٢)

فقلت : أين الذي بالأمس كان هنا؟

متى ترحّل عن هذا المكان؟ متى؟

فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة :

إن الذي أنكرته مقلتاك أتى

كانت سليمى تنادي يا أخيّ وقد

صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا

والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل (٣) : [بحر الوافر]

وإذا دعونك عمهنّ فإنه

نسب يزيدك عندهنّ خبالا

وإذا دعونك يا أخيّ فإنه

أدنى وأقرب خلة ووصالا

وقال ابن دحية في حقه أيضا : والذي انفرد به شيخنا وانقاد لطباعه (٤) ، وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه ، الموشحات ، وهي زبدة الشعر ونخبته ، وخلاصة جوهره وصفوته ، وهي

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من ه.

(٢) في ابن خلكان ج ٤ ص ٤٣٤ : رأيت فيها سييخا لست أعرفه.

(٣) ديوان الأخطل ص ٢٣.

(٤) في ب : «وانقادت لتحليته طباعه». وفي ه : «وانقادت إليه طباعه».

٣٧٦

من الفنون التي أغرب (١) بها أهل المغرب على أهل المشرق ، وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق ، انتهى.

ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله :

ما للموله من سكره لا يفيق

وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن ، ويرون أنه من أحسن الموشحات.

ومن موشحاته قوله :

سلم الأمر للقضا

فهو للنفس أنفع

واغتم حين أقبلا

وجه بدر

تهللا لا تقل بالهموم لا

كل ما فات وانقضى

ليس بالحزن يرجع

واصطبح بابنة الكروم

من يدى شادن رخيم(٢)

حين يفترّ عن نظيم

فيه برق قد أومضا

ورحيق مشعشع

أنا أفديه من رشا

أهيف القدّ والحشا(٣)

سقي الحسن فانتشى

مذ تولّى وأعرضا

ففؤادي يقطّع

من لصبّ غدا مشوق

ظلّ في دمعه غريق

حين أمّوا حمى العقيق

واستقلّوا بذي الغضا

أسفي يوم ودّعوا

ما ترى حين أظعنا

وسرى الركب موهنا(٤)

واكتسى الليل بالسنا

__________________

(١) في ه : «أغرب فيها».

(٢) الشادن : ولد الغزال.

(٣) الرشا : ولد الغزالة الذي قوي على المشي.

(٤) الموهن من الليل : منتصفه أو بعد منتصفه بقليل.

٣٧٧

نورهم ذا الذي أضا

أم مع الركب يوشع(١)

ورأيت مع هذا موشحا آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا ، وهو هذا :

فتق المسك بكافور الصباح

ووشت بالرّوض أعراف الرياح

فاستقنيها (٢) قبل نور الفلق

وغناء الورق (٣) بين الورق

كاحمرار الشمس عند الشفق

نسج المزج عليها حين لاح

فلك اللهو وشمس الاصطباح

وغزال سامني بالملق

وبرا (٤) جسمي وأذكى حرقى

أهيف مذ سلّ سيف الحدق

قصرت عنه أنابيب الرماح

وثنى الذعر مشاهير الصفاح

صار بالدّل فؤادي كلفا

وجفون ساحرات وطفا

كلما قلت جوى الحب انطفا

أمرض القلب بأجفان صحاح

وسبى العقل بجدّ ومزاح

يوسفيّ الحسن عذب المبتسم

قمريّ الوجه ليليّ اللّمم(٥)

عنتريّ البأس علويّ الهمم

غصنيّ القدّ مهضوم الوشاح

مادريّ الوصل طائيّ السماح (٦)

قدّ بالقدّ فؤادي هيفا

وسبى عقلي لما انعطفا

ليته بالوصل أحيا دنفا (٧)

مستطار العقل مقصوص الجناح

ما عليه في هواه من جناح

__________________

(١) يوشع : رجل من بني إسرائيل حبست له الشمس من المغيب واستمر ذلك حتى كنيت الشمس «أخت يوشع».

(٢) في ب : «فاسقنيها».

(٣) الورق : الحمام.

(٤) في ب : «وبرى».

(٥) اللمم : جمع لمّة : الشعر الذي يتجاوز شحمة الأذن ، أرادها الشعر كلّه.

(٦) مادريّ : نسبة إلى مادر مضرب المثل في البخل.

(٧) الدنف : الذي أصابه المرض الشديد.

٣٧٨

يا علي أنت نور المقل

جد بوصل منك لي يا أملي

كم أغنيك إذا ما لحت لي

طرقت والليل ممدود الجناح

مرحبا بالشمس من غير صباح

١٦٤ ـ ومنهم أبو الحجاج الساحلي ، يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي ، الفهري ، الغرناطي.

قال في الإحاطة : صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وطبقته ، ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم (١) وقد أصابته حمى تركت على شفته بثورا : [بحر السريع]

حاشاك أن تمرض حاشاكا

قد اشتكى قلبي لشكواكا

إن كنت محموما ضعيف القوى

فإنني أحسد حمّاكا

ما رضيت حمّاك إذ باشرت

جسمك حتى قبّلت فاكا

قال أبو الحجاج رحمه الله تعالى : وكتب إلى شيخنا محمد بن محمد بن عتيق بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي : [بحر الطويل]

أجزت لهم أبقاهم الله كلّ ما

رويت عن الأشياخ في سالف الدهر

وما سمعت أذناي من كل عالم

وما جاد من نظمي وما راق من نثري

على شرط أصحاب الحديث وضبطهم

بريء عن التصحيف عار عن النكر

كتبت لهم خطّي واسمي محمد

أبو القاسم المكنى ما فيه من نكر

وجدّي رشيق شاع في الغرب ذكره

وفي الشرق أيضا فادر إن كنت لا تدري

ولى مولد من بعد عشرين حجة

ثمان على الست المئين ابتدا عمري

وبالله توفيقي عليه توكلي

له الحمد في الحالين في العسر واليسر

ومولد أبي الحجاج المذكور سنة ٦٦٢ ، وتوفي سنة ٧٠٢ ، رحمه الله تعالى! انتهى باختصار.

__________________

(١) الوزير ابن الحكيم : هو أبو عبد الله بن الحكيم ذو الوزارتين المتوفى سنة ٧٥٠ ه‍. سيترجم له المقري فيما بعد.

٣٧٩

١٦٥ ـ وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق شاعر الأندلس يحيى بن الحكم ، البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله ، وهو في المائة الثالثة ، من بني بكر بن وائل (١).

قال ابن حيان في «المقتبس» : كان الغزال حكيم الأندلس ، وشاعرها ، وعرافها ، عمر أربعا وتسعين سنة ، ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس : أولهم عبد الرحمن بن معاوية ، وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم.

ومن شعره : [الرجز]

أدركت بالمصر ملوكا أربعة

وخامسا هذا الذي نحن معه

وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب (٢). [بحر الكامل]

خرجت إليك وثوبها مقلوب

ولقلبها طربا إليك وجيب(٣)

وكأنها في الدار حين تعرّضت

ظبي تعلّل بالفلا مرعوب

وتبسّمت فأتتك حين تبسّمت

بجمان درّ لم يشنه ثقوب(٤)

ودعتك داعية الصّبا فتطرّبت

نفس إلى داعي الضلال طروب

حسبتك في حال الغرام كعهدها

في الدار إذ غصن الشباب رطيب

وعرفت ما في نفسها فضممتها

فتساقطت بهنانة رعبوب(٥)

وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن

فنزا إليّ عضنّك حلبوب(٦)

بيدي الشمال وللشّمال لطافة

ليست لأخرى والأديب أريب

فأصاب كفّي منه حين لمسته

بلل كماء الورد حين يسيب

وتحلّلت نفسي للذّة رشحه

حتى خشيت على الفؤاد يذوب

فتقاعس الملعون عنه وربّما

ناديته خيرا فليس يجيب

وأبى فحقّق في الإباء كأنه

جان يقاد إلى الردى مكروب

وتغضّنت جنباته فكأنه

كير تقادم عهده مثقوب

__________________

(١) انظر يحيى بن الحكم الغزال ـ تأليف محمد صالح البنداق ـ من منشورات دار الآفاق الجديدة ببيروت.

(٢) انظر يحيى الغزال تأليف البنداق ص ١٨٢.

(٣) الوجيب : الخفقان والاضطراب.

(٤) الجمان : الفضة وأراد ، هنا ، أسنانها ، ولم يشنه : لم يعبه.

(٥) الرعبوب : المرأة الناعمة البيضاء. البهنانة : الضحّاكة المتهللة.

(٦) الشاهن : طائر جارح. العضنّك : الفرخ المكتنز والحلبوب : الأسود.

٣٨٠