نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

أكثر الطلبة يرجّحونه على شيخه أبي محمد بن سبعين ، وإذا ذكر له هذا يقول : إنما ذلك لعدم اطلاعهم على حال الشيخ وقصور باعهم (١).

ومن تآليف (٢) ابن سبعين «الفتح المشترك» ومما حكاه صاحب «عنوان الدراية» في ترجمة الششتري ـ مما لم نذكره في ترجمته الماضية ، ورأينا ذكره هنا تبركا أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية ، وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول : إلينا يا أحمد ، فقيل له : من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية؟ فقال لهم : من تسرون به غدا إن شاء الله تعالى ، فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس ، فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور ، فقال الشيخ للفقراء وأصحابه (٣) : هنيئا لنا باقتحام العقبة ، صافحوا أخاكم ، المنادى به.

ومن مناقبه ـ نفع الله تعالى به! ـ أنه لما نزل بلدة قابس (٤) برباط البحر المعروف بالصهريج (٥) جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرنانيّ (٦) نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة ، فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصّنهاجي ـ نفع الله تعالى به! ـ مع جملة أصحابه للزيارة ، فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة ، فجلسوا لانتظاره ، فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر ، فلما دخل الرباط سلم على الواصلين برسم الزيارة ، وحيّا المسجد ، وأقبل على الفقراء ، وأثر العبرة على وجنته ، فقال : ائتوني بمداد ، فلما أحضر بين يديه تأوّه تأوّها شديدا كاد أن يحرق بنفسه جليسه ، وجعل يكتب على لوح (٧) هذه الأبيات : [السريع]

لا تلتفت بالله يا ناظري

لأهيف كالغصن النّاضر

يا قلب واصرف عنك وهم البقا

وخلّ عن سرب حمى حاجر

ما السّرب والبان وما لعلع

ما الخيف ما ظبي بني عامر؟

__________________

(١) في ب ، ه : وقصور طباعهم.

(٢) في أ : ومن تأليف ابن سبعين ..

(٣) وأصحابه : ساقطة من ب.

(٤) في ب ، ه : «لما نزل ببلدة قابس» وقابس بلدة بين طرابلس وسفاقس. (انظر معجم البلدان ج ٤ ص ٢٨٩).

(٥) في ب : المعروف بمسجد الصهريج ..

(٦) في ج : الزرقاني ، وفي عنوان الدراية : الورقاني. وفي نسخة عنه ه : الزناني.

(٧) في ب ، ه : يكتب في اللوح.

٣٤١

جمال من سمّيته داثر

ما حاجة العاقل بالدّاثر

وإنّما مطلبه في الّذي

هام الورى من حسنه الباهر ـ (١)

أفاد للشّمس سنى كالّذي

أعاره للقمر الزّاهر

أصبحت فيه مغرما حائرا

لله در المغرم الحائر

وكانوا يوما ببلد مالقة ، وكثيرا ما يجوّد عليه القرآن العزيز ، فقرأ طالب قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] فقال معجلا رضي الله تعالى عنه ، وفهم من الآية ما لم يفهم ، وعلم منها ما لم يعلم : [البسيط]

انظر للفظ أنا يا مغرما فيه

من حيث نظرتنا لعلّ تدريه

خلّ ادّخارك لا تفخر بعارية

لا يستعير فقير من مواليه(٢)

جسوم أحرفه للسّرّ حاملة

إن شئت تعرفه جرّب معانيه

ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن بن علال ، من أهل الأمانة والديانة ، فوجده يذاكر بعض أهل العلم ، فاستحسن منه إيراده للعلم ، واستعماله لمحاضرة الفهم ، فاعتقد شياخته وتقديمه ، ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دينارا شكرا لله تعالى ، ويأتيهم بمأكول ، فلما يسر جميع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ ، ليكون للفقراء زادا ، فلما كان في الليل رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما ، قال الرجل : فنهضت إليه بسرور رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، وقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى لي ، فالتفت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وقال : «يا أبا بكر ، أعطه» ، فإذا به رضي الله عنه قسم رغيفا كان بيده وأعطاني نصفه ، ثم أفاق الرجل من منامه ، وأخذه وجد من هذه الرؤيا المباركة ، فأيقظ أهله ، واستعمل نفسه في العبادة ، فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها ، فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ : يا علي ، اقرب ، فلما قرب قال له : يا علي ، لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكماله (٣) ، انتهى.

١٢٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ، الشهير بابن غصن ، الإشبيلي

__________________

(١) في ب ، ه : هام الورى في حسنه الباهر.

(٢) العارية : المعارة.

(٣) في ب : بكامله.

٣٤٢

من ولد شدّاد بن أوس الأنصاري ، الجزيري ، نسبة إلى الجزيرة الخضراء ، الإمام ، المقري ، الزاهد ، عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطأ من حفظه ، وأخذ عنه النحو ، وكان من أولياء الله تعالى الصالحين ، وعباده الناصحين ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، قوّالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، عارفا بمتون الحديث وأحكامه ، فقيها عارفا (١) متقنا لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين ، لا يقبل من أحد شيئا ، مخلصا لله تعالى ، يتكلم على المنبر على عادة أهل العلم من تعليم المسائل الدينية ، وأقرأ القرآن بمكة مدّة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس ، وممن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم ، والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم ، وله مصنفات في القراءات : منها «مختصر الكافي» وكتاب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، ومولده سنة ٦٣١ (٢) تخمينا ، وتوفي ببيت المقدس آخر سنة ٧٢٣ ، رحمه الله تعالى!.

١٢١ ـ ومنهم الشيخ الفقيه ، الأستاذ ، النحوي ، التاريخي ، اللغوي ، أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري ، اللّبلي ، يكنى أبا العباس وأبا جعفر.

قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشّلوبين (٣) ، ثم ارتحل إلى العدوة ، وسكن بجاية ، وأقرأ بها مدّة ، وارتحل إلى المشرق فحج ، ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطنا ، واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات ، كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية ، وله علم جليل باللغة ، وله تواليف كثيرة : منها على الجمل ، و «شرح الفصيح» لثعلب ، ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب.

قال الغبريني رحمه الله تعالى : ورأيت له تأليفا في الأذكار ، وله عقيدة في علم الكلام ، ورأيت له مجموعا سماه «الإعلام ، بحدود قواعد الكلام» تكلم فيه على الكلم الثلاث ، الاسم والفعل والحرف ، وله تواليف أخر ، وكان من أساتيذ إفريقية في وقته (٤) ، وممن أخذ عنه ، واستفيد منه ، انتهى.

__________________

(١) عارفا : ساقطة من ب.

(٢) في غاية النهاية : سنة ٦٥٣.

(٣) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله أبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين. (انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥).

(٤) أساتيذ : جمع أستاذ ، وهو المعلم ، والرئيس ، والعالم ، والماهر في صناعة يعلمها غيره. ويجمع أستاذ على أساتذة ، وأساتيذ ، وأستاذين.

٣٤٣

وذكر الشيخ أبو الطيب بن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفا سماه «التجنيس» وله شرح أبيات الجمل ، سماه «وشي الحلل» رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس ، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم ، وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده ، فحكى أبو عبد الله القطان المسفر ـ وكان يخدم حازما ـ قال : كنت يوما بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب ، فسمعت نقر الباب ، فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر ، فرجعت وأخبرت أبا الحسن ، فقام مبادرا حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه ، فرأى الكتاب بين يديه ، فقال له : يا أبا الحسن ، قال الشاعر : [الطويل]

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

(١) فقال له : يا فقيه أبا جعفر ، أنت سيدي وأخي ، ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق ، والعلم لا يحتمل المداهنة ، فقال له : فأخبرني بما عثرت عليه ، قال له : نعم ، فأظهر له مواضع ، فسلّمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه.

وأصل هذا اللّبلي من لبلة قرية بالأندلس ، اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد ، وكان نحويا ، فلما دخل عليه اللّبلي قال له القاضي : خير مقدم ، ثم سأله بعد حين : بم انتصب خير مقدم؟ فقال له اللبلي : على المصدر ، وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها ، وقد ذكره سيبويه ، ثم سرد عليه الباب من أوله إلى آخره ، فإنه كان يحفظ أكثره ، فأكرمه القاضي وعظمه.

ثم قال ابن علوان : وذكر والدي أيضا رحمه الله تعالى ، ومن خطه المبارك نقلت ، أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور رحمه الله تعالى قرىء عليه يوما قول امرئ القيس : [الكامل]

حيّ الحمول بجانب العزل

إذ لا يلائم شكلها شكلي

فقال لطلبته : ما العامل في هذا الظرف يعني «إذ»؟ فتنازعوا القول ، فقال : حسبكم ، قرىء هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشّلوبين ، فسألنا هذا السؤال ، وكان أبو الحسن بن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس ، وكان الشلوبين يغض منه ، فقال لنا : إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل ، يعني ابن عصفور ، فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا ، ودخلنا المسجد ، فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة ، وهو يتكلم بغرائب النحو ، فلم نجسر على سؤاله لهيبته ، وانصرفنا ، ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي ، فنسي حتى قرىء عليه قول النابغة : [البسيط]

__________________

(١) كليلة : كلّ السيف : لم يقطع. وكلّ البصر أو اللسان : لم يحقق المنظور أو المنطوق.

٣٤٤

فعدّ عمّا ترى إذ لا ارتجاع له (١) :

فتذكر ، وقال : ما فعلتم في سؤال ابن عصفور؟ فصدقنا له الحديث ، فأقسم ألّا يخبرنا ما العامل فيه ، ثم قال اللّبلي لطلبته : وأنا أقول لكم مثل ذلك ، فانظروا لأنفسكم ، قالوا : فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر ، كلما حكمنا بحكم صدّتنا عنه قوانين نحوية ، حتى مضت مدة طويلة ، فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع ، وكان ابن أبي الربيع هذا ساكنا بسبتة ، وهو أحد طلبة الشلوبين أيضا ، ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده ، قالوا : فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية ، فمرت هذه المسألة في قوله تعالى : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) [الشعراء : ٩٨] فقال هذا الطالب : إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة ، فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي ، ثم ناقشنا الطالب وقلنا له : إذا جعلته ظرفا فلا بد من العامل ، وإذا جعلته واقعا موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين ، والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع ، وإنما الأولى أن يقال : إذ حرف معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن ، والله أعلم بغيبه ، انتهى.

١٢٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح (٢) القرطبي.

قال الحافظ المقريزي : وفرح بسكون الراء ، وقال الحافظ عبد الكريم في حقه : إنه كان من عباد الله الصالحين ، والعلماء العارفين الورعين ، الزاهدين في الدنيا ، المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة ، فيما بين توجه وعبادة وتصنيف ، جمع في تفسير القرآن كتابا خمسة عشر مجلدا ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلدين ، وله كتاب «التذكرة ، في أمور الآخرة» في مجلدين ، وشرح «التفصي» (٣) وله تآليف غير ذلك مفيدة ، وكان مطرح التكلف ، يمشي بثوب واحد ، وعلى رأسه طاقية ، سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب «المفهم ، في شرح مسلم» بعض هذا الشرح ، وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي ، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري ، وغيرهما ، وتوفي بمنية ابن خصيب (٤) ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة ٦٧١ ، ودفن بها ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) هذا الشطر من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح فيها النعمان بن المنذر ومطلع القصيدة :

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

والبيت هو :

فعدّ عما ترى إذ لا ارتجاع له

وانم القتود على عيرانه أجد

(٢) هو مؤلف كتاب «جامع أحكام القرآن» في التفسير.

(٣) في ب ، ه : التقصي.

(٤) في ب ، ه : بمنية بني خصيب.

٣٤٥

وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه : كان شيخا فاضلا ، وله تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه ، منها «تفسير القرآن» مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلدا ، انتهى.

وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته : قد أجحف المصنف في ترجمته جدا ، وكان متقنا (١) متبحرا في العلم ، انتهى.

وكتب بعض بأثر هذا الكلام ما نصه : قال الذهبي : رحل وكتب وسمع ، وكان يقظا ، فهما ، حسن الحفظ ، مليح النظم ، حسن المذاكرة ، ثقة ، حافظا ، انتهى.

وكتب آخر أثر ذلك الكلام ما صورته : مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة مالها فائدة ، فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام : العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح ، الإمام ، القرطبي ، إمام متفنن ، متبحر في العلم ، له تصانيف مفيدة ، تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله ، ثم ذكر موته ، وقال بعده : وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان ، وله «الأسنى ، في شرح الأسماء الحسنى» و «التذكرة» وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه ، انتهى.

وكتب آخر بأثر (٢) هذا الكلام ما نصه : غفر الله لك! إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت ، وهو والله فوق ذلك ، فكيف تقول : إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها ، وتسيء الأدب معه ، وتقول إن كلامه لا فائدة فيه؟ فالله يستر عليك! انتهى.

١٢٣ ـ ومنهم أبو القاسم بن حاضر ، الجزيري ، الخزرجي ، محمد بن أحمد.

من جزيرة شقر ، قدم مصر ، وسكن قوص (٣) بعد ما كان من عدول بلنسية ، وكان فصيحا ، عالما بصناعة التوريق ، وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه ، ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

١٢٤ ـ ومنهم أبو القاسم التّجيبي ، محمد بن أحمد التّجيبي.

من أهل بلّش ، قرأ على ابن مفرّج وابن أبي الأحوص ، ورحل فاستوطن القاهرة ، وكان شيخا فاضلا خيرا ، له أدب وشعر ، منه قوله من أبيات : [الكامل]

__________________

(١) في ب ، ه : متفننا.

(٢) في ب : بإثر هذا الكلام.

(٣) قوص : مدينة كبيرة واسعة ، قصبة صعيد مصر ، بينها وبين الفسطاط اثنا عشر يوما وهي شديدة الحر لقربها من البلاد الجنوبية (معجم البلدان ج ٤ ص ٤١٣).

٣٤٦

أحوى الجفون له رقيب أحول

الشّيء في إدراكه شيئان

يا ليته ترك الّذي أنا مبصر

وهو المخيّر في الغزال الثّاني

ولد ببلّش سنة ٦٢٣ ، وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة ٦٩٥ ، وممن روى عنه نحويّ الزمان أثير الدين ابن حيّان وغيره ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٢٥ ـ ومنهم أبو بكر الخزرجي ، محمد بن أحمد بن حسن ، وقيل : محمد بن عيسى ، المالقيّ ، المالكي.

قال الشريف أبو القاسم : إنه كان أحد الزهاد الورعين ، وعباد الله المتقين ، مشتغلا بنفسه ، متخليا عما في أيدي الناس ، يأكل من كسب يده ، ولا يقبل لأحد شيئا ، مع وجد وعلم (١) وعمل وفضل وأدب ، ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له.

وقال الحافظ عبد الكريم : إنه دخل إشبيلية ، واشتغل بالعربية على الشّلوبين وقرأ القراءات السبع ، ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك ، وكان والده نجارا ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، يخيط الثياب ، فازدحم الناس عليه تبركا به ، فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه ويتصدق بما فضل عنه ، وكان شديد الزهد ، كثير العبادة ، لا يسلم يده إلى أحد ليقبلها ، وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد ، فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر ، فعلم بذلك الساكن بعد مدة ، فقال له : يا سيدي ما سألت إلا شفاعة ، وأنت تزن عني (٢) ، فقال له : رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه؟ والله ما يدفع هذا إلا أنا ، فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيرها ، ومات ليلة الاثنين (٣) الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ٦٥١ ، عن خمس وأربعين سنة ، ودفن بالقرافة ، رحمه الله تعالى ، ونفعنا به!.

١٢٦ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي ، مولاهم ، لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة.

ولد في شهر رمضان سنة ٣٢٢ ، بقرطبة ، وسمع بها من وهب بن مسرة ، وخالد بن سعيد وغيره (٤) ، ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق ، وأبا علي بن السكن ونظراءهم في سنة ٣٤٩ ، وعاد إلى بلده ، وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة.

__________________

(١) وعلم : ساقطة من ب.

(٢) في ب : وأنت تنقد عني.

(٣) الاثنين : ساقطه من ب.

(٤) في الصلة : خالد بن سعد.

٣٤٧

قال ابن بشكوال (١) : كان رجلا صالحا فاضلا ، من أهل الاجتهاد في العبادات (٢) مائلا إلى التقشف والزهادة ، قديم الطلب ، حسن المذهب ، متبعا للسنن.

١٢٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سلمان (٣) بن أحمد بن إبراهيم ، الزهري ، الأندلسي ، الإشبيلي.

ولد بمالقة ، وطاف الأندلس ، وطلب العلم ، وحصل طرفا صالحا من علم الأدب ، ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة ، فسمع الحديث بها ، ودخل الشام وبلاد الجزيرة ، وقدم بغداد سنة ٥٩٠ ، وعمره ثلاثون سنة ، وأقام بها مدة ، وسمع من شيوخها كأبي الفرج بن كليب ونحوه ، وقرأ ونسخ بخطه ، وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل ، وكان فاضلا حسن المعرفة بالأدب ، يقول الشعر ، وينشئ المقامات وصنف كتاب «البيان والتبيين ، في أنساب المحدثين» ستة أجزاء ، وكتاب «البيان ، فيها أبهم من الأسماء في القرآن» مجلد ، وكتاب «أقسام البلاغة ، وأحكام الصناعة» في مجلدين ، وكتاب «شرح الإيضاح ، لأبي علي الفارسي» في خمسة عشر مجلدا ، وكتاب «شرح المقامات» مجلد ، وكتاب «شرح اليميني» (٤) في مجلد ، قال المنذري : توفي شهيدا ، قتله التتار في رجب ، وقال ابن النجار : في سابع عشر رجب سنة ٦١٧ ، رحمه الله تعالى!.

١٢٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم ، القرطبي ، المقري المعروف بالورشي ، نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها.

وهو أحد القراء المعروفين ، قال الحاكم : هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القراءات (٥) ، سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان ، وورد نيسابور ، ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان ، وبالأهواز عبد الواحد بن خلف الجنديسابوري ، وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي ، وقال ابن النجار : قدم بغداد ، وحدث بها ، توفي بسجستان في ربيع الأول سنة ٣٩٣.

١٢٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي ، اللخمي.

__________________

(١) لم يرد هذا في الطبعة المصرية من كتاب الصلة.

(٢) في ب ، ه : الاجتهاد في العبادة.

(٣) في ب : سليمان.

(٤) اليميني : هو تاريخ العتبي وهو تأريخ ليمين الدولة محمود بن سبكتكين.

(٥) في ب ، ه : في علم القرآن.

٣٤٨

قال ابن بشكوال : مولده في صفر سنة ٣٥٦ ، وسمع عن جده ، ورحل إلى المشرق.

وقال ابن غلبون في مشيخته : إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل ، قائما بها ، واقفا عليها ، قاعدا للشروط ، محسنا لها ، عارفا ، وبيتهم بيت علم ، ونشأ فيه (١) هو وأبوه وجده ، وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن ، وعلى منازلهم في السبق ، وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة ، وشاركه في السماع والرواية عن جده ، وسمع بمصر من أبي الحسن (٢) أحمد بن عبد الله بن حميد بن زريق المخزومي.

وقال ابن بشكوال : كان من أجل الفقهاء عندنا دراية ورواية ، بصيرا بالعقود ، ومتقدما على أهل الوثائق ، عارفا بعللها ، وألف فيها كتابا حسنا ، وكتابا في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين ، مع ما كان عليه من الطريقة المثلى ، وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون ، توفي في المحرم سنة ٤٣٣ لعشرين بقين منه.

١٣٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز ، العتبي ، الأندلسي ، القرطبي الفقيه المالكي المشهور ، صاحب العتبيّة.

سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وغيرهما (٣) ، ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما ، وكان حافظا للمسائل ، جامعا لها ، عالما بالنوازل ، وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالبا من مالك بن أنس ، وتعرف بالعتبية ، وأكثر فيها من الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة ، وكان يؤتى بالمسألة الغربية الشاذة فإذا سمعها قال : أدخلوها في المستخرجة ، ولذا روى عن ابن وضاح أنه كان يقول : المستخرجة فيها خطأ كثير ، كذا قال ، ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من علماء المالكية (٤) كابن رشد وغيره.

قال ابن يونس : توفي بالأندلس سنة ٢٥٥.

والعتبي : نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب ، وقيل : إلى جد للمذكور يسمى عتبة ، وقيل إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش.

__________________

(١) في ب ، ه : ونشأ فيهم.

(٢) في ب ، ه : وسمع بمصر على أبي الحسن ...

(٣) أصبغ بن الفرج : هو أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي الفقيه المصري أبو عبد الله (تقريب التهذيب ج ١ ص ٨١).

(٤) في ب ، ه : من أعلام المالكية.

٣٤٩

١٣١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري ، المقري ، الفرضي ، الأديب.

ولد بالأندلس سنة ٥٩١ ، ونشأ ببلنسية ، وأقام بالإسكندرية ، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل ، ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية ، لكن أكثر أبياتا ، وصرح فيها بأسماء القراء ، ولم يرمز كما فعل الشاطبي ، وكانت له يد في الفرائض والعروض ، مع معرفة القراءات والأدب.

ومن شعره : [الطويل]

إذا ما اشترت بنت أباها فعتقه

بنفس الشّرا شرعا عليها تأصّلا

وميراثه إن مات من غير عاصب

ومن غير ذي فرض لها قد تأثّلا

لها النّصف بالميراث والنّصف بالولا

فإن وهب ابنا أو شراه تفضّلا(١)

فأعتق شرعا ذلك الابن ما لها

سوى الثّلث ، والثّلثان للأخ أصّلا

وميراثها فيه إذا مات قبلها

كميراثها في الأب من قبل يجتلى

ومولى أبيها ما لها الدّهر فيه من

ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى

وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاض ، وغلطوا ، وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها ، ثم اشترى الأب ابنا فعتق عليه ، ثم اشترى الأب عبدا فأعتقه ، ثم مات الأب ، فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم مات العبد المعتق ، فلمن يكون ولاؤه؟ وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة.

١٣٢ ـ ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل ، أبو عبد الله ، الأموي ، الأندلسي ، الطّليطلي ، المعروف بالنقاش.

نزل مصر ، وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص ، وأخذ عنه جماعة ، وتوفي بمصر سنة ٥٢٩.

١٣٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي ، القبري ، القرطبي ، المؤدب.

رحل من الأندلس سنة ٣٤٢ ، فسمع بمصر من أبي محمد بن الورد وأبي قتيبة سالم بن الفضل (٢) البغدادي وغيره ، وكان صالحا خيرا مؤدبا ، سمع من الناس (٣). وتوفي سنة ٣٦٢.

__________________

(١) بالولا : بالولاء ، حذفت الهمزة لاستقامة الوزن ، وهذا جائز.

(٢) في ب : مسلم بن الفضل.

(٣) في ب : سمع الناس منه كثيرا.

٣٥٠

والقبري ـ بفتح القاف ، وسكون الباء الموحدة ، ثم راء مهملة ـ نسبة إلى قبرة بلد بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلا.

١٣٤ ـ ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي ، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سجمان (١) ، الشريشي ، المالكي.

ولد بشريش سنة ٦٠١ ، ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد (٢) الحراني ، وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر ، وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي ، وسمع بإربل وبغداد ، وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدّة يفيد الناس فتخرّج به جماعة ، وولي مشيخة المدرسة بالقدس ، ومشيخة الرباط الناصري بالجبل ، وأقام بدمشق يفتي ويدرس ، وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد ، أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك ، والتفسير ، والأصول ، وصنف كتابا في الاشتقاق ، وشرح ألفية ابن معطي ، وأخذ عنه الناس ، وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهدا وورعا ، وبقي المنصب لأجله شاغرا إلى أن مات برجب سنة ٦٨٥ ، ودفن بقاسيون.

وسجمان : بسين مهملة مضمومة ، ثم جيم ساكنة ، بعدها ميم مفتوحة ، ونون.

١٣٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج ، القرطبي ، المعروف والده بالقنتوري.

وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل ، وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلا صالحا ، وولد هو سنة ٣١٥ (٣) ، وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية ، وسمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ كثيرا ، ومن ابن أبي دليم والخشني ، ورحل سنة ٣٣٧ فسمع بمكة من ابن الأعرابي ، ولزمه حتى مات ، وسمع بها من جماعة غيره ، وسمع بجدّة ، والمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ، ودخل صنعاء وزبيد وعدن ، وسمع بها من جماعة ، وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار ، وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة ، وسمع بغزة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية

__________________

(١) ضبطه السيوطي : بضم السين المهملة وسكون الحاء أي «سحمان».

(٢) في ج ، ه : من ابن عمار.

(٣) في كل الأصول سنة ٣٢٥. وقد صوبنا سنة ولادته عن ابن الفرضي وهو أفضل وأصح لأن أبا عبد الله رحل سنة ٣٣٧ ه‍. ولو كان ولد سنة ٣٢٥ لكانت رحلته وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، وهذا أمر مستبعد (انظر ابن الفرضي ج ٢ ص ٩٣).

٣٥١

والقلزم والفرما والإسكندرية ، فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخا ، وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة ، وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد بن يونس ، وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه ، وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة ٣٤٥ ، واتّصل بالحكم المستنصر ، وصارت له عنده مكانة ، وألف له عدة كتب ، واستقضاه على إستجة ثم على المريّة (١) ، ومات برجب سنة ٣٤٨.

قال الحميدي : هو محدث ، حافظ ، جليل ، صنف كتبا في فقه الحديث ، وفي فقه التابعين : فمنها «فقه الحسن البصري» في سبع مجلدات ، و «فقه الزهري» في أجزاء كثيرة ، وسمع مسند ابن الفرضي وحديث قاسم بن أصبغ.

قال ابن الفرضي : وكان عالما بالحديث ، بصيرا برجاله ، صحيح النقل ، حافظا ، جيد الكتابة على كثرة ما جمع.

وقال ابن عفيف في حقه : إنه كان من أعنى الناس بالعلم ، وأحفظهم للحديث ، وأبصرهم بالرجال ، ما رأيت مثله في هذا الفن ، من أوثق المحدثين بالأندلس ، وأصحهم كتبا ، وأشدهم تعبا لروايته ، وأجودهم ضبطا لكتبه ، وأكثرهم تصحيحا لها ، لم يدع فيها شبهة (٢) ، رحمه الله تعالى!.

١٣٦ ـ ومنهم أبو عبد الله القيسي ، الوضاحي ، محمد بن أحمد بن موسى.

رحل إلى المشرق (٣) ، وسمع من السّلفي وغيره جملة صالحة ، وغيره جملة صالحة ، ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج ، وسكن المرية مدّة ، وبها مات سنة ٥٣٩ ، وقيل : في التي بعدها ، وكان من أظرف الناس ، وأحسنهم أدبا ، فقيها ، فاضلا ، ثقة ، ذا فرائد جمة ، عفيفا ، معتنيا بالعلم.

١٣٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل ، العبدري ، البلنسي.

ولد سنة ٥١٩ ، وسمع من أبيه وجماعة ، ورحل حاجا فسمع من السّلفي وابن عوف والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم ، ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدث ، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر ، وله حظ من علم العبارة ، ومشاركة في اللغة ، وكتب بخطه على ضعفه كثيرا ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) إستجة : بين القبلة والغرب من قرطبة ، بينهما مرحلة كاملة ، (صفة جزيرة الأندلس ص ١٤).

(٢) في ب ، ه : لا يدع فيها شبهة.

(٣) في ب ، ه : رحل من المغرب.

٣٥٢

١٣٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح ، الإشبيلي.

ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية ، وجال في بلاد المغرب والمشرق ، وقرأ على الشيوخ الفضلاء ، وحصّل كثيرا في علم القراءات (١) والأدب ، وله نظم ونثر ، وكان كثير التلاوة للقرآن ، جيد الأداء له ، وأقام بدمشق حتى مات بها سنة ٦٩٩ ، رحمه الله تعالى!.

١٣٩ ـ ومنهم محمد بن أسباط ، المخزومي ، القرطبي.

روى عن يحيى بن يحيى ، وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين ، وكان حافظا للفقه ، عالما ، توفي سنة ٢٧٩.

١٤٠ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق ، الشهير بابن السّليم (٢) ، قاضي الجماعة بقرطبة.

مولده سنة ٣٠٦ ، روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته ، ورحل سنة ٣٣٢ ، فسمع بمكة من ابن الأعرابي ، وبمصر من الزبيريّ وابن النحاس وغيرهما ، وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم ، وحدث ، فسمع منه الناس ، وكان حافظا للفقه ، بصيرا بالاختلاف ، حسن الخط والبلاغة متواضعا ، وتوفي بجمادى الأولى سنة ٣٦٧.

وسليم بفتح السين مكبرا.

١٤١ ـ ومنهم موسى بن بهيج ، المغربي ، الأندلسي ، الواعظ ، الفقيه العالم.

من أهل المرية ، نزل مصر ، يكنى أبا عمران ، كان من أهل العلم والأدب ، وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه ، وحدث المرشاني عنه بمخمسة في الحج وأعماله كلها ، ولقيه بمصر وقرأها عليه.

ولابن بهيج هذا قوله : [مجزوء الرمل]

إنّما دنياك ساعه

فاجعل السّاعة طاعه

واحذر التّقصير فيها

واجتهد ، ما قدر ساعه

وإذا أحببت عزّا

فالتمس عزّ القناعه

١٤٢ ـ ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة ، مولى سعيد بن نصر (٣).

__________________

(١) في ب ، ه : في علم القرآن.

(٢) انظر في ترجمته : تاريخ قضاة الأندلس ص ٧٨.

(٣) سعيد بن نصر : كان مولى عبد الرحمن الناصر.

٣٥٣

من أهل مرسية (١) ، سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصّدفي ، وكانت بنته عند أبي علي ، ولازمه ، وأكثر عنه ، وروى عن أبي محمد بن مفوّز الشاطبي وأبي الحسن بن شفيع ، قرأ عليهما الموطأ ، ورحل ، وحج ، وسمع السنن من الطرطوشي ، وعني بالرواية ، وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه ، وسمعهما على صهره أبي علي ، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما ، حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنه سمعهما على (٢) أبي علي نحو ستين مرة ، وكتب أيضا الغريبين للهروي ، وغير ذلك ، وكان أحد الأفاضل الصلحاء ، والأجواد السّمحاء ، يؤم الناس في صلاة الفريضة ، ويتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها ، وإليه أوصى عند توجّهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة ، وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب ، وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب «أدب الكتاب» (٣) لابن قتيبة ، و «بالفصيح» لثعلب.

١٤٣ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر ، الأزدي.

من أهل وادي آش ، له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة ، وسمع بدمشق من أبي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما ، ثم قفل إلى بلده ، انتهى ملخصا من ابن الأبار.

وحكى الصفدي أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر ، وروى عنه شيئا من شعره ، ومما روى عنه أنه قال : أنشدني المتنبي لنفسه : [السريع]

لا عبت بالخاتم إنسانة

كمثل بدر في الدّجى الفاحم

وكلّما حاولت أخذي له

من البنان المطرف النّاعم (٤)

ألقته في فيها فقلت : انظروا

قد خبّت الخاتم في الخاتم

١٤٤ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله بن مالك.

صاحب التسهيل والألفية (٥) ، وهو : جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن

__________________

(١) أصله من بلنسية ، ولما استولى عليها الروم سنة ٤٨٦ انتقل إلى مرسية.

(٢) في ب : أنها سمعها على ...

(٣) هكذا اشتهر اسم هذا الكتاب بالأندلس ، وهو معروف في المشرق باسم : أدب الكاتب.

(٤) في ب : من البنان المترف الناعم.

(٥) انظر في بغية الوعاة ج ١ ص ١٣٠ ـ ١٣٧.

٣٥٤

مالك ، الإمام ، العلامة ، الأوحد ، الطائي ، الجيّاني ، المالكي حين كان بالمغرب ، الشافعي حين انتقل إلى المشرق ، النحوي ، نزيل دمشق.

ولد سنة ستمائة أو في التي بعدها ، وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صبّاح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم ، وأخذ العربية عن غير واحد ، فممن أخذ عنه بجيّان أبو المظفر ، وقيل : أبو الحسن ، ثابت بن خيار (١) ، عرف بابن الطيلسان ، وأبي رزين ، بن ثابت بن محمد يوسف بن خيار الكلاعي من أهل لبلة ، وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوّار ، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله بن مالك المرشاني ، وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب ، وتصدر بها لإقراء العربية ، وصرف همته إلى إتقان لسان العرب ، حتى بلغ فيه الغاية ، وأربى على المتقدمين ، وكان إماما في القراءات ، وعالما بها ، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية (٢) ، وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها.

قال الصفدي : أخبرني أبو الثناء محمود قال : ذكر ابن مالك يوما ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة ، قال الصفدي : وهذا أمر معجز ، لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين ، وأخبرني عنه أنه كان إذا صلى في العادلية ـ لأنه كان إمام المدرسة ـ يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيما له.

وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور ، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ، ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه.

وأما النحو والتصريف فكان فيهما ابن مالك بحرا لا يشقّ لجّه ، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمرا عجيبا ، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره ، وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية ، لأنه كان أكثر ما يستشهد بالقرآن ، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث ، وإن لم يكن فيه شيء عدل إلى أشعار العرب ، هذا مع ما هو

__________________

(١) هكذا في غاية النهاية (ج ٢ ص ١٨٠). أما في بغية الوعاة فيوجد ثابت بن محمد بن يوسف بن حيان الكلاعي (ج ١ ص ٤٨٢).

(٢) وله في القراءات قصيدة دالية فيها :

ولا بد من نظمي قوافي تحتوي

لما قد حوى حرز الأماني وأزيدا

وقصيدة لامية أولها :

يذكر إلهي خامدا ومبسملا

بدأت فأولى القول يبدأ أولا

(غاية النهاية ج ٢ ص ١٨٠).

٣٥٥

عليه من الدين والعبادة ، وصدق اللهجة ، وكثرة النوافل ، وحسن السّمت ، وكمال العقل ، وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية ، وتخرج به جماعة ، وكان نظم الشعر عليه سهلا رجزه وطويله وبسيطه ، وصنف كتاب «تسهيل الفوائد» قال الصفدي : ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية ، وهي : [البسيط]

إنّ الإمام جمال الدّين جمّله

ربّ العلا ولنشر العلم أهّله

أملى كتابا له يسمى «الفوائد» لم

يزل مفيدا لذي لبّ تأمّله

وكلّ مسألة في النّحو يجمعها

إنّ الفوائد جمع لا نظير له

قال : وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي «فص الخاتم» انتهى.

قلت : أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل ، وإنما هي في كتاب له يسمى «الفوائد» وهو الذي لخصه في «التسهيل» فقوله في اسم التسهيل «تسهيل الفوائد» معناه تسهيل هذا الكتاب ، وذكر أيضا أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه ، وقال : وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله «إن الإمام ـ إلى آخره» وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين الفصوص وغيرها.

ثم قال العجيسي : وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتابا آخر سماه بالمقاصد ، وضمنها تسهيله ، فسماه لذلك «تسهيل الفوائد ، وتكميل المقاصد» فعلى هذا لا يصح قول الصفدي «إن المدح المذكور في التسهيل» إلا بارتكاب ضرب من التأويل ، انتهى كلام العجيسي.

قلت : وذكر غيره أن قوله في الألفية «مقاصد النحو بها محوية» إشارة لكتاب المقاصد ، وتعقب بقوله «محوية» فإنه لو كان كما ذكر فقال محويّ ، وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام ، وفيه تعسف.

رجع ـ ومن تصانيف ابن مالك «الموصل ، في نظم المفصل» وقد حل هذا النظم فسماه «سبك المنظوم ، وفك المختوم» ومن قال «إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم» فقد خالف النقل والعقل ، ومن كتب ابن مالك كتاب «الكافية الشافية» ثلاثة آلاف بيت ، وشرحها ، والخلاصة (١) ،

__________________

(١) «الخلاصة» هذا الكتاب هو الذي يعرف بالألفية ، وابن مالك يقول في أوله :

وأستعين الله في ألفيّه

مقاصد النحو بها محويه

ويقول في آخره :

حوى من الكافية الخلاصه

كما اقتضى رضا بلا خصاصه

٣٥٦

وهي مختصر الشافية ، و «إكمال الإعلام ، بمثلث الكلام» وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم ، و «لامية الأفعال» وشرحها ، و «فعل وأفعل» و «المقدمة الأسدية» وضعها باسم ولده الأسد ، و «عدّة اللافظ ، وعمدة الحافظ» و «النظم الأوجز ، فيما يهمز» و «الاعتضاد ، في الظاء والضاد» مجلد ، و «إعراب مشكل البخاري» و «تحفة المودود ، في المقصور والمدود» وغير ذلك كشرح التسهيل. وروى عنه ولده بدر الدين محمد ، ومحب (١) الدين بن جعوان ، وشمس الدين بن أبي الفتح ، وابن العطار ، وزين الدين أبو بكر المزّي ، والشيخ أبو الحسين اليونيني ، وأبو عبد الله الصيرفي ، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، وشهاب الدين محمود وشهاب الدين بن غانم ، وناصر الدين بن شافع ، وخلق كثير سواهم.

ومن نظمه في الحلبة : [البسيط]

خيل السّباق المجلّي يقتفيه مص

لّ والمسلّي وتال قبل مرتاح

وعاطف وحظيّ والمؤمّل وال

لّطيم والفسكل السّكّيت يا صاح (٢)

وله من هذه الضوابط شيء كثير.

وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب : إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل ، وصاحب المفصل نحويّ صغير (٣) ، وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري.

وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول : إن ابن مالك ما خلّى للنحو حرمة.

وحكي عنه أنه كان يوما في الحمام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى ، فهجم عليه فتى فقال : ما تصنع؟ فقال : أكنس لك الموضع للقعود ، قال بعضهم : وهذا مما يستبعد على دين ابن مالك ، والعهدة على ناقله ، قال الصفدي : ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس.

وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة.

وقال بعضهم : من أحسن شعر ابن مالك قوله : [الطويل]

إذا رمدت عيني تداويت منكم

بنظرة حسن أو بسمع كلام

فإن لم أجد ماء تيمّمت باسمكم

وصلّيت فرضي والدّيار أمامي

__________________

(١) في ب ، ه : وشمس الدين بن جعوان.

(٢) فسكل ، الفرس : جاء في السباق آخرا.

(٣) في ب : وصاحب المفصل نحوه صغيرات.

٣٥٧

وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا

وقابلت أعلام السّوى بسلام

ولم أر إلّا نور ذاتك لائحا

فهل تدع الشّمس امتداد ظلام

وقدم ـ رحمه الله تعالى! ـ القاهرة ، ثم رحل إلى دمشق ، وبها مات كما علم.

وقال الشرف الحصني يرثيه : [الخفيف]

يا شتات الأسماء والأفعال

بعد موت ابن مالك المفضال

وانحراف الحروف من بعد ضبط

منه في الانفصال والاتّصال

مصدرا كان للعلوم بإذن الله

من غير شبهة ومحال

عدم النّحو والتّعطّف والتّو

كيد مستبدلا من الأبدال(١)

ألم اعتراه أسكن منه

حركات كانت بغير اعتلال

يا لها سكتة لهمز قضاء

أورثت طول مدّة الانفصال

رفعوه في نعشه فانتصبنا

نصب تمييز ، كيف سير الجبال؟

فخّموه عند الصّلاة بدلّ

فأميلت أسراره للدّلال

صرّفوه يا عظم ما فعلوه

وهو عدل معرّف بالجمال

أدغموه في التّرب من غير مثل

سالما من تغيّر الانتقال(٢)

وقفوا عند قبره ساعة الدّف

ن وقوفا ضرورة الامتثال

ومددنا الأكفّ نطلب قصرا

مسكنا للنّزيل من ذي الجلال

آخر الآي من سبأ الحظّ منه

حظّه جاء أوّل الأنفال

يا بيان الإعراب يا جامع الإغ

راب يا مفهما لكلّ مقال (٣)

يا فريد الزّمان في النّظم والنّث

ر وفي نقل مستندات العوالي

كم علوم بثثتها في أناس

علّموا ما بثثت عند الزّوال (٤)

انتهت ملخصة.

قال الصفدي : وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها ، انتهى.

__________________

(١) في ب : عدم النعت ، والتعطف ...

(٢) أدغموه في الترب : أدخلوه فيه.

(٣) في ه : يا لسان الأعراب.

(٤) بث العلم : نشره. وفي ه جاء : عملوا ما ثنيت عند الزوال.

٣٥٨

ودفن ابن مالك بسفح قاسيون ، بتربة القاضي عز الدين بن الصائغ ، وقال العجيسي : بتربة ابن جعوان.

ورثاه الشيخ بهاء الدين بن النحاس بقوله : [الكامل]

قل لابن مالك ان جرت بك أدمعي

حمرا يحاكيها النّجيع القاني(١)

فلقد جرحت القلب حين نعيت لي

وتدفّقت بدمائه أجفاني

لكن يهوّن ما أجنّ من الأسى

علمي بنقلته إلى رضوان(٢)

فسقى ضريحا ضمّه صوب الحيا

يهمي به بالرّوح والرّيحان(٣)

وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك ، وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسّي ، وقد كلفه أن يشتري له قطرا (٤) : [الخفيف]

أيّها الأوحد الرّضيّ الّذي طا

ل علاء وطاب في النّاس نشرا

أنت بحر لا غرو إن نحن وافي

ناك زاجين من نداك القطرا(٥)

وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس ، وهو : بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر ، الحلبي الأصل ، المعروف بابن النحاس ، وهو شيخ أبي حيّان ، ولم يأخذ أبو حيّان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة.

وقال بعض من عرّف بابن مالك : إنه تصدر بحلب مدة ، وأم بالسلطانية ، ثم تحول إلى دمشق ، وتكاثر عليه الطلبة ، وحاز قصب السبق ، وصار يضرب به المثل في دقائق النحو ، وغوامض الصرف ، وغريب اللغات ، وأشعار العرب ، مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السّمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه ، وكان ذا عقل راجح ، حسن الأخلاق ، مهذبا ، ذا رزانة وحياء ووقار ، وانتصاب للإفادة ، وصبر على المطالعة الكثيرة ، تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره ، وسارت بتصانيفه الركبان ، وخضع لها العلماء الأعيان ، وكان حريصا على العلم ، حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد.

__________________

(١) النجيع : الدم. والقاني : الأحمر.

(٢) أجنّ : أستر.

(٣) صوب الحيا : المطر الذي لا يؤذي.

(٤) القطر ، بسكر القاف وسكون الطاء : النحاس.

(٥) في ب : راجين.

٣٥٩

وقال بعض الحفاظ حين عرف بابن مالك : يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين ، وبعض يقول : مرة واحدة ، وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته ، وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريّا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري ، وعلى كل حال فهو مشهور بجدّه في المشرق والمغرب.

وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ، وعليه عوّل شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله : [رجز]

قد خبع ابن مالك في خبعا

وهو ابن عه كذا وعى من قد وعى(١)

وقيل ، كما تقدم : إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيّان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها ، وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية ، وتصدّر ابن مالك بحماة مدة ، وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه ، مع كونه كان يعظّمه إلى الغاية ، وقدم رحمه الله تعالى لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه : إنه أعلم الناس بالعربية والحديث ، ويكفيه شرفا أن من تلامذته الشيخ النووي (٢) ، والعلم الفارقي ، والشمس البعلي ، والزين المزّي ، وغيرهم ممن لا يحصى.

وكان رحمه الله تعالى كثير المطالعة ، سريع المراجعة ، لا يكتب شيئا من محفوظه حتى يراجعه في محله ، وهذه حالة المشايخ الثقات ، والعلماء الأثبات ، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرئ (٣) ، وكذا كان الشيخ أبو حيّان ، ولكن كان جدّه في التصنيف والإقراء.

وحكي أنه توجه يوما مع أصحابه للفرجة بدمشق ، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه سويعة (٤) ، فطلبوه فلم يجدوه ، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبا على أوراق.

وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدّها بعضهم بثمانية ، وفي عبارة بعض «أو نحوها» لقنه ابنه إياها ، وهذا مما يصدق ما قيل بقدر ما تتعنى ، تنال ما تتمنى ، فجزاه الله خيرا عن هذه الهمة العلية!.

__________________

(١) في نسخة عنده «كذا حكى من قد وعى» وخبع في أول البيت بمعنى أقام ، ومجموع حروف «خبعا» بحساب الجمل ٦٧٣ وهي سنة وفاته عنده ، ومجموع حروف «عه» ٧٥ وهو مقدار سنه.

(٢) في ه : النوري.

(٣) في ب : أو يقرأ.

(٤) في ب ، ه : بسويعة.

٣٦٠