نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن ، ومن (١) جلة الرواة عنه أبو بكر : محمد (٢) بن خير ، قرأ عليه الشهاب» للقضاعي (٣) ، وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة ٥٣٦ ، وتوفي في حدود الأربعين وخمسمائة ، وروى عنه أبو الضحاك الفزاري.

١٠٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح ، الخزرجي(٤).

من أهل جيّان ، ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إياها ، روى عن أبي علي الغسّاني ، وأبي محمد بن عتاب ، ورحل حاجّا فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيّا ، وأبا طالب الزينبي ، وأبا بكر الشاشي ، وغيرهم. وكان فقيها مشاورا حدث عنه أبو عبد الله النميري ، وأبو محمد بن عبيد الله ، وأبو عبد الله بن حميد وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم ، وغير واحد ، وتوفي بفاس سنة ٥٤٧ (٥).

١٠٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر ، الأنصاري ، الجيّاني ، ونزل حلب يكنى أبا بكر.

رحل إلى المشرق ، وأدّى الفريضة ، وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة ، وسكن قنطرة سنان منها ، وكان يعلم القرآن ، ويتردد إلى أبي عبد الله نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه ، ثم رحل صحبة أبي القاسم بن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين ، وكان زميله ، فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره ، ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشّحّامي وغيرهم ، وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني وأبو النجم مصباح بن محمد المكي (٦) وغيرهما ، وبلغ الموصل فأقام بها مدة يسمع منه ويؤخذ عنه ، ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها ، وسلّمت إليه خزانة الكتب النورية ، وأجريت عليه جراية ، وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معا ، ووقف

__________________

(١) في ب : ومن جلة الرواة عنه أبو بكر بن خير. وفي ه : ومن جملة الرواة عنه أبو بكر بن خير.

(٢) محمد : غير موجودة في ب.

(٣) كتاب الشهاب لأبي عبد الله.

(٤) صنف في مسائل الخلاف تعليقه المشهور في سبعة أسفار. ومن مصنفاته : أسرار الإيمان في سفر. درس في فاس الفقه ، ثم تحول إلى جيان فجلس فيها للوعظ والقصص ، وعاد إلى فاس سنة ٥٤٤ وبقي يدرس الفقه ومسائل الخلاف حتى توفي (انظر الذيل والتكملة ج ٥ ص ٥٨٢).

(٥) في ب ، ه : سنة ٥٤٦.

(٦) في ب : المسكي.

٣٠١

كتبه على أصحاب الحديث ، وله عوال مخرّجة من حديثه ساوى (١) بعض شيوخه البخاري ومسلما وأبا داود والترمذي والنسائي ، روى عنه أبو حفص الميّانشي (٢) وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم.

ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال : سمعت منه ، ومات في (٣) جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني.

وقال ابن نقطة : حدث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني ، حدثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد ، وحكى عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنه توفي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم ، وقد بلغ السبعين ، قاله ابن الأبار.

١١٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة.

مرسيّ سكن شاطبة ، ودار سلفه بلنسية ، سمع أبا علي الصّدفي واختص به ، وأكثر عنه ، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمّهات كتبه الصحاح ، لصهر كان بينهما ، وسمع أيضا أبا محمد بن أبي جعفر ، ولازم حضور مجلسه للتفقه به ، وحمل ما كان يرويه ، ورحل إلى غرب الأندلس فسمع محمد (٤) بن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشيد ، وأبا عبد الله الخولاني ، وأبا الوليد (٥) بن رشد وأبا عبد الله بن الحاج وأبا بكر العربي وغيرهم ، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد بن طريف وأبو الحسن بن عفيف وأبو القاسم بن صواب وأبو محمد بن السّيد وغيرهم ، ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة ، فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي ، وصحبه وسمع منه ، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام ، وأدى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين ، ولقي بمكة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكية بها ، وأبا محمد بن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزية : فسمع منهما وأخذ عنهما ، وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن

__________________

(١) في ب : ساوى بها بعض ..

(٢) الميانشي : نسبة إلى ميانش ، وهي قرية من قرى المهدية بإفريقية صغيرة ، بينها وبين المهدية نصف فرسخ. نسب إليها الأديب أحمد بن محمد بن سعد الميانشي ، وعمر بن عبد المجيد بن الحسن المهدي الميانشي (معجم البلدان ج ٥ ص ٢٣٩).

(٣) في ب : ومات بحلب في ..

(٤) في ب ، ه : أبا محمد بن عتاب.

(٥) في ج : وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشد وأبا عبد الله ..

٣٠٢

أبي حامد الغزالي من تصانيفه ، ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندرية ، ولقي أبا طاهر بن عوف وأبا عبد الله بن مسلم القرشي وأبا طاهر السّلفي وأبا زكريا الزناتي وغيرهم ، فأخذ عنهم ، وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطّرطوشي وأبو الحسن بن مشرّف الأنماطي ، ولقي في صدره بالمهدية أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم ، وأجاز له باقيه ، وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين ، وقد حصل في رحلته علوما جمة ورواية فسيحة ، وكان عارفا بالسنن والآثار ، مشاركا في علم القرآن وتفسيره ، حافظا للفروع ، بصيرا باللغة والغريب ، ذا حظ من علم الكلام ، مائلا إلى التصوف ، مؤثرا له ، أديبا بليغا خطيبا فصيحا ، ينشئ الخطب مع الهدي والسّمت والوقار والحلم ، جميل الشارة (١) ، محافظا على التلاوة بالخشوع (٢) ، راتبا على الصوم ، وولي خطة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها ، وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه ، ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين ، ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا ، وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية ، ويقيم الخطب أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها ، وقد حدث بالمرية وهناك أبو الحسن بن موهب وأبو محمد الرّشاطي وغيرهما ، وسمع منه أبو الحسن بن هذيل جامع الترمذي ، وألف كتابه «شجرة الوهم ، المترقية إلى ذروة الفهم» ولم يسبق إلى مثله ، وليس له غيره ، وجمع فهرسة حافلة.

ووصفه غير واحد بالتّفنّن في العلوم والمعارف ، والرسوخ في الفقه وأصوله ، والمشاركة في علم الحديث والأدب.

وقال ابن عياد في حقه : إنه كان صليبا في الأحكام ، مقتفيا للعدل ، حسن الخلق والخلق ، جميل المعاملة ، لين الجانب ، فكه المجالسة ، ثبتا ، حسن الخط ، من أهل الإتقان والضبط.

وحكي أنه كانت عنده أصول حسان بخط عمه ، مع الصحيحين بخط الصّدفي ، في سفرين ، قال : ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ، ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه.

وذكره أبو سفيان أيضا وأبو عمر بن عات ، ورفعوا جميعا بذكره.

__________________

(١) جميل الشارة : جميل الهيئة.

(٢) في ب : محافظا على التلاوة ، بادي الخشوع.

٣٠٣

وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها آخر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وخمسمائة (١) ودفن أول يوم من سنة ست وخمسين وخمسمائة (٢) ، ودفن بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر بن عبد البر ، ومولده في رمضان ، سنة ٤٩٦.

١١١ ـ ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح ، اللخمي (٣).

من أهل غرناطة ، ونزل جزيرة شقر ، يكنى أبا القاسم ، وأخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل وسمع منه كثيرا ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وأخذ القراءات بمكة عن أبي علي بن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها ، وحج ثلاث حجات ، ودخل بغداد ، وأقام في رحلته نحوا من تسعة أعوام ، وقفل إلى الأندلس ، فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية ، وأقرأ بها القرآن نحوا من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجرا ، ولا قبل هدية ، وولي الصلاة والخطبة بجامعها ، وكان رجلا صالحا زاهدا مشاورا (٤) يشار إليه بإجابة الدعوة ، معروفا بالورع والانقباض ، وتوفي في صفر سنة ٥٨٧.

١١٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، التجيبي ، نزيل تلمسان.

من أهل لقنت عمل مرسية ، وسكن أبوه أريوله (٥) ، رحل إلى المشرق فأدى الفريضة ، وأطال الإقامة هنالك ، واستوسع في الرواية ، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين ، من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السّلفي ، صحبه واختص به وأكثر عنه ، وحكى عنه (٦) أنه لما ودعه في قفوله إلى المغرب سأله عما كتب عنه ، فأخبره أنه كتب كثيرا من الأسفار ومئتين من الأجزاء ، فسرّ بذلك ، وقال له : تكون محدّث المغرب إن شاء الله تعالى ، قد حصلت خيرا كثيرا ، قال : ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه ، وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفا مفيدا أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار ، وقفل من رحلته ، وله أربعون حديثا في المواعظ ، وأخرى في الفقر ، وفضله ، وثالثة في الحب

__________________

(١) في ب : سنة خمس وستين وخسمائة.

(٢) في ب ، ج : سنة ست وستين وخمسمائة.

(٣) انظر ترجمته في الذيل والتكملة ج ٦ ص ١٣٩.

(٤) مشاورا : غير موجودة في ب.

(٥) لعلها التي أوردها ياقوت باسم أريليه ، وهي حصن بين سرته وطليطلة من أعمال الأندلس (انظر معجم البلدان ج ١ ص ١٦٦).

(٦) عنه : غير موجودة في ب ، ه.

٣٠٤

في الله تعالى ، ورابعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلسلاته في جزء ، وكتاب «فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان» وكتاب «فضل عشر ذي الحجة» وكتاب «مناقب السبطين» وكتاب «الفوائد الكبرى» مجلد ، و «الفوائد الصغرى» جزء ، وكتاب «الترغيب في الجهاد» خمسون بابا في مجلد ، وكتاب «المواعظ والرقائق» أربعون مجلسا ، سفران ، وكتاب «مشيخة السّلفي» وغير ذلك.

ومولده بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة ، وتوفي سنة عشر وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

١١٣ ـ ومنهم الشيخ الأكبر ، ذو المحاسن التي تبهر ، سيدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله ، الحاتمي ، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عديّ بن حاتم ، الصوفي ، الفقيه ، المشهور ، الظاهري.

ولد بمرسية يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة ٥٦٠ ، قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية ، بالسبع وبكتاب الكافي ، وحدّثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبيه ، وقرأ أيضا السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشّرّاط القرطبي ، وحدّثه به عن ابن المؤلف ، وسمع على ابن أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب «التيسير» للداني عن أبيه عن المؤلف ، وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم.

وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة ٥٦٨ ، فأقام بها إلى سنة ٥٩٨ ، ثم ارتحل إلى المشرق ، وأجازه جماعة منهم الحافظ السّلي (١) وابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي ، ودخل مصر ، وأقام بالحجاز مدّة ، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم ، ومات بدمشق سنة ٦٣٨ (٢) ، ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر ، ودفن بسفح قاسيون (٣) ، وأنشدني لنفسه مؤرخا وفاته الشيخ محمد بن سعد الكلشني سنة ١٠٣٧ (٤) ، حفظه الله تعالى : [الخفيف]

إنّما الحاتميّ في الكون فرد

وهو غوث وسيّد وإمام

كم علوم أتى بها من غيوب

من بحار التّوحيد يا مستهام

إن سألتم متى توفّي حميدا

قلت أرّخت : مات قطب همام

__________________

(١) في ب : السلفي.

(٢) في بعض النسخ : سنة ٦٣٧ ه‍.

(٣) قاسيون : جبل يشرف على مدينة دمشق.

(٤) في بعض النسخ : سنة ١٠٣٨.

٣٠٥

وقال ابن الأبار : هو من أهل المريّة ، وقال ابن النجار : أقام بإشبيلية إلى سنة ٥٩٨ ، ثم دخل بلاد المشرق ، وقال ابن الأبار : إنه أخذ عن مشيخة بلده ، ومال إلى الآداب ، وكتب لبعض الولاة ، ثم رحل إلى المشرق حاجا ، ولم يعد بعدها إلى الأندلس ، وقال المنذري : ذكر أنه سمع بقرطبة من أبي القاسم بن بشكوال وجماعة سواه ، وطاف البلاد ، وسكن بلاد الروم مدّة ، وجمع مجاميع في الطريقة ، وقال ابن الأبار : إنه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين ، وأخذوا عنه ، وقال غيره : إنه قدم بغداد سنة ٦٠٨ ، وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة ، والغالب عليه طرق أهل الحقيقة ، وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوّف ، ووصفه غير واحد بالتقدّم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز ، وله أصحاب وأتباع.

ومن تأليفه (١) مجموع ضمنه منامات رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وما سمع منه ومنامات قد حدث بها عمن رآه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن النجار : وكان قد صحب الصوفية ، وأرباب القلوب ، وسلك طريق الفقر ، وحج وجاور ، وكتب في علم القوم ، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادهم (٢) ، وله أشعار حسنة ، وكلام مليح ، اجتمعت به في دمشق في رحلتي إليها ، وكتبت عنه شيئا من شعره ، ونعم الشيخ هو ، ذكر لي أنه دخل بغداد سنة ٦٠١ ، فأقام بها اثني عشر يوما ، ثم دخلها ثانيا حاجا مع الركب سنة ٦٠٨ ، وأنشدني لنفسه : [الطويل]

أيا حائرا ما بين علم وشهوة

ليتّصلا ، ما بين ضدّين من وصل

ومن لم يكن يستنشق الرّيح لم يكن

يرى الفضل للمسك الفتيق على الزّبل(٣)

وسألته عن مولده فقال : ليلة الاثنين ١٧ رمضان سنة ٥٦٠ بمرسية من بلاد الأندلس ، انتهى.

وقال ابن مسدي : إنه كان جميل الجملة والتفضيل ، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل ، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق ، والتقدم الذي لا يسبق ، سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي ، وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله ، وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه ، وأبو جعفر بن مصلّي ، وذكر أنه لقي عبد الحق الإشبيلي ، وفي ذلك عندي نظر ، انتهى.

__________________

(١) في ب : ومن تآليفه.

(٢) في ب : وزهادها.

(٣) المسك الفتيق : أراد الصريح الفائح الرائحة.

٣٠٦

قلت : لا نظر في ذلك ، فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ما معناه أو نصه : ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي ، رحمه الله تعالى! حدثني بجميع مصنفاته في الحديث ، وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي ، والأحكام الكبرى ، والوسطى ، والصغرى ، وكتاب التهجد ، وكتاب العاقبة ، ونظمه ونثره ، وحدثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه ، انتهى.

وقال : إن الحافظ السّلفي أجاز له ، انتهى.

قال بعض الحفاظ : وأحسبها الإجازة العامة ، وكان ظاهري المذهب في العبادات ، باطني النظر في الاعتقادات ، وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون ، واتفق أنه لما أقام ببلاد الروم زكاه ذات يوم الملك فقال : هذا تذلّ له الأسود ، أو كلاما هذا معناه ، فسئل عن ذلك ، فقال : خدمت بمكة بعض الصلحاء ، فقال لي يوما : الله يذلّ لك أعز خلقه ، وأمر له ملك الروم مرة بدار تساوي مائة ألف درهم ، فلما نزلها وأقام بها مرّ به في بعض (١) الأيام سائل ، فقال له : شيء لله ، فقال : ما لي غير هذه الدار ، خذها لك ، فتسلّمها السائل وصارت له.

وقال الذهبي في حقه : إن له توسعا في الكلام ، وذكاء ، وقوة خاطر ، وحافظة ، وتدقيقا في التصوف ، وتواليف جمة في العرفان ، لو لا شطحه في كلامه وشعره (٢) ، ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته ، فيرجى له الخير ، انتهى.

وقال القطب اليونيني في ذيل «مرآة الزمان» : عن سيدي الشيخ محيي الدين. رضي الله تعالى عنه ونفعنا به! ـ أنه كان يقول : إني أعرف اسم الله الأعظم ، وأعرف الكيمياء ، انتهى.

وقال ابن شودكين عنه : إنه كان يقول : ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته ، بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما ، كما كان يحكم عليه يقظة ، فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدا ، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر ، فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى.

وقال : إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك.

وقال : ينبغي للسالك أنه متى حضر له أنه يعقد على أمر ويعاهد الله تعالى عليه أن يترك

__________________

(١) في ه : مرّ به بعض الليالي سائل.

(٢) للصوفية مصطلحات في ألفاظهم وإشارات خفية وتلويحات ، فمن حاول حمل كلامهم على أوضاع اللغة وعرف الشرع كان كمن حمل كلام لغة على لغة أخرى.

٣٠٧

ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته ، فإن يسر الله تعالى فعله فعله ، وإن لم ييسر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد ، ولا يكون متصفا بنقض الميثاق.

ومن نظم الشيخ محيي الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ قوله : [الكامل]

بين التّذلّل والتّدلّل نقطة

فيها يتيه العالم النّحرير(١)

هي نقطة الأكوان إن جاوزتها

كنت الحكيم وعلمك الإكسير(٢)

وقوله أيضا رحمه الله : [الكامل]

يا درّة بيضاء لاهوتيّة

قد ركّبت صدفا من النّاسوت

جهل البسيطة قدرها لشقائهم

وتنافسوا في الدّرّ والياقوت

وحكى العماد بن النحاس الأطروش (٣) أنه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف ، وعنده الشيخ محيي الدين ، والغيث والسحاب عليهم ، ودمشق ليس عليها شيء ، قال : فقلت للشيخ : أما ترى هذه الحال؟ فقال : كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر ، يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي (٤) ، وقد اتفق الحال مثل هذه ، فقلت له مثل هذه المقالة ، فأنشدني : [المتقارب]

يطوف السّحاب بمرّاكش

طواف الحجيج ببيت الحرم

يروم نزولا فلا يستطيع

لسفك الدّماء وهتك الحرم

وحكى المقريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض ـ أفاض الله علينا من أنواره! ـ أن الشيخ محيى الدين بن العربي بعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية ، فقال : كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها ، انتهى.

وقال بعض من عرّف به : إنه لما صنف «الفتوحات المكية» كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس حيث كان ، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة ، فما ادّخر منها شيئا ، وقيل : إن صاحب حمص رتب له كل يوم مائة درهم ، وابن الزكي كل يوم ثلاثين درهما ، فكان يتصدق بالجميع ،

__________________

(١) النحرير : الحاذق الفطن.

(٢) الإكسير : ما يلقى على الفضة وغيرها فتتحول ذهبا ، ذلك من خرافات أصحاب الكيمياء القديمة.

(٣) في ه : الأطروشي.

(٤) في ج : القيداقي.

٣٠٨

واشتغل الناس بمصنفاته ، ولها (١) ببلاد اليمن والروم صيت عظيم ، وهو من عجائب الزمان ، وكان يقول: أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب.

ومن نظمه رضي الله تعالى عنه : [مجزوء الرجز]

حقيقتي همت بها

وما رآها بصري

ولو رآها لغدا

قتيل ذاك الحور

فعندما أبصرتها

صرت بحكم النّظر

فبتّ مسحورا بها

أهيم حتّى السّحر

يا حذري من حذري

لو كان يغني حذري

والله ما هيّمني

جمال ذاك الخفر(٢)

في حسنها من ظبية

ترعى بذات الخمر(٣)

إذا رنت أو عطفت

تسبي عقول البشر

كأنّما أنفاسها

أعراف مسك عطر

كأنّها شمس الضّحى

في النّور أو كالقمر

إن أسفرت أبرزها

نور صباح مسفر

أو سدلت غيّبها

سواد ذاك الشّعر

يا قمرا تحت دجى

خذي فؤادي وذري

عيني لكي أبصركم

إذ كان حظّي نظري

وقال الخويّيّ (٤) : قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه : رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة ، فسألني : كيف حالك مع أهلك؟ فقلت : [البسيط]

إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئا

تبسّمت ودنت منّي تمازحني

وإن رأته خليّا من دراهمه

تجهّمت وانثنت عنّي تقابحني

__________________

(١) في ه : وله.

(٢) الخفر : الحياء.

(٣) الخمر ، بفتح الخاء والميم : الشجر الكثير الملتف.

(٤) كذا في ب ، ه وفي ج : الخوبيّ.

٣٠٩

فقال لي : صدقت ، كلنا ذلك الرجل.

وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة ، وشيخ الطريقة ، صفي الدين حسين بن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي ، ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره ، بعد كلام ، ما صورته : ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي ، وكان من أكبر علماء الطريق ، جمع بين سائر العلوم الكسبية ، وما وقر (١) له من العلوم الوهبية ، ومنزلته شهيرة ، وتصانيفه كثيرة ، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا ، لا يكترث بالوجود ، مقبلا كان أو معرضا ، وله علماء أتباع أرباب مواجيد ، وتصانيف ، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرّار (٢) ، إخاء ورفقة في السياحات ، رضي الله تعالى عنهما في الآصال والبكرات (٣) ، ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله : [مجزوء الكامل]

يا من يراني ولا أراه

كم ذا أراه ولا يراني

وقال رحمه الله تعالى : قال لي بعض إخواني لما سمع هذا البيت : كيف تقول : إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقلت له مرتجلا : [مجزوء الكامل]

يا من يراني مجرما

ولا أراه آخذا

كم ذا أراه منعما

ولا يراني لائذا

قلت : من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤوّل ، وأنه لا يقصد ظاهره ، وإنما له محامل تليق به ، وكفاك شاهدا هذه الجزئية الواحدة ، فأحسن الظن به ولا تنتقد ، بل اعتقد ، وللناس في هذا المعنى كلام كثير ، والتسليم أسلم ، والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم.

ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر : [الطويل]

وإنّا جميعا إن نصم يوم جمعة

ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر

وإن كان يوم السّبت أوّل صومنا

فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر

__________________

(١) في ب ، ه : وفرّ.

(٢) في ج : الخراز.

(٣) الآصال : جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب.

٣١٠

وإن كان صوم الشّهر في أحد فخذ

ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري(١)

وإن هلّ بالاثنين فاعلم بأنّه

يواتيك نيل المجد في تاسع العشر(٢)

ويوم الثّلاثا إن بدا الشّهر فاعتمد

على خامس العشرين فاعمل بها تدري

وفي الأربعا إن هلّ يا من يرومها

فدونك فاطلب وصلها سابع العشر

ويوم خميس إن بدا الشّهر فاجتهد

ففي ثالث العشرين تظفر بالنّصر(٣)

وضابطها بالقول ليلة جمعة

توافيك بعد النّصف في ليلة الوتر

قلت : لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى! فإن نفسه أعلى من هذا النظم ، ولكني ذكرته لما فيه من الفائدة ، ولأن بعض الناس نسبه إليه ، فالله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.

ومما نسبه إليه رحمه الله تعالى غير واحد قوله : [المنسرح]

قلبي قطبي ، وقالبي أجفاني

سرّي خضري ، وعينه عرفاني(٤)

روحي هارون وكليمي موسى

نفسي فرعون ، والهوى هاماني

وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما ، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى ، قال : وهو من المجرّبات.

وقد تأوّل بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق ، وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ ، رحمه الله تعالى!.

وولد للشيخ محيي الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ ابنه محمد المدعوّ سعد الدين بملطية في رمضان سنة ٦١٨ ، وسمع الحديث ، ودرس ، وقال الشعر الجيد ، وله ديوان شعر مشهور ، وتوفي بدمشق سنة ٦٥٦ سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة المستعصم ، ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون ، وكان قدم القاهرة ، وسكن حلبا ، ومن شعره : [الرجز]

لمّا تبدّى عارضاه في نمط

قيل ظلام بضياء اختلط

__________________

(١) استقرى الأشياء واستقرأها : تتبعها ليعرف خواصها وأحوالها.

(٢) في ب : يواتيك نيل الوجد.

(٣) في ه : ويوم الخميس.

(٤) في ه : وقالبي أجناني.

٣١١

وقيل سطر الحسن في خدّيه خط

وقيل نمل فوق عاج انبسط

وقيل مسك فوق ورد قد نقط

وقال قوم : إنّها اللّام فقط(١)

قلت : تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله بن جزيّ الأندلسي كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار ، وقالت له فرقة : لا نشبهه إلا بما هو مناسب لصنعتنا ، فلما فرغوا قال ابن جزي : [البسيط]

أتى أولو الكتب والسّيف الأولى عزموا

من بعد سلمي على حربي وإسلامي

بكلّ معنى بديع في العذار على

ما تقتضي منهم أفكار أحلامي

فقال ذو الكتب : لا أرضى المحارب في

تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي(٢)

وقال ذو الحرب : لا أرضى الكتائب في

تشبيهه ومظلّاتي وأعلامي

فقلت : أجمع بين المذهبين معا

باللام ، فاستحسنوا التّشبيه باللّام

وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم.

رجع ـ ومن نظم سعد الدين قوله : [الكامل]

سهري من المحبوب أصبح مرسلا

وأراه متّصلا بفيض مدامع

قال الحبيب : بأنّ ريقي نافع

فاسمع رواية مالك عن نافع(٣)

ومن نظمه أيضا قوله : [الطويل]

وقالوا : قصير شعر من قد هويته ،

فقلت : دعوني لا أرى منه مخلصا

محيّاه شمس قد علت غصن قدّه

فلا عجب للظّلّ أن يتقلّصا

وقوله : [مخلع البسيط]

وربّ قاض لنا مليح

يعرب عن منطق لذيذ

إذا رمانا بسهم لحظ

قلنا له دائم النّفوذ

__________________

(١) اللام حرف من حروف الهجاء معروف ، وهو مما جرت عادة الشعراء يشبهو به العذار ، ووجه الشبه الانعطاف والالتواء ، وكما شبهوا العذار باللام شبهوه بالواو. واللام أيضا : مخفف لأم ، جمع لأمة ، وهي أداة الحرب كلها.

(٢) الأنقاس : جمع نقس ، بكسر النون وسكوت القاف : وهو المداد الذي يكتب به.

(٣) نافع : هو أبو عبد الله المدني ، مولى ابن عمر ، ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة. مات سنة ١١٧ ه‍ أو بعد ذلك (تقريب التهذيب ج ٢ ص ٢٩٦).

٣١٢

وقوله : [مجزوء الخفيف]

لك والله منظر

قلّ فيه المشارك

إنّ يوما نراك في

ه ليوم مبارك(١)

ومن نظمه أيضا ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته قوله : [البسيط]

ما للنّوى رقّة ترثي لمكتئب

حرّان في قلبه والدّمع في حلب

قد أصبحت حلب ذات العماد بكم

وجلّق إرم هذا من العجب

وتوفي الشيخ عماد الدين بالصالحية سنة ٦٦٧ ، ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكي ، رحم الله تعالى الجميع!.

وابن الزكيّ أيضا محيي الدين.

ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق : [الخفيف]

يا خليليّ في الزّيادة ظبي

سلبت مقلتاه جفني رقاده

كيف أرجو السّلوّ عنه وطرفي

ناظر حسن وجهه في الزّيادة

وله : [السريع]

علقت صوفيّا كبدر الدّجى

لكنّه في وصلي الزّاهد

يشهد وجدي بغرامي له

فديت صوفيّا له شاهد

وله أيضا : [الوافر]

صبوت إلى حريريّ مليح

تكرّر نحو منزله مسيري

أقول له : ألا ترثي لصبّ

عديم للمساعد والنّصير

أقام ببابكم خمسين شهرا

فقال : كذا مقامات الحريري(٢)

وله : [الخفيف]

__________________

(١) في ب : إن يوما تكون فيه.

(٢) المقامات : جمع مقامة ، وهي في الأصل موضع القيام ، وورى بمقامات الحريري المعروفة وهي خمسون مقامة.

٣١٣

وغزال من اليهود أتاني

زائرا من كنيسه أو كناسه(١)

بتّ أجني الشّقيق من وجنتيه

وأشمّ العبير من أنفاسه(٢)

واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب

وأمنّا الوشاة من حرّاسه

من رآني يظنّني لنحولي

واصفراري علامة فوق راسه

وله : [الخفيف]

لي حبيب بالنّحو أصبح مغرى

فهو منّي بما أعانيه أدرى

قلت : ما ذا تقول حين تنادي

يا حبيبي المضاف نحوك جهرا

قال لي : يا غلام ، أو يا غلامي ،

قلت : لبّيك ثمّ لبّيك عشرا

وله أيضا : [الكامل]

ساءلتني عن لفظة لغويّة

فأجبت مبتدئا بغير تفكّر

خاطبتني متبسّما فرأيتها

من نظم ثغرك في صحاح الجوهري

وله : [الكامل]

وعلمت أنّ من الحديد فؤاده

لمّا انتضى من مقلتيه مهنّدا(٣)

آنست من وجدي بجانب خدّه

نارا ولكن ما وجدت بها هدى

وقال الشيخ محيي الدين ـ أفاض الله تعالى علينا من أنواره ، وكسانا بعض حلل أسراره! ـ إنه بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت في بأمور عظيمة ، فقلت : هذه قد جعلها الله تعالى سببا لخير وصل إلى فلأكافئنّها ، وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها وعنها (٤) ، ففعلت ذلك ، فلما كان الموسم استدلّ على رجل غريب ، فسأله الجماعة عن قصده ، فقال : رأيت بالينبع في الليلة التي بتّ فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر ، فعجبت من كثرته ، ثم سألت : لمن هو؟ فقيل : هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة ، وسمى تلك المرأة ، ثم قال : وهذا (٥) بعض ما تستحق ، قال

__________________

(١) الكناس ، بكسر الكاف : بيت الظبي.

(٢) الشقيق : ورد أحمر ، ويقال له «شقائق النعمان».

(٣) انتضى السيف : أخرجه من غمده.

(٤) وعنها : لا توجد في ب.

(٥) في ه : وهو بعض ما تستحق يا سيدي ابن عربي.

٣١٤

سيدي ابن عربي : فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ، ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم مني ذلك ، علمت أنه تعريف من جانب الحق ، وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنها مكذوب عليها ، فقصدت المرأة وقلت : اصدقيني ، وذكرت لها ما كان من ذلك ، فقالت : كنت قاعدة قبالة البيت ، وأنت تطوف ، فشكرت الجماعة الذين كنت فيهم ، فقلت في نفسي : اللهم إني أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس ، وكنت أصومهما وأتصدق فيهما ، قال : فعلمت أن الذي وصل مني إليها بعض ما تستحق فإنها سبقت بالجميل ، والفضل للمتقدّم.

ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى : [البسيط]

يا غاية السّؤل والمأمول يا سندي

شوقي إليك شديد لا إلى أحد

ذبت اشتياقا ووجدا في محبّتكم

فآه من طول شوقي آه من كمدي

يدي وضعت على قلبي مخافة أن

ينشقّ صدري لمّا خانني جلدي

ما زال يرفعها طورا ويخفضها

حتّى وضعت يدي الأخرى تشدّ يدي

وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنه كان يقول : إنه يحفظ الاسم الأعظم ، ويقول: إنه يعرف السيميا بطريق التنزل ، لا بطريق التكسب ، انتهى والله تعالى أعلم ، والتسليم أسلم.

ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله : [السريع]

ما فاز بالتّوبة إلّا الّذي

قد تاب قدما والورى نوّم

فمن يتب أدرك مطلوبه

من توبة النّاس ولا يعلم

وله رحمه الله تعالى من المحاسن ما لا يستوفى.

وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني ـ حفظه الله تعالى! ـ قوله (١) : [الطويل]

أمولاي محيي الدّين أنت الّذي بدت

علومك في الآفاق كالغيث مذ همى

كشفت معاني كلّ علم مكتّم

وأوضحت بالتّحقيق ما كان مبهما

__________________

(١) في الأصول وفي ه : أثبت أولا ثلاثة الأبيات التي مر ذكرها في صفحة ٣٠٥ والتي أولها :

شيخنا الحاتمي في الكون فرد

وهو غيث وسيد وإمام

٣١٥

وبالجملة فهو حجة الله الظاهرة ، وآيته الباهرة ، ولا يلتفت إلى كلام من تكلم فيه ، ولله در السيوطي الحافظ! فإنه ألف «تنبيه الغبي ، على تنزيه ابن عربي» ومقام هذا الشيخ معلوم ، والتعريف به يستدعي طولا ، وهو أظهر من نار على علم.

وكان بالمغرب يعرف بابن العربي بالألف واللام ، واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام ، فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي.

وقال ابن خاتمة في كتابه «مزية المرية» ما نصه : محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي ، من أهل إشبيلية ، وأصله من مرسية ، يكنى أبا بكر ، ويعرف بابن العربي ، وبالحاتمي أيضا ، أخذ عن مشيخة بلده ، ومال إلى الآداب ، وكتب لبعض الولاة بالأندلس ، ثم رحل إلى المشرق حاجّا فأدّى الفريضة ، ولم يعد بعدها إلى الأندلس ، وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني (١) ومن غيره ، وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن بن أبي نصر في شوّال سنة ٦٠٦ ، وكان يحدّث بالإجازة العامّة عن أبي طاهر السّلفي ، ويقول بها ، وبرع في علم التصوف ، وله في ذلك تواليف كثيرة : منها «الجمع والتفصيل ، في حقائق التنزيل» و «الجذوة المقتبسة ، والخطرة المختلسة» وكتاب «كشف المعنى ، في تفسير الأسماء الحسنى» وكتاب «المعارف الإلهية» وكتاب «الإسرا إلى المقام الأسرى» (٢) وكتاب «مواقع النجوم ، ومطالع أهلة أسرار العلوم» وكتاب «عنقاء مغرب ، في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب» وكتاب في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي ، والرسالة الملقبة «بمشاهد الأسرار القدسية ، ومطالع الأنوار الإلهية» في كتب أخر عديدة ، وقدم على المريّة من مرسية مستهلّ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، وبها ألف كتابه الموسوم ب «مواقع النجوم» انتهى.

ولا خفاء أن مقام الشيخ عظم بعد انتقاله من المغرب ، وقد ذكر رحمه الله تعالى في بعض كتبه أن مولده بمرسية.

وفي الكتاب المسمى ب «الاغتباط ، بمعالجة ابن الخياط» تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس ، قدس الله تعالى روحه! الذي ألفه بسبب سؤال سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدس الله تعالى سره العزيز في كتبه المنسوبة إليه ، ما صورته :

__________________

(١) في ج : الخرستاني ، بخاء معجمة ، وهو تحريف. وأبو القاسم الحرستاني نسبة إلى حرستا وهي قرية كبيرة عامرة في وسط دمشق على طريق حمص.

(٢) الأسرى : الأفضل والأشرف.

٣١٦

ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بها أزر الدين ، ولمّ بهم شعث المسلمين ، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص ، هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحوزوا جميل الثواب ، من الله الكريم الوهاب ، والحمد لله وحده.

فأجابه بما صورته (١) : الحمد لله ، اللهم أنطقنا بما فيه رضاك ، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به ، أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما ، وإمام الحقيقة حقيقة ورسما ، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما : [البسيط]

إذا تغلغل فكر المرء في طرف

من بحره غرقت فيه خواطره

وهو عباب لا تكدره الدّلاء ، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء ، وكانت دعواته تخترق السبع الطّباق ، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق ، وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته ، وناطق بما كتبته ، وغالب ظني أني ما أنصفته [البسيط].

وما عليّ إذا ما قلت معتقدي

دع الجهول يظنّ العدل عدوانا

والله والله والله العظيم ومن

أقامه حجّة للدّين برهانا

بأنّ ما قلت بعض من مناقبه

ما زدت إلّا لعلّي زدت نقصانا

وأما كتبه ومصنفاته فالبحار الزواخر ، التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أول ولا آخر ، ما وضع الواضعون مثلها ، وإنما خص الله سبحانه بمعرفة قدرها أهلها ، ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها ، وتأمل ما في مبانيها ، انشرح صدره لحل المشكلات ، وفك المعضلات ، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية ، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها : وأجزته أيضا أن يروي عنه مصنفاتي ، ومن جملتها كذا وكذا ، حتى عد نيفا وأربعمائة مصنف ، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] وتوفي ولم يكمل ، وهذا التفسير كتاب عظيم ، كل سفر بحر لا ساحل له ، ولا غرو فإنه صاحب الولاية العظمى ، والصديقية الكبرى ، فيما نعتقد وندين الله تعالى به ، وثم طائفة ، في الغي حائفة (٢) ، يعظمون عليه النكير ، وربما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير ، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها ، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها (٣). [البسيط]

__________________

(١) في ب ، ه : فأجابه ما صورته.

(٢) الحائفة : المائلة عن القصد ، الجائرة في الحكم.

(٣) مجانيها : أراد هنا : ثمارها.

٣١٧

عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر(١)

هذا الذي نعلم ونعتقد ، وندين الله تعالى به في حقه ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصورة استشهاده : كتب محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى ، عفا الله عنه!.

وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح ، بل كذب وزور ، فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلهم عن خادم الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال : كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق ، فقال بعضهم : هل هي عربية أو عجمية؟ فقال بعض الفضلاء : إنما هي فارسية معربة ، أصلها زن دين ، أي على دين المرأة ، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان ، فقال بعضهم : مثل من؟ فقال آخر إلى جانب الشيخ : مثل ابن عربي بدمشق ، فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه ، قال الخادم : وكنت صائما ذلك اليوم ، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه ، فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا ، فقلت له : يا سيدي ، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال : مالك ولهذا؟ كل ، فعرفت أنه يعرفه ، فتركت الأكل وقلت له : لوجه الله تعالى عرّفني به ، من هو؟ فتبسم رحمه الله تعالى وقال لي : الشيخ محيي الدين بن عربي ، فأطرقت ساكتا متحيرا ، فقال : مالك؟ فقلت : يا سيدي ، قد حرت ، قال : لم؟ قلت : أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت؟ فقال : اسكت ذلك مجلس الفقهاء ، هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.

وأما قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير ، كان الشيخ كمال الدين (٢) الزملكاني من أجلّ مشايخ الشام أيضا يقول : ما أجهل هؤلاء! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها ، فيأتوني لأحلّ لهم مشكله ، وأبين لهم مقاصده ، بحيث يظهر لهم الحق ، ويزول عنهم الوهم.

وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لما رجع من الشام إلى بلاده : كيف وجدت ابن عربي؟ فقال : وجدته بحرا زخارا لا ساحل له.

وهذا الشيخ صلاح الدين الصّفدي له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في

__________________

(١) البيت للبحتري ، الشاعر العباسي المشهور.

(٢) نسبة إلى زملكا ، وهي قرية بغوطة دمشق ، نسب إليها كثير من العلماء منهم أحمد بن محمد الزملكاني شيخ أبي بكر المقري (معجم البلدان ج ٣ ص ١٥٠).

٣١٨

مجلدات كثيرة ، وهي موجودة في خزانة السلطان ، تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية.

وقوله في شيء من الكتب المصنفة كالفصوص وغيره : إنه صنفه بأمر من الحضرة الشريفة النبوية ، وأمره بإخراجه إلى الناس.

قال الشيخ محيي الدين الذهبي (١) حافظ الشام : ما أظن المحيي يتعمد الكذب أصلا ، وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية.

ثم إن الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى كان مسكنه ومظهره بدمشق ، وأخرج هذه العلوم إليهم ، ولم ينكر عليه أحد شيئا من ذلك ، وكان قاضي القضاة الشافعية في عصره شمس الدين أحمد الخويّي يخدمه خدمة العبيد ، وقاضي القضاة المالكية زوجه بابنته ، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ.

وأما كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلدات ، وقول المنكرين في حق مثله غثاء (٢) وهباء لا يعبأ به ، والحمد لله تعالى ، انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني ، رضي الله تعالى عنه!.

وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب ، وكفى بذلك دليلا على ما منحه الله الذي يفتح لمن شاء الباب ، وقد اعتنى بتربته بصالحية دمشق سلاطين بني عثمان ، نصرهم الله تعالى على توالي الأزمان! وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة ، ورتب له الأوقاف ، وقد زرت قبره وتبركت به مرارا ، ورأيت لوائح الأنوار عليه ظاهرة ، ولا يجد منصف محيدا إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة ، وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة ١٠٣٧.

وقال في «عنوان الدراية» : إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة ، وهو فصيح اللسان ، بارع فهم الجنان ، قوي على الإيراد ، كلما طلب الزيادة يزاد ، رحل إلى العدوة ، ودخل بجاية (٣) في رمضان سنة ٥٩٧ ، وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعة من

__________________

(١) محيي الدين الذهبي : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز. ولد سنة ٦٧٣ ه‍ ، وعني بالقراءات من صغره ، ثم اشتغل بالحديث فبلغت شيوخه في الحديث وغيره ألفا. له مؤلفات كثيرة. (غاية النهاية ج ١ ص ٧١).

(٢) الغثاء : الزبد ، والهالك من ورق الشجر.

(٣) بجاية : مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب ، كان أول من اختطها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري بن مناد بن بلكين سنة ٤٥٧ ه‍ (معجم البلدان ج ١ ص ٣٣٩).

٣١٩

الأفاضل ، ولما دخل بجاية في التاريخ المذكور قال : رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها ، فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية ثم لما كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها ، ثم عرضت رؤياي هذه على من قصّها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها ، وقلت للذي عرضتها عليه : لا تذكرني ، فلما ذكر الرؤيا (١) استعظمها وقال : هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره ، صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه ، ثم سكت ساعة وقال : إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها.

ثم قال صاحب العنوان ما ملخصه : إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق ، واستقرت به الدار ، وألف تواليفه ، وفيها ما فيها إن قيّض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام ، وإن كان ممن ينظر بالظاهر فالأمر صعب ، وقد نقد عليه أهل الديار المصرية وسعوا في إراقة دمه ، فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي ، فإنه سعى في خلاصه وتأول كلامه ، ولما وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ رحمه الله تعالى : كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت؟ فقال له : يا سيدي ، تلك شطحات في محل سكر ولا عتب على سكران وتوفي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة ، وكان يحدث بالإجازة العامة عن السّلفي ، رحمه الله تعالى! انتهى.

ومن موشحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله (٢) :

مطلع

سرائر الأعيان

لاحت على الأكوان للناظرين

والعاشق الغيران

من ذاك في حرّان(٣)

يبدي الأنين

دور

يقول والوجد أضنا

ه والبعد قد حيّره

__________________

(١) في ب : فلما ذكر هذه الرؤيا.

(٢) انظر ديوان ابن عربي ص ٨٥.

(٣) في ب : في بحران.

٣٢٠