نفح الطّيب - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

ويبخل علينا

بردّ السّلام

أدخلت يا قلبي

روحك في زحام

سلامتك عندي

هي شيء عجيب(١)

وكيف بالله يسلم

من هو في لهيب(٢)

دور

بالله يا حبيبي

أترك ذا النّفار(٣)

واعمد أن نطيب

في هذا النّهار

واخرج معي للوادي

لشرب العقار(٤)

نتمّم نهارنا

في لذّة وطيب

في الأرحا وإلّا

في المرج الخصيب

دور

أو عند النواعير

والروض الشريق

أو قصر الرصافة

أو وادي العقيق

رحيق والله دونك

هو عندي الحريق(٥)

وفي حبّك أمسيت

في أهلي غريب

وما الموت عندي

إلّا حين تغيب(٦)

دور

اتّكل على الله

وكن قط جسور(٧)

وإن رإيت فضولي

فقل أي تمور(٨)

كمش عنيّ وجهك

فإن رآك نفور(٩)

__________________

(١) في ب : هي شيء عجيب.

(٢) وكف بالله يسلم.

(٣) في ب واعمل أن نطيبو.

(٤) العقار : الخمرة.

(٥) في ب : رحق والله دونك ، وفي ج : حرق والله دونك.

(٦) في ب : حن تغيب.

(٧) في ب : فظ جسور.

(٨) في ب : وإن ريت فضولي فقل إين تمور.

(٩) في ب : كمش عنّو وجهك فإن راك نفور.

٢١

يهرب عنّك خائف

ويبقى مريب

وامش أنت موقر

كأنك خطيب

دور

ما أعجب حديثي

إيش هذا الجنون

نطلب وندبّر

أمرا لا يكون

وكم ذا نهوّن

شيئا لا يهون

وإيش مقدار ما نصبر

لبعد الحبيب(٢)

ربّ اجمعني معو

عاجلا قريب

قال ابن سعيد : وأما نهر قرطبة فإنه يصغر عن عظمه عند إشبيلية ، بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتي مثلها في نهر إشبيلية ، ومنبعه من جهة شقورة (٣) يمرّ النصف منه إلى مرسية مشرقا والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغربا.

ولما ذكر الرازي قرطبة قال : ونهرها الساكن في جريه ، اللين في انصبابه ، الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله.

وقال هذا لأنه يعظم عند إشبيلية ، فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق ، وتوقع أهلها الهلاك.

والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها ، أقواسها سبعة عشر قوسا ، وبانيها على ما ذكره ابن حيّان وغيره السّمح بن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وشيدها بنو أمية بعد ذلك وحسنوها ، قال ابن حيان : وقيل : إنه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بناء الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثّرت فيها الأزمان بمكابدة المدود (٤) حتى سقطت حناياها ، ومحيت أعاليها ، وبقيت أرجلها وأسافلها ، وعليها بنى السّمح في سنة إحدى ومائة ، انتهى.

وقال في مناهج الفكر : إن قنطرة قرطبة إحدى أعاجيب الدنيا ، بنيت زمن عمر بن

__________________

(١) في ب : إشّ هذا.

(٢) في ب : وإش مقدار.

(٣) شقورة : مدينة من أعمال جيان بالأندلس (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ١٠٥).

(٤) المدود : جمع مدّ ؛ وهو ارتفاع ماء النهر.

٢٢

عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي ، وطولها ثمانمائة ذراع (١) ، وعرضها عشرون باعا ، وارتفاعها ستون ذراعا ، وعدد حناياها ثمان عشرة حنية ، وعدد أبراجها تسعة عشر برجا ، انتهى.

رجع إلى قرطبة ـ ذكر ابن حيان والرازي والحجاري أن التنبان (٢) ـ ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدنيا وصفّح نهر رومية بالصّفر ، فأرخت الروم من ذلك العهد ، وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة ـ أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس ، فبنيت في مدته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة ، وانفرد الحجاري بأن التنبان (٣) المذكور وجّه أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاه عليها ، وسماها باسمه ، وأن هذه الأسماء الأربعة كانت أسماء لأولئك الملوك ، وغير الحجاري جعل أسماء هذه المدن مشتقّة مما تقتضيه أوضاعها كما مرّ ، وذكروا أنه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام! إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلبون على الأندلس ، إلى أن أخذها منهم المسلمون ، ولم تكن في الجاهلية سريرا لسلطنة الأندلس ، بل كرسيّا لخاصّ مملكتها ، وسعدت في الإسلام ، فصارت سريرا للسلطنة العظمى الشاملة ، وقطبا للخلافة المروانية ، وصارت إشبيلية وطليطلة تبعا لها ، بعد ما كان الأمر بالعكس ، والله يفعل ما يشاء ، بيده الملك والتدبير ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا هو العليّ الكبير.

وقال صاحب «نشق الأزهار» عند ما تعرض لذكر قرطبة : هي مدينة مشهورة ، دار خلافة ، وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل ، وبها جامع ليس في الإسلام مثله ، انتهى.

ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث (٤) البربر بها في دخولهم مع سليمان المستعين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء ، وكان من أمراء البربر المعاضدين لسليمان عليّ بن حمود من بني عليّ بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين! ـ وجدّه إدريس هرب من هارون الرشيد إلى البربر ، فتبربر ولده ، وبنى ابنه إدريس مدينة فاس ، وكان المؤيد هشام يشتغل بالملاحم ، ووقف على أن دولة بني أمية تنقرض بالأندلس على يد علويّ أول اسمه عين ، فلما

__________________

(١) في ه : ثمانمائة باع.

(٢) في ب ، ه : اكتبيان ، ولعله الأصح ، ولعله أوكتافيوس قيصر ، ملك الروم.

(٣) في ب ، ه : اكتبيان ، ولعله الأصح ، ولعله أوكتافيوس قيصر ، ملك الروم.

(٤) عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا : أفسد.

٢٣

دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيرا من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم عليّ بن حمود ، وبلغ هشاما المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدسّ إليه أن الدولة صائرة إليك ، وقال له : إن خاطري يحدثني أن هذا الرجل يقتلني ، يعني سليمان ، فإن فعل فخذ بثأري ، وكان هذا الأمر هو الذي قوّى نفس ابن حمّود على طلب الإمامة ، وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد ، فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته.

وتولى بعد ذلك عليّ بن حمّود ، وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين ، وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة ، وأذلّ رؤوس البربر ، وبرقت للعدل في أيامه بارقة خلّب (١) لم تكد تقد حتى خبت (٢) وجلس للمظالم ، وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم ، وأهلهم وعشائرهم ينظرون ، وخرج يوما على باب عامر فالتقى فارسا من البربر وأمامه حمل عنب ، فاستوقفه وقال له : من أين لك هذا؟ فقال : أخذته كما يأخذ الناس ، فأمر بضرب عنقه ، ووضع رأسه وسط الحمل ، وطيف به في البلد ، واستمرّ على هذا مع أهل قرطبة في أحسن عشرة نحو ثمانية أشهر ، حتى بلغه قيام الأندلسيين بالمرتضى المروانيّ في شرق الأندلس ، فتغير عما كان عليه ، وعزم على إخلاء قرطبة وإبادة أهلها ، فلا يعود لأئمتهم بها سلطان آخر الدهر ، وأغضى للبربر عن ظلمهم فعاد البلاء إلى حاله ، وانتزع الإسلام من أهل قرطبة ، وهدم المنازل ، واستهان بالأكابر ، ووضع المغارم ، وقبض على جماعة من أعيانهم وألزمهم بمال ، فلما غرموه سرّحهم فلما جيء إليهم بدوابهم ليركبوها أمر من أخذ الدواب ، وتركهم ينزلون إلى منازلهم على أرجلهم ، وكان منهم أبو الحزم الذي ملك قرطبة بعد وصارت دولته بوراثة ولده معدودة في دول الطوائف ، فانجمعت عن عليّ النفوس ، وتوالى عليه الدعاء ، فقتله صبيان أغمار من صقالبة بني مروان في الحمام ، وكان قتله غرة ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة ، وكان الصقالبة ثلاثة فهربوا واختفوا في أماكن يعرفونها ، وصحّ عند الناس موته ، ففرحوا ، وكانت مدته كما مرّ نحو عامين ، وحققها بعض فقال : أحد وعشرون شهرا وستة أيام.

وكان الناصر عليّ بن حمود ـ على عجمته ، وبعده من الفضائل ـ يصغي إلى الأمداح ، ويثيب عليها ، ويظهر في ذلك آثار النسب العربيّ والكرم الهاشميّ ، ومن شعرائه المختصّين به ابن الحناط (٣) القرطبي ، ومن شعره قوله : [الكامل]

__________________

(١) خلّب : السحاب الذي يلمع برقه ولا مطرفيه.

(٢) تقد : تتّقد وتشتعل. وخبت : انطفأت.

(٣) في أ : ابن الخياط. والصحيح ما أثبتناه. انظر الذخيرة ج ١ ، ص ٣٩٠.

٢٤

راحت تذكّر بالنّسيم الرّاحا

وطفاء تكسر للجنوح جناحا

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت

من برقها كي تهتدي مصباحا

وعبادة بن ماء السماء ، وكان معروفا بالتشيّع ، وفيه يقول من قصيدة : [الطويل]

أبوكم عليّ كان بالشّرق بدء ما

ورثتم ، وذا بالغرب أيضا سميّه

فصلّوا عليه أجمعون وسلّموا

له الأمر إذ ولّاه فيكم وليّه

ومدحه ابن درّاج القسطلّيّ بقوله : [المتقارب]

لعلّك يا شمس عند الأصيل

شجيت لشجو الغريب الذّليل

فكوني شفيعي لابن الشّفيع

وكوني رسولي لابن الرّسول

وكان أخوه القاسم بن حمود أكبر منه بعشر سنين ، وأمّهما واحدة ، وهي علوية ، ولما قتل الناصر كان القاسم واليا على إشبيلية ، وكان يحيى بن عليّ واليا على سبتة ، فاختلف هؤلاء البربر (١) ، فمال أكثرهم إلى القاسم لكونه غبن أوّلا ، وقدّم عليه أخوه الأصغر ، وكونه قريبا من قرطبة ، وبينهم وبين يحيى البحر ، فلما وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحا بالإمامة ، وخاف أن تكون حيلة من أخيه عليه ، فتقهقر إلى أن اتّضح له الحقّ ، فركب إلى قرطبة ، وبويع فيها بعد ستة أيام من قتل أخيه ، وأحسن السيرة ، وأحسّ من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه عليّ صاحب سبتة ، فتهالك في اقتناء السودان ، وابتاع منهم كثيرا ، وقوّدهم على أعماله (٢) ، فأنفت البرابر من ذلك ، وانحرفوا عنه.

وفي سنة تسع وأربعمائة قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن بن أعقاب الناصر ، لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمّود العلويين بسبب البرابر ، فأرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان ، واجتمع له أكثر ملوك الطوائف ، وكان معه حين أقبل لقرطبة منذر التجيبيّ صاحب سرقسطة وخيران العامري الصّقلبي صاحب المرية ، وانضاف إليهم جمع من الفرنج ، وتأهب القاسم والبرابرة للقائهم ، فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نية منذر وخيران على المرتضى ، وقالا : أرانا في الأوّل وجها ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجمّ الغفير (٣) ، وهذا ماكر غير صافي النية ، فكتب خيران إلى ابن زيري الصّنهاجي المتغلب على غرناطة ـ وهو داهية البربر ـ وضمن له أنه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى

__________________

(١) في ب : فاختلفت أهواء البربر.

(٢) قوّدهم على أعماله : جعلهم قادة.

(٣) الجم الغفير : العدد الكبير.

٢٥

قرطبة خذّل (١) عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور ، فأصغى ابن زيري إلى ذلك ، وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته ، فقلب الكتاب ، وكتب في ظهره (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) [الكافرون : ١]. فأرسل إليه كتابا ثانيا يقول فيه : قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج ، فماذا تصنع؟ وختم الكتاب بهذا البيت : [البسيط]

إن كنت منّا أبشر بخير

أو لا فأيقن بكلّ شرّ

فأمر الكتاب أن يحوّل الكتاب ويكتب في ظهره (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) [التكاثر : ١] السورة. فازداد حنقه ، وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى حضرة الإمامة قرطبة ، وعدل إلى محاربته ، وهو يرى أن يصطلمه (٢) في ساعة من نهار ، ودامت الحرب أياما ، وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده (٣) ، فأجابه : إنما توقفت حتى ترى مقدار حربنا وصبرنا ، ولو كنا ببواطننا معك ، فأثبت جمعك لنا ، ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد.

ولما كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولّت عنه ، فسقط في يد المرتضى ، وثبت حتى كادوا يأخذونه. واستحرّ القتل (٤) ، وصرع كثير من أصحابه ، فلما خاف القبض عليه ولّى ، فوضع عليه خيران عيونا فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه ، فهجموا عليه ، فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المريّة ، وقد حلّ بها خيران ومنذر ، فتحدث الناس أنهما اصطبحا عليه سرورا بهلاكه.

وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة ، ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم ، وضرب القاسم بن حمود سرادق المرتضى على نهر قرطبة ، وغشية خلق من النظارة وقلوبهم تتقطع حسرات ، وأنشد عباد بن ماء السماء قصيدته التي أولها : [الطويل](٥)

لك الخير خيران مضى لسبيله

وأصبح أمر الله في ابن رسوله

وتمكنت أمور القاسم ، وولّى وعزل ، وقال وفعل ، إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن عليّ ، وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة : إنّ عمي أخذ ميراثي من أبي ، ثم إنه قدّم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان ، وأنا أطلب ميراثي ،

__________________

(١) خذّل عن نصرته الموالي : أغراهم بالتقاعس عن نصرته.

(٢) يصطلمه : يستأصله.

(٣) يستنجزه وعده : يطلب منه إنجازه.

(٤) استحرّ القتل : اشتد وكثر.

(٥) في الذخيرة ج ١ ص ٣٩٦ : القصيدة لابن الحناط.

٢٦

وأوليكم مناصبكم ، وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس ، فأجابوه إلى ذلك ، فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة ، فجاز البحر بجمع وافر ، وحصل بمالقة مع أخيه ، وكتب له خيران صاحب المريّة مذكرا بما أسلفه في إعانة أبيه ، وأكد المودة فقال له أخوه إدريس : إن خيران رجل خداع ، فقال يحيى : ونحن منخدعون فيما لا يضرنا ، ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقا بأن البرابر معه ، ففرّ القاسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصه ليلة السبت ٢٨ من شهر ربيع الآخر سنة ٤١٣ (١) ، وحلّ يحيى بقرطبة ، فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهلّ جمادى الآخرة ، وكان يحيى من النجباء ، وأمه فاطمية ، وإنما كانت آفته العجب واصطناع السّفلة ، واشتطّ أكابر البرابر عليه ، وطلبوا ما وعدهم من إسقاط مراتب السودان ، فبذل لهم ذلك ، فلم يقنعوا منه ، وصاروا يفعلون معه ما يخرق الهيبة ويفرغ بيت المال ، وفرّ السودان إلى عمه بإشبيلية ، ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم ، ولم يمل إليه ملوك الطوائف ، وبقي منهم كثير على الخطبة لعمه القاسم ، إلى أن اختلّت الحال بحضرة قرطبة ، وأيقن يحيى أنه متى أقام بها قبض عليه ، وكان قد ولّى على سبتة أخاه إدريس ، وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه ، فطمع خيران فيها ، وفرّ يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة ، ولما بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة ، فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ٤١٣ ، ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة ، ووقع الاختلاف ، وكان هوى السودان معه ، وهوى كثير من البرابر مع يحيى ، وهوى أهل قرطبة مع قائم من بني أمية يشيعون ذكره ولا يظهر ، وكثر الإرجاف بذلك (٢) ، ووقع الطلب على بني أمية فتفرقوا في البلاد ، ودخلوا في أغمار الناس ، وأخفوا زيّهم ، ثم إن الخلاف وقع بين البربر وأهل قرطبة ، وتكاثر البلديّون ، وأخرجوا القاسم وبرابرته فضرب خيمة بغربيها ، وقاتلهم مدّة خمسين يوما قتالا شديدا ، وبنى القرطبيون أبواب مدينتهم ، وقاتلوا القاسم من الأسوار إلى أن طال عليهم الحصار ، فهدموا بابا من الأبواب وخرجوا خرجة رجل واحد ، وصبروا ، فمنحهم الله تعالى الظفر ، وفر السودان مع القاسم إلى إشبيلية ، وفر البرابرة إلى يحيى وهو بمالقة ، وكان فرار القاسم من ظاهر قرطبة يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٤١٤.

وكان ابنه محمد بن القاسم واليا على إشبيلية ، وثقته المدبر لأمره محمد بن زيري من أكابر البرابرة ، وقاضيها محمد بن عباد ، فعمل القاضي لنفسه ، وهو جدّ المعتمد بن

__________________

(١) في ب ، ه : سنة ٤١٢ ه‍.

(٢) الإرجاف : الخوض في الأخبار السيئة وذكر الفتن.

٢٧

عباد (١) ، وأطمع ابن زيري في التملك ، فأغلق الأبواب في وجه مصطنعه وحاربه ، فقتل من البرابر والسودان خلق كثير ، وابن عباد يضحك على الجميع ، فيئس القاسم ، وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم ، فأخرجوهم إليه ، فسار بهم إلى شريش. وعند ما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب ، وقتل من الفريقين خلق كثير ، وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له ، وفر سودانه ، وحصل القاسم وابنه في يد يحيى ، وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتلنه ، ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثالثة ، فرأى التربّص (٢) في قتله حتى يرى رأيه فيه ، فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة ، وحبسه عنده ، وكان كلما سكر وأراد قتله رغّبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص ، وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ، ويقول له : أخي أكبر مني ، وكان محسنا إلي في صغري ومسلما إليّ (٣) عند إمارتي ، الله الله فيه ، وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه ، لأنه قد كان حبسه في حصن من حصون مالقه ، فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال : أو بقي في رأسه حديث (٤) بعد هذا العمر؟ فقتله سنة ٤٢٧ ، وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن عشرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة.

ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة ٤١٤ أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه ، فبايعا المستظهر ، وقبّلا يده بعد ما كان قد كتب عقد البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل ، فبشر اسمه ، وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر ، وحمل معه ابني عمه المذكورين فحبسهما ، وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب ، كأبي عامر بن شهيد المنهمك (٥) في بطالته ، وأبي محمد بن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته ، وابن عمه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته ، فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر ، وبادر المستظهر باصطناع البرابر ، وأكرم مثواهم ،

__________________

(١) محمد بن عباد : هو جد المعتمد بن عباد ، عمل أثناء الفتنة على أن تكون له إشبيلية فخضعت له. توفي سنة ٤٣٠ ه‍.

(٢) التربّص : الانتظار.

(٣) في ب ، ج ، ه : ومسلما لي.

(٤) في ه : حدث.

(٥) في بعض النسخ : المنهتك ، وفي أخرى : المنتهك ، وفي ثالثة : المتمسك.

٢٨

وأحسن مأواهم ، واشتغل مع ابن شهيد وابن حزم بالمباحثة في الآداب ، ونظم الشعر ، والتمسك بتلك الأهداب ، والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون ، وكان جماعة من أهل الشرّ في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان ، فأخرج منهم شخصا يقال له أبو عمران ، وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه ، فأخرجه وخالفه في ذلك ، ولم يقبل النصيحة ، وفعل ما أداه إلى الفضيحة ، فسعى القوم الذين خرجوا من الحبوس على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبؤس ، لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس ، فسعوا في خلعه مع البرابر ، وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها ، وصار كأمس الدابر ، بعد سبعة وأربعين يوما من يوم بويع بالخلافة ، وإذا أراد الله أمرا فلا يقدر أحد أن يأتي خلافه ، وعمره ثلاث وعشرون سنة كأنها سنة (١).

ومن شعر المستظهر المذكور ، وهو من القريض الممدوح صاحبه بالبلاغة المشكور : [مجزوء الرمل]

طال عمر اللّيل عندي

مذ تولّعت بصدّي

يا غزالا نقض العه

د ولم يوف بوعد

أنسيت العهد إذ بت

نا على مفرش ورد

واعتنقنا في وشاح

وانتظمنا نظم عقد

ونجوم اللّيل تسري

ذهبا في لازورد

وكتب إليه شاعر في طرس (٢) مكشوط : [الكامل]

الطّرس مبشور وفيه بشارة

ببقا الإمام الفاضل المستظهر

ملك أعاد العيش غضّا ملكه

وكذا يكون به طوال الأعصر

فأجزل صلته ، وكتب في ظهر الورقة : [الوافر]

قبلنا العذر في بشر الكتاب

لما أحكمت في فصل الخطاب

وقد قدمنا في الباب الثالث شيئا من هذه الأخبار ، وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة ، ثم ابنه ، إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد ، حسبما ذكر في أخباره.

__________________

(١) السّنة ـ بكسر العين : الغفلة ، أول النوم.

(٢) الطرس : الصحيفة.

٢٩

ثم آل الأمر بعد ذلك كله إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثمين والموحّدين ، على قرطبة ، إلى أن تسلمها النصارى ، أعادها الله تعالى للإسلام! كما يذكر في الباب الثامن.

وقال صاحب «مناهج الفكر» في ذكر قرطبة ، ما ملخصه : فأما ما اشتمل عليه غرب الجزيرة ، من البلاد الخطيرة ، فمنها قرطبة ، وكانت مقر الملك ، ودار الإمارة ، وأمّ ما عداها من البلاد ، منذ افتتحها المسلمون سنة ٩٢ زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم ، وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن ، فبنى في تجاهها مدينة سماها الزهراء ، يجري بينهما نهر عظيم ، انتهى.

واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها ، كما ذكرناه في كلام الناصر الذي طابت له من الزهراء مجانيها ، ولم يزل البلغاء يصفون المباني ، بأحسن الألفاظ والمعاني ، ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك ، زيادة في توسيع المسالك ، فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي (١) يصف دارا بناها المعتمد على الله (٢) : [الطويل]

ويا حبّذا دار قضى الله أنّها

يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى(٣)

مقدّسة لو أن موسى كليمه

مشى قدما في أرضها خلع النّعلا

وما هي إلّا خطّة الملك الّذي

يحطّ إليه كلّ ذي أمل رحلا(٤)

إذا فتحت أبوابها خلت أنّها

تقول بترحيب لداخلها أهلا

وقد نقلت صنّاعها من صفاته

إليها أفانينا فأحسنت النّقلا

فمن صدره رحبا ومن نوره سنى

ومن صيته فرعا ومن حلمه أصلا

فأعلت به في رتبة الملك ناديا

وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى

نسيت به إيوان كسرى لأنّني

أراه له مولى من الحسن لا مثلا

كأنّ سليمان بن داود لم تبح

مخافته للجنّ في صنعه مهلا

__________________

(١) ابن حمديس الصقلي : هو عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس. ولد ونشأ في سرقوسة ثم هاجر إلى الأندلس ، ومدح المعتمد بن عباد إلى أن عزل عن ملكه ، فغادر الشاعر الأندلس إلى المغرب ، وظل يتنقل إلى أن توفي سنة ٥٢٧ ه‍. (انظر مقدمة ديوانه ط صادر بيروت).

(٢) انظر ديوان الشاعر ص ٣٧٥ ـ ٣٨٠.

(٣) البيت في الديوان :

ويا حبذا دار يد الله مسحت

عليها بتجديد البقاء فما تبلى

(٤) في ب : يخطّ إليه كل ذي أمل رجلا.

٣٠

ترى الشّمس فيه ليقة تستمدها

أكفّ أقامت من تصاويرها شكلا

لها حركات أودعت في سكونها

فما تبعت في نقلهنّ يد رجلا

ولمّا عشينا (١) من توقد نورها

تخذنا سناه في نواظرنا كحلا

وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن أعلى الناس ببجاية (٢) : [الكامل]

اعمر بقصر الملك ناديك الّذي

أضحى بمجدك بيته معمورا

قصر لو أنّك قد كحلت بنوره

أعمى لعاد إلى المقام بصيرا

واشتقّ من معنى الجنان نسيمه

فيكاد يحدث بالعظام نشورا

واشتقّ من معنى الجنان نسيمه

فيكاد يحدث بالعظام نشورا(٣)

نسي الصبيح مع المليح بذكره

وسما ففاق خورنقا وسديرا

لو أنّ بالإيوان قوبل حسنه

ما كان شيئا عنده مذكورا(٤)

أعيت مصانعه على الفرس الألى

رفعوا البناء وأحكموا التّدبيرا

أعيت مصانعه على الفرس الألى

لملوكهم شبها له ونظيرا

أذكرتنا الفردوس حين أريتنا

غرفا رفعت بناءها وقصورا

فالمحسنون تزيّدوا أعمالهم

ورجوا بذلك جنّة وحريرا

والمذنبون هدوا الصّراط وكفّرت

حسناتهم لذنوبهم تكفيرا

فلك من الأفلاك إلّا أنّه

حقر البدور فأطلع المنصورا

أبصرته فرأيت أبدع منظر

ثمّ انثنيت بناظري محسورا

فظننت أني حالم في جنّة

لمّا رأيت الملك فيه كبيرا (٥)

وإذا الولائد فتّحت أبوابه

جعلت ترحّب بالعفاة صريرا

عضّت على حلقاتهنّ ضراغم

فغرت بها أفواهها تكسيرا (٦)

فكأنّها لبدت لتهصر عندها

من لم يكن بدخولها مأمورا(٧)

__________________

(١) عشينا : ساء بصرنا.

(٢) ديوان ابن حمديس ص ٥٤٥ مطلعها :

واعمر بقصر الملك نادينا الذي

أضحى بمجدك بيته معمورا

(٣) في ب : واشتق من معنى الحياة.

(٤) في ب : ولو أنّ بالإيوان.

(٥) في ب : وظننت.

(٦) في ب : تكشيرا ، وفي ج تكبيرا.

(٧) في ب ، ه : بدخوله مأمورا.

٣١

تجري الخواطر مطلقات أعنّة

فيه فتكبو عن مداه قصورا

بمرخّم الساحات تحسب أنه

فرش المها وتوشّح الكافورا

ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه

مسكا تضوّع نشره وعبيرا

تستخلف الأبصار منه إذا أتى

صبحا على غسق الظّلام منيرا(١)

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه ، وتفنن فذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا ، فقال : [الكامل]

وضراغم سكنت عرين رياسة

تركت خرير الماء فيه زئيرا

فكأنّما غشّى النّضار جسومها

وأذاب في أفواهها البلّورا

أسد كأنّ سكونها متحرّك

في النّفس لو وجدت هناك مثيرا

وتذكّرت فتكاتها فكأنّما

أقعت على أدبارها لتثورا

وتخالها والشّمس تجلو لونها

نارا وألسنها اللواحس نورا

فكأنّما سلّت سيوف جداول

ذابت بلا نار فعدن غديرا

وكأنّما نسج النّسيم لمائه

درعا فقدّر سردها تقديرا

وبديعة الثّمرات تعبر نحوها

عيناي بحر عجائب مسجورا

شجريّة ذهبيّة نزعت إلى

سحر يؤثّر في النّهى تأثيرا

قد صولجت أغصانها فكأنّما

قنصت بهنّ من الفضاء طيورا

وكأنّما تأبى لوقّع طيرها

أن تستقلّ بنهضها وتطيرا(٣)

من كلّ واقعة ترى منقارها

ماء كسلسال اللجين نميرا

خرس تعدّ من الفصاح فإن شدت

جعلت تغرّد بالمياه صفيرا

وكأنّما في كلّ غصن فضّة

لانت فأرسل خيطها مجرورا

وتريك في الصّهريج موقع قطرها

فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا

ضحكت محاسنه إليك كأنّما

جعلت لها زهر النّجوم ثغورا

__________________

(١) في الديوان :

يستخلف الإصباح منه إذا انقضى

صبحا على غسق الظلام منيرا

(٢) الضراغم : جمع ضرغام ، وهو الأسد.

(٣) في ب : وكأنما تأبى لواقع طيرها.

٣٢

ومصفّح الأبواب تبرا نظّروا

بالنّقش فوق شكوله تنظيرا(١)

تبدو مسامير النّضار كما علت

تلك النّهود من الحسان صدورا(٢)

خلعت عليه غلائلا ورسيّة

شمس تردّ الطّرف عنه حسيرا(٣)

وإذا نظرت إلى غرائب سقفه

أبصرت روضا في السّماء نضيرا

وعجبت من خطّاف عسجده الّتي

حامت لتبني في ذراه وكورا

وضعت به صنّاعها أقلامها

فأرتك كلّ طريدة تصويرا(٤)

وكأنّما للشّمس فيه ليقة

مشقوا بها التّزويق والتّشجيرا

وكأنّما باللّازورد مخرّم

بالخطّ في ورق السّماء سطورا(٥)

وكأنّما وشوا عليه ملاءة

تركوا مكان وشاحها مقصورا

ثم مدح المنصور بعد ذلك ، وختم القصيدة بقوله :

يا مالك الأرض الّذي أضحى له

ملك السّماء على العداة نصيرا

كم من قصور للملوك تقدّمت

واستوجبت بقصورك التأخيرا(٦)

فعمرتها وملكت كلّ رياسة

منها ودمّرت العدا تدميرا

قلت : لم أر لهذه القصيدة من نظير ، في معناها اليانع النضير ، ولفظها العذب النّمير ، الذي شمّر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أيّ تشمير ، غير أن فيها عندي عيبا واحدا ، وهو ختمها بلفظ التدمير ، وعلى كل حال فالحسن والإحسان ، يقادان في أرسان ، لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان ، وخصوصا في وصف المباني والبرك ، فما أبقى لسواه في ذلك حسنا ولا ترك.

ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها المياه من شاذروان من أفواه طيور وزرافات

__________________

(١) في ه : بين شكوله تنظيرا.

(٢) في ج : تلك النهود من الجنان صدورا.

(٣) ورسية : بلون الورس ، والورس نبات كالسمسم تغطي ثمره غدد حمر ، يصبغ به.

(٤) في ب : صنّاعه أقلامها.

(٥) في ب : مخرّم.

(٦) في ه : لقصورك التأخيرا.

٣٣

وأسود ، وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة (١) : [الكامل]

والماء منه سبائك من فضّة

ذابت على دوحات شاذروان(٢)

وكأنّما سيف هناك مشطّب

ألقته يوم الحرب كفّ جبان (٣)

لو عاد ذاك الماء نفطا أحرقت

في الجوّ منه قميص كلّ عنان

في بركة قامت على حافاتها

أسد تذلّ لعزّة السّلطان

نزعت إلى ظلم النّفوس نفوسها

فلذلك انتزعت من الأبدان

وكأنّ برد الماء منها مطفئ

نارا مضرّمة من العدوان

وكأنّما الحيّات من أفواهها

يطرحن أنفسهنّ في الغدران

وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها

أخذت من المنصور عقد أمان

وهاتان القصيدتان لابن حمديس كما في المناهج مع طولهما تدلان على الإيداع الذي

__________________

(١) في ديوان ابن حمديس ص ٤٩٤ ـ ٤٩٧ من قصيدة يمدح بها المنصور بن الناصر بن علناس.

(٢) في ب : والماء منه سبائك فضيّة.

(٣) السيف المشطب : ذو الشطب ، والشطب : الخطوط في متن السيف.

(٤) البندق : رصاص كروي الشكل يستعمل في بعض القذائف.

٣٤

ابتكره ، والاختراع الذي ما ولج سمع أحد من الفضلاء إلا شكره [لما أسكره](١).

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي (٢) يصف قصرا بمصر يسمى «منزل العز» بناه حسن بن علي بن تميم بن المعز العبيدي : [الكامل]

منزل العزّ كاسمه معناه

لا عدا العزّ من به سمّاه

منزل ودت المنازل في أعل

ى ذراه لو صيّرت إيّاه

فأجل فيه لحظ عينيك تبصر

أيّ حسن دون القصور حواه

سال في سقفه النّضار ولكن

جمدت في قراره الأمواه

وبأرجائه مجال طراد

ليس تنفكّ من وغى خيلاه

تبصر الفارس المدجّج فيه

ليس تدمى من الطّعان قناه

وترى النابل المواصل للنّز

ع بعيدا من قرنه مرماه

وصفوفا من الوحوش وطير ال

جوّ كلّ مستحسن مرآه

سكنات تخالها حركات

واختلاف كأنّه إشباه

كمحيّا الحبيب حرفا بحرف

ما تعدّى صفاته إذ حكاه

ورده وجنتاه ، نرجسه الفتّ

ان عيناه ، آسه عارضاه

وكأنّ الكافور والمسك في الطّي

ب وفي اللّون صبحه ومساه

منظر يبعث السرور ومرأى

يذكر المرء طيب عصر صباه

وقال أبو الصلت أمية الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه علي بن تميم بن المعز العبيدي: [الكامل]

لله مجلسك المنيف قبابه

بموطّد فوق السّماك مؤسّس(٣)

موف على حبك المجرّة تلتقي

فيه الجواري بالجواري الكنّس

تتقابل الأنوار من جنباته

فاللّيل فيه كالنّهار المشمس

عطفت حناياه دوين سمائه

عطف الأهلّة والحواجب والقسي

واستشرفت عمد الرّخام وظوهرت

بأجلّ من زهر الرّبيع وأنفس

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجودة في ب.

(٢) كان طبيبا شاعرا ، ومن مؤلفاته : كتاب الحديقة ، والرسالة المصرية. توفي سنة ٥٢٩ (معجم البلدان ج ٧ ص ٥٢).

(٣) في بعض النسخ : بموطن فوق السماء مؤسس. ولعل هذا تصحيفا.

٣٥

فهواؤه من كلّ قدّ أهيف

وقراره من كل خدّ أملس

فلك تحيّر فيه كلّ منجّم

وأقرّ بالتّقصير كلّ مهندس

فبدا للحظ العين أحسن منظر

وغدا لطيب العيش طيب معرّس(١)

فاطلع به قمرا إذا ما أطلعت

شمس الخدور عليك شمس الأكؤس(٢)

فالنّاس أجمع دون قدرك رتبة

والأرض أجمع دون هذا المجلس

ويعجبني قول أبي الصلت أمية المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه : [الطويل]

ولله مجرى النّيل منها إذا الصّبا

أرتنا به من مرّها عسكرا مجرا (٣)

إذا زاد يحكي الورد لونا وإن صفا

حكى ماؤه لونا ولم يحكه مرّا(٤)

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر : [البسيط]

يا نزهة الرّصد التي قد اشتملت

من كلّ شيء حلا في جانب الوادي(٥)

فذا غدير ، وذا روض ، وذا جبل

والضّبّ والنّون والملّاح والحادي

وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة (٦) : [البسيط]

زر وادي القصر ، نعم القصر والوادي

لا بدّ من زورة من غير ميعاد

زره فليس له ندّ يشاكله

من منزل حاضر إن شئت أو بادي

تلقى به السّفن والظّلمان حاضرة

والضّبّ والنّون والملّاح والحادي

وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين : [الطويل]

بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا

على طول ما عاينت من هرمي مصر

أنافا بأكناف السّماء ، وأشرفا

على الجوّ إشراف السّماك على النّسر(٧)

وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا

كأنّهما نهدان قاما على صدر(٨)

__________________

(١) في ب ، ه : خير معرس.

(٢) في ه : الأكوس.

(٣) في ه : «مجرى النيل منه». والعسكر المجر : الجيش العظيم.

(٤) في ب ، ه : حكى ماءه لونا ولم يعده نشرا.

(٥) في ب : يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت.

(٦) الشعر لابن أبي عيينة (انظر الأغاني ج ٢٠ ص ٣٧).

(٧) في ب ، ه :

أنافا فأعنان السماء وأشرفا

على الجو إشراف السماك أو النسر

(٨) النشز من الأرض : المكان المرتفع منها. وورد في ب : كأنهما ثديان قاما ..

٣٦

وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس.

وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدة فوّارات : [الكامل]

غضبت مجاريها فأظهر غيظها

ما في حشاها من خفيّ مضمر

وكأنّ نبع الماء من جنباتها

والعين تنظر منه أحسن منظر

قضب من البلّور أثمر فرعها

لمّا انتهت باللّؤلؤ المتحدّر

وقال ابن صارة الأندلسي يصف ماء بالرقة والصفاء [يجري على الصفا](١) : [الكامل]

والنّهر قد رقّت غلالة خصره

وعليه من صبغ الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنّها

عكن الخصور تهزّها الأعجاز

وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه : [الكامل]

والنّهر مسكوّ غلالة فضّة

فإذا جرى سيلا فثوب نضار

وإذا استقام رأيت صفحة منصل

وإذا استدار رأيت عطف سوار

وقال ابن حمديس المغربي يصف نهرا بالصفا (٢) : [الطويل]

ومطّرد الأمواج يصقل متنه

صبا أعلنت للعين ما في ضميره

جريح بأطراف الحصى كلّما جرى

عليها شكا أو جاعه بخريره

وهذا النهج متسع ، ولم نطل السير في هذه المهامه ، وإنما ذكرنا بعض كلام المغاربة ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه ، ولأن في أمرها عبرة لمن عقل ، إذا أصدأ مرآة حسنها ولطالما كان لمتنها (٣) صقل.

وقد وقفت على كلام لصاحب المناهج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصا ، وهو :

ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها ، وفاق مخبرها ، وارتفع بناؤها ، واتسع فناؤها ، طرفا من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها ، ومحاه من محاسن صور كانت أرواحا لجسومها.

وصف أعرابي محلة قوم ارتحلوا عنها فقال نثرا : ارتحلت عنها ربّات الخدور ، وأقامت

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجود في ب.

(٢) ديوان ابن حمديس ص ١٨٦.

(٣) في ب ، ه : لمثلها صقل.

٣٧

بها أثافيّ القدور (١) ، ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح آثارهم ، وذهبت بأبدالهم وأبقت أخبارهم ، والعهد قريب ، واللقاء بعيد.

وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن (٢) : [السريع]

يا دار أمسى دارسا رسمها

وحشا قفارا ما بها آهل

قد جرّت الرّيح بها ذيلها

واستنّ في أطلالها الوابل

ومن كلام الفتح بن خاقان ، في قلائد العقيان ، يذكر آل عبّاد من فصل أكثر فيه التفجّع ، وأطال به التوجّع : والغصون (٣) تختال في أدواحها ، والأزاهر يحيي ميت الصبابة شذا أرواحها ، وأطيار الرياض (٤) قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها ، وانقراض أترابها ، والوهي بمشيدها لاعب ، وعلى كل جدار منها غراب ناعب ، وقد محت الحوادث ضياءها ، وقلصت ظلالها وأفياءها ، ولطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت ، وفاحت من شذاهم وتأرّجت ، أيام نزلوا خلالها ، وتفيّؤوا ظلالها ، وعمروا حدائقها وجنّاتها ، ونبّهوا الآمال من سناتها ، وراعوا الليوث في آجامها ، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها ، فأصبحت ولها [بالتداعي (٥)] تلفّع واعتجار ، ولم يبق من آثارها إلا نؤي (٦) وأحجار ، قد هوت (٧) قبابها ، وهرم شبابها ، وقد يلين الحديد ، ويبلى على طيه الجديد.

وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها : [الطويل]

ديار عليها من بشاشة أهلها

بقايا تسرّ النّفس أنسا ومنظرا

ربوع كساها المزن من خلع الحيا

برودا وحلّاها من النّور جوهرا

تسرّك طورا ثمّ تشجيك تارة

فترتاح تأنيسا وتشجى تذكّرا

ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيس خلا من ازدحام الملا وعوّضه الزمان من تواصل أحبابه هجوا وقلا :

__________________

(١) الأثافي : جمع أثفية ، وهي الحجر الذي يوضع عليه القدر.

(٢) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٣٠١.

(٣) في ج : والقصور.

(٤) في قلائد العقيان : وآثار الديار.

(٥) زيادة من القلائد.

(٦) النؤي : حفرة حول الخيمة تمنع السيل.

(٧) في ه : قد وهت قبابها.

٣٨

قد كان منزله مألف الأضياف ، ومأنس الأشراف ، ومنتجع الرّكب ، ومقصد الوفد ، فاستبدل بالأنس وحشة ، وبالضياء ظلمة ، واعتاض من تزاحم المواكب ، تلاطم النّوادب ، ومن ضجيج النداء والصّهيل ، عجيج البكاء والعويل.

ومن رسالة لابن الأثير الجزري يصف دمنة دار لعبت بها أيدي الزمن ، وفرقت بين المسكن والسكن : كانت مقاصير جنّة ، فأصبحت وهي ملاعب جنّة ، وقد عميت أخبار قطّانها ، وآثار أوطانها ، حتى شابهت إحداهما في الخفاء ، الأخرى في العفاء ، وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ، ولا يرفع عنها جلباب ظلام ، غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه ، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه.

وقد لمح في بعض كلامه قول الشريف الرضي من أبيات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر (١) : [الكامل]

ما زلت أطّرق المنازل باللّوى

حتّى نزلت منازل النّعمان

بالحيرة البيضاء حيث تقابلت

شمّ العماد عريضة الأعطان(٢)

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم

خطط معمّرة بعمر فاني

شهدت بفضل الرّافعين قبابها

ويبين بالبنيان فضل الباني

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم

خطط معمّرة بعمر فاني

يقول فيها :

ولقد رأيت بدير هند منزلا

ألما من الضّرّاء والحدثان

يغضي كمستمع الهوان تغيّبت

أنصاره وخلا من الأعوان

بالي المعالم أطرقت شرفاته

إطراق منجذب القرينة عاني

أمقاصر الغزلان غيّرك البلى

حتى غدوت مرابض الغزلان

وملاعب الإنس الجميع طوى الرّدى

منهم فصرت ملاعب الجنّان

ومنها :

__________________

(١) ديوان الشريف الرضي ج ٢ ص ٤٦٨.

(٢) شمّ : جمع أشمّ ، وهو العالي المرتفع. الأعطان : مبارك الإبل ، واحدها عطن ، كني بذلك عن الشرف واليسار.

٣٩

مسكيّة النّفحات تحسب تربها

برد الخليع معطّر الأردان(١)

وكأنّما نسي التّجار لطيمة

جرت الرّياح بها على القيعان(٢)

ماء كجيب الدّرع يصقله الصّبا

ويفي بدوحته النّسيم الواني(٣)

زفر الزّمان عليهم فتفرّقوا

وجلوا عن الأقطار والأوطان (٤)

وقال أبو إسحاق الصابي ، وتوارد مع الشريف الرضي في المعنى والقافية ، يصف قصر روح بالبصرة : [الكامل]

أحبب إليّ بقصر روح منزلا

شهدت بنيّته بفضل الباني

سور علا وتمنّعت شرفاته

فكأنّ إحداهنّ هضب أبان

وكأنّما يشكو إلى زوّاره

بين الخليط وفرقة الجيران

وكأنّما يبدي لهم من نفسه

إطراق محزون الحشا حرّان

ولأحمد بن فرج الإلبيري من أبيات : [الوافر]

سألت بها فما ردّت جوابا

عليك ، وكيف تخبرك الطّلول؟

ومن سفه سؤالك رسم دار

مضى لعفائه زمن طويل

فإن تك أصبحت قفرا خلاء

لعينك في مغانيها همول

فقدما قد نعمت قرير عين

بها وبربعها الرّشأ الكحيل

وقال أبو عبد الله بن الخياط (٥) الأندلسي الأعمى : [البسيط]

لو كنت تعلم ما بالقلب من نار

لم توقد النّار بالهنديّ والغار

يا دار علوة قد هيّجت لي شجنا

وزدتني حرقا ، حيّيت من دار

كم بتّ فيك على اللّذات معتكفا

واللّيل مدّرع ثوبا من القار

كأنّه راهب في المسح ملتحف

شدّ المجدّ له وسطا بزنّار

__________________

(١) في ب : برد الخليع.

(٢) في الديوان : العقيان. واللطيمة : وعاء من المسك ، والقيعان : جمع قاع ، وهو الأرض السهلة بين جبلين.

(٣) في ج : ويقي بدوحته. وفي الديوان : ونقا يدرجه.

(٤) في ب ، ه : وجلوا عن الأوطار والأوطان.

(٥) في ب : الحناط ، وهو أصح من الخياط.

٤٠